
انتهيت من مجموعة الكتب التي اقتنيتها من العاصمة مؤخراً، لم أكن مستعداً لهذا، توقعت أن يكون هضمها صعباً، حاولت ذلك على أية حال. والآن ؟ أنا بين خيارين، أن أزور العاصمة في أقرب وقت لجلب المزيد من الكتب، أو البقاء هنا ومباشرة الكتابة. الخدعة لن تنطلي على الجميع، لن تكون قابلة للتصديق بعد مضيّ ستة أشهر من العزلة، كانت ستولد رواية من ألف صفحة لو أنني كتبت بنفس الحماسة التي نقلتها عبر الهاتف، لصديقي، لوالديّ، ولمديري السابق. هنا في الجنوب لا يحدث شيء، الحياة تمشي بسلاسة، حاولت مشاكسة الجيران، طلاب المعهد مقابل العمارة، واستفزاز الباعة المتجولين، أريد ابتكار قصة، أيّ قصة، أريد أن أشعر بكثافة الحياة التي جئت للبحث عنها.
كان الوضع مخيفاً في البدء، كيف سأتمكن من إعالة نفسي بعد انتهاء مصروف الجيب الأخير، مستحقاتي المتأخرة من العمل، والجمعية السنوية اليتيمة . أعيش على المعجزات اليومية هنا، تغطي تكاليف الايجار الممتاز، وفواتير الخدمات، والانترنت. أكتب، خطابات لمكتب العقار المدار بطريقة غير شرعية في اسفل الشارع، أبحاث أكاديمية لطلاب أغبياء تكلفهم آلاف الريالات بينما انجزها في ساعتين على الاكثر. ثم أتمدد في قيلولات كسولة، واستمتع، فقاعة العزلة التي تكبر يوماً بعد يوم وتهددني بالانفجار. يشاركني المكان كلب، كلب مطيع ومن فصيلة طيّبة، وجدته تائهاً وتبعني، اطعمته، ولزم الشقة بلا حراك. ما من لصوص يخشاهم المرء، في مدينة وادعة كهذه، تخشى عليهم من نفسك! ولكن يتذكر المرء ” في كل كبد رطبة صدقة ” ويبقي على الكائن المستوحد علّه يكسب فيه الاجر الكثير. أكثر الجيران اهتماماً بي أبو ابراهيم، الشقق الاربعة الأخرى المكونة للبناية ملكه، يعيش فيها مع أسرته الممتدة، ويزورني ليحتسي الشاي، يسألني عن عملي – كل مرة – واخترع له إجابة ولا يعترض. يدعوني لتجربة أطباق بناته المختلفة، وأشمّ في حديثه أحياناً دعوات مصرحة ومبطنة للارتباط، اكتفي بالأكل والهروب، فأنا كما يصف ماركيز نفسه : لا ميل حقيقي لديّ لأن أكون كاتباً أو صحافياً، وإنما عازباً لا يُهزم. في حواراتنا الطويلة تلك يشكو من إبنه الوحيد ابراهيم، من إهماله وغيابه، وجشعه، ومن جحوده في أحيان أخرى، لا أملك العبارات المناسبة للتخفيف من وجع هذا الشيخ، أنا من جهة أخرى اقطن في مدينة تبعد آلاف الأميال عن والديّ، مع علمي بحاجتهم وانتظارهم، وخشيتي من خذلان لا يشفيهم منه كتاب من عشرين صفحة! أبو ابراهيم يشكو ابنه كلّ يوم، لكنّني حدست اليوم حرقة أكبر، تجاوز من ابراهيم ربما ؟ يقول أنه بعد أن وجد طريقة ينقله بها من مكان عمله البعيد عن المدينة للعودة إليها، طلب منه مغادرة البناية، هو شيخ كبير، يحتاج للهدوء، والعزلة، والتوقف عن مراقبة الأسرة وتضييق الخناق عليهم. هكذا قالها؟ أو عبارة تشبهها تردد والده وهو يحكي القصة، وعندما رفض الخروج والعيش في المزرعة، هددّه بحرمانه منها، وايداعه في دار رعاية اجبارياً. يتكلم الرجل وانظر إليه، لصحته، لذاكرته الحديدية، ما من شيء يمنعه من البقاء حولهم، وما من سبب يدعو لهذا النكران الذي يصدر من ابنه. لا اذكر كيف تنصلت من الحديث الطويل، وكيف كانت عباراتي المكرورة في تطمينه والدعاء له. وجدت نفسي لاحقاً في محل البقالة الصغير الذي يبيع كلّ شيء، لتسوقك الطارئ، لمستلزماتك المكتبية، بطاقات الهاتف، بعض الادوية، والكتب الاكثر مبيعاً، تلك التي اتفادى قراءتها ما استطعت، والنظر إليها يصيبني بالإحباط، يذّكرني بالكعكة التي أخبزها، جاع الجميع ولم تنضج بعد.