Detachment

الاحتراق النفسي هو الموضوع الاساسي في هذا الفيلم، قبل فترة ليست بالبعيدة شاهدت الوثائقي في انتظار سوبرمانالذي يناقش أوضاع التعليم العام في الولايات المتحدة الامريكية، انحدار مستوى الخدمات التعليمية والكادر التعليمي بشكل عام، ما أدّى لانسحاب الطلاب، أو تدني مستوياتهم التحصيلية مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى. يُفتتح الفيلم بمونولوج يتحدث فيه المعلمين والمعلمات عن أسباب تعيينهم – أو اختيارهم للعمل في التدريس– . والاسباب في مجملها تعطي انطباع أولي عن انعدام الرغبة في العمل، ومساعدة الآلاف من الطلبة لايجاد طريقهم في هذه الحياة.

اسم الفيلم معناه الانفصالأو بمعنى آخر الانعزاليحكي صراع هؤلاء المعلمين، والجهاز الاداري، وهنري بطل الحكاية معهم ومحاولاتهم لايجاد حلقة وصل بينهم في نفس الوقت الذي يفصل بينهم وبين بعضهم صحاري شاسعة – معنوياً-.

هنري مدرّس مؤقت، يحاول دائما ألا يرتبط عاطفياً بمكان، بزملاء، أو طلاب، وهو بذلك يحافظ على المسافة الآمنة بينه وبين الآخرين. مسافة كافية لإفخاء آلامه، ومخاوفه، ولكن عالمه لا يحتفظ بهذه الحواجز والحذر لوقت طويل، فجأة وبينما يتطور مسار الفيلم يبدو لنا بأن حياة هنري تتهاوى! في نفس الوقت نشاهد كل الشخصيات، تتهاوى على طريقتها، كأن الفيلم قبض على آخر مرحلة قبل الانفجار لكلّ منهم، وبدأ بالتأمل والترقب.

انهيار عالم هنري ومسافاته الاسمنتية التي وضعها، يأتي بسبب اتصالهبالآخرين، شيئا فشيئاً يجد نفسه يهتمّ، ويقترب عاطفياً، من طالبته الفنانة التي تكافح لتجد صوتها والدعم من أسرتها، وعاهرة مراهقة ينتشلها من أذية الشوارع – لو مؤقتاً، وزميلته في العمل.

أحببت في الفيلم واقعيته، الحوارات، زوايا التصوير، وفريق الممثلين الذي وإن بدا كبيراً، فإنه من جهة أخرى منح فرصة للقادمين الجدد. تذكرت اقتباسا احتفظت به لجون أبدايك يصف فيه الكتابة الواقعية، وسأصف به هذا الفيلم واقعي كما لو أن عملاقا ما اقتطع كتلة كبيرة من الأرض ووضعها في صندوق زجاجي“. ربما لأنّ كاتب القصة كارل لند مدرس سابق، نقل تجربته وتجربة زملاءه إلى الشاشة الكبيرة. عندما سُئل توني كاي عن سبب تبنيه للقصة للاخراج صرّح بأنه سبق وتناول المشاكل الاجتماعية في أفلامه – كاي هو مخرج الفيلم الكبير American History X الذي ناقش العنصرية في أمريكاوأنّ المشكلة هذه المرة التعليم، وأنه لا يصنع الافلام للمتعة فقط، وأوافقه لأنّكم إذا كنتم ستشاهدون الفيلم للمتعةابحثوا عن فيلم آخر.

التعليم دائما قضية تؤرقنيربما لأنني وبعد سنوات من الدراسة، ومحاولة الانخراط في التعليم بالشكل الايجابي الذي ارغب به لم أجد فرصة بعد! أريد أن أحاول قبل أن احترق، قبل أن افقد ثقتي بنفسي وبالنظام ككل. إنّ انحدار النظام التعليمي العام حول العالم كابوس، وأدرك من ما اطلع عليه، ومن شهادات زميلات لي مضى على عملهن أكثر من عقد من الزمان أننا نتجه لكارثة تشابه الكارثة الأمريكية، إن لم يوجد حلّ.

توني كاي يؤمن بأن وظيفة المعلمين هي أهمّ وظيفة على وجه الأرض، وأن المليارات يجب أن توجّه لهم، تعتني بهم الانظمة وتمنحهم الدعم اللازم لتكوين وتشكيل المستقبل المتمثل في الطلاب، لكن ما يحدث الآن هو العكس تماماً، مهنة التدريس تجتذب أسوأ المؤهلين لها، وينفر منها المبدعون أصحاب الأفكار المبهرة التي تحتاج إلى تبني.

في افتتاح الفيلم يظهر هذا الاقتباس، الذي ربّما يُجمل الحكاية، الاقتباس لألبير كامو.


* لو ساهمت هذه التدوينة في دفعكم لمشاهدة الفيلم – الذي دهشت بأنّ التغطية الاعلامية له ضعيفةيمكنكم تحميله بواسطة تورنت (هنا)، ومشاهدة مقتطف في الفيديو:

يتحرّك الزمن ببطء رحيم.

(أ)

يمكنني الحديث عن أيامي بأنها تطابق رهيب مع عنوان هذه التدوينة، الذي بالمناسبة اقتطعته من حديث طويل لجون أبدايك. كلّ صيف، صيف انتظار بالنسبة لي، لكن هذه السنة الأسوأعلى الاطلاق، أعوذ بالله من السوء، السوء هنا سوء الانتظار وسطوته على ذهني، لا استطيع الانشغال بشيء دون السقوط مرة أخرى في هاوية انتظار. انتظار أن تتضح الرؤية بخصوص عمل جديد. وانتظار انفراج في واجباتي الاكاديمية. الانتظار والبطء جيّدان، ربما هي الفرصة لأستعد للتغييرات التي ستحدث في حال حدثت، أو تمرين إضافي لتمارين الصبر التي نجحت فيها طوال حياتيأقرأ، أمضي ساعات اليوم في التنقل بين الدور العلوي والسفلي، شرب الكثير من الماء، لا أنسى أن حبة الفيتامين بعد وجبة الافطار أفضل لأنّ وقت امتصاصها مثالي، أحارب النسيان بتدوين يومياتي بسرعة، أكافح للالتزام بمشروع السنة ورسائلي لهيفا الصغيرة، يتوعك والدي قليلاً ثم يجتاز الوعكة، تتوعك والدتي قليلاً ثم تجتاز الوعكة، وبين هذا الوقت وذلك أدعو الله أن يحفظهما ويطيل بقاءهما، لا شيء يسندني في توعكي وتعثري مثلهما. أتابع الأخبار على أربعة قنوات اخبارية، أقرأ صحيفة واحدة لكلّ يوم، ولا أعود لقراءتها حتى يدور الاسبوع من جديد، أتابع أخبار ثلاثة ولايات أمريكية، اقرأ في كتابين، والثالث احتياطي لو غضبت منهما. أكتب وأشطب. أنام جيداً، اتبع حمية منذ ٣٦ يوماً، ونجحت في تقليل أرقي وشعوري بالكسل، تناولت حبوب الافطار الكاملة مع الزبيب، اتسوق للمنزل مرتين اسبوعياً بينما ينتظر والدي في السيارة، استمع للموسيقى الكلاسيكية، اكتشف لطفي بوشناق في حفلة ولا يتوقف الالبوم من الدوران. أفكر في مدونتي، افكر فيها كل يوم، افتح الصفحة أريد أن أقول شيئا ولا أجد. احضر مفاجأة لأخوتي في بلاد العمّ سام، وانتظر، يفتحون الصناديق أفرح وأعود لدوامتي من جديد، هذه الحياة، يجب أن يتوقف هذا الانزعاج سريعاً قبل أن يقتلني.

(ب)

سأتوقف عن الغضب من التوافهتوقفت عن محاسبة الاخطاء، الاخطاء تمحى لا شعورياً، مثل الغبار في غرفتي، اذا تجاهلته انزلق للخارج دون أن انتبه.الغضب من الشامبو الذي يقتحم عيني بعنف ويحرقها، هذا الغضب تافه، خصوصاً إذا عكر مزاجي، وتخيلت أن الارض كلها تقف ضدي بسببه، ما هذا؟ توقفت عن الغضب عندما خرجت يومها لأجد رسالة من صديقتي تخبرني بأن والدتها غادرت الحياة بعد صراع قصير مع السرطان، وددت لو أنّ سكب علبة شامبو كاملة في عيني ومقاومة غضبي سيعفيني من شعوري القاتل بالذنب. اغضب ويتعكر يومي لسبب تافه. بينما تعالج صديقتي قلبها المفجوع.

(ج)

أمرّ بكثير من الاشياء الجميلة، وأملك الوقت الكثير للحديث عنها، لكنني لا أجد الكلمات.

(د)

هذه التدوينة تطمين لي بأن مدونتي ما زالت على قيد الحياة، وربما رسالة لمن يقرأ، سأعود قريبا بالمزيد – ان شاء الله – شاهدت وثائقيات رائعة، وفيلم سينمائي، وقرأت كتاباً، ولديّ مجموعة من الروابط الالكترونية وتوصيات شرائية! لكن الكلمات ناقصة.

حكاية السطر الأرمل .

“.. منسّقو صفحات الكتب – المتحدرون من صفّافي ومنضدي الحروف في المطابع القديمة – كانوا يرتعبون حيال بقاء سطر وحيد في الصفحة، أو بكلمة أصحّ شبه سطر. أقل من نصف سطر. وكانوا يطلقون على هذه الذيول اسم أرامل” . قد تكون هناك صفحة – في نهاية أحد الفصول مثلاً يكون النص الوحيد فيها هو سطر أرمل. في هذه الحلة يفعلون كل ما هو ممكن، لأسباب طباعية جمالية – وكذلك لأسباب اقتصادية كما سترون للانزياح نحو الأمام، أي لإحضار سطر أو سطرين، وربما ثلاثة سطور في بعض الأحيان، من الصفحة السابقة. وبهذا لا يبقى الأرمل أرمل ويطمئن الجميع. الجميع بالطبع، باستثناء المؤلف. لأن نقل هذه السطور يعني بقاء مكانها أبيض في الصفحة السابقة، ولكي لا يبدو هذا الفراغ ملحوظاً، يعمد منسق الصفحات إلى توزيع الفراغ ما بين فقرة وأخرى. لست أدري إذا ما كان القارئ ينتبه لذلك أم لا، لكنني اكتشف هذا الأمر على الفور؛ فحيث تركت فراغاً أجد الآن فراغاً أكبر. وهذا مرعب، لأن الفراغات بالنسبة إلى أحدنا تمثل استجابة لمنهج سرّي له علاقة بالزمن القصصي: فوجود فراغ طباعي أكبر يعني أن وقتاً أطول قد انقضى. ويجري ضبط هذا الزمن على الدوام بواسطة النقطة؛ فنقطة ومواصلة الكلام يعني أن الوقت قصير. أما النقطة والبدء بفقرة جديدة فيعني أنّ الزمن أطول. فإذا ما أضيف إلى الفراغ العادي الفاصل بين الفقرتين فراغان أو ثلاثة فراغات أخرى بيضاء – أو فراغ واحد أكبر من المطلوب – فكم سيكون قد مضى من الزمن؟ وإذا ما جاء هذا الفراغ وسط مقطع حواري، فسوف يكون مرعباً، لأنه سيعطي الانطباع بأن سنة قد انقضت ما بين السؤال والجواب. وهذه ليست مسألة نظرية، لأن الفراغات مسألة يمكن الإحساس بها. القارئ يحس بها. ويمكن كما قلت لكمأن يحدث العكس، فمن أجل توفير صفحة .. من أجل أن ينقص حجم الكتاب صفحة، تجري محاولة إزاحة الأرملأو سطر كامل، وضمه إلى الصفحة السابقة. وهذا يستدعي تقريب السطور أو – وهذا هو الأسوأ – تحويل فقرتين إلى فقرة واحدة . هل تظنون أن الطابع لن يوفر شيئاً بهذا؟ ربما يكون التوفير ضئيلاً إذا كانت الطبعة من ثلاثة آلاف نسخة، أما إذا كانت من ثلاثمائة ألف، أو مليون نسخة، فإن هذه الصفحة ستتحول إلى أطنان من الورق. ولكي يوفر الناشر هذه الكمية ويتمكن من جعل الكلفة أقل، يحبذ هذه الأعمال التي تتحول إلى كارثة حقيقية بالنسبة للمؤلف. أنا لا أسمح بذلك بأي حال من الأحوال. فإذا كان الناشر سيطبع مليون نسخة، فهذا يعني أنه سيربح مبلغا ضخما من المال يستدعي منه أن يعوض ذلك على الأقل بأن يحترم نبضات النص الداخلية. .”

غابرييل غارسيا ماركيز (ورشة سيناريو غابرييل غارسيا ماركيز)

كل ما نحتاجه: نافذة!

قبل حوالي سنة من اليوم انتقلت لغرفتي الجديدة، ليست جديدة تماماً، هي إحدى غرف المنزل التي شهدت الكثير من التغييرات، والانتقالات، ما إن بدأت بترتيب الأغراض حتى لفتت انتباهي النافذة – الموجودة هناك منذ ١٢ عاماً تحتل المنتصف تماماً من الجدار الشمالي، تمتد بمقدار مترين ونصف تقريباً، على جدار طوله بالكامل خمسة أمتار. كمية الضوء التي غمرت الغرفة جعلتني أفكّر في التغيير الذي سيصنعه المكان، على حياتي، ثمّ ضحكت من طرافة الفكرة، لم أكن فكرت في الموضوع بجدية لكن اليوم وبعد مرور السنة تقريباً عرفت بأنّنا أحيانا تنقصنا نافذة جيدة يغمرنا منها الضوء. بالاضافة للنافذة المذكورة، ألوان الغرفة المرحة، ومساحتها التي تشبه الحضن، الكافية تماماً لمدخراتي، وكتبي، وكل ما احتاجه لأحافظ على عقلي في حالته المتزنة.

دُفعت لإعادة تأمل غرفتي بعد مشاهدة الفيلم الارجنتيني Sidewallsالفيلم يحكي قصة مارتين وماريانا، مارتين شاب مهووس بصحته، قلِق، مصمم لصفحات ويب. ولا يترك المنزل سوى لزيارة طبيبه النفسي، ليقترح عليه نصائح تساعده في التغلب علي هذا الهوس. أما ماريانا، شابة خرجت للتوّ من علاقة محبطة، تحاول الشفاء من تبعاتها، وتصنع لنفسها طريقاً في الهندسة المعمارية، لكن حتى تنجز ذلك، تعمل كمصممة لواجهات محلات الأزياء. مكان أحداث الفيلم مدينة بيونس آيريس، القصة مكررة؟ ما الجديد؟

القصة ليست في التفاصيل أعلاه، القصة هي الحياة التي تملأ ما بين هذه التفاصيل، الاسمنت، أو المادة الرخوة التي تجعلها متماسكة، الفيلم سيجعلك تفكر في نفسك، كيف بيونس آيريس تشبه أي مدينة أخرى في العالم؟

كيف أصبحنا مرتبطين روحيابالعالم الذي ما زلنا نصرّ على تسميته افتراضي، لم يعد افتراضي إذا كنّا نقضي شريحة كبيرة من وقتنا فيه، نتسوق، نتكلم، نسافر، نفكر، وأحيانا نتألم !

نلتقي مع مارتين وماريانا، في فوبياهم السريّة، في تعبهم من اللحاق بالعالم السريع، وتخوفهم من الآخرين وترددهم، وأيضاً تأملاتهم للمدينة، التي تتحول مبانيها لشخوص لها وجوه ومشاعر. استغرب من وضع الفيلم في خانة الأفلام الرومانسية الكوميدية – هو كذلك – لكن فيه من العمق والتلميحات ما يجعله أكثر من ذلك. أحببت أيضاً أداء الممثلين، الخالي من التكلف، تشعر فجأة بأنّك تشاهد وثائقي، أو برنامج واقعي.

رابط لتحميل التورنت (هنا)