٢٧ يناير

أكتب الآن ورائحة مخبوزات طاغية تلفّ المنزل الهادئ. كأن الزمن توقف لساعات في هذا اليوم. جمعة هادئة بامتياز إلا من أصوات العصافير في الخارج وحركة الغيم ورقصها مع الشمس. نعمنا بأسابيع منعشة اغتسلت فيها الرياض بالمطر. كأننا أصبحنا أكثر لينًا بالضرورة – هذا في حال تجاهلت القيادة المتوحشة والازدحام المرعب. يناير ما زال يتمدد ويقترب من نهايته. أشعر أنّه أحد أطول الأشهر التي مرّت عليّ مؤخرًا. توقيت المخبوزات مناسب جدًا والسبب وراءها مصادفة عجينة فائضة من ليلة البيتزا الأسبوعية بالإضافة إلى تشكيلة أجبان تبقت من أمسية مع إحدى الصديقات. دائما هذه هي الفكرة الصائبة فالأجبان لا تعيش طويلًا بعد تقطيعها واستهلاكها ليس ممكنًا خلال يومين. الفطائر المحشوة يحبها الكل وسترافق ساعة الشاي وإفطار الغدّ وربما وجبة خفيفة منتصف نهار الأحد.

لماذا استطردت هنا؟

أحاول اكتشاف طرق جديدة لرواية القصص السريعة. لا أريد أن يطول صمتي. هذه البايتات شبه المجانية تطفو في مدونتي بلا حديث! أكملت منتصف يناير الشهر الأول في وظيفة مختلفة. وقبل أن تقفز إلى التعليقات الفكاهية أو النصائح حول البقاء في وظيفة لأكثر من سنة أو رفاهية التنقل من وظيفة لوظيفة حسب المزاج سأحيلك إلى هذه التدوينة للتأمل والتفكير. ركضت بلا هدف في وظيفة ظننت بأنها ستكون وظيفة التقاعد خاصتي ولم يحدث ذلك للأسف، فالحمد لله على الفرص الطيبة والشجاعة. يأخذ ترددي سباته السنوي وأتمنى أن يطول ذلك! كنت قد عاهدت نفسي منذ فترة على المبادرة بكلّ أشكالها. وإذا حدث أن أطل التردد أو الخوف برأسيهما سأتجاهلهما بالكامل. هل أحسب حساب العواقب؟ طبعًا لكن لا أطيل التفكير حتى يشلّني. بين يدي الكثير من الوقت هذه الأيام، لا استغله في العمل بطاقتي القصوى إنما بالهدوء والتروي والتحرك ببطء تجاه الأشياء والمواقف. اقرأ ببطء، أنام بعمق، وأؤجل الكثير من المواعيد وألغي الخطط.

هناك شعور خاصّ ومختلف أعيشه اليوم بعد اكتشافي لطريقتي المؤسفة في العيش: الحديّة! إما أن أفعل كلّ شيء في نفس الوقت، وانطلق بأقصى سرعة. أو أن أقف في مكاني واتجاهل أي خطوة تقربني مما أريده وانتظره. عندما تنبهت لهذا التوجّه المتعب بدأت بالتدريج. خطوة صغيرة اليوم، لن أجبر نفسي بقراءة مائة صفحة أو كتابة نصّ مكتمل. سأكتفي بعدة فقرات وإذا كان الكتاب ممتعًا حقًا سيسرقني لمكانٍ أبعد.

أزور مقاهي صغيرة لهدف وحيد: شرب القهوة مع الأصدقاء ولو لساعة واحدة.

أطهو وجبات عدة أيام في الأسبوع واكتفي بسلطة الكافتيريا الارتجالية التي أبنيها من الثلاجة.

أشاهد مسلسلًا حتى انتهي منه في جلسة واحدة، أو فيديوهات يوتوب لمنوعات غنائية من التسعينات.

القاسم المشترك بينها متعتي ومتعتي فقط.

تركت رسالة صوتية طويلة لصديقتي قبل عدة أيام أوضح لها المعضلة التي أعاني منها مع سوء التقدير لطاقتي ووقتي: أحدد موعدًا للخروج، واتفق مع الأشخاص من ثمّ تثقل خطواتي وأقرر البقاء في المنزل لأنني انغمست بالكامل في فكرة ممتعة. نادرًا ما يتفهم الجميع ذلك، لكن الحمد لله أني أحطت نفسي بدائرة لا احتاج معها للكثير من الشرح. أريد أن أكون في دفء المنزل اليوم ما رأيك بالغداء غدًا؟ حقًا؟ وأنا كذلك! منذ عودتي من رحلتي الأخيرة من باريس التزمت بالكتابة اليومية على شكل جدول الحصص المدرسية: استيقظت في وقت كذا وتناولت الإفطار وخرجت من المنزل.. الخ. مع أنها لا تركز كثيرًا على مشاعري وحالتي الذهنية حينها لكنها طريقة ممتعة لاستذكار خطواتي. لاحقًا تنبهت أن الفعل تحول إلى واجب جديد، تقرصني الكتابة إذا تأخرت عنها لأكثر من يومين. وهكذا وبمجرد الانتباه للموضوع توقفت عن الكتابة بشكل يومي وصارم. أزور مذكرتي إذا أردت التحقق من مشاعري تجاه شيءٍ ما، أو تدوين مغامرة جديدة.  

على الحائط المقابل لمكتبي علقت تقويمًا قابل للمسح. كل المواعيد المدونة للأسابيع والأيام الماضية تغيرت أكثر من مرة. يوم ١٢ يناير دونت: يوم الصبغة. تركت الشيب مشتعلًا لخمسة أيام إضافية. يوم ٥ يناير إفطار مع صديقة لم التق بها منذ مدّة اعتذرنا كلينا واتفقنا على موعد جديد ولم نعد للموضوع. في ٢٦ دونت أختي: رحلة إلى جدة مع أختي المفضلة. سألتها قبل أسبوع تقريبًا: هل ترغبين بالسفر أو نؤجلها؟ قالت صحيح لا أشعر بحماس للذهاب. كسبت تأجيلا ووفرت ميزانية هذه الرحلة لأخرى.  

على غرار المباهج التي تدوّن عنها صديقتي مها كلّ شهر هذه قائمة غير مرتبة لما أحببته في هذا الشهر:

  • محوت محتويات هاتفي بالكامل وبدأت استخدامه بعد التحديث من الصفر.
  • صلصة البيستو الحمراء بالطماطم المجففة
  • جبنة غاودا بحبوب الخردل (متوفرة في سوبرماركت التميمي)

.

.

الجردة السنوية أو مراجعة نهاية العام

بدأت فكرة هذه التدوينة من منشور على تويتر. شارك الكاتب ديكي بوش دليلًا مختصرًا ليمكننا من مراجعة السنة واكتشاف دروسها وتقييمها من جميع النواحي. وفي اللحظة التي قرأت تفاصيل الدليل قررت ترجمته باختصار ومشاركته في مدونتي قبل نهاية العام. سيكون تمرينًا ممتعًا لي ولكم، وكما يقترح الكاتب الذي أعدْ الدليل يمكننا تحويل إجابات هذه المراجعة إلى محتوى نشاركه مع الآخرين إذا أحببنا.

هذه التدوينة ليست حصرية لنهاية العام الميلادي، يمكن الاستفادة منها بشكل مستمر لمراجعة ربع السنة، ومنتصفها ولتحفيزنا لطرق جديدة لتدوين يومياتنا ومتابعة تقدمنا في الحياة.

وجد بوش كل نهاية سنة مدفوعًا للتفكير وطرح الأسئلة حول الأمور التالية:

  • الأشياء التي قام بها بشكل جيد (المكاسب والإنجازات).
  • الأشياء التي لم يقم بها أو تعثر في إنجازها (الأخطاء والصعوبات).
  • الأحداث الهامة واللحظات التي لا تنسى خلال العام والتي بدورها شكّلت شخصيته.
  • الدروس والمستهدفات التي يود وضعها في مقدمة قائمته للعام المقبل.
  • تحليل 80/20 (ما الذي حقق أفضل النتائج وما الذي تسبب بتعثره؟).
  • ما يريد أخذه إلى العام القادم وما سيتركه وراءه.

يقترح بوش اتباع الخطوات التالية لكنّه أيضًا يشجعنا لاتباع طرق مختلفة كاستبعاد بعض الخطوات، أو استخدامها كإلهام لبناء خطة عمل العام القادم. وأضيف على ذلك: قد تكون هذه المراجعة ممتعة كفعالية جماعية مع الأهل والأصدقاء.

وأضاف كتقديم للدليل هذه الأفكار السريعة:

  • ليس المقصود إتمام المراجعة في جلسة واحدة. ويمكن العمل على كل خطوة لعدة ساعات حتى تحصل على الاهتمام الكامل.
  • يمكنك الدمج بين الخطوات أو الاستعانة بتفاصيلها لبناء نسخ إضافية من المراجعة لتغطي جوانب غير مذكورة هنا.
  • تذكّر أنكم في مهمة لجعل العام المقبل نسخة أفضل من العام الحالي.
متابعة قراءة الجردة السنوية أو مراجعة نهاية العام

We’ll always have Paris

جلست لكتابة هذه التدوينة بعد تأجيل. الجزء الثالث والأخير من تدوينات باريس الجميلة. ما الذي ذكرني بالعودة للكتابة؟ مررت بصفحة في ويكيبيديا تحدثت عن جوزفين بونبارت. تذكرت لوحة تتويج نابليون الهائلة التي كان الوقوف أمامها إحدى لحظات رحلتي المميزة. الأسبوعين الماضية كانت مزيج من تعافي وانتكاسة صحية ومن ثم التعافي من جديد. ومن جهة أخرى استكمال حفلة ترميم حياتي الاجتماعية واللقاء بأفراد العائلة والصديقات بعد انشغال طويل. وأخيرًا الاستعداد للعودة للعمل. هناك تجارب جديدة واكتشافات لكن سأتركها لتدوينة أخرى، هذه التدوينة عن مونيه والزنابق وباريس المشمسة.

مع فواصل سعال قصيرة عدت للكتابة واستعادة ذكرياتي من ملف الصور في هاتفي، الصور بمثابة فتات الخبز الذي يعيدني إلى ذكرى معينة في حال نسيتها.

أربع أيام هذا ما يقوله الهاتف. بين وصولي والخروج لمتحف أورانجري في حديقة تويلري. يحتضن المتحف مجموعة غنية من لوحات المدرسة الانطباعية، وبالتأكيد زنابق الماء لمونيه. أصبت بالإحباط عندما علمت أن منزله ومتحفه والحديقة في جيفرني ستكون مغلقة لموسم الشتاء.

بدأت الصباح الضبابي بالمشي باتجاه الحديقة التي تبعد حوالي ربع الساعة من فندقي، الأجواء تقول يوم بارد جدًا. أراه في وجوه المارّة والطريقة التي يشدون فيها معاطفهم على أجسادهم. أما أنا فيبدو أن بقايا الحمّى ما زالت رفيقتي. لا أفهم سرّها لكن بالنسبة لي الجو في الخارج يشبه الربيع. لم ارتد شالا حول عنقي ولا قبعة صوفية. معطف ضخم وكنزة صوفية وسروال جينز وما إن عبرت البوابة للمتحف حتى قررت وفورا التخفف من القطع التي ارتديها. كيف لكل هذه التدفئة أن تتسق مع فكرة معاناة أوروبا مع الوقود؟ رتبت حقيبتي على هذا الأساس والنتيجة أن كل مكان في المدينة مدفأ أكثر مما يجب! والأيام الوحيدة التي استمعت بها هي تلك التي تخففت فيها من قطع ملابسي الصوفية.

متابعة قراءة We’ll always have Paris

Je ne parle pas français

بعد انتهائي من التدوينة الماضية بدأت صحتي بالتحسن تدريجيًا. قال جسمي توقفي عن محاولة الهرب. استلقيت ليوم كامل في الفراش مع زيارات قصيرة للنافذة والعودة مجددًا للنوم. موجات حمى وسعال، وأدوية مضبوطة انضباط الساعة. قالت لي الموظفة في الصيدلية أن التعافي يحتاج لأسبوع كامل وقلت في نفسي الراحة والدعاء ستساعدني بالتأكيد! عادت أختي مساءً للغرفة وأخبرتها بأن متحف رودان ينتظرني صباح الغدّ. اشتريت التذكرة التي ذكرت بوضوح: سارية لمدة سنة كاملة! يعني في حال سقطت في هوة التعب ستكون التذكرة سارية لبقية الأسبوع.  

كان الجو غائمًا يومها وتذكرت أن الجمعة كانت المدينة تغتسل بالشمس وفاتني ذلك. وصلت المتحف قبل منتصف النهار والسماء تمطر ولم أتمكن من الوقوف في الحديقة وتأمل المنحوتات فيها. تجولت في الأروقة وتعرفت على أعمال رودان عن قرب. أتساءل دائمًا عن التدفق الإبداعي ومتى يصل إلى الذبول؟ لا شيء هنا يقول ذلك. دخلت غرفة كاملة خُصصت لنماذج الأيدي والأقدام. وأخرى للقطع غير المكتملة. اقترب من المنحوتات كثيرًا وأودّ لو أغافل الموظفين وأمرر يدي على انحناءات الأجساد المحفورة بعناية وجنون.

بينما شُغلت بالأعمال الداخلية تنبهت لخيوط الشمس تتسلل بهدوء داخل المكان. توقيت جيد لأنني انتهيت من زيارة كلّ الغرف. وركضت باتجاه الحديقة. الآن يمكنني رؤية الخريف. الأوراق بتدرجات الذهبي والبني والكراميل. والتماثيل مغطاة برذاذ المطر الأخير.

متابعة قراءة Je ne parle pas français

الخريف في باريس

هذه المرة الأولى التي أزور فيها باريس. وصلت والمدينة غارقة في الظلام. لم يقلل ذلك من حماسي أو تطلعي للأيام التي سنقضيها معًا. وصلت بشهية مفتوحة وقائمة لا نهائية للأماكن التي سأزورها والمذاقات التي سأجربها. خلال الساعات الأولى من اليوم بدت علي مظاهر التعب وتجاهلتها تماما، فكرت: هذه آثار السفر بعد أيام من الركض ودون راحة. أو هو التوتر الممزوج بالحماس؟ تجاهلت الإشارة وخرجت للمشي تحت المطر، زرت أقدم متحف في المدينة كما تشير النبذة الخاصة به. ومشيت بمحاذاة حديقة تويلري مع كوب قهوة دافئة بالحليب. أشعر بالاحتقان يتسلل لحلقي واستمتع بدفء القهوة وهي تعبره. لا مجال للاستسلام للمرض الآن! ليس لدينا وقت نضيعه في الراحة. 

عدت إلى الفندق بعد غروب الشمس وتحولت المدينة لوجهها الآخر. واجهات المحلات المضاءة، والناس متراصين على الكراسي ليستمتعوا بحرارة المدافئ المعلقة فوق رؤوسهم. 

مررت بمخبز شهير عرفته فقط بطابور المنتظرين تحت المطر، ومطعم آخر يقدم الشوكولا الساخنة وطابور ممتد للمتحفزين. شكرًا لكني لا أجد نفسي أبدًا مستعدة للوقوف وانتظار الطعام. 

واصلت المسير عبر جادة فخمة وأعيد في ذهني قائمة المحلات التي سأزورها للتسوق قبل العودة. لدي ذاكرة صورية جيدة، بالاضاف إلى معرفتي بموقع الفندق الذي يقع بالقرب من معلم معماري بارز. أسير باتجاهه كما لو كان بوصلتي. أتذكر موعد حجز العشاء لأحفز معدتي للجوع. لم يكن ذلك نافعًا. شهيتي تعاني من ركود غريب، هل كانت الرحلة هي السبب؟ أو تغير الجو المفاجئ؟ أو الحماس لباريس؟ أختي هنا في رحلة عمل وأنا رفيقتها. كانت فكرة جيدة بما أنني ألغيت رحلتي المنتظرة في أكتوبر الماضي لظروف العمل. هذه رحلة ميلادك الأربعين تأتي متأخرة بشهر!  انتهى اليوم في مطعم إيطالي صاخب -نعم إيطالي. من جديد لستُ متأكدة من سبب اختياري. أردت وجبة حنونة بأقل قدر من التفكير. التهمنا طعامنا وغادرنا.

بدأت أعراض جديدة في منتصف الليل. توقظني أختي وترجوني لتعديل وضعية نومي ليتوقف الشخير. لكن وضعيتي لم تكن السبب بس حنجرتي المقفلة تمامًا. 

في الصباح تجاهلت الألم وكالعادة تحاملت على نفسي: أقول سأتذكر هذه المدينة بين نوبات السعال وهلاوس الحمّى. ذهبت لتناول الإفطار في مقهى صغير في حارة مجاورة لمتحف أورسي. أنا هنا لأجل الانطباعيين، وغداء على العشب، ومعرض مؤقت لإدوارد مونك. السماء صافية نوعًا ما، أحمل معي مظلة لن استخدمها لعدة ساعات على ما يبدو. وقفت في الصفّ الأقصر إذ كانت فكرة شراء التذكرة صائبة. رحلة مدرسة تغادر المكان وابتسم في سرّي: الحمد لله! تذكرت رحلتي الأخيرة إلى لندن حيث اصطدمت بصفوف الأطفال في كلّ أروقة المتاحف. رحلات مدرسية بلا توقف. 

المتحف قائم في محطة قطار قديمة، كما أشار أحد المدونين الذين اتابعهم: لدى الفرنسيين هوس بتحويل محطات القطار المتقاعدة إلى متاحف. تركت معطفي في الخزانة فالمكان دافئ جدًا، دافئ أكثر مما يجب. وددت لو تخلصت من بقية القطع التي ارتديتها ظنًا مني بأن الجو سيكون باردًا وتفاديًا لمزيد من المرض. 

كانت صحتي تتداعى تدريجيا، مع كلّ ممر أتساءل: هل يمكنني احتمال أجواء المكان وازدحامه بالقطع؟ هل توقفت عن الإحساس بالمتعة؟ بعد ساعتين ونصف الساعة تقريبًا قررت المغادرة. احتجت للهواء النقي والمشي باتجاه محل للعطور انتظرت زيارته طويلًا. يبعد المحل من المتحف حوالي السبع دقائق مشيًا. وصلت المكان لأجد الباب مغلق، مع أن ساعات العمل الموضحة في خرائط قوقل كانت تشير إلى كونه مفتوح. محبطة قليلا قررت المشي باتجاه مختلف حتى أصل لوجهة مفضلة أخرى. في الشارع المقابل صادفت حديقة صغيرة، أو ربما جزيرة خضراء في منتصف الشارع. وللمفاجأة كانت تعلوها لوحة تحمل اسم غابرييل غارسيا ماركيز. هذا المكان الصغير في باريس يحمل لوحة باسم عرّاب الواقعية السحرية اللاتينية. التقطت صورة للوحة وبدأت دفاعاتي تتهاوى. لا مزيد من المشي اليوم. طلبت سيارة لتأخذني إلى شرق النهر حيث أسكن. وبحثت عن قصة اللوحة التي مررت بها قبل قليل. إنها تذكار للسنة التي قضاها ماركيز في المدينة وسكن بالقرب منها. وغير ماركيز الكثير من كتاب أمريكا اللاتينية الذين وجدوا أنفسهم في العاصمة الفرنسية هربًا من الدكتاتورية أو بحثًا عن الإلهام، أو كلاهما معًا. 

وصلت للفندق وتناولت وجبتي الأخيرة في اليوم، وقضيت ساعات النهار القصيرة الباقية في القراءة، وهنا أشكر نفسي بشدة. لأنني قررت اصطحاب الجزء الأول من سباعية مارسيل بروست «بحثًا عن الزمن المفقود» معي على الرغم من ثقلها في الحقيبة. تحتفل المدينة بذكرى وفاة بروست المائة. وعدة مكتبات ومتاحف تخصص له جانب من مجموعاتها المعروضة. بين غفوات قصيرة وقراءة عدة فقرات. احكم الالتهاب قبضته على حنجرتي. أصبحت عملية بسيطة كشرب الماء أو البلع ضربًا من ضروب التعذيب. مرّ الليل ببطء وبؤس حتى ظننت أنني لن أنجو من الألم. نمت جلوسًا وحاولت التحايل على السعال قليلا وأملت رأسي. ظهر الصباح أخيرًا وبدأت مخططات اليوم تصطفّ في ذهني. اليوم سأزور متحف رودان وأشاهد منحوتاته. وإذا كانت لدي دفعة من الطاقة سأزور متحف اورانجريه وأقف في الغرفة أمام رائعة مونيه زنابق الماء. قطع هذياني القصير صوت أختي وهي تتوعدني: لا خروج من الغرفة اليوم. استجمعي قواك وتعافي. وسيكون لدينا كل الوقت للمرور على قائمتك الطويلة. 

لقد بقيت حبيسة الغرفة منذ صباح الجمعة-مع استثناء خروج قصير لشراء المزيد من الأدوية-قضيت الساعات في قراءة، أفلام على التلفزيون بعضها شاهدته عشرات المرات. والبعض الآخر وهذه هي الصدفة الطريفة شاهدته في بداية العام في فندق آخر. تمكنت مساء البارحة من تناول البطاطا المهروسة، والأرز المسلوق، وقطع من السالمون المطهو في زيت الزيتون. تطببني أختي مع مقاومة شديدة أعبر عنها بالصمت أو الإشارة باليد. حنجرتي مقفلة تمامًا ولا يمكنني التحدث بصوت مسموع كما يجب. أشبه صوتي حاليا بنسخة مصغرة عن هيفاء. أو وكأنني سحبت نفسًا من الهيليوم. 

اتحقق من صحتي كل عدة ساعات واخطط للخروج من سجني الصغير المرتب. هذه التدوينة قد تكون جزء أول عن رحلتي إلى باريس. أتمنى استعادة صحتي سريعًا واكتشاف ما جئت لأجله والاستمتاع بالخريف في المدينة. 

.

.

.