كيف تهزم مطباً قرائياً؟

Lost in Literature By Lori Preusch
Lost in Literature By Lori Preusch

لماذا نقع في مطبّ قرائي؟ أو بالأحرى ماذا أقصد بالمطبّ القرائي؟

نعرف جيداً تلك الفترة التي يعاني منها الكاتب عندما يصطدم بتوقف قدرته على الكتابة، أو ما يسمى بالانجليزية Writer’s Block، في حالة القارئ، هذا هو مطبّه، هذا هو الـ block الخاصّ به. وكما علّق كاتب انجليزي قرأت له ذات مرة مقالة نصاب نحنُ القراء بحالة الجمود والتوقف، لأن الكتّاب لا يصابون بها“. وكلامه صحيح إلى حدّ ما، إذا فكرنا في الاسباب التي تقودنا للتوقف والجمود القرائي، سنجد أن من بينها الحيرة العظيمة التي نقع بها عندما نريد اختيار كتابنا التالي، والعدد الهائل للكتب المتاحة لأنّ الكتاب ببساطة لا يصابون بالجمود!

سأحاول في هذه التدوينة جمع الاسباب التي مررت بها شخصياًوالتي قرأت عنها في بحثي السريع على الويب، لماذا نصاب بالجمود القرائي، وكيف يمكننا تجاوز ذلك بسهولة.

الانشغال

أودّ الحديث عن الوقت، عن اليوم الذي لا يكفي، عن الساعات الاربعة والعشرين التي تنكمش.

لستُ وحدي في ذلك. فنحن مخيرون أمام أمرين، أن نترك هذا العالم يدور خارج الباب، لا نعمل لا نتعلم، لا نسأل عن شيء، ونحصل على كل الوقت، للقراءة والاطلاع، والتنقل من كتاب لآخر. أو الاصطدام بواقع أننا سنجوع، ونعيش في فوضى عارمة مالم نخرج ليومنا الحافل! أنا أحبّ عملي، كما أحببت عملي السابق، كما أحببت سنوات الدراسة لكن المشكلة دائما ذلك الضمير الخفي الذي يستيقظ ويذكرني بالرفوف الحزينة التي تعاني من الوحدة، يذكرني بقطعة الورق التي تركتها في صفحة ما، بالملاحظة الصغيرة التي كتبتها عن كتاب رائع ولم أعد إليه من جديدالانشغال يا أصدقاء السبب الأول للجمود القرائي، خصوصاً إذا كنتم ممن يحتاج إلى أكثر من ساعة يومياً للدخول في عمق كتاب والاستمتاع به.

قراءة كتب سيئة متتالية

إنه الاحباط، تبدأ كتب كانت لديك تصورات مبدئية حول جودتها والمتعة التي ستحصل عليها من قراءتها وتفاجأ تدريجياً أن الكتاب من سيء إلى أسوأ. تتركه من يدك وتتناول كتاباً آخر وتفاجأ بنفس القصة تتكرر مع كتاب ثانٍ وثالث ورابع. ردة الفعل الفورية لدى البعض – وأنا منهمسأتوقف عن المحاولة قليلاً وسأصاب بالجمود وسأنصرف عن القراءة لفترة قد تطول أو تقصر بحسب ما سيحدث من محاولات للخروج منها.

قراءة كتب رائعة متتالية

قد يبدو هذا الشيء مضحك لكنه حقيقي. تلتهم أفضل الكتب في مكتبتك وتبقى لديك الكتب الأقل حظاً. أو تقرأ عمل رائع مكتوب خصيصاً لك ثمّ لا تغادر آثاره نفسك بسهولة. يحدث دائما ذلك معي، وأجده ربما السبب الأهم بين الاسباب التي ذكرتها سابقا. يصبح الكتاب الجيد وحشاً، ويمنعك من الاستمتاع بأي كتاب سواه، كل مرة تفكر البدء في قراءة كتاب جديد، تعود لاقتباساتك من الكتاب، وتتصفحه من جديد وتستعيد المتعة. ثمّ تبقى حبيساً.

بلا سبب

نعم للاسف، يمكن أن يحدث ذلك بلا سبب.

إذا كنت تقرأ دائما، إذا كانت القراءة هي الفعل الذي تتقنه مثل التنفس أو الأكل أو النوم أو أي شيء أصبح الوضع الافتراضي لحياتك ستدرك معنى الخوف والهلع الذي يصيب الانسان عندما لا يستطيع القراءة. . وكيف إذا كان ذلك بلا سبب.

طيّب، والحل؟

أنا سعيدة بأن كتابة هذه التدوينة تزامن واستماعي للبودكاست المفضل عن الكتب Booksonthenightstand ، ومن جهة أخرى تزامن مع استعادتي لشهيتي القرائية وتجاوز حالة الجمود التي مررت بها لعدة أشهر، وإن بدا ذلك غريباً بعض الشيء فخلال هذه الفترة كنت أقرأ، لكن الجمود الذي أتحدث عنه، الجمود الذي يخصني، يعني أنني أقضي أسابيع بل شهور في محاولة إنهاء كتاب جيد، ومن حجم صغير بلا نجاحفي البودكاست الذي ذكرته جاء ذكر ١٢ حلاً لهذه المعضلة، جربت بعضها، ونجحت، وأضيف أيضاً ثلاثة من عندي، وانتظر كذلك اضافاتكم.

متابعة قراءة كيف تهزم مطباً قرائياً؟

بيت الدرج.

By: Jill McLaughlin
By: Jill McLaughlin

(أ)

إنّ الأحداث تتسارع أحياناً بطريقة لا يعود معها لدى أحدنا متسع من الوقت أو من الأنفاس لروايتها“.

(ب)

على ذراعي اليمنى بقعة حمراء، التحليل الأولي واستنادا لتاريخي العائلي إكزيما، والتحليل الثاني، تحسس من أخلاط الأدوية التي اجرعها بحثاً عن صحة سريعة خلال الايام الماضية. ولكن ..أظنني أمرّ بـ ٢٠٠٦م جديدة، على الرغم من سوداوية الأمر والذاكرة، إلا أنها تعود بي للفترة التي نشطت فيها شهيتي القرائية، والسبب أنني أصبحت حبيسة الغرفة، السرير تحديداً، وقرأت بلا توقف. الغثّ والتافه والجيد، خلال تلك الأيام عرفت أنّ قراءاتي المتخبطة يجب أن تتزن ويجب أن أبحث عن هدف خلف فعل القراءة، وهذا الهدف هو بالتأكيد: المتعة أينما وجدتها. ولو حصل ووجدت الفائدة سيكون ذلك جيد.. جيد جداً.

(ج)

أفكر في بيت الدرج“.

يقول بعض علماء النّفس أنّك عشت طفولة سعيدة إذا كنت تحبّ الجلوس على الدرج، وأقول أنّ الخيال الخصب للاطفال وأجمل ألعاب حياتهم تبدأ من المكان المدعو بيت الدرج“. وقد عرفت في حياتي الكثير منها. البدء كان في بيت جدي الكبير، بيت الدرج رقم ١، ورقم ٢كذلك، أحدهما يخبئ تحته صندوق ثلج ضخم فريزرتتكدس فيه الدجاجات متوسدة كل منها الاخرى، وبعض علب الحلوى، وبقايا المثلجات الشهية التي نخبئها من بعضنا حسداً. كانت ابنة عمي تتسلق على صندوق، ترفع غطاء الثلاجة المستلقية على جنبها – كما كنت اصف الفريزروتحك الثلج بملعقة أو بأداة قاسية وتلتهمه، أذكر أن له طعماً غريباً، ولو عدت بالزمن لتلك الأيام لما وضعته في فمي، مجرد تصور أن دماء الدجاجات، واشياء حيوية دقيقة تنمو ملتصقه به تبعث على الغثيان والندم، الكثير من الندم

بيت الدرج رقم ٢في نفس المنزل، في الدور الثالث – إلى الاسفلتوجد غرفة جلوس قديمة، ومطبخ واعشاش حيوانات داجنة، وأسوأ كوابيسي، لم أكن اتجاوز الدرج للالتفاف لتلك الجهة من المنزل، لكنني كنت استرق النظر واركض صعوداً. الآن المنزل لم يعد في ملكية العائلة، لكن لو قُدّر لي العودة هناك، سأهبط الدرجات سريعاً، وسألتفّ وادخل تحت وانظر بنفسي لا شيء هناك أنا أكيدة!

متابعة قراءة بيت الدرج.

أربعة أيام على متن الحمّاصة.

(أ)

لا يُمكنك اختيار مكان مثالي للقراءة في سكن مشترك.”

لستُ أدري لم احتجت لكل هذه السنوات حتى اتوصل للاستنتاج أعلاه، خصوصاً وإذا كانت القراءة التي تودّها غارقة في التركيز، وبلا منغصات خارجية. لا أنكر طبعاً أنني أحب القراءة في كلّ مكان، ولو كان رأسي مزود بزوج اضافي من العيون، لقرأت بينما أمشي، آكل، اتكلم، لكن دائما الوقت، والمكان.. مشكلة. في غرفة الجلوس الأقصى يحصل أي فرد من العائلة على أعلى نسبة تركيز وهدوء ممكنة، حتى وإن كانت مجالس المنزل مفتوحة على المدى، بإمكانك الاختفاء، ودس وجهك خلف الوسائد الوثيرة على الاريكة والبدء بالعمل. إلا إذا وجد والديك أو أحدهما الحاجة الملحة لأحاديث عطلة نهاية الاسبوع المكثفة، يستعيدون الأسبوع، والرحلات المفاجئة ويفحصون وجهك، ويمنحونك مباركتهم على مشاريعك المعطّلة، ويسخرون أو يعززونأحلامك التي لا تنتهيلم أشعر بأنّ عطلة نهاية الأسبوع لذيذة ومنتجة على جميع الاصعدة، كما شعرت خلال اليومين الماضية، زيارات سريعة، وضيوف، والكثير من القراءة، والتأمل، وطبعاً طعام شهيّ ونومٌ هانئ. أقول ذلك لأنني في وقت آخر كنت سأستسلم لبوادر الزكام والحمى، وسينقلب كلّ شيء إلى رحلة جرجرة قدمين إلى السبت.

لكن من يحتاج لحبّة مسكن ولديه كتاب وفنجان قهوة؟

(ب)

المساعدة المنزلية بدأت حملة لتحميص القهوة منذ الثلاثاء الماضي، كل يوم تضع على الحماصة العتيدة – وهي آلة إعداد الفشار بالمناسبة – تضع كوبين إلى ثلاثة من حبوب البنّ اليمنيّ وتنتظر بينما تبدأ دورانها اللانهائي، حتى تكتسب السمرة المطلوبة. حول المنزل لا تشمّ سوى القهوة، القهوة في أحلامك، القهوة في الحديقة، والقهوة في رئتيك! وبينما كنت انعم بساعات القراءة الهانئة، كنت استمع لدوران الحبوب، وانتبه بالتحديد للفوضى التي تسببها حبة قهوة عنيدة ترفض باستمرار الدوران مع صاحباتها، حتى تعطّل دوران الحماصة، وتعكس اتجاهها وتعود، لكن هل كانت الحبّة تستجيب؟ لا! تحتاج الحماصة للتوقف قليلاً ونأتي للتفاهم مع حبّة القهوة التي يبدو أنها ما زالت متشبثه بالحياة كفاية فرفضت أن تموت مع الجماعة. وغادرت الحبة الحماصة بعد صراع طويل.

(ج)

على وجبة الفطور تأملت جمال شرائح الخبز المقصوصة بعناية، وفكّرت لأول مرة عن كيفية تقطيع الخبز بكميات هائلة وبمقاييس تعجز أمهر الايدي، وأحد سكاكين الخبز على انجازها، والطريق أوصلني لحكاية الخبز المقطع.

هنا وهنا وهنا روابط للموضوع، وهنا فيديو على يوتوب عن صناعة الخبز بشكل عام.

متابعة قراءة أربعة أيام على متن الحمّاصة.

هُما.

(أ)

يحبّ من عملها شيئاً واحداً، أنها مساء السبت تمدّ له القلم الأحمر وتطلب منه ترك ملاحظات على أوراق الطلبة الكسالى، فيبدأ بالارتجال وفقاً للدرجات التي حصلوا عليها. يفعل ذلك بينما يتخيل وجوههم وهم يستلمون الاوراق، الخجل البادي عليهم، أو الغضب، ويعود ويتحقق منها هل ما يفعلونه صائب؟ نعم تجيبه وهي تبتسم ابتسامة التردد التي يحبّ.

(ب)

تنهره في كلّ مره يعطس ولا يتبع العطاس بـ الحمد لله، تنقصك الكثير من العادات الطيبة تقول له، حسناً إذا كنت لا تبحث عن الدعاء لك، على الأقل لن تفزعني بالتفكير ماذا حصل؟ هل اختنقت؟ هل أنت هنا؟ احتاج لما يكسر صمتنا الطويل بينما ابحلق في الاوراق المكدسة وتنهمك مع برامجك السمجة.

(ج)

إنها مصابة بوساوس كثيرة، من بينها حبّ التنظيم، إنها تفسد حياتها بالتنظيمكان يحدّث نفسه بينما يراقب كيف تجمع الاوراق الصغيرة وتصفها فوق بعضها حسب المقاس، واللون، ثم تعود لوضعها في مظاريف، ماذا ستفعلين بها؟يسأل بصوت عالٍ، وتردّ بامتعاض سأنثرها على الأرض”يتذكر كيف تحول الصالون إلى ساحة معركة، مهما بدا الأمر مضحكاً إلا أنه تحول تدريجياً إلى الجدّ ولا شيء غيره، فبعد سهرة طويلة في مشاهدة مباريات مسجلة متتالية، تحولت السجادة حول كرسيه الوثير إلى احتفالية بالقشور، وأغطية زجاجات البيرة، قلامة اظافره، شعر الهرّة والكثير من الغبار. لم تغضب كعادتها، ولم توبخه كما لو كان أحد طلبتها، أحضرت شريطاً لاصقاً وبدت منهمكة في مخطط سرّيلم يبق طويلاً كذلك– . قسمت الصالون إلى قسمين وأشارت باتجاه مكتبها ومدخل المطبخ وطاولة الطعام، هذه منطقتيحذّرته، والآن استمتع بمهرجانك اللطيف”يعلق الضيوف أحياناً أن تغيراً طفيفاً في لون السجاد يفصل الصالون إلى ناحيتين، طبعاً هي لا ترغب في إحراجه وإحراج نفسها، في كلّ مرة يزورهم ضيف تزيل الشريط وتعود لوضعه لاحقاً، ألم يقل لكم أنها مصابة بوساوس كثيرة؟

(د)

تمنعه من التدخين في المنزل، وتستمتع بمنظره وهو يرتعد في ليالي الشتاء ليدخن سيجارة في الشرفة، يشبه كلب حزين، تضحك قليلاً ثمّ تحزن معه.

(هـ)

يمنع نفسه من السعال بصوت مرتفع داخل المنزل، يعرف جيداً أنه ما إن يفعلها ستعلّق بغضب، وستبحث عن صور مخيفة لمدخنين مخضرمين، ولن تتوقف حتى تشاهده يرمي بآخر علبة سجائر بنفسه في صندوق القمامةيمنع نفسه من السعال في المنزل ويستغل وصوله المبكر لعمله، ويسعل كأنها فرصة رئتيه الوحيدة للكلام، يرتد صدى سعاله ويضحك، إنه يفزع المراجعين، والعصافير على النافذة ويثير حنق مديره المنافق.

(و)

تحبّ كاحليه المتورمين، هذا منظر رجل كادح، تحبّ لعبة اخفاء اللحف الثلاثة التي لا ينام بدونها، وكلما اختصرت عددها لأن الجو لا يستدعي ذلك، ذهب خصيصاً للمتجر وابتاع المزيد منها. تحبّ قمصانه التي قصت أكمامها ليرتديها كلما ثارت الاكزيما في ثنية ذراعه.

(ز)

يحبّ ظلها، وكلما قال لها ذلك ضحكت منه وتجاهلت اطراءه، يحبّ رؤية هيئتها وهالة الضوء حولها، يحبّ أنه لا يراها بوضوح لكنه يعلم أنها هي، هنا منذ عشرين عاماً بعقيصة البندق فوق رأسها، يودّ لو أن الشمس لا تغيب، يودّ أن تبقى واقفة هكذا إلى الأبد.

عن الشطائر المثالية.

أتجاهل وجبة الفطور مؤخراً وبلا سبب، نومي فوضى عارمة، عملي كذلك، وقراءاتي، أسرق ساعتين اسبوعياً للاستغراق في قراءة كتاب هي الطريق الذي يأخذني من وإلى مدينة قريبة، أشرف خلال زيارتي لها على طالبات يتدربّن قبل التخرج على التدريس. الاسبوع الماضي تغيب السائق الذي يعرف طريق المدارس التي أشرف فيها أنا ودكتورة زميلة من الجامعة. الجو ماطر والضباب كثيف، يأتي سائق جديد، يحاول بدء الحديث بمديح الجوّ، لا يجد تجاوباً من كلينا، ويعود للصمت، يبحث في قنوات الراديو ولا يجد قناته المفضلة ببثّ واضح نظرا للأحوال الجوية، يتململ قليلاً في كرسيه، وبعد مضي منتصف الطريق يلقي بقنبلته: أنا لا أعرف الطريق! هذه المرة الأولى التي أزور فيها المدينة. زميلتي الراكبة دكتورة جديدة من مصر، هذه هي المرة الأولى لها في السعودية، وأنا في نظرها الآن سوبروومن يفترض أن أعرف مداخل المدن ومخارجها والطريق إليها على الأقل في مسافة ١٥٠ كم حول مدينتي. حسناً نفس عميق ونظرة اهتمام خارج النافذة الغارقة، انعطف يميناً، الانعطاف يميناً مخرج جيد لكل المشاكل، ومن هناك بدأ حنقي يتصاعد. في الصباح تستيقظ وتفكر ما أسوأ ما يمكن حدوثه؟، يوم شعر سيء؟ نسيان وثائق مهمة؟ أوه صحيح سائق جديد في مدينة غريبة وجوّ ماطر! وصلنا للمدينة وحاولت استرجاع ذاكرتي الصورية، لا شيء يبرز فيها بوضوح سوى إشارة ضوئية متعطلة وحرف الـ M الاصفر الذي شدّ انتباهي ذات جوع، وجامع صحيح كان هناك جامع أنيق وملفت للانتباه. وبعد انعطافات متكررة، وشتائم مكبوتة، وصلنا للطريق، وفعلاً لم يكن جوعي سيئاً إذ كان كلّ شيء يبدأ من هناك. تذكرت نصيحة والدتي الابدية، في كلّ مرة تخرجين من المنزل لزيارة أماكن جديدة تحاشي أمرين: الانشغال بشيء بعيدا عن النافذة، والكلام مع الركاب. الأمر الأول سيعطل ذاكرتي الصورية للطريق، والأمر الثاني سيشغل السائق ليلتقط أطراف أحاديثنا.

يوم الأحد يوم طويل ومرهق، أكرر محاضرتي ثلاث مرات، لثلاث شعب مختلفة، وكلّ مرّة أقول لنفسي هذا ليس ديجافو، يمكنك الوقوف في جهة معاكسة من قاعة المحاضرة، أو استخدام يدك اليسرى في الشرح أكثر من اليمنى، تغيير مفرق الشعر أيضاً يساعد، وشرب أكواب القهوة الكثير منها! لكنني نسيت تناول الفطور في ذلك اليوم بالذات، وما إن دخلت لغرفة الاستاذات باكراً حتى كانت إحدى الزميلات تعدّ لنفسها شطيرة جبنة شهية، أقول شهية لأنني شاهدت كيف انثنت شرائح الخبز الابيض في الكيس بينما ضغطتها قليلاً لتخرج شريحتين لنفسها، فتحت بعد ذلك علبة الجبنة الكريمية، ومررت الملعقة بينما حاولت التقاط اسم الشركة المصنّعة، لم تكن المراعييمكنك تخمين أنّ هذه الاستاذة مقاطعة للشركة، وستدعم أي مشاريع مماثلة، لديها حماسة كبيرة لحماية حقوق المستهلك، وحماسة كبيرة لانقاذي من صفرة الوجه ودهشة الصباح. عرضت عليّ صنع شطيرة أخرى لي، ووافقت، وبينما سكبت لنفسي القهوة من الترموس الصغير الذي احمله واتذكر حافظة طعام جدي الحديدية، وحافظة والدي، وأخوالي وكلّ عمال العائلة قبل عشرات السنين، يغمرني شعور بالفخر لانتمائي للكادحين، على الرغم من كراهيتي للروتين وقتله للابتكار، أحبّ أنني أحمل معي هذه العبوة المنقذة واقطر محتواها كلما مرت ساعتان في كوب، القهوة .. المشروب السحريّ لصنع المزاج، للأبد. انتظر تغير درجة حرارته قليلاً لارشف منه، وتمدّ لي زميلتي الشطيرة، التهمها على مهل على الرغم من جوعي الشديد، تخيلت ألف ألف وحش في معدتي، أن تنام في ليلة طويلة بلا عشاء أشبه بطقس لإيقاظ الكوابيس، والحزن! لم أذق في حياتي ألذّ من هذه الشطيرة الاعتيادية، ولا أدري هل كان ذلك الجوع سبباً أم أن الخباز قضى وقتاً أطول في خبز الرغيف، حتى قطع الشرائح كان مثالياً، لم تكن رقيقة لترشح منها الجبنة إلى يديّ ولم تكن كثيفة فتتعب فكي بالمضغ. كانت مثالية!

بالأمس قرأت عن قصة مشابهة في كتاب بول أوستر الدفتر الأحمرمجموعة مقالات له وقصص واقعية، سرد حميمي وأليف، وجه هذا الرجل يُطبع في رأسي تدريجياً، ويخشى والداي أن يُطبع في قلبي. خصوصاً بعد أن أعلنت بأنني سأزور منزله، وأقضي عدة أيام في تأمل حياته – إن سمح ليوسأحتسي القهوة معه والشاي، وأدردش مع زوجته المذهلة عندما أزور بروكليننيويورك. سأخبره عن هوسي به، وأنني لا أتوقف عن ترديد اقتباساته والتبشير بكتبه أينما حللت. أتذكر المرة الأولى التي اقتنيت فيها كتاباً لبول أوستر، وأتذكر أن قارئة نهمة أخبرتني أنّ كل قراء أوستر يصلونه مصادفة، أو بطريقة عجائبية. كنت أبحث عن سيرة نيرودا في دار النشر ولم يجدها البائع، أصابني احباط خفيف، وبينما كنت على وشك مغادرة المكان حتى استوقفني كتاب في بلاد الأشياء الأخيرةصورة الغلاف، والعنوان، كانت كافية، وبعد التقاطي له، حملت معي ثلاثية نيويوركقرأت الكتاب الأول فور اشتريته أو بعد ذلك بفترة قصيرة، وانتظرت لثلاث سنوات حتى قرأت الثاني، واقتنيت المزيد من كتبه، ثمّ بدأت حالة الهوس خلال الاشهر الماضية، لدرجة بدأت فيها بأحلام اليقظة وفكرة كتابة كتاب عن تجربتي وعن بول أوستر، لكن لكي لا أطيل عليكم سأخبركم عن أوستر وعن طبق لم ينس طعمه أبداً، ففي صيف ١٩٧٣م عُرضت عليه وظيفة السكن في بيت بجنوب فرنسا، بيت لزوجين أمريكيين يعيشان في باريس، وأرادا أن يبقى أوستر فيه يحافظ على محتوياته، ويُطعم كلبيهما، على أن يُدفع له ٥٠ دولار شهرياً وعلاوة للبنزين، وهذا بالطبع كان لأوستر وصديقته بمثابة الكنز، فلا ايجار للدفع، ومكان رائع للكتابة والترجمة. ولكن لم يكن كلّ شيء رائعاً للأبد، ففي نهاية الشتاء ومطلع الربيع، تأخرت الشيكات في الوصول، سُرِق كلب من الثنائي، وانتهت الاغذية المخزونة شيئاً فشيئاً. لم يعد هناك ما يؤكل سوى: كيس بصل، زجاجة زيت طبخ، وقاعدة فطائر لم تُخبز بعد. ونظراً لشدة الجوع وندرة الإمكانيات لم يكن أمام أوستر وصديقته سوى فكرة واحدة فطيرة بصل“. وهكذا بدأ العمل الحثيث على طهو الوجبة الأخيرة، الساعة الثانية والنصف ظهراً. لم ينتظر أوستر كثيراً ولا صديقته، أخرجا الفطيرة التي بدت مثالية، لكن وبينما كانا يحفران في البصل اكتشفا أن الفطيرة لم تُخبز بالكامل وأن منتصفها البارد لم يكن قابلاً للابتلاع، لذلك قررا إعادتها للفرن، والانتظار لعشرة دقائق أو ربع ساعة أخرى، خلال ذلك خرجا للمشي حول المنزل وبعد عودتهم التي قد تكون متأخرة إذ انزلق الوقت بهما في الحديث عن شؤون كثيرة. كان المطبخ غارقاً في الدخان، والفطيرة التي بدت شهية منذ قليل، أصبحت كتلة من الفحم.

تخيل أوستر أن نهاية العالم قريبة، وبينما التهمهما الذهول، جاءت من بعيد البشائر، كانت السيارة الزرقاء للسيّد شوغر، المنقذ، تقترب، والذي تبين لاحقاً أنه صديق للزوجين وفي رحلة تصوير مع مجلة ناشيونال جيوغرافيك، ويحتاج لمكان للمبيت، وبدلاً من البقاء في فندق، سيبقى مع أوستر ورفيقته، على أن يدفع لهما ما اجماليه ٥٠ فرنكاً في الليلة، وهكذا في كل مرة كان يأتي كانا يتناولان العشاء أو الغداء في مكان راقي معه، أو يصرفان ما يتركه من مال على إشباع جوعهما. واليوم يتذكر أوستر طعم فطيرة البصل كما لو كانت ألذّ فطيرة تناولها في حياته!