هذه المرة الأولى التي أزور فيها باريس. وصلت والمدينة غارقة في الظلام. لم يقلل ذلك من حماسي أو تطلعي للأيام التي سنقضيها معًا. وصلت بشهية مفتوحة وقائمة لا نهائية للأماكن التي سأزورها والمذاقات التي سأجربها. خلال الساعات الأولى من اليوم بدت علي مظاهر التعب وتجاهلتها تماما، فكرت: هذه آثار السفر بعد أيام من الركض ودون راحة. أو هو التوتر الممزوج بالحماس؟ تجاهلت الإشارة وخرجت للمشي تحت المطر، زرت أقدم متحف في المدينة كما تشير النبذة الخاصة به. ومشيت بمحاذاة حديقة تويلري مع كوب قهوة دافئة بالحليب. أشعر بالاحتقان يتسلل لحلقي واستمتع بدفء القهوة وهي تعبره. لا مجال للاستسلام للمرض الآن! ليس لدينا وقت نضيعه في الراحة.
عدت إلى الفندق بعد غروب الشمس وتحولت المدينة لوجهها الآخر. واجهات المحلات المضاءة، والناس متراصين على الكراسي ليستمتعوا بحرارة المدافئ المعلقة فوق رؤوسهم.
مررت بمخبز شهير عرفته فقط بطابور المنتظرين تحت المطر، ومطعم آخر يقدم الشوكولا الساخنة وطابور ممتد للمتحفزين. شكرًا لكني لا أجد نفسي أبدًا مستعدة للوقوف وانتظار الطعام.
واصلت المسير عبر جادة فخمة وأعيد في ذهني قائمة المحلات التي سأزورها للتسوق قبل العودة. لدي ذاكرة صورية جيدة، بالاضاف إلى معرفتي بموقع الفندق الذي يقع بالقرب من معلم معماري بارز. أسير باتجاهه كما لو كان بوصلتي. أتذكر موعد حجز العشاء لأحفز معدتي للجوع. لم يكن ذلك نافعًا. شهيتي تعاني من ركود غريب، هل كانت الرحلة هي السبب؟ أو تغير الجو المفاجئ؟ أو الحماس لباريس؟ أختي هنا في رحلة عمل وأنا رفيقتها. كانت فكرة جيدة بما أنني ألغيت رحلتي المنتظرة في أكتوبر الماضي لظروف العمل. هذه رحلة ميلادك الأربعين تأتي متأخرة بشهر! انتهى اليوم في مطعم إيطالي صاخب -نعم إيطالي. من جديد لستُ متأكدة من سبب اختياري. أردت وجبة حنونة بأقل قدر من التفكير. التهمنا طعامنا وغادرنا.
بدأت أعراض جديدة في منتصف الليل. توقظني أختي وترجوني لتعديل وضعية نومي ليتوقف الشخير. لكن وضعيتي لم تكن السبب بس حنجرتي المقفلة تمامًا.
في الصباح تجاهلت الألم وكالعادة تحاملت على نفسي: أقول سأتذكر هذه المدينة بين نوبات السعال وهلاوس الحمّى. ذهبت لتناول الإفطار في مقهى صغير في حارة مجاورة لمتحف أورسي. أنا هنا لأجل الانطباعيين، وغداء على العشب، ومعرض مؤقت لإدوارد مونك. السماء صافية نوعًا ما، أحمل معي مظلة لن استخدمها لعدة ساعات على ما يبدو. وقفت في الصفّ الأقصر إذ كانت فكرة شراء التذكرة صائبة. رحلة مدرسة تغادر المكان وابتسم في سرّي: الحمد لله! تذكرت رحلتي الأخيرة إلى لندن حيث اصطدمت بصفوف الأطفال في كلّ أروقة المتاحف. رحلات مدرسية بلا توقف.
المتحف قائم في محطة قطار قديمة، كما أشار أحد المدونين الذين اتابعهم: لدى الفرنسيين هوس بتحويل محطات القطار المتقاعدة إلى متاحف. تركت معطفي في الخزانة فالمكان دافئ جدًا، دافئ أكثر مما يجب. وددت لو تخلصت من بقية القطع التي ارتديتها ظنًا مني بأن الجو سيكون باردًا وتفاديًا لمزيد من المرض.
كانت صحتي تتداعى تدريجيا، مع كلّ ممر أتساءل: هل يمكنني احتمال أجواء المكان وازدحامه بالقطع؟ هل توقفت عن الإحساس بالمتعة؟ بعد ساعتين ونصف الساعة تقريبًا قررت المغادرة. احتجت للهواء النقي والمشي باتجاه محل للعطور انتظرت زيارته طويلًا. يبعد المحل من المتحف حوالي السبع دقائق مشيًا. وصلت المكان لأجد الباب مغلق، مع أن ساعات العمل الموضحة في خرائط قوقل كانت تشير إلى كونه مفتوح. محبطة قليلا قررت المشي باتجاه مختلف حتى أصل لوجهة مفضلة أخرى. في الشارع المقابل صادفت حديقة صغيرة، أو ربما جزيرة خضراء في منتصف الشارع. وللمفاجأة كانت تعلوها لوحة تحمل اسم غابرييل غارسيا ماركيز. هذا المكان الصغير في باريس يحمل لوحة باسم عرّاب الواقعية السحرية اللاتينية. التقطت صورة للوحة وبدأت دفاعاتي تتهاوى. لا مزيد من المشي اليوم. طلبت سيارة لتأخذني إلى شرق النهر حيث أسكن. وبحثت عن قصة اللوحة التي مررت بها قبل قليل. إنها تذكار للسنة التي قضاها ماركيز في المدينة وسكن بالقرب منها. وغير ماركيز الكثير من كتاب أمريكا اللاتينية الذين وجدوا أنفسهم في العاصمة الفرنسية هربًا من الدكتاتورية أو بحثًا عن الإلهام، أو كلاهما معًا.
وصلت للفندق وتناولت وجبتي الأخيرة في اليوم، وقضيت ساعات النهار القصيرة الباقية في القراءة، وهنا أشكر نفسي بشدة. لأنني قررت اصطحاب الجزء الأول من سباعية مارسيل بروست «بحثًا عن الزمن المفقود» معي على الرغم من ثقلها في الحقيبة. تحتفل المدينة بذكرى وفاة بروست المائة. وعدة مكتبات ومتاحف تخصص له جانب من مجموعاتها المعروضة. بين غفوات قصيرة وقراءة عدة فقرات. احكم الالتهاب قبضته على حنجرتي. أصبحت عملية بسيطة كشرب الماء أو البلع ضربًا من ضروب التعذيب. مرّ الليل ببطء وبؤس حتى ظننت أنني لن أنجو من الألم. نمت جلوسًا وحاولت التحايل على السعال قليلا وأملت رأسي. ظهر الصباح أخيرًا وبدأت مخططات اليوم تصطفّ في ذهني. اليوم سأزور متحف رودان وأشاهد منحوتاته. وإذا كانت لدي دفعة من الطاقة سأزور متحف اورانجريه وأقف في الغرفة أمام رائعة مونيه زنابق الماء. قطع هذياني القصير صوت أختي وهي تتوعدني: لا خروج من الغرفة اليوم. استجمعي قواك وتعافي. وسيكون لدينا كل الوقت للمرور على قائمتك الطويلة.
لقد بقيت حبيسة الغرفة منذ صباح الجمعة-مع استثناء خروج قصير لشراء المزيد من الأدوية-قضيت الساعات في قراءة، أفلام على التلفزيون بعضها شاهدته عشرات المرات. والبعض الآخر وهذه هي الصدفة الطريفة شاهدته في بداية العام في فندق آخر. تمكنت مساء البارحة من تناول البطاطا المهروسة، والأرز المسلوق، وقطع من السالمون المطهو في زيت الزيتون. تطببني أختي مع مقاومة شديدة أعبر عنها بالصمت أو الإشارة باليد. حنجرتي مقفلة تمامًا ولا يمكنني التحدث بصوت مسموع كما يجب. أشبه صوتي حاليا بنسخة مصغرة عن هيفاء. أو وكأنني سحبت نفسًا من الهيليوم.
اتحقق من صحتي كل عدة ساعات واخطط للخروج من سجني الصغير المرتب. هذه التدوينة قد تكون جزء أول عن رحلتي إلى باريس. أتمنى استعادة صحتي سريعًا واكتشاف ما جئت لأجله والاستمتاع بالخريف في المدينة.
.
.
.