السفر الجيّد يتطلب الكثير من التخطيط، التخطيط للأكل!
العام الماضي تركت كل شيء للمفاجآت، كانت هناك مغامرات “مذاقية” كثيرة لكنّها لم تشبع فضولي. أما هذه المرة فقد قضيت وقت لا بأس به في البحث عن أهم المطاعم والمقاهي القريبة من مسكني وحول المدينة بشكل عام. قرأت عن التقييمات وحددت الأسعار وفكرت في كلّ شيء أرغب في تجربته. التطبيق الذي أحبه كثيرا حتى في حالة الاختيارات العشوائية “Yelp” ربما كان هناك تطبيق أفضل منه لكنني اعتدت استخدامه. فيه تقييمات كثيرة وصور وتفاصيل عن قائمة الطعام والأسعار وما إذا كان المكان مفتوح أو مغلق، وفي حالة مهمة هل يقدمون وجبة (الفطور/الغداء Brunch) في ذلك اليوم أو لا.
يمكنني الآن التفكير في قائمة على الشكل التالي: سلطة كمثرى، سلطة تين، سلطة تين وزيتون، سلطة رمان، سلطة سيزر بالدجاج، سلطة ربيان، ريزوتو –الكثير من الريزوتو-، ربيان وبطاطا مقلية، سمك وبطاطا مقلية، بوظة، جيلاتو، كعك جبن وشوكولا، كعك جبن وجزر، كرات الدونات وتغميسة الشوكولا، كعك موز، كعكة الليمون السعيدة، كعكة جوز الهند، تيراميسو، كروسون بالأعشاب وجبن الماعز، ساندويتشات دجاج، بيض مقلي ونقانق الديك الرومي، شوربة الطماطم، بيتزا ميسينا، بيتزا كاليفورنيا، بيتزا في فرن حجري، كعك سلطعون، ريزوتو بالسلطعون، كثير من الطماطم والدجاج والصلصة والفطر والأهم من هذا كلّه الجبنة التي فكرت في تسمية الرحلة باسمها تكريما لروعتها: الجورجونزولا! وما هي هذه الجبنة السحرية؟ إنها جبنة شهيرة في المطبخ الإيطالي، من أنواع الجبنة الزرقاء التي بدأت صناعتها قبل قرون في منطقة إدارية في ميلانو الإيطالية ومنها جاء اسم الجبنة. تُعتّق من ثلاثة إلى أربعة أشهر حتى تكتسب طعمها القويّ وقوامها الخاص. تناولت الجورجونزولا مع المعكرونة والستيك والبرغر، تناولتها مع السلطة، والبطاطا المقلية بزيت الكمأه. للجبنة رائحة قوية جداً لا ينكرها الأنف، ما إن يصل الطبق لطاولتكم سينتبه لها كل من حولكم.
شيء آخر مميز جرّبته في الرحلة: أكل الشارع الآسيوي مقدّم بحلة مختلفة في مطعم وعلى كراسٍ وطاولات. الفكرة في مطعم Spice Market بنيويورك صنع مزيج من الأكلات الآسيوية الشعبية التي تقدم عادة في الشارع وتقديمها في قائمة طعام خاصة بهم. كانت هناك السمبوسة والمعكرونة بالخضار ونوع مميز من البرغر بمكونات آسيوية. حتى الحلوى، فهم يقدمون بوظة الجوافة المثلجة وتيراميسو القهوة الفيتنامية. كنت دائما أسمع بالقهوة الفيتنامية وشاهدت وثائقي ذات مرة وكتبت عنه (هنـــا) حتى تذوقتها وذهلت من طعمها. أنا في العادة لا أحب الحليب المركز المحلّى ولا أفضّل إضافته في الحلويات، وقد أذهب لأبعد من ذلك وأشعر بالغثيان اذا اكتشفت وجوده. شاهدت اسم القهوة الفيتنامية في قائمة المطعم وسألت النادل عنها ونصح بها بشدة! تأتي القهوة الفيتنامية في كوب أسفله كمية من الحليب المركز المحلى وتعلوه القهوة الكثيفة والمركزة. القهوة ساخنة وتحركونها سريعاً مع الحليب المركز المحلى لينتج خليط متجانس، الطعم لذيذ جداً لم أتوقع تقبّله، لكنني فعلت.
كميات الأكل المقدمة في نيويورك -والولايات المتحدة الأمريكية عامة- كبيرة، وتكفي لشخصين وربما ثلاثة أحياناً. لذلك كونوا مستعدين لتقليل الطلبات حتى تعرفون كمية الأكل التي يمكنكم استهلاكها! الأسعار أيضا ليست منخفضة. خاصة إذا كنتم مثلي قررتم عدم تناول الطعام من سلاسل المطاعم السريعة المنتشرة في كل مكان وفضلتم الجلوس في مطعم نظيف يقدم أكل واضح المكونات ومعد بطريقة جيدة. نجحت بتوفير الكثير عندما قررت اقتسام الطعام مع أختي –ما عدا حالات قليلة لم اخجل فيها من إعلان رفض المشاركة- كنا نقتسم طبق مقبلات أو سلطة ثم طبق رئيسي واحد، ونترك الحلوى والقهوة لمكان آخر. وهكذا إذا تناولنا الغداء يكون العشاء غائبا أو خفيفاً والعكس. وفرت النقود وعند وصولي سارعت بالوقوف على الميزان لأجد أنني ومع تلذذي بالكثير من الأطباق لم أزدد غراماً واحداً. وربما كان السبب في ذلك أميال المشي التي قطعتها في المدينة واللياقة المستعادة في الوقت المناسب؟
نيويورك مدينة تتطلب اللياقة، الكثير منها. لياقة بدنية، عقلية، نفسية. قبل الرحلة بحوالي شهرين قررت تغيير نمط حياتي بعد تكاسل عظيم وتراكم للتعب. بدأت بممارسة تمارين تفاوتت بين العنيف والمتوسط ومشيت ساعة يومياً في المعدّل. لا لم يكن هذا استعدادا للسفر. لكنّه أثر في طاقتي –وطاقة أختي كذلك- وكل يوم مع كل مغامرة جسدية في المدينة أفكر لو لم أكن بصحة ولياقة جيدة ماذا حدث؟ ركضت للحاق بموعد ما، مشيت لساعات من شرق المدينة لغربها ووصلت لنقاط أبعد شمالا وجنوباً. وقفت لساعات، واضطررت للاكتفاء بساعات نوم قليلة. لم احتج لحبة مسكّن واحدة، وكنت سأقع فريسة لتغير الجو بعد الرحلة لكنني استقبلته بالكثير من فيتامين سي والدفء.
المشي عنصر مهمّ في تأمل مكان جديد، وأصبحت كل الشوارع واللوحات والبشر جزء من أحلامي خلال الأيام الماضية. أتذكر زاوية فجأة وأحاول التحقق من أنني رأيتها بعيني ولم تكن صورة أو مشهد من فيلم. كنت في كلّ مرة أقف على رأس الشارع –الناصية- أتذكر ما كتبه جمال الغيطاني في كتابه “مدينة الغرباء” في حديثه عن نيويورك:
“النواصي عندي أحد مصادر الحنين، والخوف والتوق، كل ناصية تعني التقاء طريقين، وكل طريق يعني المضي إلى غاية، إلى مصير، ولا يمكن للإنسان أن يمضي إلى أكثر من طريقين في وقت واحد، إما هذا وإما ذاك، من هنا تصبح النواصي نقطاً لتفرّق المصائر وتلاقيها، والسعي إلى المجهول أحياناً، من هنا ينشأ الخوف، أما التوق فيبدأ عند لقاء من نحبّ واللقاء يعني فراقاً، فمجرد بدئه يعني العد التنازلي للوصول إلى نهايته. مدينة نيويورك مصممة على شكل قطع الشطرنج، تتقاطع الشوارع، ولهذا تتعدد النواصي، من واحدة إلى أخرى، ربما لهذا السبب يجري الناس في مشيهم، لحركة الناس خصوصية في هذه المدينة شاهقة الارتفاع، متعددة الأجناس، ولأنّ كل من يحل بناصية يعني أنه عابر وليس مقيماً، لذلك اعتبرتها مدينة غرباء الكل فيها عابر، ما من مقيم.”
المشي ذكرني بكتاب آخر “نيويورك التي لا يعرفها أحد” لـ وليام هيلمريتش. لم انته منه قبل السفر وأنوي فعل ذلك ثم كتابة مراجعة مطولة، أثر بي كثيراً وأتمنى أن تكون المراجعة لائقة. لكنه ليس موضع حديث الآن. في أحد الأيام خرجت للمشي في جولة سياحية من نوع خاصّ، مشيت فيها مع دليل لخمسة ساعات تقريباً حتى الجزء السفلي من منهاتن Lower Manhattan ومررت بشارع وول ستريت ومبانٍ عتيقة مختلفة. عجبت من نفسي لسببين: كنت منطلقة بالحديث والأسئلة، ولم استخدم هاتفي المحمول ولو للحظة خلال تلك المدة. نسيت كلّ مؤثر خارجي وركزت تماماً على ما رواه لي وأراني إياه. فكرة هذه الجولة عثرت عليها صدفة في بحثي عن الخدمات المجانية للمدينة. هناك منظمة غير نفعية في نيويورك تسمى Big Apple Greeter تقدم خدماتها لزوار المدينة مجاناً ومن قبل متطوعين نيويوركيين. الهدف من هذه المنظمة منح الزوار فرصة التعرف على نيويورك مع سكّانها بهدوء وبسرعتهم الخاصة وأماكنهم المحببة. كل ما عليكم فعله هو الدخول للموقع الخاصّ بهم وتعبئة معلومات مهمة عن موعد زيارتكم، مكان سكنكم في نيويورك، والأماكن المفضلة للزيارة –لديكم أكثر من خيار لتسجيلها- ثمّ اهتماماتكم أو الغرض من الجولة ثم أوقات وتواريخ محددة للجولة المرغوبة. بعد انتهاء عملية التسجيل يصلكم بريد الكتروني فيه شكر على التسجيل وعبارة مهمّة جداً أصابتني بالإحباط مفادها أنهم استلموا طلبي وتفاصيله لكن هذا لا يعني توفر الجولة كما أردت فهناك الكثير من الزوار وعدد محدود من المتطوعين في الأوقات التي اخترتها. قبل سفري بليلتين تقريباً وصلتني رسالة الكترونية من الموقع تبلغني بوجود دليل لي وتاريخ ووقت الجولة ثم طلبوا مني الاتصال به عند الوصول للمدينة لتأكيد وجودي.
كانت الجولة صباحية، انطلقت مع بيتر –الدليل- الخمسيني المتمرس في التاريخ والعمارة النيويوركية من فندقي ومشينا على الـ High Line أحد كنوز المدينة الجديدة. وهو باختصار سكة حديد قديمة ومرتفعة عن الأرض حوّلت إلى متنزه ورئة خضراء للمدينة. يمتد على عدة شوارع وأصبح معبر لمن يريد التجول في نيويورك دون الحاجة للمرور بازدحام النواصي وانتظار الإشارات. على امتداده تجدون مقاهي وفروع مطاعم واستراحات للتمدد والتأمل. هناك فرق موسيقية لهواة، وجولات سياحية، وجدران المباني حوله قُدمت في كثير من الأحيان كهدية للفنانين للرسم عليها وعرض الأفلام وهكذا. مكان مختلف يحتاج إلى أكثر من زيارة حتماً، وكان فندقي مقابل لأحد مداخله وهذا جيد. بعد الممشى المرتفع انتقلنا مشينا لمنطقة تسمى بمنطقة “تعبئة اللحوم –Meatpacking District” ومنها إلى West Village و غرينتش. أكثر ما أبهرني في الرحلة المباني وألوانها وتنوعها. لم أكن أعلم بأنني سأهتم للعمارة في يوم ما. وبيتر يشرح على كل مبنى ما يتذكره من تاريخه، مبانٍ كانت بلا نوافذ وفتحت نوافذها ورفعت لعدة أدوار، مخازن الميناء على نهر هدسون التي أصبحت صالات فنيّة وأماكن للاحتفالات وفنادق فخمة. هذا مبنى من العشرينات وآخر يقف من نهاية القرن التاسع عشر. لم أكن اسجل ما يقوله، كنت امتصّ المعلومات بسعادة واسأل عن المزيد. السلالم خارج البنايات كانت لأغراض سلامة ولغرض أهمّ: لم تكن مساحة الشقق تسمح بسلالم داخل المبنى وهكذا كان كل دور يصل للخارج أو الداخل. كنت أقول لنفسي يمكنني رؤية كل هذا بالمشي فقط. لكن وجود دليل وحوار يدور بين شخصين منح التجربة بعد آخر وثراء خاص.
في الحلقة القادمة
ماذا عن الكتب والمكتبات؟