بدأ الموضوع بالتدريج، مثل فقدان الشهية أو تسلل الانفلونزا للجسد. كنت أحسب الأيام أولًا ومرّت خمسة أسابيع بلا أثر لرغبة التدوين أو الشعور بالحاجة لكتابة أيّ شيء! حتى اليوميات التي سرقت الوقت لكتابتها في مذكرتي وأوجزتها في سطر أو سطرين توقفت تمامًا. بحثت عن أشكال أخرى لتسجيل الذكريات اليومية كالتصوير، ولم أجد سوى مجموعة كبيرة من صور «السيلفي» التي أشاركها مع أخواتي خلال اليوم. لم أقلق من غياب شهية الكتابة لكن الأمر أخذ منحىً مختلف عندما توقفت عن القراءة في نفس الوقت، ومشاركة أي شيء على أي منصة رقمية.
الآن بدأت بالتفكير، هل هذه رغبة سريّة قديمة؟ كنت قبل عدة أشهر أردد في سري وأحيانًا في دوائري القريبة: أريد أن أحذف كلّ شيء وابدأ من الصفر. أو أصمت تمامًا وأقضي حياتي بلا مشاركة أو تعبير. لم تكن أمنية، بل أقرب للهاجس لكنها تحققت في كل الأحوال. مر شهر واثنان بلا تغيير وذهبت في رحلة تدريب إلى لندن متأهبة ومستعدة لتدوين التجربة ومشاركتها بالصور والأفكار. قضيت أسبوعًا كاملًا في التعلم والمغامرة ولم أجد في نفسي أي حماس لرواية القصة.
حاولت الاحتفاظ بالذكريات لأطول وقت ممكن واستعنت بكاميرا فيلم لاستخدام واحد. أستطيع اليوم التحدث عن رحلتي القصيرة بالنظر لتلك الصور المطبوعة -مرتين لحسن الحظ-. هنا الفندق الصغير الذي توسع في المبنى المقابل وجربت السكن في توسعته الصغيرة. على الباب الأخضر رقم ٣٣ زينة الميلاد الملونة التي اعتذرت سائحة أمريكية عن تصويرها والتلصص على «بيتنا» أنا وأختي عندما باغتناها بالخروج فجأة. ضحكنا ولم نصحح لها معلومة إنه فندق يا سيدتي وليس بيتنا! لم تنجح صباحات لندن الباردة في إيقاظ الحبر في قلمي، أو جهازي المحمول بالضرورة.
أركض عبر الشارع لمبنى الفندق الرئيسي كل يوم قبل شروق الشمس، التقط واحدة من المخبوزات الفرنسية الشهية كأنها رهينة في كفّي، وأعلن للموظفة عند ماكينة القهوة: لديك اليوم ٣ دقائق لتحضير «الفلات وايت». كلّ يوم أعطيها وقت جديد والسرّ في المدة التي تستغرق وصول سائق أوبر لرأس الشارع. شارع هنرييتا مغلق أمام السيارات كل يوم في المساء، ويفتح مؤقتًا لمرور سيارات نقل الأطعمة والتجهيزات وصولًا إلى منطقة كوفنت غاردن. صانعة القهوة هي نفسها موظفة الاستقبال، وأحيانا نادلة في المشرب لوقتٍ متأخر.
لماذا أذكر هذه التفاصيل بأثر رجعي؟ ربما لأنني حاولت كتابتها يومًا ما ولم أجد الكلمات. هربت. غادرتني في إجازة مطوّلة لتختبر صبري واهتمامي بعودتها.
أنهيت تدريبي وعدت محمّلة بالذكريات والدروس والتجارب والعلاقات الجديدة الطازجة التي سأربيها لتكبر. هل عدت للكتابة والتفكير؟ لا طبعًا. غرقت في تفاصيل كثيرة في انتظار العام الجديد. أفكر في نفسي، أين كنت قبل سنة من اليوم؟ كيف قضيت أيامي؟ هذا هو الوقت الوفير الذي كنت أبحث عنه لأكتب وأدوّن وأتعلم وأعلّم. تقول مرشدتي هذا فصل الشتاء، أنتِ تمرين بشتاء معنوي.
أردت إيجاد كلماتي بكلّ الطرق، لدرجة افتعلت معها المشاكل والتجارب! افتح المدونة واقرأ كتابات عشوائية قديمة علّها تذكرني بطرق الصياغة أو استعادة الإعدادات. آخر تدوينة كتبتها تظهر في الصفحة الرئيسية وتمدّ لسانها لي: أفكار عملية للخروج من القوقعة! خرجت كلماتي من القوقعة وتخلصت من عبء انتظاري.
أردت فعل كلّ شيء بإصرار ووجدت نفسي بين مسارين: إجبار نفسي على الكتابة (لأجل ماذا ومن؟) أو تجاهل الأمر تمامًا ومتابعة الحياة بدونها.
من أنا اليوم؟ وكيف أعرف بنفسي إذا لم اكتب؟
تذكرت تمرين محببّ يساعدني على فهم نفسي في لحظة ما، في مكانٍ ما عندما تضطرب البوصلة. إذا استيقظت اليوم في مدينة أخرى غير الرياض، في سياتل، أو نيودلهي. كيف تتصرف؟ ما هي القيم التي تحملها وتعيش بها؟ العناصر الأساسية التي تعكس ما تؤمن به؟ ما الشيء الذي ستفعله هيفا أينما كانت؟ وتكررت في تأملي الطويل: الكتابة، التعلّم، سرد القصص، العيش بحبّ، الاحتفاء بالفضول، واللطف. دائمًا ابدأ بالكتابة.
يهمني التوقف قليلًا هنا والقول إن هروب الكلمات لم يحدث في حياتي الخاصة وحسب، بل امتدّ لعملي ولحسن حظي أن المشاريع التي عملت عليها خلال الأشهر القليلة الماضية أخذت طابع استكشافي إداري وتحريري. لم يكن هناك عبء الابتكار الثقيل والكتابة من الصفر. استعرت كلمات الآخرين وأنقذتني.
وأنا اكتب هذه التدوينة تذكّرت قصة ظريفة حدثت مع والدي قبل عدة أشهر، بينما كان يقود سيّارته في إحدى الشوارع القريبة. شاهد سيارة عائلية تبتعد وسقط منها شيء. توقف عندما تعرّف عليه: حقيبة غداء طفل صغير. حاول اللحاق بهم لكنه فشل. وبدأت رحلة البحث عنهم! في اليوم التالي أخذ الحقيبة معه وقاد سيارته للحيّ والشوارع المجاورة علّه يلمح سيارتهم. لم ينتهِ هنا، حاول الاستفسار من حارس البناية التي خرجوا مها فقد يتعرف عليهم. إصرار والدي مدهش! كان يفكّر في هذا الطفل الصغير الذي فقد غداءه وحقيبته المحببة. كيف يوصلها إليه؟ أردت البحث عن كلماتي بنفس الدافع. بنفس الإصرار. مرت الأيام والآن في مخزن المطبخ الصغير على رفّ مرتفع حقيبة غداء لطفل عليها رسومات كرتونية تنتظر العودة.
لم تغب الكتابة عن ذهني يومًا واحدًا. في لحظات السكون كنت أقف في منتصف غرفتي تمامًا وأمدّ بصري للمكتبة، آلاف الكلمات ترقد هناك بهدوء ووداعة. تستفزني! يقطع الصمت رسائل يومية وأسبوعية أحيانًا من متابعين يسألون: متى ترجع للكتابة؟ أين غابت؟ وماذا تفعل اليوم؟
الإجابة الهادئة هي: إجازة طويلة. هل أعلم متى تنتهي؟ لا طبعًا. والشعور الذي يستقرّ في روحي يذكّرني باللحظة الأولى التي شعرت فيها بالغيرة. شعور خام غريب لم أعرف له اسما. (هذه قصة قديمة ربما شاركتها معكم من قبل) قصة هيفا الصغيرة تعلمت القراءة والكتابة مبكرًا ووجدت نفسها حبيسة المنزل لأنّها لم تصل العمر القانوني الذي يؤهلها لدخول رياض الأطفال والمدرسة. تزورها ابنة الجيران كلّ يوم في الظهيرة وتسألها: متى تذهب للمدرسة؟ الموقف يتكرر كلّ يوم وأنا أقع في الفخّ. افتح لها الباب بنفسي واستقبل سؤالها ويغمرني الحزن وأصدح بالبكاء. كلّ يوم. أشعر بالغيرة من الكلمات التي تطوف حولي ولا يمكنني القبض عليها. وأعود تدريجيًا لكتابة اليوميات في دفتر أخضر احتفالا ب٢٠٢٤. سطر هنا وسطر هناك. اقتباس لطيف مررت به. قصة مرمّزة. شعور خانق. كلها كلمات أشجع نفسي بهذا التعبير واستخدم كل صفحة كقطعة حلوى تستدرج المزيد من القصص.
في ورشة عمل حضرتها قبل أسبوع تقريبًا صرحت بمشاعري الحقيقية تجاه غياب رغبتي في الكتابة. تحدثت مطولا مع زميلتي وربما كلّ من عبر طريقي مؤخرًا. لم أكتم حقيقة خوفي المتعاظم. وما حصل لم يكن متوقعًا! استيقظت صباح الأول من فبراير بشعور مختلف: أريد أن أكتب من جديد. أريد استعادة كلّ شيء وتدوينه بأثر رجعي. الكلمات على أطراف أصابعي وحول غرفتي، وفي طريقي المعتاد للعمل وبين وقفات صمتي.
تعلّمت الدرس المهمّ من هذه الرحلة القصيرة وإن كانت أشبه بسنة كاملة من الصمت. الكتابة جزء من هويتي وفي لحظات نادرة جدًا اعترض عليها وأحاول تحييدها بحثًا عن تعريف مختلف لنفسي وأعود إليها بكلّ حبّ.
.
.
.
Collage by Rachel Recotor