أهلا بصوتي الغائب

في طريق العودة للمنزل ولو ركزت قليلا من الشارع العام يمكنني تمييز نافذة غرفتي. الحارة التي نسكنها جديدة نسبيها والمنازل متباعدة وبين الشارع العام والشارع الفرعي أرض كبيرة لم يقرر صاحبها ما يفعل بها بعد. من هذه المسافة أرى نافذتي وزجاجها المثلّج. تسرقني فكرة غريبة –قد أصدّقها لو ركزت جهدي قليلًا – هل أنا هناك؟ ماذا تفعل الغرفة في غيابي؟

قضيت الأيام الماضية أحاول استعادة توازني وإيجاد صوتي الغائب. ذهبت في رحلة قصيرة لنيويورك، وأدهشت نفسي كثيرًا.

قليل من العمل، كثير من المشي، واللقاءات السعيدة. التقيت بالأصدقاء، وتحدثت مع شخصية رائعة سأحدثكم عنها في الأيام القادمة.

حضرت لقاء هاروكي موراكامي المقام على هامش مهرجان النيويوركر، كثير من الانقطاعات وصعوبة الاستماع وضياع في الترجمة، لكننا نحبّه دائما. واقتنيت كتابه طازجا من الرفّ والآن أركض بين فصوله على الرغم من حجمه ووزنه الثقيل.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك لم أضع أيّ خطة، استيقظ أجلس على حافة السرير واسأل نفسي أسئلة بسيطة: ماذا تريدين؟ غالبا يقودني قلبي لوجبة فطور شهية، ثم اكتشفت شوارع المدينة التي لم تطأها أقدامي من قبل.

قبل السفر استعنت بهذا الكتاب لأقرر أي المذاقات سأكتشف، ووضعت قائمة كانت المخبوزات الملكة فيها. زرت عدة مطاعم القاسم المشترك بينها فكرة القائمة الموسمية أو ما يسمى بـ Farm to table تعتمد هذه المطاعم على توفر الخضروات والفواكه في مواسمها. يجهز الطهاة مجموعة من الأطباق ويوفرون مكوناتها من المزارع المحلية في نيويورك وضواحيها. ذات ليلة تناولت العشاء مع منى أختي في Black Barn وهو مطعم موسمي بامتياز. طبق لحم الغنم على الطريقة المغربية مع المشمش والمكسرات ومرقة دافئة. وفي The Smith تناولنا سلطة القرع، والتفاح والفيتا وتتبيله البالسميك. طبق آخر أحرص على تناوله في كل رحلة لنيويورك – وأي مدينة قرب المحيط بالضرورة – لفافات اللوبستر في خبز البريوش مع صلصة المايونيز الذي لا أحبه في أي ساندويتش أو طبق آخر. بارد مقرمش ومالح كالبحر.

قلت أن المخبوزات كانت ملكة الرحلة وتذكرت مشية صباحية إلى مكتبة ستراند، ووقفة سريعة في مخبز Breads، كل مخبوزات الحياة التي تخطر على بالك وتستعيدها ذاكرتك قصيرة المدى. دخلت مع الباب وغمرتني الحيرة، وقفت مثل طفل في محلّ للحلوى والتفت أحد الموظفين لحيرتي ليخرج من خلف الرفوف ويقف بجانبي: اليوم سأكون صديقك الوفي لنبدأ من الجهة المفضلة لديك. اليمين! قلت بحماس. نعبر بجانب الرفوف وفي كل رف مخبوزات طازجة وأوراق صغيرة لتحملها بها وتضعها في كيس ورقي تأخذه من الرف الأول وبعد ملء الكيس تذهب مباشرة للمحاسبة. فطائر محشوة بالمربى، بابكا، كروسون، كعك مكوّب، خبز بالزبيب والقرفة، فطائر محشوة بالجبن، ألوان من السمسم، وقطع من الشوكولا. حملت ما يمكنني حمله ومشيت لحديقة يونيون سكوير القريبة والتهمت الفطائر لتترك آثارها على وجهي وكنزتي – فقد احتفلت بالخريف أخيرًا – تركت الفتات للعصافير الجائعة واستعدت ترتيب هندامي فهذا بالتأكيد ليس مظهر مناسب للسادسة والثلاثين.

خلال الرحلة احتفلت بيوم ميلادي، واستعدت تدويناتي السنوية التي كتبتها في ذلك اليوم أو بعده بقليل. كيف كبُرت أحلامي وحملتني على أمواجها العالية. أحبّ نفسي وأكرهها وأعود واتصالح معها وأحبها. كيف كان شكل همومي؟ كيف هي دائرة الأصدقاء حولي؟ ما الذي انتظرته في الصباحات التالية لميلادي؟ اقرأ وأضحك، وتدمع عيناي قليلًا.

في الدور الثالث عشر من فندقي المفضل الجديد راقبت سماء نيويورك الماطرة ومبنى المكاتب المقابل. كل نافذة لها حكاية. ويوم السبت ظننت بأنني شاهدت الكراسي تتحرك، أو أنها آثار الحمّى التي هجمت علي دفعة واحدة؟

كلما سُئلت عن تفاصيل الرحلة في أيامها الأخيرة لا أذكر منها إلا أقدامي التي ابتكرت لها حياة منفصلة لتحركني بلا كلل، ورأسي الثقيل بعلاجات الانفلونزا، وعيناي التي تركض بين نشرات الأخبار.

جاهدت مخاوف كثيرة في رأسي تنشط عندما أكون وحيدة. غيرت تفضيلاتي وقاومت رغبتي الشديدة في التكور على نفسي وإهدار ما تبقى من ساعات في المدينة التي أحبّها.

لقد استمتعت أكثر من أي وقتٍ مضى بالطعام، بالفنون، والمكتبات والمشي والأجواء المتقلبة، وتأمل الناس والمباني.

بينما اتجهت سيارة الأجرة للمطار والمدينة تتضاءل خلف المطر، أسندت رأسي على الكرسي واستعدت أيامي الماضية ببهجة رقص لها قلبي.

هذه التدوينة فوضى عارمة مثل كل مرة، لكنّها الملاحظات الصغيرة التي جمعتها في مفكرة صغيرة في جيبي ونثرتها هنا حتى لا أنساها.

في قائمة عشوائية كتبت أشياء أحببتها حتى لا أنسى:

  • مطعم Manhatta في الدور الستين واطلالته المدهشة
  • مكتبة مايكل السرية ووجهها الجديد كل مرّة
  • المشي في نيويورك
  • تشيز كيك الميلاد من جونيورز وحلبة التزلج التي راقبت الأجساد تدور فوقها وتدور وتدور
  • رفوف الكتب الطويلة في الستراند
  • محامص القهوة
  • كراسي المطاعم المرتفعة التي تخلصت من خوفي وجلست عليها
  • مطعم Tia Pol والتاباس الإسبانية في تشيلسي
  • البابكا العظيمة من Zabar
  • مهرجان القهوة في نيويورك
  • عطري الجديد Carnal Flower الذي حملت منه عيّنه في السفر وارتبط بمشاعر رائعة
  • كنزة بلون الخردل من انثروبولوجي
  • تفاحة سحرية أكلتها يوم حصادها
  • أغاني سميرة سعيد الثمانينات التي قست بها مسافات المدينة
  • شموع برائحة المتوسط
  • الفصول الأولى من رواية موراكامي Killing Commendatore
  • مسلسل The Romanoffs
  • مسلسل The Marvelous Mrs. Maisel
  • مسلسل The Haunting of Hill House
  • فيلم Beautiful Boy
  • وثائقي Salt, Fat, Acid, Heat
  • فيلم Tully – شاهدته على الطائرة وأنا لا أصمد لأكثر من عشر دقائق دون نوم
  • هاتفي وجهاز الكمبيوتر خاصتي يتعرفان على شبكة الفندق الذي سكنته في مايو أوتوماتيكا

.

.

.

.

لِتهدأ نفسي

في مثل هذه الأيام وقبل عشر سنوات تحديدًا كنت احتفل ببداية جديدة في حياتي. بداية بعد عاصفة طويلة توقعت ألا تكون هذه نهايتها. انتقلت حينها للرياض لبدء دراسة الماجستير. والكثير منكم يعرف كيف انتهت تلك المرحلة المدهشة. لم أحصل على الدرجة، لكن حياتي كلّها تغيرت وقد يكون لدي الوقت الجيد لحكاية التفاصيل الطويلة لتلك الأيام.

سبقت هذه النقلة فوضى عارمة في حياتي، لم يكن أمامي أيّ طريق. كل شيء معتم ويطبق على قلبي ضجر عظيم. فكرت في الانتقال للرياض للعمل لكنّ الفكرة لم تنل استحسان والدي، خصوصًا وأني حينها كنت أعمل بشكل مستقل ولأربعة سنوات! حاولت من جديد ولكن ماذا لو انتقلت للرياض للدراسة؟ جهزت نفسي للتقدم وحملت أوراقي وسافرت. كان قبولي مستحيلا باعتقاد الكثيرين خصوصًا وأنّ المتقدمات لبرنامج الماجستير بالآلاف سنويًا، وفي تخصص تقنيات التعليم بالتحديد كان العدد في ذلك العام ٢٥٠ متقدمة. اجتزت الاختبار الأولي مع أكثر من خمسين متقدمة وكانت الشكوك لدي ولدى عائلتي عظيمة، هل سيتم قبول طالبة من الجبيل ويتركون طالبات الرياض؟ مرّ الصيف على مهله وقد وضعت كلّ شيء على حالة الانتظار. لم ابحث عن عمل. غرقت في النوم والقراءة. وصلت لمرحلة المقابلة الشخصية وكانت مقابلة هاتفية سريعة. بعد شهر تقريبًا ظهرت النتائج وقُبلت مع ١٦ طالبة في التخصص. أصبح حلم الهروب من حبسة رتابة الحياة حقيقة. حتى لو كان سيأتي مصحوبًا بالانتقال لمدينة جديدة، حياة اجتماعية جديدة، دراسة وعمل في نفس الوقت.

لماذا أحكي لكم هذه القصة؟

ربما هي محاولة مني لفهم ما أمرّ به من جديد بعد عشر سنوات. لكنني الآن في الرياض، أعمل واحمل مسؤوليات أكبر من رغبتي بالهرب والانتقال. أهرب للنوم، للقراءة، للجلوس بصمت، للطبخ. هذا ما يمكنني فعله الآن. ينتهي يوم العمل وأترك كل شيء ورائي وأعود للمنزل. أطفئ قلقي ما استطعت. وأتذكر أنّ هذه هي الحياة التي انتظرتها طويلًا، وأنّ الحياة ليست نزهة ممتعة على مدار الساعة، وأن شعور الجلوس على كرسي غرفتي في الخامسة والنصف والنفس الطويل وكوب القهوة مع العائلة علاج يومي.

أقرأ في يوميات ٢٠٠٨، في المدونة هنا وفي المذكرات المكتوبة بخطّ يدي، اتصفح الصور، اتحدث مع من عايشوا تلك الأيام. هذه هي الطريقة المثلى لعلاج ما أشعر به.

* * *

بعيدًا عن فوضى الروح الموسمية أقضي أيامي بين العمل الإبداعي والإداري، الاستجمام اليومي، الاهتمام بصحّتي والهدوء والتخفف، الكثير منه.

اقرأ كتاب الطباخ – دوره في حضارة الإنسانمن تأليف بلقيس شرارة. كتاب ضخم وممتع ولم انتهي من ربعه حتى الآن. لكنني وجدت نفسي أدون الملاحظات وأقضي الساعات بعد كل عدة فقرات لاكتشف التاريخ والصور. السرد ممتع على الرغم من أنّ الكتاب يأتي كدراسة مليئة بالمصطلحات والتواريخ والهوامش. وأعرف من الآن أنني سأعود كثيرًا له.

الاهتمام بالطبخ والمطبخ ليس بجديد، منذ عدة سنوات وأنا أجد في المطبخ مساحة لنفض الهموم والقلق. أحبّ الطبخ لأنه كما وصفته المدونة الأمريكية ديب بيريلمان التي كتبت مقالًا طويلًا عن الطهي في المنزل وجاء فيه هذا المقطع الذي يمثّلني:

«أحبّ الطريقة التي تخفف بها وصفة طبخ من ضغط يوم طويل مليء باتخاذ القرارات. أحب الطريقة التي أطبق بها وصفة وجبة يحبها الجميع، هذا الحدث قادر على تغيير يومي.

تجهيز وجبة شهية حتى وإن لم تتوقع ذلك من نفسك؛ الطريقة الأسرع لتشعر بالانتصار. أحب الوقوف بجانب الفرن، أكيل اللعنات لكاتب الوصفة الذي يقترح كرملة البصل لعشر دقائق، أنهمك تمامًا. لستُ مشغولة برسائل الهاتف الجماعية، أو لحظة غاضبة على تويتر. إني أحصل على فترة قصيرة من الراحة والتزود بالوقود. هذا الشيء، هذا التركيز، هذا الهدف والمكافأة اللذيذة والنادرة التي التهمها كلما سمحت لي الفرصة

إلى جانب القراءة أتابع/تابعت عدة مسلسلات في آن: Ozark ، Bodyguard، Succession.

واستمع لراديو نيويورك الكلاسيكي وقائمة موسيقى طويلة لإيلا فيتزجيرالد، سيمون وجارنفكل، وبوب ديلون.

أحبّ سبتمبر، ويذكرني بعطلاتي السنوية التي بدأتها منذ سنوات، هذا العام مختلف لأن الصيف مرّ وسبتمبر وأنا في المدينة أركض.

أذهب في عطلة جديدة قريبًا مليئة بالمغامرات، وأنوي تجربة مشروع ممتع هذه المرّة وسأروي لكم تفاصيله لاحقًا بإذن الله.

* * *

أكتب مجموعة مقالات حول العمل المستقل، الإنتاجية، العمل الإبداعي والعمل بشكل عام في مدونة تسعة أعشار، بدأت قبل ثلاثة أسابيع وأتمنى متابعة هذا المشروع الممتع.

أيضًا بذكر العمل المستقل تذكرت اللقاء الثالث والأخير لهذا العام للمستقلات، سيقام اللقاء في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة فرع خريص للسيدات. وسيكون محور حديثنا إيجاد التوازن وحلّ المشكلاتسأشارككم رابط التسجيل ما إن يتم اعتماده من المكتبة، والحضور مجاني بالطبع.

* * *

تحدثت عن الطهي والوصفات أعلاه وتذكرت أننا في المنزل استبعدنا تتبيلة السلطة الجاهزة تمامًا، وخلال الأربعة أشهر الماضية اعتمدنا تتبيلة زيت الزيتون والبلسمك والليمون والثوم الطازج. تتغير السلطات والمحتويات وهذه التتبيلة الطازجة والنظيفة هي المفضلة. لم نكن نشتاق لأي تتبيلة أخرى. لقد اكتشفت أن الثلاجة تخلو من الصلصات الخاصة بالسلطة حين توقفت قبل أسبوع في ممر الصلصات العضوية وأعجبت بواحدة لسلطة السيزر واشتريتها. لقد وفرنا عشرات الريالات وقللنا من استهلاك السعرات دون أن نشعر وتلذذنا بالخضروات والتتبيلة البسيطة لأطول فترة.

ما هي تتبيلة سلطتكم البسيطة؟ أحبّ تجربة شيء جديد

* * *

أتعلم خبرة جديدة مرتبطة بصناعة المحتوى، والتعلم يشبه المشي لأول مرة أو تذوق الأشياء ورؤية الأعاجيب! أقضي ساعات في القراءة يوميًا، ومشاهدة مقاطع الفيديو على يوتوب. مضى وقت طويل على آخر مرة تعلمت فيها شيء من الصفر. تراكم المعرفة والخبرات أمر عظيم وقد نغفل عنه أحيانًا. كيف تتعلمون مهارة جديدة؟ شاركوني في التعليقات.

.

.

.

ماكو فكّة

فلورا موظفة الصالون تشد على كفي وتقول بنبرة غاضبة: استرخي!

تحاول ثني أصابعي وتقليم أظافرها وأنا أفكّر في بريدي الإلكتروني، والمكالمات الفائتة وعشاء الليلة، وتجهيز غداء الغدّ، والكتاب المطوي الصفحات بجانب وسادتي، أفكر في طعام لولو الذي أشكّ في أني ملأته جيدًا، أفكر في عباءتي التي تحتاج إلى ضبط قياسات، أفكر في حجز رحلة ميلادي، أفكّر في بطاقتي الائتمانية التي عاد لها مبلغ عملية شراء بعد ثلاثة أشهر من المطالبات، أفكر في هذه المدينة وفصل الصيف وكيف تصبح أكثر حنانًا، أفكر في شيب رأسي الذي أسوف صبغه وتقريبًا سيبقى هكذا حتى الشتاء، أفكر في مكتبي وجهاز تكييفه المعطّل، أفكر في خطة محكمة لأكبر مشروع عملت عليه في حياتي، أفكر في تمرين الليلة هل هو للجزء العلوي من جسمي أم السفلي؟ أفكر في حلم البارحة والتذكرة التي اشتريتها باتجاه واحد لنيويورك، أفكّر في موعد نسيت حجزه للكشف على أسناني، أفكّر في كيلو من سمك السالمون، أفكر في منى، أفكر في البحث عن كتّاب مستقلين واستكتابهم في شركتي، أفكر في كيس زهور اللافندر المجففة الذي لم استخدم منه سوى كمشة يد، أفكّر في طريقة لأتوقف عن صرّ أسناني كلما جلست لاجتماع عمل، أفكّر في الخميس القادم والحديث الإبداعي الاسبوعي الذي أقدمه للزملاء والزميلات، أفكّر في صديقتي وهدية زواجها وأتمنى أن تقرأ هذه التدوينة وتغششني، أفكّر في اسكتلندا وذكرى زيارتي الأولى تقترب، أفكّر في الساعة التي سرقتها لنفسي لاسترخي وأهرب من كلّ شيء وفشلت!

.

.

.

الإبداع التعاوني | Collaborative Creativity

خلال أربع سنوات من العمل في مؤسسات وإدارات إبداعية تعرفت على الكثير من نقاط ضعفي وضعف زملائي وزميلاتي. ربما كان أكثرها وضوحًا: صعوبة العمل في مجموعة! كثير من المبدعين بالضرورة يميلون إلى انتاج أعمالهم بشكل مستقل. يميلون للعزلة وحجب جهودهم حتى ينتهون من المنتج الأخير ويطلقونه أو يعرضونه للجمهور أو المتابعين أو العملاء. هذا مقبول جدًا إذا كنت لا تتبع فريق أو مؤسسة. مناسب إذا لم يكن هناك من ينتظر مساهمتك لاستكمال بناء فكرة أو مشروع. في المؤسسات التي عملت بها كان كاتب المحتوى الفرد الأول في فريق التتابع، ننتهي من النصوص ونمررها للمصمم الذي ينفذها ويمررها لمدير المشروع وإلى العميل في المحطة الأخيرة. عملية نقل الرسالة هذه تمر بمطبات كثيرة يمكن حلّها بمزيد من التفهّم والانتباه.

وأفكر دائما وأذكر نفسي ومن معي: لا يمكن أبدًا تطبيق ما أسميه نموذج حصة الإملاء عندما ينكفئ كل طالب على دفتره ويخفي ما يكتبه حتى لا ينقل زميله عنه. في العمل الإبداعي نحنُ مجموعة من مكعبات الليغو نصنع تجربة متراكمة تظهر بشكلها الأفضل ونتفوق جميعًا.

التواصل

البديهي في العمل أننا نتكلم، نتراسل، نحضر الاجتماعات. لكن هل نحن نتواصل بشكل جيد؟

نحتاج اليوم لرسائل أوضح، وصف للمشاريع أو ملخصات إبداعية أفضل. نحتاج للتواصل بأسئلة ذكية ومجدية لا تضيع وقت المجموعة أو تهدف للتنصل من مسؤولية ما.

الثقة

الثقة في أنّ العمل سيظهر بأحسن حالة دون تدخل منّا أو عنف أو تقريع للزملاء في حين اخفقوا. الثقة أنّ زميلك أو مدير المشروع لن يخذلوك. الثقة في أنّ أهدافكم مشتركة، لن يدهس أحدكم الآخر حرفيا.

رؤية مشتركة

نحتاج نعرف دائما ما هي المحصلة النهائية من كل هذا؟ كيف يأثر عملي اليوم على نجاح المؤسسة والفريق؟ ما هي الصورة الكاملة؟ نحتاج إجابة لكل لماذا؟في المشروع أو الفكرة الإبداعية التي نعمل عليها سوية. ويجب أن كون جميعًا إما متفقين أو مستعدين لمناقشة إجابات هذه الـ لماذا“.

الالتزام

في سباقات التتابع يلتزم كل عضو في الفريق بأداء أسرع ركضة في ١٠٠ متر. يركض بسرعته القصوى ويقدّم أجود خطواته للوصول لزميله وتسليمه العصا. تخسر الفرق التي لا يبذل كل فرد فيها أفضل ما عنده!

في مجال التسويق بالمحتوى مثلا: عندما يعبث الكاتب ويقدم محتوى ركيك، مهما كانت قوة التصميم سيتنبه العميل للخلل. ومدير المشروع بالضرورة لا يمكنه بيع الفكرة أو تمريرها إذا كانت مليئة بالثغرات.

تعلمت بالطريقة الصعبة كيف أن كسلي أو ترددي أو انتاج المحتوى بنصف حماسي أدّى إلى نتائج كارثية وإحباط لكافة فريق المشروع.

مشاركة المصادر والمعلومات

كيف يقدم كل عضو من أعضاء الفريق أفضل ما لديه إذا كان هناك تفاوت في مصادر المعلومات؟ هذا ما أحرص عليه دائمًا عندما يُطلب مني تنفيذ مهمة: أحتاج كل المصادر التي يمكنني الوصول إليها. وبعد الانتهاء من كتابة المحتوى، أمرره للمصمم مع أمثله مشابهة للنموذج التي أفكر فيها. أو أي ملف أو مصدر قد يحتاجه لتعديل أو ضبط الفكرة.

مراعاة اختلافات البشر

عملت في مجموعات كنت أشعر وسطها بالاضطراب والتردد والتوتر. وفي مرات أخرى كنت أجد نفسي قائدة ومتمكنة لا أخاف من شيء ولا يعرقلني أحد.ما فهمته من حالاتي هذه ساعدني على تفهم الآخرين. قد يمتنع البعض عن الكلام في جلسات العصف الذهني بسبب الخجل أو التردد وحتى لا نظلمهم نطلب منهم إرسال أفكارهم بالبريدالإلكتروني لاحقًا. أو نتبع منهج الجلسات المنفردة مع كل عضو one-on-one حتى نسمح لهم بالتعبير بكل أريحية.

للإبداع التعاوني فوائد عظيمة تنقل حتى أكثر المؤسسات ومجالات العمل ضجرًا إلى مكان جديد. ما تعمل عليها لشهور حتى تصل لنسخته الأفضل، يمكنك إنجازه مع فريق متعاون خلال بضعة ساعات. وأنا هنا لا أقلل من فائدة العمل المستقل أو استقلال المبدع بأفكاره ومشاريعه، لكن تجربة العمل المشترك شيء لن أتركه في الوقت القريب.

.

.

.

* هذه التدوينة كانت في البدء مجموعة ملاحظات قدمتها في حديث أسبوعي داخل الشركة. قد يتبعها تدوينات منوّعة في مجال الكتابة والعمل الإبداعي بشكل عام. تولد كل أسبوع من حوارنا داخل غرفة الاجتماعات. والسؤال هو كيف تصبح تجربة العمل المشترك أسهل وأمتع بالنسبة لكم؟

.

.

خطة محكمة للمشاريع الإبداعية

هذه التدوينة ولدت بعد تأملات طويلة لسنوات من العمل على الأفكار الإبداعية والنصوص. عملت على العمود الفقري لتسويق المنتجات، والخدمات، وبناء صوت للشركات والجهات الحكومية المختلفة. فعلت ذلك بكثير من الحماس، والتعب، والتخبط!و تمنيت لو كان لدي خطوات واضحة لأفعلها، أو طريق مرسوم ثابت لأمشي فيه. لم أجد هذا الطريق بعد، فالعمل الإبداعي يشبه اقتحام غابة سحرية.

كل يوم أجرب شيء جديد ولدي مجموعة من المفاتيح الأساسية التي تضبط عملي أشاركها معكم باختصار:

١انتخاب المشاريع الأفضل

بدلا من توزيع طاقتك على أكثر من مشروع إبداعي؛ اختر التي تجد فيها ملاءمة أكبر لتوجهك وطاقتك الحالية. قد تعبر طريقك فكرة مذهلة لكنّها غير مناسبة لامكانياتك الحالية خاصة إذا كنت تعمل بشكل مستقل وبلا فريق إبداعي مساند.

٢خيارات أكثر

كل فكرة إبداعية تبنيها أصنع لها عدة خيارات أو أوجه تنفيذ. هذا الجهد الذي تقضيه في التفكير وتجهيز بدائل سترى ثماره لاحقًا إذا قدمت الفكرة للعميل ورفضها، قدم خيارات أخرى وقد تعجبه أو تصنع مزيج من كل إبداعاتك وتتفقون عليه. غالبًا الخيارات تعطي انطباع بأنك اجتهدت وحاولت وغالبًا سيتنازل العميل عن شروطه في التكلفة أو الوقت ويوافق على فكرة تسيطر عليه تمامًا ويقرر الانطلاق بها.

٣لا تبالغ في التنفيذ

صحيح اقترحت أعلاه تجهيز واستكمال أكثر من فكرة، لكن إخراج العمل كاملًا لا يعني أنه نهائي! دائما سيكون هناك تعليقات من العملاء وإضافات، وربما نسف كامل لما قمت به. لذلك، اختصر الجهد وأظهر فكرتك بشكل جيّد إنما لا تستنفذ طاقتك. مسودة أولى في الكتابة، أو سكتش مبسط للتصميم كفيل بإيصال الفكرة الإبداعية والحصول على قبول لها.

٤ناقش فكرتك بوعي

خلال عرض مشروع أو فكرة أو نص أو حتى تصميم، ركز في محيطك، ركز في ردة فعل العملاء. كيف يتلقون هذه التفاصيل؟ كيف يتفاعلون مع العرض على الشاشة؟

هذا الوعي مثل فرقة إنقاذ، لو وجدت ثغرة في عملك أو بدأت بمناقشته مع العميل تنبه لردات الفعل فقد تنقذ مشروع أو فكرة قبل رفضها بالكامل. سأقوم بالتعديل هنا، حسنًا سنضيف بعض الألوان أو النصوص وغيرها من التعليقات السريعة الذكية.

٥تنبّه للتفاصيل

تقلقني دائما فكرة التقصير خلال أي مشروع إبداعي، وساعدت نفسي في هذا المجال بتوقع الأشياء قبل حدوثها. هذا جيد خاصة إذا كنت تتعامل مع جهة أو مشروع جديد عليك. العمل في شركة يعني أن كثير من الأفكار الإبداعية تذهب لعملاء مستديمين، ثلاثة أشهر أو ستة وأحيانا سنوات. لذلك نسبة المفاجآت منخفضة. لكن العميل الجديد يأتي بحماس ويطلب منك كشخص مبدع أو متخصص في مجالك العمل والانتباه لكل التفاصيل. يريد ألّا يحتاج لبذل الجهد طالما وظفك أو عينك لاتمام هذا المشروع. أسوأ ما يحدث هو أن يشير العميل كل مرة لتقصيرك أو يعلمك ما تفعل. راقب احتياجاته وجهزها قبل أن يطلبها.

٦تولّ مسؤولية الحفاظ على الذوق

واضبط الجودة كذلك.

لا أقول أنني تمكنت من هذا تماما اليوم؛ لكن في كثير من الأحيان أتدخل وأؤكد للعميل بأنّني الخبيرة هنا ويحتاج أن يستمع لرأيي على الأقل ثمّ يقرر.

سمعت هذا من كثير من الكتّاب والمصممين وكل من يعملون في المجال الإبداعي: نخجل في أحيانٍ كثيرة من وضع اسمائنا على مشاريع لأننا لسنا راضين عنها.

العميل غير المتخصص يفرض رأيه وحجته في ذلك أنا أدفع، أنا صاحب الشركة، هذا المشروع ابني الصغير.. وغيرها من التأكيدات على أحقيته بالحسم.

حاول مرة ومرتين ألا تستسلم لذلك. لكن بالمقابل لا تستخدم أسلوب الشدة والتباهي، هناك منطقة وسط للحوار.

٧عندما لا ينجح كلّ هذا!

قد نجد صعوبة في تطبيق هذه الخطوات كاملة. خاصة مع المشاريع المستعجلة والاستثناءات الكثيرة التي نمر بها كمبدعين مستقلين أو مقدمي خدمات نحتاجرضا العميل الكامل عن ما نفعله. نتمسك دائمًا بشيء مهم: الوعي والانتباه لكل ما نفعله حتى لو كان مستعجلًا. حتى لو كان لا يحقق لنا الرضا الكامل. وحتى لو بعد كلّ العناء لم يقبل به العميل.

.

.

.