حلم ليلة صيف

على الطاولة المجاورة للسرير نسخة من ملاحق الأحد لنيويورك تايمز بتاريخ ١٧ يونيو. في الزاوية قبعة احتفالات فيها ريش وألوان، فهمت من شكلها إنها قبعة عيد ميلاد لكنّها لا تخصني ولا أعلم كيف وصلت هنا. أزواج من الأقراط، قمصان متراكمة على الكرسي، وحقيبة العمل مرتبة جيدًا، يتدلى منها شريط بطاقتي الوظيفية. هناك العشرات من الرسائل التي لم أجد الوقت للردّ عليها، ثلاثة كتب تُقرأ دفعة واحدة، والكثير من الرفوف التي انهارت في رأسي خلال الشهرين الماضية.

يونيو كان شهر المرّات الأولى بامتياز!

ليلة عيد الفطر وبينما كنت أرتّب حقيبتي للسفر، على الرف القريب كتاب ثلاثية نيويورك لبول أوستر، وضعت الكتاب في الحقيبة ونظرت إليه وقلت: سيوقّع بول أوستر هذه النسخة. كنت قد اشتريت تذكرة لحضور حوار سيدور بينه وبين فيليب بيتي، المخاطر العظيم الذي قد يعرفه الكثير منكم من فيلم Man on Wire The Walk. أعترف بأنّ الهدف الأساسي من حضور هذا الحوار هو فرصة الحديث السريع مع أوستر، لكنّ فيليب بيتي أذهلني. أذهلني التزامه، واهتمامه بحرفته التي مهما بدت مجنونة لي وللكثير ممن يعانون من رهاب المرتفعات وأوستر منهمإلا أنها تقع في إطار العمل الإبداعي. لكنها قصة أخرى ولا أعلم لما أشعر بأن هذه التدوينة ستكون حفلة من الاستطرادات.

وقبل المضي للأمام في الحديث عن رحلة نيويورك، أحبّ أن أخبركم بأن أوستر وقع النسخة العربية من روايته، وسأل عن جهة النشر وهل هي لبنان؟ وأجبت نعم. التقطت أختي صورة ليست مثالية لأنني كنت أقرفص بجوار الطاولة حتى أظهر وهو على نفس الارتفاع. في وقتٍ ما لاحقًا قد أطبعها وأشعر بالزهو تجاه هذه اللحظة السعيدة.

في نوڤمبر الماضي حضرت فعالية نظمها فندق حياة ريجنسي في الرياض، بحضور ممثلي التسويق والإدارة من بارك حياة نيويورك. كان الهدف من الفعالية عرض الغرف الفخمة بعد إعادة تأهيلها، وإطلاق خدمات مميزة للزوار من الخليج والعالم العربي عموما. مع مجموعة أخرى من الحضور حصلت على قسيمة تمنحني خمس أيام/ست ليالي من السكن المجاني في الفندق.

كانت لحظة غير متوقعة بالنسبة لي، فلم يسبق وجرّبت السكن في نيويورك بهذه الميزانية (ألف دولار تقريبًا لليلة). كانت الفكرة مجنونة إلى حدّ استحالتها، لكنها كانت دافع جيد لعطلة قصيرة للاستفادة من أيام مجانية واتمامها في سكن منخفض التكلفة لاحقًا. اشترط الفندق استخدام القسيمة قبل ديسمبر ٢٠١٩م. كنت انتظر وقت مستقطع وبدت إجازة العيد مناسبة للعزلة وإعادة ترتيب نفسي.

وصلت للفندق يوم العيد وكان الاستقبال رائع، والغرفة مجهزة بلذائد متنوعة من نيويورك، مع بطاقة وقعها مدير الفندق شخصيًا. تذكرت حينها حلقة توم وجيري عندما ربح المليون، وسكن في غرفة على بارك آفنيو. مشهد الإفطار والبيض والستيك، والغرفة الفاخرة. كنت أضحك واستعيد المشاهد بالترتيب كلما مررت بزاوية في الغرفة.

الغرفة مجهزة بأثاث صُمم خصيصا للفندق. من الخزانة التي تشبه صندوق كنز إلى ركن القهوة والمشروبات والمكتب. وصولًا إلى السرير الذي ودعته بالأحضان. لم يسبق لي تجربة فراش مثله وعندما قرأت المراجعات والتعليقات التي كتبها من جربوا السكن في الفندق وجدت أننا نتشارك الفكرة نفسها.

تحدثت خلال إقامتي مع مسؤولة التسويق في الفندق وأخبرتني عن توجههم الجديد وخدماتهم المخصصة للزوار من الخليج والعالم العربي. كما يشير الشعار العامّ للفندق الرفاهية شخصيةكل شيء تحتاجه سيتمّ توفيره لك وسيتم تطويع الغرفة لتخدم احتياجاتك. طلبت منهم خلال إقامتي محول للتيار الكهربائي، وطلبات أخرى لم أتوقع توفرها في وقت قياسي وتم توفيرها. أيضًا سيتم تحديد القبلة في الغرفة بملصق على الجدار، وسيوفرون سجادة ومصحف عند الطلب. أبلغت المسؤولة بأننا نحدد القبلة اليوم بالجوالات الذكية والمصحف كذلك، ونحمل معنا السجادة الخفيفة والمناسبة للسفر. لكنها لفتة جميلة ومهمة لمن يحتاجها. أيضا خُصصت قائمة بالأطعمة الحلال التي لا تحمل فقط الاسم، بل إن كافة اللحوم المقدمة على هذه القائمة ستكون مذبوحة وفق الطريقة الإسلامية وستحضر عند الطلب. قالت المسؤولة أيضا بفخر: نستطيع تركيب شطاف في دورة المياه في حال رغبة الساكنين. حسنًا هذه فكرة جيدة الآن. تحدثنا في الاستراتيجية التسويقية وأظن أنني تحولت حينها إلى ساكن يثير الضجر، فكلما اقترحوا تجربة شيء أو فكرة رددت عليها. الحق يقال أن الفندق رائع وفرصة لمن يبحث عن مساحة فاخرة للسكن في نيويورك. شخصيًا وكما بدأت هذه القصة استبعد فكرة السكن بهذه الميزانية لليلة، وأفضل دائما الفنادق الأصغر، الأقرب لحياة المدينة الملونة والمتنوعة.

في الجزء الثاني من الرحلة جربت السكن في Welive  وإذا كان الاسم يذكركم بـ Wework مساحة العمل المشتركة الأشهر في العالم، نعم هذه هي النسخة السكنية من الشركة والآن موجودة مبدئيا في نيويورك وواشنطن العاصمة.

في البناية وحدات سكنية متنوعة تتاح لفترات قصيرة أو طويلة (ستة أشهر وأكثر) وأسعارها مناسبة لمن يزور المدينة للعمل والتعلم. في كل دور شقق واستديوهات، وغرف صغيرة. ومطبخ مشترك مجهز بالكامل بالإضافة للمطبخ في وحدتكم الخاصة إذا حجزتوا شقة أو استديو+

في البناية مطابخ مشتركة كبيرة، وقهوة طازجة طوال اليوم، وماء، وألعاب وكتب ومساحات للعمل بالإضافة لفرع ضخم من Wework يمكن للأعضاء الوصول إليه من داخل الاستقبال. لا أعرف ماذا أسمي هذا المكان، هل هو فندق؟ سكن تشاركي؟ هو في مكان أعلى من بيوت الشباب لكنكم لن تفقدوا فرصة الاستمتاع بالتعرف على المسافرين والساكنين. في إحدى الأدوار مثلا، هناك غسالات ونشافات لغسيل ملابسكم وتجفيفها وبينما تنتظرون الغسيل، هناك ألعاب متنوعة إلكترونية وتقليدية وفرصة للحديث مع الآخرين.

في الدور الأرضي مطعم ومقهى يقصده العمال والموظفين خلال ساعات النهار فالبناية تقع على وول ستريت. يقدمون خيارات كثيرة من السندويتشات والسلطات والمشروبات المنعشة. سيكون خيار جيد لو أحببتم تناول وجبة قبل الانطلاق لاسكتشاف المدينة.

أحببت أن محطة وول ستريت وخط١ من المترو قريبة جدًا، لذلك كان الخروج والعودة حتى في أوقات متأخرة غير مفزع بالنسبة لي. سكنت وأختي استديو+ الذي يتوفر به سرير لشخصين تقريبا داخل جدار وله أرفف وستارة تحجب الضوء، بالاضافة لأريكة في الصالة يخرج من خلفها سرير آخر لشخصين. في الغرفة انترنت عالي السرعة، تلفزيون وتكييف ومطبخ مجهز مع أواني مناسبة لطبخ وجبات خفيفة وميكرويف.

من المهمّ الإشارة إلى أن الفندق لن يقدم لكم خدمة الغرف، وحتى المناشف والشراشف لو فكرتوا في تنظيفها فستفعلون ذلك بأنفسكم في دور الغسيل.

أحببت على أنه فندق بمساحات مشتركة كثيرة إلا أن العبور بين الأدوار والدخول إلى الغرف لا يتمّ إلا باستخدام بطاقة، ولا يمكنك التجول بدونها.

إذا كان للرحلة ثلاث مشاهد رئيسية فإن المشهد الثالث سيكون درس أساسيات الخبز الذي حضرته في Le Pain Quotidien وهي سلسلة مخابز ومقاهي شهيرة تأسست في بروكسل البلجيكية في بداية تسعينات القرن الماضي. حضرت درس مدته حوالي أربع ساعات. قضيتها وستة مشاركين وقوفًا لنصنع رغيف حياتنا الجديدة! كلنا جئنا من مناطق مختلفة، وكلنا متحمسون لإتقان خبز الباغيت الفرنسي، أو فطيرة الشوكولا، أو رغيف الخبز بالزبيب. عجينة واحدة جهزناها وعجناها بيدينا، وخمرناها وخبزناها. لتخرج بأشكال مختلفة. لم نصدق اللحظة التي خرجت فيها الأرغفة من الفرن، واستقبلناها بالزبدة المملحة والمربى. كان يوم مدهش، حملت معي الخبز هدية لصديقة، ومجموعة أوراق تلخص الدرس لأعود إليها لاحقًا في الرياض.

في هذه الرحلة لم أشتري كتب، ولم أزر متاحف باستثناء المركز الدولي للتصوير الفوتوغرافي-. كانت الرحلة للمشي، للأحاديث الطويلة، واكتشاف أبعاد جديدة في نفسي، وأكثر.

لو لخصتها في قائمة لذيذة (لأنني أحبّ القوائم) ستكون كالتالي:

جولة طويلة على الأقدام في هارلم.

حضور مهرجان أفلام بروكلين.

فستان أصفر سأعيش فيه حتى نهاية الصيف.

لفائف اللوبستر من Lukes Lobster, The Dutch, The Smith.

مطاعم مكسيكية El Encanto De Lola 2, Tacombi.

أقراط لؤلؤ.

دجاج مقلي حتى الشبع في Sweet Chick.

مسرحية Burn This لآدم درايفر وكيري رسل.

دونت بالكريمة بعد العاشرة ليلًا في The Donut Pub الذي يعمل لـ٢٤ ساعة بالمناسبة.

مطعم إسباني بعروض فلامنكو حيّة Nai Tapas.

الكتاب الذي رافقني في الرحلة The Sound of Paper لجوليا كاميرون.

المشي حتى ساعات الصباح الأولى في تشيلسي.

اللقاءات التي لم يُخطط لها.

علّمت منى أختي نظام المترو وخطوطه والاختصارات وقررت أنّ نيويورك لم تعد مدينة مكروهة بالنسبة لها.

السالمون المدخن والبيض كل صباح.

ميلاد الصيف وقت جميل من السنة لم أجربه من قبل.

عطر صيفي سيعيش معي طويلا واسمه رائع مثله تحت أشجار الليمون“.

المطاعم والمقاهي المفتوحة على الشارع.

قضت هذه التدوينة وقت طويل في مسودة، وكلما حاولت إضافة المزيد من التفاصيل إليها شعرت بصعوبة المهمّة. قررت نشرها هذه الليلة لأتخفف من انتظار آخر.

.

.

.

ذاكرة غراب

إذا وقفت في منتصف غرفتي ونظرت باتجاه الحائط الأيمن سترى أثرًا يشبه غيمة داكنة. خط رمادي أطرافه ذائبة في الطلاء الفاتح. أعرف هذا الأثر لأنني حركت الخزائن مؤخرًا. اقترح أفراد العائلة تنظيف الأثر. وبينما أنا أفكر في كيفية إزالته دون التأثير على الطلاء، لمحت بقع صغيرة في مكان آخر من الغرفة.

على الحائط المجاور لطاولة الزينة وحيث تستريح فرش المكياج أرى بقعة بنية صغيرة، بقعة زهرية، ونقط رمادية متفاوتة في الحجم.

كالعادة لدي وفرة من الوقت للتأمل خصوصًا والمهامّ مكدسة وتنتظر. فكرت في الأثر الذي يتركه الآخرون علينا، في الأثر الذي تتركه قراءة كتاب، أو رحلة، أو مشاهدة فيلم.

الكلمات التي تستخدمها اليوم متى بدأت استخدامها؟ ضحكتك هل هي لك تمامًا؟ ذائقتك؟ وقبل أن استرسل في هذه الفكرة المعقدة أعدت نفسي لمكاني، وانشغالاتي العاجلة.

هذه التدوينة الأخيرة قبل عزلة رمضان التي انتظرتها بحماس! لديّ قائمة قراءة، وتعلّم، وكما أتمنى الكثير من الكتابة.

* * *

خلال الفترة الماضية كنت أفكر في العمل، في كتابة المحتوى تحديدًا. أشعر بالاستغراق في العمل لدى الآخرين. أشعر بأنّ طاقتي الإبداعية مسخرة تمامًا للكتابة للعملاء بالإضافة إلى مهامي الوظيفية الأخرى.

هذا العمل يستهلك طاقتي بالتأكيد، لكنّني أيضا وتدريجيا تبنيت أهدافهم، وتطلعاتهم. وهذا ليس بالأمر السيء طبعًا. هذه هي الطريقة المثلى لإظهار اهتمامك بالعملاء ومشاريعهم. لكن، وتحت لكن عشرة خطوط: ماذا لو كانت الكتابة وقود حياتك؟

تزامنت هذه التأملات مع مروري بمقالة في مدونة Copyblogger لخصت مشاعري، وجددت حماسي. كتبت كلير إمرسون ١٠ خطوات لتخرجني وإياكم من دوّامة التردد والتأجيل وإهمال المشاريع الشخصية مثل كلّ سنة.

١أعطِ نفسك الإذن بالبدء قبل الاستعداد الكامل.

٢غير المنظور من يجب عليّإلى سوف أفعل ..”

٣أخرج أفكارك بسرعة من حيز التفكير إلى حيز التنفيذ من خلال تسهيل توليدها.

٤قسّم المشاريع إلى مراحل. ولا تفكر كم بقي للانتهاء؟ الهدف تصغير المشروع قدر الإمكان حيث تختم كل مرحلة كإنجاز وتحتفل به.

٥لا تبدأ بـلماذا؟“. إبدأ بـ لمَ لا؟

٦تخيل انتهاء المشروع. من أذكى الطرق لبناء خطة مشروع هي البدء بالمقلوب من النتيجة النهائية وتفكيكه حتى تصل للحظة الحالية.

٧ركز في الخطوة الأولى أولًاوتجاهل الباقي حتى يأتي وقته.

٨صنف المراحل والمهام وحدد أهميتها، هل يمكن تجاوزها؟ هل يمكنك تفويض المهمة؟ هل يمكن تأجيلها لمرحلة لاحقة؟

٩إذا كانت المشاريع التي تعمل عليها تتطلب البحث والتعلم، لا تتعلم كلّ شيء دفعة واحدة! تقترح كلير تأجيل التعلم حتى تصل للمهمة. بعبارة أخرى: ليكن التعلم مربوطًا بسرعتك الشخصية وموجها لاحتياجك. تذكرت في هذا السياق مهارات التصميم مثلا، أو برمجة المواقع. لا تفكر في تعقيد الأمور وأنت تحتاج مدونة بقوالب جاهزة وطريقة نشر بسيطة.

١٠التزم/ألزم نفسك بالعمل. ما الذي يجعلك مسؤولًا؟ هل تخبر أفراد عائلتك بمشروعك الحالي؟ أو تعمل مع مجموعة من الأصدقاء؟ هل يساعدك ربط المشروع بأهدافك الشخصية؟ لكلّ منّا مرساته، وما يلزمه بتنفيذ خططه.

الرابط بين هذه النصائح بحسب رأي كلير: الإدارة الذاتية والوعي. مشكلتي شخصيًِا الغرق خارج رأسي! وكل ما احتاجه في لحظات الفوضى الجلوس وسرد ما يشغلني على شكل نقاط، وتفكيك العقبات لتصبح قابلة للعلاج. وبالمقابل كلما طالت فترة التجاهل والتبّرم أبقى ساكنة في مكاني.

* * *

خلال الأسبوع الماضي استمعت لحلقة من بودكاست مفضل يقدمه Chase Jarvis، هذه المرة كان تشيس هو الضيف وقابلته ديبي ميلمان المصممة وصاحبة البودكاست الشهير Design Matter. الحلقة ممتعة وتناولت جوانب مختلفة من حياة تشيس ومشاريعه. لكن الجزء الذي أثار دهشتي واهتمامي حديثه عن ذاكرة الغربان! يمكن للغراب تذكر وجوه البشر لسنوات. يمكن للغربان أيضا تذكّر ما إذا كنت صديقا لها أو عدو. وأرشدنا تشيس لدراسة نفذها أحد معارفه ووثقها بحديث على تيد (تجدونه مترجمًا هنا)

* * *

ماذا سيحدث خلال الثلاثين يوم القادمة؟

تجربة كتابة يومية، قصة قصيرة في صفحة واحدة كلّ يوم. ليست لديّ فكرة عن نتيجة هذا المشروع، لكنه الطريقة الوحيدة لتمرين عضلة القصّ من جديد.

الاستماع لعشرات حلقات البودكاست المؤجلة.

قراءة سلسلة كيمياء الصلاة لـ د.أحمد خيري العمري مع العائلة.

نشر كبسولات تثقيفية متنوعة وخفيفة عبر حساب فنّ المحتوى على تويتر.

حمية غذائية نظيفة بلا أطعمة مصنّعة أو سكّر.

التهام كتب معرض الكتاب بحماس.

جرد خزانتي ومكتبتي.

الاستعداد لعطلة الصيف.

.

.

.

ما هي خططكم للشهر؟ شاركوني إياها.

أحبّ رمضان.

أحبّ شعور الخفة والإنجاز والخروج بروح جديدة كل مرّة.

أتمنى لكم أيام مباركة ومنتجة وسعيدة.

وكل عامٍ وأنتم بخير.

.

.

.

ربيع هادئ، متأنٍ وذكيّ!

هذا الأسبوع أنهي شهري الثالث في وظيفتي الجديدة. وبالمناسبة لا أدري إلى متى سأستمر بالعدّ، ربما سينتهي ذلك عندما أعود نفسي أنني عدت لانتظام العمل لدى الآخرين، وتخففت قليلامن رهبة البدء.

ألمح من شبّاك المكتب كل يوم وفي نفس الوقت الذي استعد فيه للخروج إلى المنزل، مهندس شابّ يحمل في يدٍ خوذته الصفراء ويمسك باليد الأخرى حقيبة على الظهر. ينظر إلى نقطة بعيدة في الأفق، ربّما بوابة الخروج من المدينة، أو يسرح بأفكاره عن آخر تعديل أضافه على المبنى. انتبهت له أول مرة في أسابيع العمل الأولى. في أيام يبدو شارد الذهن تمامًا، للدرجة التي تعجز فيها عن تحديد مكان نظرته. وفي أيام أخرى يمشي بلا تركيز وهو يتحدث على الهاتف، قد تكون مكالمة سعيدة يمكنك معها التقاط التماع عينيه وابتسامته التي يقاومها ليحافظ على اتزانه. حاسر الرأس دائما، وأصلع. لا أعرف هل هذا الصلع اختياري أم أُجبر عليه مع الوقت. تمرّ الأيام ويمكنني رؤية أثر العمل اليومي عليه. كيف؟ من لونه. خلال ثلاثة أشهر حمصت الشمس بشرته تماما حتى اختلط لون ذقنه الخفيف مع وجهه وسيحتاج الرائي إلى لحظات حتى يتحقق أين تبدأ لحيته وتنتهي.

لاحظت أيضا تبدّل ملابسه. في البدء كانت القمصان أثقل، وكان يزاوجها مع صدرية الجينز. قمصان مطبعة، قمصان مضربة، قمصان بنقط فاقعة اللون. ومنذ حلّ إبريل ودع الجينز والأقمشة الثقيلة وأصبحت أكمامه أقصر. أفكر ما هي إجراءات السلامة في موقع العمل؟ أليس من الأفضل ارتداء قمصان بأكمام طويلة؟ وهكذا كلّ يوم، أهدئ عقلي بعد حفلة شواء طويلة أقلب فيها الكلمات وأقطعها واستبدلها واستبعد المحترق منها. أراقب هذا المهندس الشارد وهو يودع يوم عمله. أقف خلف زجاج عاكس وابتسم.

* * *

هل فكرتم من قبل في قصة الدببة الثلاثة؟ أو العنزات الثلاثة؟ أو مسلسل المهابيل الثلاثة؟

طيّب إعلان بونكس: نظافة، ريحة، توفير؟

أو إشعارات السلامة عند حدوث الحريق: Stop, Drop and roll؟

ماذا عن ثلاثيات الكتب والأفلام؟

(أعدكم هناك فكرة هامة ستأتي بعد قليل)

سأترك لكم مساحة تفكير تستحضرون بها المرات التي لفتت انتباهكم عبارة مكونة من ثلاث كلمات، تصف منتج، أو فكرة وأحيانا لتؤدي نفس الغرض. عندما بحثت في الموضوع وجدت أنّ المسمى القاعدة الثلاثيةأو قاعدة الثلاثةوبالإنجليزية Rule of Three.

موضوع القاعدة هذه متشعب جدًا، وله جوانب كثيرة تفصلّها عندما يتعلق الموضوع بالقصص، والمسرح، والموسيقى. وأكثر ما أثار اهتمامي حقيقة، هو تأثير استخدامها في كتابة المحتوى التسويقي لجذب القرّاء ودفعهم للتفاعل مع ما تطرحه.

لماذا ثلاثة؟

ثلاثة هو أصغر عدد يمكننا منه تأسيس نمط تكمن قوته في عرض ثلاث عناصر بسيطة وواضحة وتمكنك من إيصال الأفكار المعقدة بشكل فعّال.

النمط الثلاثي هذا ينجح لأنه: قصير، لا يُنسى، وقويّ.

* * *

مخرج لنهاية الأسبوع

كيف تعزز انتاجيتك باستخدام القاعدة الثلاثية؟

عجينة بيتزا مثالية

مقالة: إبدأ قبل أن تكون مستعدًا

كتاب Save me the plums : مذكرات شهيّة

كيف تعرف ساعاتك الأفضل؟

أغنيات من ميادة، وسميرة سعيد رافقتني الأيام الماضية

.

.

.

رائحة صابون بعيدة

خلال يوم عمل مُنهك نظرت لانعكاسي في المرآة الصغيرة على مكتبي. وانتبهت للقميص الذي ارتديته ذلك اليوم. أحبّ هذا القميص كثيرًا، وانتظر بحماس عودته من الغسيل لارتديه مجددًا. أذكر بوضوح اليوم الذي اشتريته فيه، كنت في سفر وحقيبتي كلها مستعدة للخريف، لكن درجات الحرارة في نيويورك فاجأتني.

خلال أقل من ساعة وجدت نفسي في غرفة القياس لإحدى المحلات وفي يدي قميص مخفض (أذكر إن قيمته لم تتجاوز الخمسين ريال) اشتريته وتركت طبقات الملابس الأخرى في كيس المحل وخرجت للاحتفال بالحياة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي اضطر فيها لشراء قطعة ملابس لحالة طارئة.

في سنة أخرى اشتريت حذاء لأن قدمي قررت التوقف عن العمل. وصار الحذاء صديقي لأربعة سنوات تالية!

هناك مظلات الأمطار المفاجئة.

وفساتين السهرة المفاجأة التي تأتي لتحلّ مشكلة ضيق الملابس (والملابس في الحقيقة لا تضيق بل نحن الذين ننتفش).

هناك حقائب السفر التي تسافر ولا تعود معنا لأنّها ببساطة أصغر من أن تكفي لجنون التسوق الطارئ.

والكتب التي يلحّ بعض الأصدقاء بتوصياتهم لاقتنائها وهي لا تشبهنا.

والقائمة تطول.

أما القاسم المشترك بينها كلّها هو الحبّ الذي يأتي طارئًا ويستمرّ حتى تلفظ هذه المشتريات آخر أنفساها. تصبح أهم من تلك التي خططنا لها.

عندي فضول لمعرفة قصصكم حول هذا النوع من المقتنيات.

* * *

في ليلة أرق ليست بعيدة ذهب تفكيري لجمادات المنزل.

الحقيقة أن الفكرة بدأت عندما لمحت بطاقة مغسلة الملابس على لحافي وكُتب عليها (القدس)، والقدس هو الحيّ الأخير الذي سكناه في مدينة الجبيل قبل انتقالنا للرياض. صحيح أن مغسلة الجبر هي المغسلة الأقرب لبيتنا الآن لكن ملصقاتها تحمل اسم الحيّ الذي نسكنه. من أين جاء هذا اللحاف؟ وكيف لم يستخدم خلال السنوات الأربعة الماضية على الرغم من تخففنا وتقليل اللحف؟

فكرت فيه أكثر، كيف كان يختبئ في الرف واللحف تذهب وتعود، تُغسل في الرياض وتعود لتجلس بجانبه. يقولون لك رائحة صابون بعيدة وغريبة من أين أنت؟ وهو يستجوبهم عن الحياة في الخارج. كم عدد ساكني المنزل الآن؟ وهذا الشعر الأبيض الذي يلتصق بكم، هل ما زالت القطة المزعجة هنا؟

هذه الأفكار ممتعة.

قضيت ساعات الأرق حتى غفوت وأنا أفكر في جمادات المنزل الأخرى. ملاعق غرفة الطعام الأنيقة التي ينتهي بها الحال إلى درج المطبخ بالخطأ، وتقابل الملاعق الضائعة والتي تعلوها الخدوش، وتسألهم عن عذابات الحياة اليومية، ويسألونها عن الضيوف، عن السيدات المتأنقات وأطباق الحلوى!

توقفت الأفكار عند أرائك الصالة التي ستسقط قريبًا لا محالة، والسجادة متعددة الألوان (كانت فكرة صائبة) وطاولة الطعام التي سأروي لكم قصتها الكاملة يومًا ما.

* * *

شهر مارس كان ممتع، مجنون، مليء بالاكتشافات، ولحظات الراحة المسروقة.

وعلى غرار تدوينات صديقتي الرائعة مها البشر سأسرد مباهج مارس أدناه:

طاحونة قهوة من Dēlonghi اقتنيتها بتوصية من مها

عيد ميلاد موضي للمرة الأولى ونحن الأخوات سوية منذ ٢٠١١م

رواية أغنية هادئة – ليلى سليماني

مطعم هندي (Bombay Bungalow) في دبي

مطعم ياباني (Akiba Dori) في دبي

سلطة شهية لأيام العمل

١٢ حساب على انستقرام لتحفيز الإبداع

كتاب الحياة السرية للألوان وحلقة بودكاست لقاء مع مؤلفته كاسيا سانتكلير

وثائقي من أربعة أجزاء عن هنري الثامن (لا أملّ من قصص هذا الملك)

العودة لاستخدام عطر قديم (سامسارا) من غيرلان (اطلق العطر للمرة الأولى عام ١٩٨٩)

الإنتاجية هي إدارة الانتباه

ماذا تفعل إذا أصابك الملل من روتينك؟

.

.

.

كنت وما أزال، ذلك المندهش الذي يحيا بالدهشة، ويبحث دومًا عن أسبابها طلبًا للمزيد من الدهشة: الدهشة بالدنيا، بالله، بالناس، بالمدن، بالأرياف، بما تراه العين وبما لا تراه العين. وعندما لا أندهش أحس أن خطأ ما قد وقع، فيّ أنا أو في الناس أو في الأشياء. وأبحث مجددًا عن السبب. ولهذا كان عليّ أن أكتب، وكان عليّ أن أترجم، وكان عليّ أن أرسم. كان عليّ أن أخوض بحارًا من الكلمات. بحارًا من الخطوط والألوان، وبحارًا من الأنغام لا تخوم لها. وكان عليّ أن أكثر من السفر ومن الترحال، وأكثر الحديث والنقاش مع الناس من كلّ جنس ولون، أساتذة وتلاميذ، زملاء وغرباء، خصومًا ومريدين. لكي أستمر في هذه الدهشة، وأستمرّ في محاولتي معرفة هذه الدهشة، ومعرفة أسبابها وأبعادها.

فأنا حياتي رحلة إثر أخرى من خلال الأزمان. فهي رحلات على مستويات مختلفة ولو أن هذه المستويات أحيانا سائرة آنيًا، في الاتجاه نفسه. وكان لا بد من إيجاد الوسيلة التي تبقي على سلامة النفس. وتبقي على يقظة الحواس، وهي التي تبقي على نبض الحياة الداخلية التي تتجوهر بها إنسانية المرء في بحث ما، وفي توق ما.

وإذا كان لا بدّ من أن ألخص هذا كله، أقول:

من المرارات المتعاقبة أردت استخلاص قطرتين من الحلاوة. من البؤس المتكرر أردت الانتهاء إلى وهج يعجز عن أن ينال منه أي بؤس. في زمنٍ مهشّم معذب أردت أن أتبيّن جمالًا يتخطى التهشم والعذاب. وبقدر ما انخرطت في زمني كان همّي أن أنتزع منه ما ينمّي شجرة الأمل بأن الإنسان سيخرج من ذلك كلّه منتصرًا لإنسانيته، ومنتصرًا لحبّه وممتلئا من نعمة الله وروعة الكونولن تنتهي دهشته، ولو أن بؤسه أيضًا قد لا ينتهي.

جبرا إبراهيم جبرا | من كتاب الاكتشاف والدهشة (حوار في دوافع الإبداع) لماجد صالح السامرائي

.

.

.