٤ | أن ترى الجمال في كلّ شيء

فكرة التدوينة ولدت منذ فترة وترددت في كتابتها وكلما طال الوقت كلما اقتربت من حذفها وحذف تفاصيلها. لكنّ صوتًا صغيرًا داخلي يقول: هنا جزء من التصالح مع المشكلة، أو كما تقول صديقتي القريبة: التعافي الأنيق!  قبل عدة أشهر كنت أبحث عن صورة لي في فستان أحبّه، ولم أجدها. وأدركت بعد لحظات أن السرّ في غياب هذه الصورة هو حالة أمرّ بها وامتنع معها عن التقاط أيّ صور لي. هاتفي يمتلئ بصور الآخرين، بالأماكن، بالأشياء، ولكن لا شيء يدلّ على وجودي. عندما أمر بهذه الحالة يكون الشعور الطاغي هو: لستِ جميلة كفاية لتخليد هذه اللحظة. هناك شيء ما ينقص من جمال الصورة، ربما شعرك هنا، أو طريقة وقوفك، أو اللون الذي ترتدينه. وكلما أراد الآخرون التقاط صورة لي اعتذر بشدة وأرفض. ذات مرّة شرحت بعينين دامعتين لصديقتي أني لا أحب شكلي في الصور هذه الفترة، ولذلك أريد أن أوضح لها أن رفضي لالتقاطها صوري نابع من هذا الشعور الطاغي.

لكنّ هذه قصة مؤقتة، تغيب وتعود للظهور. وهذه التدوينة هي محاولة لأضع يدي على السرّ ولأتحدث بنبرة سعيدة أني وجدت الحلّ تدريجيًا. وما زلت أحاول.

إذا كنت سأصف نفسي في كلمات: شخص يبحث عن الجمال في كلّ شيء حولي. في أعين الناس، في الصور التي تملأ الشاشات، في الفنّ، في الطبيعة، وفي التفاصيل اليومية. هذا البحث النهم دائم، لا نهاية له ولا قاع أصله فاكتفي. كنت في سباق بلا فائزين! وفي كلّ رحلاتي كان نظري مخطوف باتجاه الخارج، لم أكن أعلم أن ما ابحث عنه يسكنني.

في هذا البحث الدائم أيضًا وقعت في فخ الانفصال التامّ عن انعكاسي في المرآة، كنت انظر، لكن لم أره. شيء ما مفقود، فجوة بين ما أنا عليه وما أريد أن أكونه. كانت المشكلة في الطريقة التي أنظر بها إلى نفسي. لا تحتفي بهذه السمات أو هذه الملامح التي ورثتها عن والديك وأجدادك، ما زال هناك عيوب خفية لا ترينها. تريدين المزيد من التحسين أو الاستسلام لفكرة: انعدام الجمال في نفسك. الآن انطلقي للبحث عنه هناك.

قرأت كلّ عبارات التحفيز ورددتها بيني وبين نفسي: حاربي المعايير المهزوزة والمتغيرة عن الجمال التي نشأتِ عليها أو شاعت بين الناس. لا تقبلي بأن تكوني مقيّدة بهذه المعايير التي وضعها الآخرين. أكداس من صور نمطية أجمعها في صناديق وأحملها معي عبر السنوات.

أما أيامي الجيدة فهي التي تبدأ بوقفة طويلة أمام انعكاسي فأنا أحبّ عيناي ولونها المتغير مع الأجواء في السماء، أحب ابتسامتي وأسناني غير المثالية، العلامات الفارقة، والشبه الذي اشترك فيه مع أخوتي. الطريقة التي أرتدي بها ملابسي، الألوان التي أحبها، كيف أسرح شعري وما هي الاكسسوارات التي ارتديها كل يوم؟ كل هذه التفاصيل في عيني جميلة -قبل أن يتسلل الشكّ طبعًا.

أما أكثر ما يربكني ويوقظ الأسئلة داخلي: الإطراء والمديح! كلّما سمعتها من الآخرين استبعدها وأرى فيها مجاملة لا أكثر. جزء من أجزاء الحديث المطلوبة لتحقيق اللياقة الاجتماعية. أهزّ كتفي معها وأضحك واسخر من نفسي سريعًا لتتحقق شكوكي. لم يكن من السهل علي تصديق أن الآخرين يرون فيّ جمالًا لا أراه. لم يكن التصديق المباشر متاحًا ولن يشفع لأيّ شخص قربه أو وضوح نيّته. كل المدائح زائفة عندما تستيقظ شكوكي.

جمال العقل أولًا

لفترة طويلة، كنت أعتقد أن الذكاء ورجاحة العقل هما كل ما أحتاجه للعيش والتفوق في الحياة. كان تركيزي منصبًّا على توسيع مداركي، صقل مهاراتي، والانغماس في التعلّم والتطور. كنت أرى القوة في بناء عقل متقد، قادر على التحليل، ممتلئ بالمعرفة، وكنت أشعر بفرح عارم وأنا أحقق أهدافي وأثبت لنفسي أنني أستطيع تعلّم مهارة أو كتابة نصّ مبهر! لم ينته الأمر مع مغادرة مقاعد الدراسة، بل امتد لسنوات بعد تخرجي وانطلاقي في الحياة المهنية. وفي ذات الوقت بدأت ملاحظة انفصالي عن جزء مهمّ في ذاتي: عنايتي بمظهري! كان الاهتمام بالجمال والمحافظة عليه تفصيل ثانوي تجاهلته عمدًا. لم تكن قيمتي الحقيقية هنا، ووقعت في فخّ التطرف. كان عقلي قويًا جميلًا ومغريًا، لكن الثمن المقابل انفصالي عن جسدي وصورتي. لا أعلم ما هي الشرارة التي أعادتني لنفسي، ربما انتقالي لمدينة أخرى؟ أو صديقاتي الجدد اللاتي أحطت نفسي بهنّ؟ أصبحت ألاحظ وأراقب وأتعلم. كيف تبدو حقيقتي؟ كان الانسجام بين العقل والجسد والروح هو ما يمنحني حقيقتي الكاملة.  وهكذا، بدأت رحلة استعادة ذاتي. ليس بإنكار ما بنيته، ولكن بإضافة ما أهملته. لم تكن العودة سهلة، لكنها كانت ممتعة. لحظات صغيرة صنعت الفارق: اختيار لون أحمر شفاه يبهجني، تخصيص وقت لنفسي بعيدًا عن القراءة والعمل، العودة لعادات قديمة كنت أحبها. واكتشفت أن الجمال لا يتعارض مع الذكاء، بل يكمله. التحدي الأكبر هو إيجاد جسر يعبر بين جمالية العقل والشكل، لن أقول التوازن التامّ فالأمر بالنسبة لي أرجوحة تحكم حركتها الظروف التي تحيط بي، التعليقات التي أسمعها، وما سيضغط أزراري في ذلك اليوم!

رويت لمرشدتي قصة الصور المفقودة من عطلتي الطويلة والمبهجة، وأعطتني تعليقًا سيعيش معي طويلا: كيف يمكنك رؤية الجمال في كلّ شيء حولك ولا ترينه في نفسك؟ عشرات، بل مئات الصور التي التقطتها للأعمال الفنيّة في روما، والأشجار الخريفية في باريس، ومئات الصور لغروب وشروق الشمس في مكانٍ ما. حتى أحبتك من حولك تحتفظين لهم دائمًا الكثير من الصور، فلمَ لا تفعلينها مع نفسك؟ لتكن البداية من هنا. هذا الجمال الذي أبدعه الخالق من حولك أنتِ جزء منه، أديري العدسة باتجاهك والتقطي صورة.

كان حديثها معي ملهمًا، ومن يومها وأنا أتعلم كطفلٍ يخطو، التقاط الصور العفوية، والسماح للآخرين بذلك، وقبول الإطراء -مع صراعاتي الداخلية- ابتسم وأشكرهم وأقبل الهدية لأحملها في قلبي. في كل مرة كنت أقاوم، أذكّر نفسي بابتسامتي التي أحبّ، بنجاحاتي الصغيرة التي حققتها بصورتي وعقلي معًا.

هذا الصّباح وبينما كنت استعد للخروج للعمل، أنظر لنفسي في المرآة وأرى امرأة بصورتها الكاملة، عقلها قويّ وروحها مشعة وأنوثتها لا تقلّ حضورًا عن ذكائها. وهذا كلّه يعني لي الكثير.

.

.

.

Painting by Alfredo Protti

٣ | مفضّلات ٢٠٢٤

قرّرت كتابة تدوينة مفضلات السنة بشكل مختلف هذه المرّة. لن أشير لمنتجات محددة أو تفاصيل تسوّق لاختيارات بعينها. لكن سأشارك مجموعة من الأفكار التي تبنّينها -أو عدت إليها- هذه السنة وأثرت أيامي.

تقليص عدد منتجات العناية الشخصية والتزيّن بدأت هذا العام بتبسيط روتيني اليومي للعناية الشخصية. واعتمدت على منتجات تقوم بأكثر من وظيفة، مثل كريم للوجه يجمع بين الترطيب وإضفاء إشراقة بسيطة لبشرتي. هذا التغيير قلل من الفوضى على طاولة الاستعداد واختصر وقتي اليومي في الصباح. وكلّ هذا دون أن أتنازل عن الشعور الجيد بالاهتمام بنفسي.

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟  بالبحث عن منتجات ذات جودة عالية تقوم بوظائف متعددة. اكتشف هذه المنتجات عبر طلب عيّنات للتجربة أو اقتناء المنتج بحجم صغير (عبوات السفر) والتأكد من توافقها مع بشرتك قبل الاستثمار في المنتج بحجمه الكامل.

إعادة تدوير المحتوى وبالتحديد في مهامّي العملية، اكتشفت جمالية إعادة تدوير النصوص. أصبح ما أكتبه في لحظةٍ ما نصًا أوليًا، يُعاد تشكيله لاحقًا ليخدم أغراضًا متعددة. هذا الأسلوب لم يقلل من الساعات التي أمضيها على الكتابة فقط، بل أتاح لي أيضًا تعلم تقنيات وأساليب جديدة. فكرة واحدة قد تتطور لتصبح عشرات المقتطفات القابلة للاستخدام في منشورات أو نصّ لفيلم قصير، أو لوحة في معرض فنّي!

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟ باستخدام أدوات إدارة المحتوى مثل مستندات Google أو Notion لتوثيق أفكارك ونصوصك. هذه التطبيقات القابلة للتحديث بشكل مستمر تضع النصوص الرئيسية في مكانٍ واحد ومن ثمّ تتيح بناء التشعبات والنسخ المطورة عنها بشكل منظم مثل المقالات، المنشورات القصيرة، أو العروض التقديمية.

التجول مع المرشدين: قصص ممتعة وزوايا تأمل جديدة. خلال زياراتي للمتاحف والمعارض في روما، جرّبت للمرة الأولى التجول بصحبة مرشدين. في الماضي، كنت أحمل خريطة أو استخدم تطبيق الجوال واتنقل بين الأجنحة بشكل عشوائي، مكتفية بما يلفت نظري من الأعمال الفنيّة. لكن هذا العام قررت الاستماع إلى القصص التي تكمن وراء تلك اللوحات والمنحوتات. بل أكثر من ذلك، وجدت نفسي اتحدث مع المرشدين عن مشاعري تجاه الأعمال والقصص التي مررت بها حتى وقفت أمام العمل الأصلي في مكانه وهذا يضفي على الزيارة طابعًا أكثر حميمية.

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟ عند زيارة أي معرض أو متحف، اسأل عن عن خيارات غير التجول منفردين، كيف يمكن التواصل مع مرشدين سواء من داخل المكان أو عبر مواقع وسيطة؟ إذا لم يتوفّر هذا الخيار، يمكن تحميل تطبيقات الجولات الافتراضية واستخدامها خلال الجولة. والتنبّه لتوفر أجهزة التعليق الصوتي مثلا، وكلها تقدم معلومات مفصلة عن الأماكن. هناك خيار آخر يمكن الاستفادة منه حتى قبل زيارتكم لتحديد مواقع الأعمال الفنيّة المهمة مثل Google Arts & Culture.

تطبيق أبجد: استعادة حبّ القراءة الإلكترونية اشتركت بتطبيق أبجد خلال هذا العام، وكانت تجربة مختلفة فالكتب عربيّة ومتنوعة وخصائص التطبيق كلها أعجبتني. قرأت الكتب إلكترونيًا أكثر من أي وقت مضى، واستمتعت بالحصول على الإصدارات الجديدة فور صدورها. التزامي بقراءة كتاب لكل شهر أضاف شعورًا بالإنجاز، وأعادني إلى حبّ القراءة الذي ربما غاب قليلًا مع انشغالات الحياة وصعوبة حمل الكتب معي في كلّ مكان. ربما ملاحظتي الوحيدة على التطبيق هو قوائم الكتب المقترحة فهي بالنسبة لي غريبة وغير منطقية أحيانًا. لكن كنت ابحث باسم الكاتب أو الكتاب أو المترجمين لأجد اختياراتي بسهولة دون الحاجة لتصفح القوائم الجاهزة.

وجبات تختصر الوقت في مطبخي، تعلمت تحضير وجبات تجمع بين جاهزيتها وبساطتها. استخدمت مكونات مثل الصلصات المعلبة والمخللات، وأحيانًا كنت أدمج بين إعداد طبق منزلي وطلب آخر من تطبيقات التوصيل لتكوين وجبة لذيذة ترضي شهيتي في تلك اللحظة. هذا التوازن بين الطهي الكامل والاستعانة بالخدمات السريعة جعل تجربة إعداد الطعام أكثر خفة واستمتاعًا.

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟ التخطيط للوجبات الأسبوعية مسبقًا وشراء مكونات أساسية يمكن استخدامها بطرق متعددة. يمكن تحضير الأطعمة التي تحتاج تقطيع أو تنظيف مسبقا وتخزينها في الثلاجة أو الفريزر لتوفير الوقت خلال أيام الأسبوع المزدحمة. وعند اختيار طلب الأطعمة من تطبيقات التوصيل اختار ما لا يمكنني تجهيزه في المنزل في وقت الوجبة كالمشاوي مثلًا أو السوشي.

اكتشاف مقاهي الحيّ القريبة من منزلي كان من أجمل اكتشافات العام. كوب القهوة الذي أتناوله في مقهى جديد، سواء كان ذلك في صباح أيام الأسبوع أو خلال عطلة نهاية الأسبوع، أضاف لمسة منعشة إلى يومي. أحيانًا تكون تجربة بسيطة كهذه كافية لتغيير مزاجك بالكامل.

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟ اختر مقهى جديد كلّ أسبوع أو اثنين مع تجربة مشروبات مختلفة (أنواع مختلفة من البنّ) مع سؤال العاملين في المكان عن توصياتهم واقتراحاتهم للمشروبات والأطعمة الخفيفة. ولتحويل زيارة المقهى لتجربة ممتعة ومتكاملة انقل كتابك معك أو عملك أو أي مشروع محببّ آخر.

ترك التخطيط جانبًا واعتناق العفوية (والقليل من الفوضى) هذا العام، قررت ترك مساحة أكبر للعفوية في حياتي. جربت اختيار وجهات سفر بشكل مفاجئ، وقراءة كتب لم تكن على قائمتي، وحتى مشاهدة أنواع جديدة من البرامج التلفزيونية والأفلام. هذه اللحظات غير المخطط لها حملت مفاجآت ممتعة، وكانت تذكيرًا بأن الحياة أحيانًا تكون أجمل عندما نترك لها الفرصة لتفاجئنا.

كيف يمكنك تبنّي هذه الفكرة؟ لن أقول وضع خطة لتطبيق هذه الفكرة، بل إعداد قائمة تجمع الأشياء التي قد تثير اهتمامك لتجربتها يومًا ما.  وبلا خطّة ألق نظرة على هذه القائمة من وقت لآخر واستمتع بتطبيق ما فيها. يمكن أن تضم القائمة زيارة مدينة قريبة، أو مشاهدة فيلم بموضوع مختلف عن المعتاد، أو حتى تجربة هواية جديدة مثل الرسم أو التصوير.

 

أتمنى أن تكون هذه التدوينة بمثابة البوصلة لكم لإيجاد تغييرات نوعية في حياتكم يسهل تبنّيها واكتشافها. 

 

٢ | أنتم مبروكين

١

بدأت كتابة تدوينة هذا الأسبوع أمام نافذة تطل على الحرم المكّي الشريف. وقبل أسبوع بالتحديد بينما قضيت ساعات المساء الأولى في المنزل اقترحت على أختي الذهاب لمكّة وأداء العمرة. لم يكن هناك الكثير من التفكير، حركنا بعض المواعيد وطلبنا إجازة من العمل وانطلقنا مدفوعين بالحماس لعطلة روحيّة قصيرة ولنفض غبار العام الماضي عن قلوبنا. كلما عرف أحد من حولنا بموعد الرحلة قدّم لنا تحذيراته حول الازدحام والتوقيت الصعب، لكننا كنا محاطين بهدوء طيّب: تتيسر بإذن الله!

في عمرتي السابقة كانت الأجواء مختلفة فقد سبقت بيومٍ واحد إلغاء إجراءات التباعد في الحرم وتقييد أعداد الدخول. أذكر أنّي ووالدتي اعتمرنا وعدنا للفندق وفي نشرة المساء الإخبارية شاهدنا الإعلان والموظفين يزيلون العلامات اللاصقة من الأرضيات.

كلّ شيء حول هذه الرحلة تيسّر والحمد لله. من حجز السكن للطائرة للوصول والخروج السلس من المطار لمكة. والسائق الذي اصطحبنا هناك أعلن في لحظةٍ ما قبل الوصول: أنتم مبروكين! فوصولنا تزامن مع وقت صلاة الـظهر وإغلاقات معتادة للشوارع لكن رجال الأمن وبلا أسئلة أو تدقيق سمحوا لنا بالمرور. لقد استشعرت كلماته في قلبي، فما أجمل الشعور بالبركة تحلّ في حياتك اليومية.

في الساعات التالية خضنا تجربة حسّية غير عادية، أقول لذلك لأنني لم أجد نفسي في ازدحام مماثل أبدًا! وبدأ الصراع الداخلي بيني وبين نفسي هل أدفع الناس عنّي أو اندمج معهم ونتحرك سوية لإتمام مناسكنا. في الحرم أبلغنا رجال الأمن عند الدخول أن صحن الطواف مغلق، ولكني بعنادي المعتاد قررت أن أجد مدخلًا. أكملت المسير مع أختي وفي كل زاوية أعود للتحدث مع رجل أمنٍ آخر وأطلبه سرّ الدخول. وصلنا لأحدهم وأشار بيده إلى جهة خفية من المكان وبعد دقائق وجدنا أنفسنا هناك.

هناك بدأنا طوافنا محاطين بالبشر من كلّ بقعة في الأرض. تسمع أدعيتهم المتضرعة وتردد معهم قليلًا وتأمن، وتعود لنفسك فتذكر دعواتك التي رتبتها في قلبك وتجهزت لها لأيام. التفت فأشاهد الأطفال محمولين على أكتاف آبائهم (هل سيذكرون هذه اللحظات؟) سلسلة من الأصوات والمشاعر لن تعيشها في أي مكان آخر.

تيسرت العمرة بأجمل صورة وتلاشى التعب والتوتر من الازدحام وفي لحظة خارج المكان والزمان احتضنت أختي بحبّ. لقد فعلناها! أتممنا أول وأهمّ رحلة لهذا العام فالحمد لله على التيسير.

سنقضي عدة أيام في جدة لننعم بالدفء ورؤية البحر فهو وجهتي في كلّ منطقة ساحلية أزورها. نستعيد في رحلتنا هذه أول زيارة للساحل الغربي، ورحلاتنا التي ذهبنا فيها سويّة. الاكتشافات والمذاقات والأصدقاء الذين نجتمع بهم في كلّ مرة نزور المدينة.

استعد أيضًا لأسبوع ممتلئ بالأعمال والخطط، ومشروع ورش العمل التي سأقدمها خلال العام سيدخل حيز اختيار الأماكن والجهات التي سأتعاون معها.

 

٢

أسعد بتعليقاتكم على التدوينات دائمًا وفي التدوينة السابقة تركت «هلا» تعليقًا ذكرني بتدوينات المفضلات التي كنت أنشره من وقت لآخر، فكّرت في تدوينة مناسبة لمفضلات ٢٠٢٤ (شيء مثل جوائز السنة لمنتجات وتجارب أحببتها) بدأت فعليًا بإعدادها وقد أضيف مفضلات جديدة من رحلة نهاية هذا الأسبوع.

 

٣

قرأت خلال الأسبوع الماضي اقتباسًا لتشارلي مونجر – مستثمر ورجل أعمال أمريكي- يتحدث فيه عن الخوارزمية الأساسية للحياة وهي أننا عندما نجد شيئا يعمل بشكل جيد، نستمر في فعله. وبعبارة أخرى: كرّر ما ينجح. وأذكر هنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من بورك له في شيء فليلزمه». شعار حياتي الحالي وسرّ عودتي الدائمة لمجالات العمل والتعلم التي أحبها. أثبتت هذه الخيارات جودتها وعوائدها المادية والمعنوية على حدّ سواء، لذلك أختارها من جديد كلّ مرة. وهذه المقولة أيضًا هي السرّ الذي يدفعني على التمسك بمجال عملي مهما بدت التغييرات الأخرى مغرية ومحفزة. بدأت الكتابة قبل أكثر من عشرين سنة، وأنوي التمسك بها ما حييت.

 

.

.

.

 

١ | البناء بعد الهدم

احتفظ باقتباس لشين باريش يصف فيه التقويم الشخصي بأنه أصدق سيرة ذاتية لنا. عندما عدتُ لتقويم ٢٠٢٤، كان الأمر أشبه بقراءة قصّة بلا حوار. قصاصات عائمة وأفكار مجتزأه من سياق خفيّ ومدن زرتها، ومواعيد رحلات، ووقفات تأمل متقطّعة. لقد عشت عامًا كاملاً من العشوائية العفوية، كمن يلتقط أنفاسه بعد فترة طويلة من الركض. وتدريجيًا أعدت تشكيل الروتين الذي دمّرته عمدًا. وأقول دمّرته عمدًا لأني رأيت كلّ شيء يتداعى من حولي، أوقات نومي وقراءاتي وكتابتي ونشاطي البدني وحتى اختياراتي الغذائية. وفي نفس الزاوية كنت أراقب نفسي لأرى ما يمكن تبنيه من جديد، وما يستحق الاستمرار أو التخلي. وقررت: آن الأوان للهدم أولًا ثم البناء خطوة بخطوة. استخدمت أسئلة ظريفة للتفكير مثل: ما الذي يسهل تبنيه؟ ما الذي يشعرني بالراحة ويمكنني الاستمرار عليه؟ لم أكن أبحث عن الكمال، بل عن الاتساق!

وضعت المرح والاستمتاع في مقدمة أولوياتي. تعاملت مع كل شيء بميزان اللعب والفضول، أكتشف وأتعلم. جرّبت أشياء جديدة بلا خوف من الفشل.  قابلت أشخاصًا من عوالم مختلفة، واتجاهات ومجالات عمل. تعلّمت أيضًا أن بناء العلاقات يحتاج إلى فضول حقيقي تجاه الآخر. استمعت أكثر مما تحدثت، وأصبحت أكثر تقبلاً للاختلافات.

ركّزت انتباهي على علاقات محددة لتحسينها وإثرائها. ودفعت بنفسي في أحيانٍ كثيرة للخروج من المنزل واكتشاف المدينة التي حلمت بالانتقال إليها لسنوات. وفي السياق ذاته آمنت أنّ العزيمة مهمّة لكنها غير كافية، فقد تكون العنصر المفقود الذي بحثت عنه طويلا لكنها لم تُفعل بشكلها الكامل حتى تحققت من أهميتها في داخلي. تخففت من الحوارات الداخلية المؤذية وكما نصحتني أختي موضي «ارفعي قدمك عن الكوابح، فالمركبة تنزلق بسرعة وستقف في مكانٍ ما لكنّ المقاومة لن تساعدك في شيء».

في ختام سنة مدهشة، ودعت المشاريع العالقة للأبد. في العمل والعلاقات والملفات والحاجيات المكدّسة في مساحتي الخاصة. أصبحت هذه العناصر عبئًا ثقيلا. هكذا تبدو الأشياء بلا مستقبل! ولأنّني في طريقي لإعادة البناء والتهيئة كان الاستغناء خطوة جادة للبدء.

وعلى صعيد استعادة الاهتمام والشغف اخترت التخطيط لتقديم ورش عمل إبداعية خلال ٢٠٢٥، ستتنوع بإذن الله بين ورش الكتابة والسرد القصصي. واخترت أيضًا تقديمها حضوريًا حول المملكة في مدن أحبها وأعود إليها. وجزء آخر من الورش سيكون افتراضيًا ليسمح بعدد أكبر بالحضور.

اخترت اليوم «الخميس» ليكون الموعد الأسبوعي لتدوينة جديدة. عدت لملخص تدوينات قصاصات على مر السنوات الماضية وفوجئت بالكم الهائل من المدخلات! اشتقت للكتابة الأسبوعية وحماس التفكير في موضوع كلّ مرة. هذه المساحة التي سأعود من خلالها لنفسي، لتوثيقّ ما مرّ، وللتأمل في فكرة أو أكثر وتوسيع النقاش خارج رأسي.

.

.

Edward Sutcliffe (British, 1978), Floral Painting*

 

الحياة السريّة للبراكين

استخدمت الفنانة الأمريكية بيتي مارتن العبارة هذه لتصف لوحة استوحتها من صورة فضائية لحرّة خيبر قرب المدينة المنورة. عندما قرأت العبارة استقرت في ذهني: أريد كتابة تدوينة لها هذا العنوان! لم أجد شيئًا يصف ما أمرّ وأشعر به مثل هذا. براكين تثور وتهدأ لمئات السنين دون حركة. لا أحد يتوقع متى تثور مجددًا ولا أحد يتوقع ما الأثر الذي سيتركه هذا الثوران المفاجئ. كنت اتحضّر هذا الأسبوع للحديث عن رحلتي الأخيرة إلى باريس. زيارة لمكان محبوب ودهشة متجددة. ومنها أكمل سلسلة تدوينات رحلة أكتوبر. لكن التفكر في نفسي طغى على كلّ المشاريع الكتابية. أريد تدوينة عشوائية تصف ما أمرّ به هذه الأيام.

أكتب هذه التدوينة في قهوة صغيرة في حيّ لا أذكر اسمه في مدينة الخبر. هذه المدينة التي تبخّرت مشاعري وذكرياتي نحوها على امتداد السنوات العشر الماضية. أزور المنطقة الشرقية لحضور مؤتمر الفنّ الإسلامي في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء». عنوان هذه الدورة: «في مديح الفنّان الحرفي». لا يمكنني إخفاء رغبتي العظيمة في البحث عن إلهام أو إشارة تعيدني لكلّ الأشياء التي أحبّها. قبل أكتوبر كتبت تدوينة عن العشر سنوات الماضية، وهذه الرحلة تأتي تحديدًا في الذكرى العاشرة لمغادرتي المنطقة الشرقية. وصلت للمطار ونظرت لرقم البوابة وابتسمت: نفس البوابة التي سافرت منها للرياض! نفس صالة الوصول لكن منطقة المبيعات أكبر. في الخارج الجوّ لطيف مع إننا في منتصف اليوم، لم تكن الشمس حامية، والطريق إلى الخبر قصير جدًا بشكل مضحك! أو أنّ ازدحام الرياض روّضني لتصبح رحلات السيارة فوق أربعين دقيقة مجرد فسحة قصيرة في اليوم.

تابعت قراءة كتاب بدأته قبل سفري الماضي: كتاب من المكتبة العامّة لسوزان أورلين وتوقّفت عند اقتباسات كثيرة منه. لكنّ أهمّها كان التالي:

«في السنغال، التعبير المهذب لقول إن شخصًا ما قد توفي هو قول إن مكتبته أو مكتبتها قد احترقت. وعندما سمعت تلك العبارة للمرة الأولى، لم أفهمها، ولكن مع مرور الوقت أدركت أنها تعبير مثالي. إن عقولنا وأرواحنا تضمّ مجلدات خطتها تجاربنا وانفعالاتنا؛ ووعي كل فرد هو مجموعة من الذكريات صنّفناها وخزّناها داخلنا، لتكون مكتبة خاصّة لحياة عيشت.»

قرأت الاقتباس قبل وصولي للخُبر، ومنذ ساعات الصباح الأولى في اليوم التالي بدأت بتأمل الاقتباس من زاوية مختلفة. لقد احترقت مكتبة الخبر في قلبي! لم يعد هناك أي مشاعر ارتباط أو فرح غامر بالوصول، وهذه المدينة بالتحديد كانت المتنفس الذي نهرب إليه في نهاية الأسبوع لكنّها كانت مدينة أخرى وكنّا زوّارًا مختلفين. الواجهة البحرية لم تعد تلك التي ألفتها، الكثير من الحواجز الخشبية ولا يمكنني رؤية البحر بالمرور في الشارع الرئيسي. أنا بحاجة للوصول من الداخل لرؤيته. بعض المحلات والمجمعات التجارية الصغيرة ما زالت في مكانها. أفكّر في زيارة مجمع الراشد حيث كنا نقضي جلّ رحلتنا الأسبوعية. تسوّق وتناول لوجبة سريعة أو قهوة ومن ثمّ العودة. حتى الطرق داخل المدينة وتحويلاتها تغيرت. أحاول التقاط الصور الذهنية لأعرف أين يتجه سائق أوبر لكن المعالم تغيرت وذاكرتي: احترقت.

طريق الإخلاء

كان الهدف الثانوي من زيارة المنطقة الشرقية هذا الأسبوع (بعد زيارة مؤتمر الفنّ الإسلامي) زيارة الجبيل الصناعية. أردت إقفال ملفات مفتوحة في رأسي منذ عشر سنوات. فهذا الأسبوع يعلن الذكرى العاشرة لصباح بارد ملأت فيه حقائبي وانطلقت إلى المطار. غادرت منزلنا مع الفجر، حجزت رحلة مبكرة لألحق بساعات العمل يوم الأحد. عدت للمنزل بعد أن تأكدت بأن عائلتي ستنتقل إلى الرياض بشكل كامل. وجد والدي وظيفة استشارية مناسبة لتقاعده، ووجدنا الفيلا المناسبة للسكن وأخرى مجاورة لمركز والدتي وأعمالها. أذكر تسللي من الغرفة كي لا أزعج نوم جدّتي. لا أذكر سبب تواجدها هنا في ذلك اليوم؟ هل كان للدعم النفسي؟ أو أنها تحبّ اللحظات العاطفية المؤثرة. تريد أن ترتجل أبيات من قصيدة مؤثرة وتبكي قليلًا وتبكينا. بعد انتقالنا لسنوات وفي كلّ مرة تزور أخوالي هناك تمرّ بالبيت وتتذكر. أذكّرها أنّه لم يعد لنا وهؤلاء الناس الذي يسكنونه ينشدون الهدوء. ما حصل خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه أنني أقلقت هدوءهم بالتجول حول المداخل والتقاط الصور والذكريات. فعلتها مع بيوتنا التي سكناها في المدينة. ومع مدرستي الابتدائية وزوايا أخرى أردت وضعها في صندوق وإطلاقها في الحياة.

اختيار وقت النهار لزيارة المدينة كان لرسم ذاكرة جديدة غير تلك التي تركتها ورائي. انتبهت لشيء وحيد افتقده في مدينتي الحالية: الكثير من الأشجار والخضرة. ممرات المشي بين الاحياء والهدوء المطبق الذي وجدت في الحارات عند الساعة الواحدة ظهرًا. كأنني باغتت حلم أحدهم، حلمي ربّما؟ أقول لصديقتي عندما توقفنا أمام بيت مختلف جذريًا لا أذكر منه إلا أشجار الشارع حوله: كنا هنا وكان البيت بدورٍ واحد، له مدخل من هنا وما إن التففت حول الشارع حتى رأيت المنـظر الجديد. بيت بدورين، لونه أبيض وزخارف جصّية حول نوافذه. الباب الرئيسي ملغي ونُقل لجهة الشمال حيث كنا نقف بانتظار الباص وتطلّ والدتي من السور لتتأكد من مغادرتنا بأمان. أذكر الممر طويلًا وموحشًا في صباحات الشتاء، تغيرت أحجامنا وصار رصيفًا ضيقًا يسهل عبوره في عدة خطوات.

على هذا المنوال انتقلنا من بيت لآخر، وتوقفنا لاستراحة في مقهىً جديد نسبيًا. طلاب الكلية والتخصصات التقنية والموظفين وطالبات الكلية القريبة وفتيات المدارس كلنا في فترة استراحة من شيءٍ ما، القهوة كانت لذيذة وباردة ومنعشة. تركتُ بيتنا الأخير للوقفة الأخيرة. تفحّصته غير مصدقة لما آل إليه. حزين جدًا ومهمل بشكل ملحوظ. الألوان الجديدة والتفاصيل التجميلية منحته مظهرًا فوضويًا. ما زال الحديد المزيّن على النوافذ نفسه لكنّه متناقض بشكل صارخ مع ألوان المنزل الحالية. وقفت قبالة نافذتي الأخيرة -تنقلت في البيت ثلاث مرات وكان لي ثلاث نوافذ تطلّ على منظر مختلف.

غادرت الجبيل بعد أن أقفلت الفصل المتبقي من القصة تمامًا. كانت السماء غائمة والمطر ينهمر خفيفًا. هذه الصورة الرومانسية لمنظر معتاد وهو في هذه الحالة الخروج من المدينة إلى الفضاء الرحب. في كل مرة كنت أسافر عنها لا انتبه للوحة صغيرة على الطريق تشير إلى «طريق الإخلاء» المحاذي للمنطقة الصناعية. عشت لثلاثين سنة في مدينة صناعية مجهزّة لإخلاء سكّانها في حال الطوارئ. لم انتبه للوحة قبل اليوم وشعرت بأنّ هناك رسالة خفيّة وراء ذلك. انطلاقنا على الطريق مبتعدين، باسمين، متحفزين لأيامنا القادمة.

الجزء المفقود من الأحجية

خلال السنوات الماضية كنت استكشف سبل عيش حياتي بكلّ الطرق. أهداف متحركة ومتغيرة، أهواء وهوايات وعلاقات. تدور الدوائر وتنفتح وتنغلق وأنا ما زلت في حالة تجريب مستمّرة. لكنّ الشعور الغامر الدائم كان: أين أنا الآن؟ وما الذي أريده حقًا؟

التقيت خلال رحلتي القصيرة بثلاث سيّدات لطيفات، عرفتهن في فترات مختلفة من حياتي. كنتُ في كلّ مرة شخصًا مختلف لكن الجوهر موجود. دوائرنا متشابكة بشكل عجيب وغير متوقّع. تحدثنا في كل شيء تقريبًا. حدثتهم عن رحلتي هذه وعن تساؤلاتي وبحثي عن الجزء المتبقي من الأحجية الكبيرة: كيف مضت هذه السنوات وكيف أقبض على ما أحببته من النسخ الماضية لهيفا؟ أحببت نظرتهم المتعمقة ورؤيتهم المحفزة حول الموضوع. وجدت إجابات منعشة ستقودني إلى فصل جديد.

أحبّ الكتابة هنا جدًا، وفي الفترات التي أضعت طريقي باتجاه فكرة قديمة أو شعور مفقود، يكفي أن انقر على مساحة البحث وأجد ما أريده ماثلًا أمامي. قصاصات صندوق مجوهرات نفيسة لا يمكنني إبداله أو التخلي عنه.

.

.

.

*الصورة في التدوينة لنافذتي الأخيرة في الجبيل

.

.