عن تدوين اليوميات

بدأت كتابة يومياتي بعمر العاشرة تقريبًا. لم أكن واعية لفكرة تسجيل اليوميات بشكل كامل، ربما شاهدت شخصية محببة تفعلها -كانت جودي أبوت ربما- لكن السبب الرئيسي هو رغبتي في الحصول على المذكرة السنوية التي تصل والدي من الشركة ولا تتأخر كل سنة. غلافها الجلدي الرائع، حواف الصفحات الذهبية، شريط المؤشر الحريري الأنيق، والصفحات الأولى طبعًا: تحويل المقاييس، مفاتيح الاتصال الدولي التي لم استخدمها إلا بعد ٢٠ سنة لاحقة. بدأت الكتابة وكانت أكثر شيء أكرهه في ذلك العمر. خطي سيء وإملائي كذلك. كنت أحب القراءة أكثر وكانت كتابة اليوميات فرصة لتمرين يدي. كتبت لنفسي، وللأصدقاء، خيالاتي وكوابيسي وأحلامي. لم تأخذ كتابة اليوميات شكلها المناسب إلا بعد عمر ١٥ تقريبًا. احتفظ اليوم بمذكرة من ١٩٩٧، السنة التي شهدت احتكاكي الأول بالموت والفقد، كتبت عن كل شيء حدث في الرحلة التي سبقت وفاة جدتي لأبي. حتى سرعة سيارتنا التي لم تزد عن ٨٠ كيلو على طريق الدمام-الرياض بسبب عطل غريب وخشية والدي أن تتعطل تمامًا.

كانت رغبتي بتدوين اليوميات متغيرة بحسب أحداث حياتي، أذكر مثلا أن الصف الثالث الثانوي كان وسيبقى غائمًا لأنني اخترت أن انشغل بالدراسة ومتاعبها وألا أدون عنها. نصيبي من الذكريات في تلك السنة بطاقات الميلاد، وتواقيع الصديقات في توديع المرحلة قبل أن تفترق طرقنا. ولا يمكن أن أسمي هذه يوميات لأن الآخرين ساهموا في كتابتها معي. في فترة أخرى كان التدوين مرتبط بالحميات الغذائية المختلفة التي أتبعها آنذاك، ومعها احتاج لتدوين وجباتي بالتفصيل لمراقبة طعامي ووزني. توقفت عن فعل ذلك تمامًا تجنبا للضغوط والإحباط. عدت في الجامعة للتدوين إنما إلكترونيًا. وقتها اكتشفت برامج معالجة الكلمات، والبريد الإلكتروني، وأصدقاء المراسلة، ولاحقًا المنتديات. يمكنني القول إن يومياتي منذ دخلت خدمة الانترنت بيتنا تفرقت وتوزعت في حافظات الذاكرة المختلفة. لكن حتى بوصولي لعمر العشرين لم تكن عملية التدوين لأي أسباب سوى تسجيل الذكريات. لم اكتشف سحر أثرها العلاجي، والمحفز، والداعم للخطط وأهداف الحياة إلا لاحقًا. ربما كان عمر الثلاثين هو المنعطف الذي غيّر كلّ شيء. حتى شراء المذكرات السنوية صار لحظة احتفال. لم أعد انتظر المذكرات المجانية المطبوعة بأسماء الشركات وخرائط الشحن وناقلات النفط. أصبحت اختار المذكرة بلون يكون لون السنة القادمة ويحدد مشاعري نحوها.

تدوين اليوميات كان في مرّات كثيرة وسيلة لتثبيت أحداث معينة، حوارات، مواقف. كنت أعود إلى ما كتبته لأثبت وجهة نظري، أو علاقتي بحدثٍ ما. بعد فترة من الكتابة لهذه الأسباب بدأت أشعر بالضجر، واكتشفت بأن أغلب الصفحات تميل إلى السوداوية وللأسف “افتعال الدراما”. تدريجيًا نضجت تجربتي، ومعها تعددت المذكرات التي استخدمها، هناك تدوين يوميات للمستقبل وفيه المواعيد والمشاريع والأهداف القريبة والبعيدة حتى لا أنساها، وحتى أضع نفسي تحت تقييم إلى حدّ ما. تقييم لا يشكل ضغط كبير لكن بالصورة الشاملة للسنة مثلا: أريد تعلم مهارات جديدة، قراءة كتب في موضوع معين، السفر، لقاء الأصدقاء والعائلة في مناسبات مختلفة. هذا التدوين بالنسبة لي ملموس وواضح. المذكرة الثانية لا تخضع لتقييم أو ضبط مواعيد، تلك التي تبقى بجانب رأسي وأفرغ بها مشاعري نهاية اليوم. أكتب فيها عن التساؤلات التي تعبرني، الأحلام الغريبة، وأدوّن فيها إجابات للأسئلة التي تشاركها معي المرشدة -وهذا بدأ في ٢٠٢٠- لنعود إليها وقت الجلسة. قرار فصل المذكرات هذا ساعدني في الاسترسال بالكتابة الشخصية، لستُ أخشى ترك مذكرتي على مكتبي مثلا، أو في مكان العمل لتكون عرضة للتلصص. تلك في غرفتي في المنزل والأخرى تذهب معي في كل مكان.

وكما لاحظتم خلال هذا السرد، أنني تحولت تماما من التدوين الرقمي للتقليدي. حاولت اعتماد مذكرة الهاتف للتدوين اليومي لكن لم أجد فيها حميمية ومتعة الكتابة على الورق. في تطبيق الملاحظات ستجدون روابط لمواقع أود مشاركتها، لائحة تسوق من السوبرماركت، وصفات طبخ، كلمات أغنية مررت بها وأعجبتني، رسالة تدربت على كتابتها وترددت فيها قبل نسخها وإلصاقها في برامج المحادثة، أدعية، وأي شيء أودّ الوصول إليه سريعًا ومن أي مكان.

إذا كنت سأشارككم أجمل الأفكار التي مررت بها واعتمدتها في تدوين اليوميات ستكون كالتالي:لا تضع جهد كبير وقيود على نفسك في الكتابة، اكتب متى ما أحببت، كيفما أحببت.

– اختر وقت الكتابة المناسبة لك. هناك من يحب الكتابة الصباحية لأنها تصبح عامل مهدئ، تستقبل اليوم وقد نفضت عنك أي مشاعر أو التباس أو توتر قد يحول بينك وبين مواجهة اليوم والعمل. وهناك من يلجأ للكتابة في نهاية اليوم للتخفف. جربتها كلها لأسباب مختلفة وكانت مناسبة لي.

– استخدام الأسئلة كمحفز للتدوين سواء أسئلة شخصية من قبلك أو باستخدام المذكرات التي تحمل أسئلة وتلميحات للكتابة Writing prompts.

– جربت مفهوم صفحات الصباح الذي تعرفت عليه من خلال جوليا كاميرون، النقطة الوحيدة التي لم التزم بها هي أنها توصي بعدم العودة لفوضى الكتابة التي تتركها، وأنا في الحقيقة أعود لها لاكتشف الأفكار والمشاعر واستفيد منها مستقبلًا.

– كنت أقاوم الكتابة عن الأشخاص في اليوميات لكن استسلمت للفكرة وكانت ناجحة، الكتابة عن الآخرين في سياق علاقتنا بهم والمواقف التي نمر بها يساعدنا على اكتشاف جوانب في أنفسنا. من هم الأشخاص الذين يخرجون أفضل ما فيك؟ من هم الذين يقلبون حياتك رأسًا على عقب؟ كيف تستطيع النجاة والتغيير؟ وهكذا.

– قبل عدة سنوات اكتشفت مفهوم المراجعة الشهرية Monthly Review عبر مدونة Zen Habits، فكرته تعتمد على مراجعة الشهر في نهايته، بالإجابة على عدة أسئلة:

ما هو العمل الذي أنجزته؟

ما هي المشاريع التي تقدم العمل فيها؟

بالنسبة للتعلم الشخصي ما الذي حققته؟

ماذا حققت في مجال الصحة واللياقة؟

هل مررت بأحداث هامة تريد تذكرها؟

ما هي المفاجآت غير المتوقعة التي مررت بها؟

ماذا تعلمت هذا الشهر أو اكتشفت واحتاج تذكره؟

ما هي أهداف الشهر المقبل؟

كانت فكرة المراجعة هذه مريحة في حال شعرت بالإحباط أو ظننت بسبب قسوتي على نفسي أن الشهر كان بلا منجزات أو فائدة. الجلوس نهاية الشهر والإجابة على الأسئلة والتنقل بين المذكرات، والصور، والأحداث ممتع جدًا. وهو وسيلة للتطور وتحسين جودة حياتك.إذا كانت الصفحات المرقمة أو التي تحمل تواريخ للأيام والشهور تزعجك، اقترح اقتناء مذكرة بصفحات خالية منها. وهذا ما فعلته قبل عدة سنوات عندما اخترت تدوين اليوميات الشخصية في مذكرة بلا تواريخ محددة. تمرّ بعض الأيام ولا أشعر بأن لدي رغبة للكتابة أو طاقة وعندما أعود لها مجددًا لن تكون هناك صفحات خالية.

– كتابة اليوميات لا تعني كتابة نصوص طويلة، أو تحتاج قدرة خارقة للتعبير. في أحيان كثيرة أدون يومياتي على شكل قوائم مفضلة، أو قوائم أفكار، أو مشاعر مررت بها. كلام مختصر وواضح ومناسب للحظة.

– تدوين اليوميات مفيد لجوانب الحياة المختلفة، أعرف مثلا أشخاص يدونون يومياتهم المهنية، وهذا يساعدهم في تقييم أنفسهم والاستعداد للتقييم السنوي مثلا. أيضا يساعدهم ذلك في حالات التعلم، والدخول لمجال جديد عليهم.

هذه التدوينة قد تطول ويمتد الحديث فيها لأيام. حاولت الاختصار قدر الإمكان ومشاركتكم ما وجدته مفيدًا وممتعًا. أيضا يمكنكم الاطلاع على هذا الملف الذي شارك في كتابته متابعو المدونة. تركت التعليقات بدون معلومات شخصية للمحافظة على خصوصيتهم. اطلعوا على تجاربهم الشخصية التي قد تثير اهتمامكم وتحفزكم للبدء. أيضا يمكنكم زيارة الروابط أدناه للمزيد من الإلهام والفائدة:

What I Learned by Journaling for 30 Days

How I Journal and Take Notes | Brainstorming + Focusing + Reducing Anxiety | Tim Ferriss

The Art of Journaling: How to Start Journaling, Benefits of Journaling, and More

The 15-Minute Habit Worth Making Time For

The Life-Changing Habit of Journaling

Photo by Paico Oficial

.

.

.

رقبة متيبّسة وحفلة فائتة

شاركت في تويتر تغريدة حول تدوينة قادمة عن كتابة اليوميات. غمرتني الحماسة واستعديت لإنجازها ونشرها ومشاركة أكثر من ٥٠ تجربة لمتابعين اعتمدوا تدوينات اليوميات في حياتهم كطريقة للتفكير، أو الاستشفاء، أو للاحتفاظ بالذكريات لمدة أطول. هذه التدوينة أيضًا ستضم تجربة شخصية حول الموضوع، وبعض الأفكار وترجمات لمقتطفات من كتّاب ومبدعين حول تدوين اليوميات. ما حدث أنّ هذه التدوينة لم تنضج في الوقت الذي توقعته، وصادفت منعطف متعب خلال الأيام الماضية. استيقظت صباح الخميس ولم أستطع التحرك من فراشي، شعرت وأنني في كابوس مرعب والألم كله متركز في رقبتي وكتفي الأيسر. أعدت شريط الليلة الماضية والفجر، ولم أجد أي حادثة قد تتسبب بذلك. المتهم الوحيد هو وضعية نومي الغرائبية التي تحولني إلى فطيرة قرفة ملتوية دون الالتفات لثقل أطرافي والساعات الطويلة التي أقضيها هكذا. بعد محاولات للنهوض جلست على حافة السرير وطلبت المساعدة من أخي الذي أحمد الله أنه كان في المنزل أو كنت سأبقى في هذه الوضعية حتى المساء. مع كلّ حركة آتي بها كان الألم يزداد ويتضاعف، قضيت ساعتين بين تدليك وكمادات حارة وباردة على التوالي وبعدما استعدت جزء من المرونة غيرت منامتي ومشطت شعري وغسلت وجهي وأسناني. المضحك في الأمر أنني كنت أغرق في نوبة بكاء غير مبررة، وأضحك وأعود للبكاء من جديد. أكتافي مبللة من الدموع وكريم العضلات العضوي ورائحته التي تشبه الفواكه الفاسدة. لماذا كنتُ أبكي؟ رقبتي متيبسة، ولدي أعمال كثيرة، ومساء الجمعة حفلة عائلية بمناسبة زواج ابنة عمي. تجمعت كلها. ولكن الحقيقة أنني كنت أبكي بسبب هذا الضعف المفاجئ، وفكرة احتياجي لمن يحركني ويسندني بعد شرح مستفيض لأماكن الألم الأشد. لم أذهب للمستشفى فأنا صديقة العلاجات المنزلية وطبابة غووغل. كريم هنا، لفافة مشدودة هناك، وكمادة دافئة كفاية وتمّ الأمر.

ومع كل هذا كان الخميس يوم منتج. أنهيت رواية رائعة لإيزابيل آييندي واستمعت لحلقة بودكاست، وشاهدت مسلسل مفضل جديد، وأجريت مكالمات بسماعات لاسلكية. تبقت الكتابة التي حاولت أن اتفاداها واتفادى ضغط البحلقة في الشاشة لساعات. تلك الليلة قرأت إرشادات النوم مع هذا العرض المؤلم ووجدت أن وضعيتي المفضلة لا تصلح إطلاقًا، بل يحذر منها على وجه التحديد. وتبقت وضعية الكوابيس “النوم على الظهر” والأخرى وضعية الجنين التي لا أحب استبعاد الوسائد فيها. استلقيت على ظهري وحاولت الذهاب في الغفوة بمساعدة هدهدة صراخ أطفال الجيران، وحبتيّ مسكن، والتأرجح يمنة ويسرة لمحاكاة سرير الطفولة. غفوت سريعًا ولكن استيقظت وسيل الألم يحكم قبضته على رقبتي وكتفي وصرخت وبكيت بكاء مكتوم كي لا أوقظ المنزل. مرّت الساعات، الثانية عشرة والنصف، الواحدة و٤٥، الثانية والربع، أذان الفجر، مواء لولو، الثامنة صباحًا! لم أتمكن من إتمام دورة نوم كاملة.

من جديد حاولت النهوض من فراشي ولم أستطع. أعرف أن الحائط يقع في الجهة اليسرى من السرير تحركت ببطء واستدرت حتى واجهته ثم ثبتت أقدامي عليه واستخدمته للنهوض! استمتعت بنهار الجمعة الغائم، ومن جديد كمادات متنوعة، واستسلمت للصقات العلاجية التي أنقذت الموقف. احتجت بعدها للراحة وبعض تمارين التمطيط، وفكرت أن الخروج في الأجواء الباردة ليلًا لن يساعدني. وعلى مضض، بقيت في المنزل وفاتتني الحفلة. مساء الجمعة كان فرصة للبقاء مع نفسي، شاهدت التلفزيون وحرصت على البقاء بزاوية ٩٠ درجة لتخفيف الضغط على رقبتي. تمططت مع قطّتي. تناولت النودلز كعشاء وشاهدت فيلم مبني على رواية لإيان مكيوان أجلته طويلًا On Chesil Beach وغفوت في وقتي اليومي برقبة تحررت أخيرًا من الألم.  لا أدري حقيقة إذا كنت سأعود لوضعية نومي المفضلة، فما زلت في رعب الإصابة.

صباح اليوم خرجت لرؤية المدينة وهي تغتسل بالمطر، حضرت جلسة عصف ذهني وبحث ممتعة، ثم تناولت الغداء في مطعم جديد مع أختي وصديقتنا ربى واقتنيت شمعة جديدة برائحة الورد هدية للشتاء. تغيير الخطة هذا رائع وبكائي صباح الخميس غير مبررّ. في المرة القادمة التي أبكي بسبب احتياجي للمساعدة سأذكر نفسي بأهمية الشكر والامتنان لوجود من يقدّمها لي، وسأقبلها بحبّ.

اللوحة في الصورة للرسام Odilon Redon

.

.

.

فاصل هادئ

١

أكتب هذه التدوينة من غرفتي بعد انقطاع أسبوعين عن الصباحات فيها.

كانت العودة لمقرّ العمل مؤقتة بسبب مشاريع تحتاج حضور وتفكير جماعي. واليوم من جديد في غرفتي والنافذة مفتوحة تنقل أصوات العالم الخارجي والشمس منعكسة على المرآة الضخمة وقطّتي فزِعة من ظلها المنعكس على السقف. تهاجمه تارة وترتمي على البلاط تارة أخرى لتراقب ذيلها وهو يرقص مع انعكاس أشجار الجيران. حفلة ظلال ونور. المؤجر الذي نسكن في بيته يسكن ملاصقًا لنا، وكأن غرفنا امتداد لغرفهم. يمكنني سماع كعب الفتيات المتأنقات مساء. وفي وقتٍ آخر يشاركني الأطفال المتخمين بالسكّر أحلامي وأفكار ما قبل الغفوة. يركضون ويقودون دراجاتهم ويضربون الزجاج بالكرة. لقد اعتدت على هذا الصخب لدرجة أني احتاج التعود تدريجيا على النوم في غرفة هادئة كلما ابتعدت عن غرفتي. من النافذة يصلني صوت الجدة والأم والحفيد -أو الحفيدة-. إنه الموعد اليومي لتعرضهن للشمس مع الرضيع. صوت طفل يلعب، وأم وجدة يناغينه. موعدهم ثابت ويتحرك قليلا مع تحرك الشمس وحالة الطقس. يؤنسني وجودهم وكأنني جزء من شرفتهم الممتدة. وتنتهي هذه الفقرة الممتعة بعودتهم للداخل مع أذان الظهر الذي يتبعه تشغيل آلات الحفر والتكسير في الحارة. الأرض التي كانت مثل مساحة تنفس أمام شارعنا تتحول تدريجيا لبناية ضخمة.

٢

لقد كانت النيّة الأساسية من توقفي العودة للداخل والتفكير في كلّ شيء.

ذهبت في العمق للإجابة عن الاسئلة التي تركتها مرشدتي بين يديّ منذ سبتمبر الماضي: ما هي التزاماتك في الحياة؟ وما هي الأشياء التي تفعلينها بحبّ وعفوية؟ بمجرد أن أوقفت زرّ التشغيل للمشاركة كأنني دخلت في فقاعة تخصني وحدي. حتى أثر الشبكات الاجتماعية تغيّر فورًا. تخلصت من هلع فوات الأشياء والقصص. والحقيقة أنني لم أنقطع تمامًا عن دخول حساباتي على الشبكات الاجتماعية. واخترت قائمة مختصرة من الأصدقاء، والفنانين والمدونين الذين أحبهم وأطلّ عليها من وقتٍ لآخر، فما من سبيل للاقتراب منهم إذا أقفلت كلّ الأبواب. الجديد في الموضوع أنّي اخترت المشاهدة والتحليل وحبس اللحظات بداخلي دون الحاجة للتعليق أو التفاعل، أو إعادة المشاركة. عدت لمتعة المكالمات الهاتفية الطويلة، وزيارات المنازل وفناجين القهوة الملونة. صحيح أن العالم كان تحت تأثير الجائحة، ولم يتغير شيء. لكن ذهني كان حاضر ومستعد ومتحمس أكثر. فتحت قوائم رغبات قديمة وهوايات ومشاريع. وعدت لإتمام الفصول المتبقية من كتابي الذي أملت أن يظهر للنور العام الماضي، وربما كان تأخيره فكرة جيدة!

٣

بجانب مكتبي لوحة ملاحظات أثبّت عليها القصاصات والصور العائلية والذكريات. وأحيانًا أترك عليها أوراق ملاحظات دوّنت فيها أفكار خلال العمل لأعود إليها.

في إحدى أيام نوفمبر وبينما أنا منهمكة بالعمل والكتابة التفتت للوحة وانتبهت لقصاصة مخفية خلف الصور والبطاقات. كتبتُ عليها بالإنجليزية: How would it feel without obligations or limits? كيف ستشعر بلا التزامات أو حدود؟ من الورقة أعرف أنها مكتوبة بين ٢٠١٧- وبداية ٢٠١٨. كيف عرفت؟ لأني أذكر دفاتر الملاحظات وأحبّها. أظنها كانت مرتبطة بورشة “كيف تصمم يومك المثالي؟” لا أذكر الآن، لكن السؤال اللطيف أعادني لسؤال المرشدة. وحاصرتني هذه الفكرة -بشكل جيد- خلال الشهرين الأخيرة من العام. إن التوقف عن المشاركة والكتابة والنشر في المدونة أظهر لي إلى أي مدى أصبحت منغمسة في القراءة والبحث اليومي عن مواضيع يمكنني الكتابة عنها. لم تكن مرتبطة باهتماماتي الحالية، والدليل أن توقف التدوين صاحبه القراءة في مواضيع مختلفة. هل اتضح لكم مقصدي؟ كنت أقول لأخواتي: هل أنا أقرأ هذا الكتاب لأنني أريد قراءته الآن أم لأنّ المتابعين يرغبون في معرفة محتوياته وما إذا كان ممتعًا؟ هل أنا أشاهد هذا الوثائقي أو المسلسل لأنني في مزاج للمشاهدة أم لأنه جديد وقد يكون نشر مراجعة حوله فكرة ممتازة؟ وهكذا كانت الأسئلة تستدرج المزيد من الأسئلة وأنا أتأمل وابتسم واكتشف. لقد حولني العمل في التسويق وصناعة المحتوى الرقمي إلى وحش أرقام! كانت مدونتي وحساباتي على الشبكات الاجتماعية مساحة لاكتشاف أفكار التسويق التي أطبقها على العملاء. أقول لقد نجحت الفكرة والدليل إليكم يا أعزائي هذه الاحصائيات المذهلة! التركيز في الموضوع سبب لي الغثيان في بعض الأوقات. عدت لأرشيف المدونة وبدأت بقراءة التدوينات للتحقق من صحة مشاعري واكتشافاتي. وجدت أدلة عملية كثيرة. المدونة في وقتٍ ما ستكون صالحة لدراسة حالة، كيف تحول هواية إلى عمل تكرهه، أو كيف تصنع ملف إنجاز من تدوينات شخصية وتتحول إلى روبوت. إلخ.

حسنًا بالغت! كثير من التدوينات لها طابع شخصي حميم وأحب العودة إليها لأتذكر أنّ التدوين بهذه الطريقة يشبه الكتابة في مذكرتي الورقية. تصلح هذه الفكرة لتكون بوصلة أو مرساة تعيدني كلما ظللت الطريق. والآن ماذا؟

٤

في الفترة الماضية تحوّلت بالكامل إلى التعلم والترفيه الشخصي. أقضي ساعات اليوم في العمل وفي المساء استرخي، واتابع المسلسلات، وأحيانًا أقرأ لو وجدت كتاب ممتع. بدأت أيضا القراءة المتخصصة حسب الحاجة، إذا تطلب العمل ذلك أو رغبت بتطوير جانب من حياتي. الكتب دائمًا فكرة جيدة، وتأتي بالنسبة لي قبل مشاهدة الفيديوهات والاستماع للبودكاست. أصبحت اتعامل مع العالم الرقمي من حولي وكأنه أداة مساعدة، أو مكمّل غذائي. وتعلّمت أن أحصل على القبول والمكافآت بشكل ذاتيّ، وبالتالي خفتت تدريجيًا الأصوات التي تطالبني بالنشر لجمع الأرقام والإعجابات لاحتفل في نهاية اليوم بمنجزي. لم أضع الكثير من الضغوط على يومي واخترت قائمة قصيرة جدًا أشطب نقاطها قبل الغفوة مساءً. أصبحت كمن يتعلم هواياته من الصفر، أعود لكلّ شيء بعين جديدة ومشاعر مختلفة. وكلما شعرت بأنني انزلقت لاكتناز المعلومات والركض بين الصفحات، اتحقق من بوصلتي واسترخي.

الشيء الممتع في الموضوع: ارتفع معدّل الإنجاز بشكل ملحوظ! والمهامّ التي تحتاج مني يومين إلى ثلاثة أجلس لإتمامها خلال ست ساعات أو أقل.

٥

مع نوفمبر تغيّرت أشياء كثيرة. استعدت شهيتي للحياة بعد أن فقدتها في منعطف ما خلال السنة. جربت أشياء جديدة، وعدت لحماس الانتظام على فكرة أو تغيير حتى يصبح عادة. لم يكن هناك ممانعة شديدة كما واجهت في الأشهر الأولى. هدوء عامّ وغامر. وتذكرت عندما بدأت السنة وفي مجموعة من الأصدقاء عبّر كل شخص عن هدفه من العام وأذكر جيدًا أنني قلت: السلام أكثر من مرّة، وربما أشرت للحبّ والبحث عنه. اليوم أنا أحبّ نفسي أكثر من أي وقتٍ مضى، وأشعر بالسلام بعد عاصفة طويلة. أعمل بمبدأ قيادة السيارة بلا مرآة خلفية Rear-View mirror، أذهب للأمام فقط ولا ألتفت. لأن الالتفات سيكون كارثيّ على التركيز.

٦

الفاصل الهادئ يضعك بمواجهة “دراما” الأيام التي تظن بأنك تتفادها بالتخلص من أشياء تحبّها أو استبعاد هواية أو نشاط تحمّله وزر هذا التعب والفوضى. تكتشف أن المشاكل لا تختفي بمجرد أن أغمضت عينيك أو وضعت اللحاف على رأسك. وللأسف في أحيان كثيرة ستستيقظ لتجدها تتمطى على حافة السرير وتنتظر الخروج معك. هل حللت كلّ مشاكلي؟ لا. لكن أعدت ترتيب مساحتي ورأسي وتنفست قليلًا وكتبت كثيرًا لأصل إلى مكان جيد في نفسي. بدأت التنظيف من زاوية الغرفة وانتهيت بزوايا قلبي. نظفت الخزائن، وأعدت تدوير كلّ شيء ممكن تدويره، وجمعت الملابس التي ستجد بيتًا جديدًا لها. وانتقل التنظيف من غرفتي لغرفة الحمام المشتركة بيني وبين أختي، وضحكنا كثيرًا عندما وجدنا علب شامبو ومنتجات للشعر انتهت من ٢٠١٣، والمفزع في الموضوع ليس كونها انتقلت من الجبيل للرياض وحسب، بل تنقلت بين ثلاث بيوت! وغيرها الكثير من العلب التي جاءت كهدايا، أو عرض تسويقي لنجربها ونكتب عنها وهذه حياة أخرى. أصبحت مساحتنا ونظيفة وتشبه تخففنا الذي نطمح إليه. تشبه أيامنا التي نحاول عبورها بأقل فوضى ممكنة. لقد أفرغت خزائني لدرجة أن الحديث في الغرفة أصبح له صدى خفيف. وفي أيام أخرى سيكون السؤال: متى نملأها مجددًا؟ لكنني عازمة ألا أفعل. وإذا أمكنني التخفيف من الأشياء حولي بشكل أكبر سأفعل. الحياة مع كورونا أجبرتني على تخصيص مساحة عمل أكلت ربع الغرفة تقريبًا، وربما مع تحسن الأوضاع (المادية والعالمية) سأبحث عن مكان أنقل له مكتبي ومكتبتي بحيث تكون مساحتي مخصصة للنوم والراحة فقط.

٧

يعيد الناس اختراع أنفسهم دائمًا.

فكرت في اللحظة التي سأقرر فيها العودة للحديث والكتابة -العلنية- من جديد. بعد الثامن من أكتوبر والتدوينة الأخيرة قبل الانقطاع، فكّرت في التدوين كلّ يوم. كل شيء أمامي كان موضوع مهمّ للتدوين وكلما عبرت فكرة لذيذة ذهني واستيقظ شعور مخالف للضجر الذي أطبق على نفسي أضحك. أضحك لأنّني ولو رغبت باستدعاء كل هذه القصص لم تأتِ. وبمجرد أن ذهبت لمكان آخر، مكان يغلب عليه الصمت والتأمل، استيقظت الحكايات وتجمّعت في حلقي!

هذا الأسبوع أكملت مدونتي ١٣ عامًا. أحبها كثيرًا ولم أطق الابتعاد لأكثر من شهرين عنها.

فأهلًا بالعالم من جديد.

.

.

.

الفصل ٣٨: إلى لقاء

ظهرت الفكرة في البدء مثل إعلان لعطلة ساحرة، أو بوستر دعائي لشواطئ معزولة بنخيل وثمار جوز هند وسيّاح رائقون ينظرون للأفق. قاومتها طويلًا. وكنت أحيانًا أفكر ماذا لو فعلتها في ظل الجائحة؟ شاهدت الكثير من الأفلام والمسلسلات وقرأت القصص التي يستغل أبطالها كارثة عالمية للاختفاء تمامًا والعودة بهوية جديدة. كانت الفكرة درامية لذلك لم أعطها الحيز الذي تريد. بالإضافة إلى أن شهور الجائحة الأولى وضعتني في مأزق، مأزق الرغبة بالكلام والمشاركة والانشغال عن كل ما يحدث في العالم بالتدوين. مرت الأيام وبدأت رحلتي الخاصة في الاستشفاء والبناء. مرت الأيام واكتشفت الملفات المفتوحة والمرفوعة على رفّ أقصى في روحي. حان وقت علاجها وإقفالها.

لقد كانت عشرة أشهر كابوسية، وسعيدة، وملونة في نفس الوقت. هذا التأرجح لم يكن بسبب تأرجح مشاعري أو خلل فسيولوجي أثر على عقلي. إنها الحياة! قرأت قبل مدة مقالة أضعت الطريق إليها واحتفظت بجملة منها كتبتها في مذكرة اليوميات “يعيد الناس اختراع أنفسهم دائمًا.” وكأنني أعطيت نفسي الإذن بالبدء. كتبتها في يونيو الماضي بلا تعليق، فقط الجملة وتاريخ اليوم وتركتها. لقد توقعت كل هذا منذ سنوات، أن أصل للحظة مفصلية كهذه.

في البدء كان الانتقال لمدينة جديدة، ثم تغيير مسار العمل، ثم تغييره من جديد بشكل كلّي وتوديع كل ما يربطني به – إلا إذا استثنيت الاستشارات والتدريب-. لقد كبرت، وتغيرت، وتعلمت، وتوصلت لمفاهيم جديدة. يعيد الناس اختراع أنفسهم في الجانب المهنيّ بشكل دائم، بشكل هادئ، يبدأ بتغيير السيرة الذاتية، عدة دورات تدريبية هنا وهناك، وفرصة جيدة تتيح لهم القفز لمسار عمل جديد.

لكن ماذا عن الجانب الشخصي؟

أمرّ بأوقات صعبة منذ بداية العام، أحاول تفكيك نفسي وإعادة تركيبها، أحاول فهم نقاط الانفجار، لماذا حصل هذا؟ وكيف يمكنني علاجه؟  حصلت على مساعدة جيدة. وهذه المساعدة تدفعني للتفكر، والتأمل، وترتيب الأولويات. وقد وصلت لقمة الهرم الآن. احتاج فاصل تنفس طويل! أشعر بالضجر من الكتابة، والمشاركة، والتصوير، والحديث عن اليوميات والتجارب، كلها مجتمعة. أشعر بالضجر من الركض بين التغريدات ونوافذ انستقرام البراقة. لم استخدم هذه الكلمة لمرتين متتالية ربما لأنني كنت أخجل من الاعتراف بالملل. لكن هذا هو الشعور الغامر الآن.

احتاج فاصل تنفس طويــــــــــــــــل.

سأتوقف عن التدوين، والتسجيل، وتصفح الشبكات التي أجدني في نهاية اليوم ألهث حرفيًا من كمية المعلومات التي أثقلت كاهلي بها. هل من وقت محدد؟ لا أعلم! والآن تذكرت في بداية ٢٠١٧ عندما صرحت بأنني سأترك تويتر بلا عودة، رجعت للتدوينة وضحكت من حماسي وجهلي لما سيحدث لاحقًا. عدت وبقوة. لذلك لن أضع لنفسي إطار زمني. أنا لا أكتب هذه التدوينة بحثًا عن تعليقات أو محاولات لتثنيني عن الخطة، لا أبدًا. هذه رسالة شكر واحترام للقراء والمتابعين، وهي فرصة لأشارككم محاولتي في إيجاد طريقة أفضل للعيش.

وأنا احتفل بعيدي الثامن والثلاثين، قررت الابتعاد لإيجاد إجابات لنفسي. لإعادة اختراعها من جديد، لأحبّ نفسي، وأسامحها. ستكون المدونة متاحة لقراءاتكم ورسائلكم، كذلك المحتوى الذي نشرته سابقًا على تويتر، وانستقرام. سأبقي عليها لأنها مجتمعة حصيلة ١٣ عامًا من القصص والصور والتجارب التي ابتهج شخصيًا بالعودة إليها.

شكرًا لكم، شكرًا لكل الحبّ والمتابعة والدعم والتشجيع.

.

.

.

أمسيات ذات معنى

نقضي حياتنا ونحن نلتقي بالآخرين لأغراض كثيرة، لكنّ السؤال المهم إلى أي حد هذه اللقاءات أو الاجتماعات تكون ناجحة؟ عندما ننوي دعوة مجموعة من الأصدقاء أو الأقارب غالبا ما نركز على أمور لوجستية، ما الأطعمة التي سنعدها؟ أين سيكون الجلوس؟ ماذا نرتدي؟ كم عدد المدعوين؟ ونادرًا ما نفكر في هذا اللقاء على مستوى أعمق، كيف يتواصل الناس مع بعضهم؟

قبل سنتين تقريبًا تعرفت على كتاب بريا باركر “The Art of Gathering” وكان اكتشاف مهمّ في حياتي، ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث عن طرق أفضل لتحسين جودة التواصل واللقاء بالآخرين. سواء كان ذلك في اجتماع عمل، أو أمسية عشاء.

استمعت للنسخة الصوتية من الكتاب وهي متوفرة في موقع Audible وفيه كثير من التفاصيل والأساليب المدعمة بدراسات استندت عليها أفكار باركر لتصميم اللقاء المثالي. قبل أن أوجزها لكن أرغب بالتعريف عن بريا باركر لوضع خبرتها أمامكم وربطها بالكتاب الذي عملت عليه.

بريا باركر ميسّرة لقاءات ومستشارة استراتيجية قضت حوالي ١٥ عامًا في مساعدة القادة والمجتمعات على خوض النقاشات الجادة، والمحادثات المثمرة في مجالات مرتبطة بالمجتمع والسياسة والهوية والأعراق، كما تلقت تدريبا متخصصًا في حلّ النزعات.

يستند كتاب باركر على الأفكار التالية:

١- اللقاءات-أو التجمعات- مهمة جدًا للتجربة الإنسانية، لكننا نغفل التفكير بها بشكل جدّي ويذهب وقتها -للأسف- في اتجاه غير ملهم وأقل من عادي. وبدلا من التفكير في حلول أفضل لتحسين هذه التجربة، نستمر على نهجنا الذي أثبت عدم فعاليته.

٢- يعتمد اللقاء الناجح على وضوح الهدف منه لجميع المدعوين. لماذا تجتمع العائلة كل خميس في بيت الجدّ؟ لماذا يلتقي الأصدقاء مرة كل أسبوعين؟ لماذا حدد المدير الثالثة مساء الأحد لاجتماع الأسبوع؟ والقائمة تطول. الكثير من لقاءاتنا بُنيت على عادة، أو اختيار آلي، ومهما تقدم الوقت نستمر عليها دون مراجعة لجدواها ومخرجاتها. سيفكر القارئ هنا: لماذا علينا أن نجد هدفا لكل شيء؟ هل يجب تحديد جدوى ومخرجات للقاء عفوي؟ لماذا تصعبون الأمر؟ وسأقابل هذه الأسئلة بسؤال مهم: هل يهمّك وقتك؟ وأفكر أيضًا في الحفلات الاجتماعية التي يقيمها الناس لسبب تقليدي آلي وتكلفة عالية دون تفكير “لقد تعودنا على ذلك”. التفكير في سبب الاجتماع بعمق سيمنحنا خارطة للقاء ممتع. هل السبب هو إحاطة نفسك بأحبتك؟ إذًا عشاء حميم ومختصر سيؤدي الغرض. إذا كان الهدف هو التعرف على مستجدات حياتهم، اختر جلسة هادئة بلا صخب، وبطعام بسيط خالٍ من التكلف.

٣- استعدّ لاستبعاد بعض المدعوين من القائمة. تتحدث باركر عن نقطة درجنا على التفكير بها: كلما زاد عدد المدعوين، كلما كانت الحفلة ممتعة. وهذا للأسف مفهوم غير مناسب بشكل دائم. إذا أردت أن تحقق لقاءاتك هدفها المنشود، قد يعني ذلك اختصار عدد الضيوف وانتقاء الأشخاص الذين يشعرون بالانسجام مع بعضهم البعض. قد يكون ذلك صعب في البداية لكن مع الاعتياد ورؤية النتائج ستشعر بالحماس لتكرار ذلك. هذه الفكرة تذكرني بعلاقاتي وصداقاتي المتنوعة. قبل اللقاءات الكبيرة أتواصل مع المدعوين وأبلغهم بأن الهدف من اللقاء كذا، وأنّ س من الناس سيكون هناك، هل هذا مريح ومناسب لك؟ هذا التساؤل اللطيف قد ينقذك من حرج دعوة ضيوف لا ينسجمون مع بعضهم أو يفضلون اللقاء معك في ظروف مختلفة.

٤- المضيف الذي يمارس سلطته يدير لقاء رائع مقارنة بالمضيف المسترخي أو الكسول. والمثال الذي سيقرب هذا المعنى للأذهان بشكل جيد: نحن نفضل أن نترك للضيوف حريتهم في التصرف، ونأخذ مكانًا جانبيا بعيدًا عن إدارة اللقاء أو الحفلة. “اخدم نفسك” “اجلس في أي مكان” “عرفوا بأنفسكم إذا شئتم” وغيرها من الاقتراحات التي تعفيك من بذل مجهود لضبط اللقاء. لكن الكاتبة تقترح ممارسة “السلطة” بطريقة هادئة. اطلب من ضيوفك الجلوس بطريقة محددة حول المائدة، أطلب منهم التعريف بأنفسهم في حال التقوا للمرة الأولى، ساعد المترددين في المشاركة في مسار الحديث وتنقل بينهم بالتساوي. قد يبدو ذلك غير منطقي في البدء، لكنها أفضل طريقة لتمنح كل الحاضرين القدر نفسه من المتعة.

٥- وضع قواعد وقوانين واضحة للقاء أو الاجتماع سيحررك بشكل مدهش! والقوانين اكتسبت سمعة سيئة مع الوقت، فنحن عندما نقول قوانين أو قواعد نتذكر المدرسة، الوالدين، والضجر والصرامة. هذه سمعة سيئة لكنها ظالمة. إذا اخترت قوانين تحكم لقاءاتك بشكل ذكيّ ستحصل على تجربة ممتعة وخلاقة. لنفكر في بعض القوانين التي تعزز من تواصل الحضور وقد مررت بها في مناسبات عائلية وعملية عدة، منها الحد من استخدام الجوال خلال الجلوس والحديث. أو دعوة الضيوف لسرد القصص الممتعة والكلّ يشارك، أو رواية تجربة مؤثرة. هناك لقاءات أخرى تتطلب منك عدم التقاط الصور أو تسجيل الحديث لتكتفي بالحضور الكامل. من جهة أخرى ينبغي ألا نخلط بين هذا النوع من القوانين “الجيدة” والنوع الذي يتسبب بالضغط على الضيوف، كتحديد ارتداء لون ملابس معيّن! أو إحضار أطباق محددة حتى وإن لم يجيدون تحضيرها. أرجو أن الفكرة اتضحت لك.

٦- الاحتفاء بالضيوف واستقبالهم باهتمام سيحدد مسار اللقاء بالكامل. لا يوجد أجمل من دخول ضيوفك لمكان معدّ لاستقبالهم، وتحيط بهم مساحة مرحبة ومهيأة. استغرب أحيانا من المضيف الذي يحدد موعد وصولك، ويستعجلك أحيانًا وعندما تصل على الموعد تجده يجري في كل الاتجاهات، غرفة جلوس تعمّها الفوضى وكأنك داهمته بلا موعد.

٧- تصميم اللقاءات التي يظهر فيها الناس ذواتهم الأصيلة التلقائية ليس ممكنًا وحسب، بل سهل جدًا! هذه الفكرة الأهم بنظري وهي التي دفعتني لتضمين أنشطة مختلفة لإيجاد مساحة لقاء حقيقية مع الآخرين. أحد هذه الأنشطة استخدام الاسئلة العميقة ومشاركة الإجابات لتظهر جوانب مختلفة من حياتنا. يظهر خوفنا، يظهر ضعفنا، ويظهر استعدادنا الدائم للاكتشاف والتغيير. الأمر أشبه باستخدام الـ Prompts أو المحفزات للحديث. قد تكون أداتكم بطاقات ألعاب ذكية، أو موقع بـ١٠٠ سؤال للتعرف على الأصدقاء، أو تمارين كسر الجليد إنما أكثر حميمية. هذا كلّه سيحدث في جوّ عفوي عندما تبدأ بنفسك وتشجع ضيوفك على القيام بالمثل.

٨- ختام اللقاء مهمّ كبدايته. في كثير من اللقاءات تأخذ الأمسية منحى مختلف ويخفت الحماس فجأة. تشارك باركر مثال لتوضيح الفكرة في الحانات ينادي الساقي قبل موعد الإغلاق Last call! والنداء الأخير هذا يعطي الجميع فرصة للاستعداد للخروج، أو طلب مشروب آخر، أو إنهاء محادثة عابرة مع زائر آخر. بكلّ الأحوال هذا النداء يثير انتباههم لنهاية الأمسية. ويمكنك بالطبع تطبيق مبدأ النداء الأخير في لقاءاتك، خصوصًا إذا كنت تعاني من المشكلة الشائعة بعد تقديم العشاء: هناك الضيوف الذين يستأذنونك خجلًا ليغادروا بعد أن أعياهم السهر، وهناك من يفضّل البقاء والسمر. لعلاج هذا الموقف تقترح باركر شكر الجميع بعد العشاء، وابداء تفهمك لمن سيغادر، ودعوة البقية للانتقال لغرفة الجلوس بعيدا عن فوضى الطاولة. ذلك يعطيهم الإحساس بقرب موعد المغادرة. تذكرت تقليدًا محليًا بعد تناول الطعام، ألا وهو إشعال البخور ودورانه في المجلس بين الحاضرين، وغالبا هذه طريقة تنبيه لطيفة فـ “ما عقب العود قعود” والضيف حينها يعرف أن الأمسية شارفت على الانتهاء. هناك الكثير من الأساليب اللطيفة لإنهاء اللقاءات، وأحبّ كثيرًا اللقاءات التي يصلني في دعواتها موعد المغادرة بوضوح. كما أنّ استشعارنا الذاتي وإحساسنا بالآخرين سيجعلنا نفكر في الوقت المتبقي من يومهم وكيف سيقضونه.

بدأت أنا والصديقة مها البشر مع مطلع العام الماضي -٢٠١٩- أمسية شهرية نلتقي فيها ونتشارك مستجدات حياتنا، نطهو العشاء سوية، ونقضي وقت غنيّ بالتجارب والمطالعات. أحبّ هذا اللقاء لأنه مكثف وواضح المعالم، فلا نقضيه في الشكوى، أو الحديث السلبي عن الآخرين، وعندما نناقش ما يشعرنا بالضيق فلأننا نبحث بوعي عن حلول ذكية له. التزمنا بهذا اللقاء حتى داهمتنا جائحة كورونا مع بداية هذه السنة، وعدنا إليها تدريجيًا عندما سمحت الظروف لذلك. أحبّ موعد اللقاء مساء الجمعة، والأيام التي تقودنا له. أحب اختيار الوصفات ومشاركتها لنرى كيف تتفق أو تختلف فتعطي مذاقًا رائعًا. أحب تبادل الكتب، ومشاركة الصالون الدافئ مع أطفالها، أحبّ صحبتنا التي تشعرني بأنني “غنية” معنويًا. لقد جسدت هذه الأمسية قواعد باركر سواء خططنا لذلك أم لم نفعل. وأدعوكم لتجربة الاستماع/أو قراءة الكتاب وتطبيق مقترحاته بينما نعيش واقع جديد يفرض علينا اللقاء بشكل مختلف.

سأترككم مع فيديو لبريا باركر تجيب فيه على السؤال: كيف يمكن لنا أن نغيّر لقاءاتنا اليومية من أجل التركيز على صُنع مغزًى بالتواصل الإنساني؟

.

.

.