الربع الثاني

بعد يومين من الآن ينتهي الربع الثاني من السنة، وبالنسبة لي شخصيًا ستة أشهر كاملة مضت وأنا بنصف وعي! ومع أنّ الحياة تعود تدريجيًا لما كانت عليه قبل أن تغمرنا عاصفة الجائحة، وتغمر العالم بأكمله. إلا أنني أقولها بصراحة: لا أشعر أنني بخير.

ممتنة للصحة، والأمان، والعمل الذي يوقظني كلّ يوم، ممتنة لكل الأشياء التي أذكرها ولا أذكرها. لكنّ شعورًا بانعدام الجدوى والتراخي يحيط بي منذ مطلع الشهر. ألقيت باللوم على منازل القمر، وهرموناتي وتقلباتها الشهرية، والتركيز الشديد في العمل وتعلم لغة جديدة ثلاثة أيام في الأسبوع. لكن لا، لو كانت هذه كلها السبب لاستطعت وضع يدي على المشكلة. استيقظ في الصباح وعزيمتي صفر، أودّ لو كنت أختي التي تنتظر تسجيل الجامعة، أو طفل الجيران الذي يعبر عن كل شيء بالبكاء ورفس الأرض وتلبّى كل رغباته. أود لو بقيت ساكنة اتأمل السقف حتى أصل لأساس مشاكلي وضعفي. لكنني استيقظ واعبر الغرفة للباب وتبدأ حياة الروبوت. اسمع بودكاست Before Breakfast مع لورا فاندركام في محاولة لإشعال حماسي لليوم. أرتب فراشي وأثني اللحاف بزاوية مضبوطة، أضرب الوسائد وأعود للسرحان من جديد: هشة وباردة تنتظر عودتيأطحن القهوة، أغلي الماء، أحمل طبق الفطور والكوب وأصعد الدرج. الشيء الذي يلفت انتباهي شاشة الأسهم أمام والدي، يوم خضراء ويوم حمراء. جلسته هي نفسه، وتركيزه ونظارته، وامتعاضه، لكن شيئا ما يختلف كل يوم. أعمل بين العاشرة والثانية، آخذ استراحة، أعدّ غدائي واستمتع عندما تنتصر وصفتي وتحوز على إعجاب حصة فنأكل سويةفي أيّام ينتصر الوعي لأجرب أشياء مختلفة، أخرج لزيارة ربى، أو السوبرماركت، وأعود لغرفتي من جديد. تصلني باقة ورد هدية من صديقة أخرى والتقط لها الصور من كافة الزوايا. احتفل بها قليلًا ثمّ أعود لحالة النظر في الفراغكتاب ممتع على طاولة بجوار السرير لكنني لم أتمكن من اتمامه، وأوجّه لنفسي كل يوم نفس الأسئلة: حسنًا، إذا كان هذا ضجر كيف يمكنك التغلب عليه؟ لكنه ليس كذلك. هذا ليس ضجر، هذا انعدام دوافع. ولن ينفع معه تغيير وقت العمل، أو البحث عن هوايات جديدة، أو تناول وجبة الغداء بدلًا وجبة الفطور مثلا.

لكن، من جهة أخرى قدرتي على المضي في الأيام تدهشني، هل هذه أنا أمّ ظلي؟ هل هذه أنا أو نسخة احتياطية مني؟

نهاية الأسبوع الماضي دعوت قريباتي لنلتقي للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر أو خمسةما عدت أذكر، وكان حماس الاستعداد لوصولهم وقود أسبوعي. أنجز العمل، وأفكر في التحلية التي سأقدمها، وطبق الأجبان، والمحمّرة التي أعدها بحب. غرقت في سعادة ممتدة لعدة ساعات، وما إن استيقظت في اليوم التالي وتأملت السقف من جديد، أدركت أنني عدت للدائرة نفسها. أعرف أن هذه الحالة تزورني كل عدة سنوات، عندما أفقد كل خططي وتضيع البوصلة. لكنها تحدث هذا العام، وتضاعف أثرها لأسباب كثيرة منها الجائحة والحجر الطويل. واليوم، والحياة تعود تدريجيًا لسابق عهدها، أمرّن نفسي من جديد على التواصل الاجتماعي، وأحاول التخفف من قلقي وهلع التواجد في أماكن عامة بعد أن دربت نفسي على البقاء وحيدةأكتب كلّ يوم، وأدون مشاعري لكن في أحيانٍ كثيرة أشعر بأن التأمل الهادئ والغفوة أفضل من اجترار أفكاري المؤذية. كتبت هذه التدوينة لأنفض عني هذا الانزعاج، وأمارس حيلة قديمة مع نفسي: كلما تحدثت عن الأشياء المزعجة غادرت أسرع.

أريد ألوان كثيرة، ووجوه أليفه والكثير من القصص والأحاديث، أريد دعوات فناجين قهوة لأن الحديث معي مختلف، أريد رسائل مكتوبة بحبّ واهتمام، أريد أن أكون أقلّ افتراضية، وأقرب لنفسي وللعالم.

.

.

.

هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

تأخرت هذه التدوينة كثيرًا، والسبب الرئيسي والوحيد: شُغلت بنفسي!

في وقتٍ مضى كان التفكير في التدوين مرتبط بقرصة الذنب المتكررة اكتبي اكتبي اكتبي. بغض النظر عن الوضع والمزاج وكل ما يحدث حولي. قاومت هذه المرة لأنني رتبت الأولويات جيدًا وكانت المدونة في نهاية السلسلة. أكملت ثلاثة أشهر في وظيفتي الجديدة، وقضيت شهر رمضان طيّب ومنتج.

كان العيد هادئًا جدًا وقاومت كسل الاحتفال بسبب العزلة، استيقظت باكرًا وارتديت ملابس جديدة وخبزت لعائلتي رغيف العيد الشهي والتقطنا صورة عائلية وهذا التقليد غاب طويلًا عنا.

خلال الفترة الماضية شاركت نموذج لتلقي اسئلتكم والكتابة عن إجاباتها، كانت الفكرة مبدئيًا ممتعة ولم أتوقع أن يغمرني كمّ هائل من الاسئلة. بعدها قررت تصنيفها وتقسيمها وتحويلها إلى تدوينات مصغرة تبدأ من هذه التدوينة.

للاسئلة صياغات مختلفة، لكنها تجتمع في التالي:

  • ما هو نظامك اليومي؟
  • كيف تقسّمين وقتك؟
  • كيف أضع نمط حياة يحقق أهدافي بحيث يتكوّن لدي روتين وعلى مدى سنوات يحقق نتيجة كبرى؟
  • ما سرّ الاستمرارية وكأن لا خيار آخر غير الاستمرار؟
  • كيف أصنع عادات تستمر طويلًا؟
  • هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

أحببت هذه الاسئلة كثيرًا، ربما لأن نمط الحياة وتصميم اليوم من أقرب الأشياء لنفسي. وربما أيضًا لأنني عانيت لسنوات حتى حصلت على ما يشبه النظام أو الروتين. في البداية يجب أن أخبركم بأنني لم أكبر في منزل يهتم بالروتين الصارم، وفي شريحة كبيرة من الوقت اختار والداي أن يتركا لنا الحريّة في إدارة يومنا. المهمّ جدًا هو النوم في وقت محدد، وإنجاز الواجبات المدرسية. عدا عن ذلك كل شيء امتلكنا حريّة تجربته وعيشه. في أيام الأسبوع نعود للمنزل من المدرسة، نتناول الغداء، ونقضي النهار كله في مشاهدة التلفزيون،وإتمام الواجبات، واللعب في الخارج. وفي الصيف امتدت ساعات اللعب والاكتشاف واختلطت الأيام بلا نهاية. وإذا كانت العطلة الصيفية في بيت الأجداد، نستمتع بالفوضى التي تأتي مع كثرة الناس والمُتع.

إذًا ما الذي ضبط هذا كله؟

لم اكتشف أهمية الروتين والنظام إلا في مرحلة الدراسة الجامعية. بعد انتهاء المدرسة والجدول اليومي للحصص والواجبات المفروضة علي، أصبح اليوم كله ملكي واتحمل مسؤولية إدارته ولا أحد سينقذني. لم تعد والدتي توقظني للمدرسة في الصباح ولم تعد لتذكرني بتناول الغداء أو حلّ الواجبات! الضربة الأولى كانت السهر الطويل أيام الدراسة والنوم في المحاضرات والخجل من الاستاذات والزميلات، ثم شهدت الضربة التي أوجعت الطالبة المثالية: الرسوب! للمرة الأولى في حياتي أمر بهذا الموقف، رسوب وإعادة الدراسة أو الاختبار من جديد والانتظار لسنة أخرى. أيضًا بالرسوب هذا فقدت مرتبة الشرف. الزلزال الكبير أجبرني على إعادة حساباتي. بدأت تدريجيًا بضبط ساعتي اليومية واستخدام المنبّه لتذكيري بفعل الأشياء. لم يكن الموضوع لطيف أو محبب لكن بعد فترة أصبح أسهل حتى وصلت لإلغاء المنبه والاعتماد على منبهي الداخلي. ضبطت خلال فترة الدراسة الجامعية نومي، ودراستي، ونشاطي البدني، وتركت مساحة للتعلم الحرّ والقراءة واكتشاف الكتابة والانطلاق لحياة صناعة المحتوى التي أعرفها اليوم. بعد انتهاء الدراسة الجامعية، عدت للفوضى مؤقتًا واستعدت اتزاني. وكلما مررت بمنعطف جديد أو تجربة حياتية وعملية مختلفة يهتز النظام وأعود لاكتشافه من جديد. مررت بتغييرات كثيرة، منها الانتقال لمدينة أخرى للدراسة من جديد، والعيش مع أقاربي، وهذا تغيير يتطلب نظام جديد أيضًا. من ثم بعد عامين العودة للمنزل والبدء بوظيفة بدوام كامل بعد ثمان سنوات من العمل المستقل. هناك أيضًا التغييرات الموسمية التي تأتي مع مشاريع عمل مرهقة اتفرغ لها بالكامل. والتغيير الأكبر هو انتقالي وعائلتي للرياض قبل خمس سنوات. كانت مرحلة تعلم جديدة وتنظيم مختلف لكنها الأحبّ لقلبي. قد أقضي ساعات كثيرة في كتابة تفاصيل هذا التغيير، لكنّه بشكل عام حدث بالتدريج. ولو نظرت له من الأعلى سيكون قائمًا على: التجربة، والاكتشاف، والخروج من منطقة الراحة.

كيف نبدأ؟

في المرحلة الأولى وقبل اعتماد أي خطة لتنظيم الوقت تخيلوا يومكم المثالي، كيف تريدون قضاء ساعات اليقظة بين العمل والترفيه والنوم؟

القائمة تشبه شيء كالتالي:

  • بدء الصباح بحماس.
  • إنجاز مهامّ العمل.
  • وقت مخصص لتجهيز أو تناول وجبات الطعام الشهية والمحببة.
  • قضاء وقت مع العائلة بذهن حاضر.
  • الأعمال المنزلية.
  • وقت للتمرين أو المشي.
  • القراءة أو الاطلاع والاكتشاف.
  • مشاهدة البرامج أو المسلسلات.
  • الاستعداد للنوم.
  • النوم الكافي.

هذه القائمة عامّة ولا أنصح بتخصيصها (على الأقل في البداية) يهمّ معرفة ما هو شكل اليوم المنشود، ومن ثمّ وضع التفاصيل حسب كل يوم من أيام الأسبوع، أو الموسم. وهذا ما أفعله بالتخطيط الأسبوعي في مذكرتي.

إذا كانت حياتك فوضى عارمة، لا تيأس! البدء في هذا التنظيم قد يبدو متعب قليلًا أو بلا فائدة لكنه ضروري وسيغير حياتك للأفضل.

الفترة التالية

إنشاء جدول يومي، حتى لو استعنت بجدول جاهز من الانترنت أو من تجربة صديق أو قريب (في هذه الحالة جربت أتابع المقربين مني وانتفع بعاداتهم الإيجابية). يمكن أن يكون الجدول مرن في البداية، يعني مثلا لو قررت الاستيقاظ في السابعة صباحًا وتأخرت حتى الثامنة ليست كارثة! ما زال بإمكانك الاستعداد وتناول فطور جيد قبل البدء بالعمل في التاسعة. وقياسًا على ذلك كل المهام والعناصر المحددة في جدولك.

ما هو الشيء الذي يمكنه إحباطك في هذه المرحلة؟ أن تقرر إنجاز كل شيء بمثالية، أو ما اسميه تناول الحياة دفعة واحدة“. لا تندفع من الصفر للمليون، اهدف لتحسين حياتك بنسبة معقولة في البدء واستمتع بالنتائج الأولية. مثال: لو ما تمرنت أبدًا لا تبدأ بتمرين مدته ساعتين أو باستخدام جهاز رياضي جديد. غيّر تدريجيًا من عاداتك واعتمد المشي الخفيف أو صعود الدرج كل ساعة والنزول مثلا.

في هذه المرحلة أيضًا يمكن اعتماد أمرين مهمين: النوم والاستيقاظ في وقت محدد بشكل يومي حتى تضبط كل شيء بينهما.

وقد تعود في هذه المرحلة للقائمة التي دونتها في المرحلة السابقة لتحقيق يوم مثالي، واعتمد عنصرين أو ثلاثة منها كل عدة أسابيع حتى تصبح عادة ثابتة وانتقل لغيرها وهكذا.

أيضًا ستتمكن من التعرف على نفسك أكثر في هذه المرحلة، الثوابت التي ظننت أنك لن تغيرها في يومك ستغيرها، هل كنت تظن إنّك تكره الصباحات؟ أعد اكتشافها! هل ظننت أنك لن تحصل على وقت للقراءة يوميًا؟ جرب. ومن الممكن أيضًا مشاركة هذا التغيير مع شخص أو مجموعة أشخاص حتى يثيرون حماسك ويقدمون لك الدعم الذي تحتاجه.

إذا لم تكن التدوينة هذه كافية يمكنكم الاطلاع على مواضيع مفصّلة في مدونتي تناولت موضوع بناء العادات والطقوس والتدرج فيها وهي:

 

 

.

.

 

الربيع في مكان آخر

١

تقول الرزنامة بأنني أكملت الشهر الثاني في وظيفتي الجديدة. مرت سريعًا، ولأول مرة أشعر بأن العمل يأخذ دور ثانوي في حياتي. أتابع وأنجز وأقدم المهام تامة وعلى أكمل وجه، وأحصد الملاحظات التي تزيد من حماسي لبدء يوم جديد. عدّاد الأيام الذي لم تفوت موضي حسابه يشير بأننا نقترب من اليوم الخمسين في العزل. خرجت خلال هذه الفترة مرتين فقط وكلها للضرورة القصوى وشراء الحاجيات الأساسية من السوبرماركت. الأيام الماضية تعرفت على فكرة إننا نحرم أنفسنا من متع بسيطة، ونغرق في أمور نرى فيها الحياة كلها. هذا الهدوء الإجباري وضعني أمام مرآة ضخمة وكل يوم أفكك حياتي وأمدها على بساط أبيض، وأعيد تركيبها. جاءت أزمة كورونا في وقت التداعي. وفي البدء قلت لنفسي: عظيم هذه عاصفة أخرى ستقضي على ما تبقى من جدران. وما حصل أنّ رحلة التشافي بدأت في تلك اللحظة تمامًا. لم يعد هناك مهرب، لم يعد هناك رفوف أرفع عليها القصص والمشاكل وأنساها. أنا وأنا وأناهذا الحبس الثمين وضعني أمام حقائق كثيرة جمّلتها وخبئتها، وتجاهلتها. في البدء كانت حواراتي الداخلية تشبه شجار مع عدو أو آخر شخص ترغب في البقاء محبوسًا معه. ثم هدأت المعارك تدريجيًا. وصلت لمنطقة في المنتصف عندما أيقنت بأن البقاء هنا سيطول. من الخطط الإيجابية الذكية التي بادرت بها في بداية شهر مارس ترتيب غرفتي، ومساحة العمل الخاصة بي. رتبت المكتبة، وطاولة الزينة وأحضرت مرآة كبيرة حقيقية وليست مجازيةلأرى نفسي كل يوم وأنا استعد لبدء العمل، وأثناء التمرين، وفي اللحظات التي أشعر بكراهية الذات قليلًا واحتاج لتذكير بأنّ الأحاديث المؤذية تنسج في رأسي وتبدأ منه وفي الغالب ليست حقيقية. وبذكر الصورة والانعكاس، خلال الأشهر الماضية وصلت إلى مكان غير محببّ، اللحظة التي أنشغل فيها عن نفسي، وتزداد الفوضى ويزداد وزني، والحلّ؟ تجاهل المرآة تمامًا وارتداء الملابس التي تخفي معالم التغيير والانغماس في كل شيء لا يرتبط بوجودي الفيزيائي على الأرض. هذه العودة للذات علمتني أن أحبّ مساحتي الخاصة من جديد ولا أفكر في الهروب منها. أحب الهدوء الذي يصنعه الباب المغلق، والقصص التي ينسجها الجيران في النهار مع نافذتي المفتوحة.

وهذا الحجر أعادني إلى:

  • االقراءة بنهم: قرأت خمسة كتب خلال الشهرين الماضية وهذا رقم قياسي منذ سنوات.
  • العودة للتمرين اليومي: ساعتي الرقمية تقول بأنني تمرنت في أبريل ١٨ يومًا، الرقم الأعلى خلال الستة أشهر الماضية هو ٥ فقط.
  • تناول الطعام بشهية وليس لملء فجوة لا نهائية من الضجر.
  • خسارة الوزن: ٤ كيلوغرامات، وفتحت الخزانة لارتداء ملابسي المحببة، وتدريجيًا أحبّ صورتي في المرآة.
  • التدوين الكتابي لمشاعري وتفاصيل الأحداث اليومية.
  • إتمام جردة رقمية لملفات أجهزتي، والحسابات التي أتابعها على الشبكات الاجتماعية، والروابط التي سأزورها لاحقًا ولا أفعل.

بالأمس جلست قبل الأذان في باحة المنزل الأمامية، أصوات الشارع والغيم الذي يركض، وقبل دقائق من رفع الأذان رائحة اللقيمات والخميرة والقلي تفوح تدريجيًا. ابتسمت للفكرة، هذه اللحظة التي تشبه شارة انطلاق سباق، نتشارك في الحبسة ونتشارك المذاقات، ولكلّ منّا حربه الداخلية اليومية التي يختار إما أن يكسبها أو يستلقي ممدًا على أرض المعركة بانتظار النهاية. أعيش أيامي بالأمل واتوقع أن ينتهي كلّ هذا قريبًا، وعندما يحدث ذلك لن أفرط بلحظات الاستنارة التي وصلتها ولا بهذا القرب الذي أعيشه مع نفسي مهما كانت المغريات.

٢

أشياء لطيفة جربتها مؤخرًا:

.

.

.

اللوحة للفنان جيرارد ريختر Gerhard Richter

١٢-١٩ أبريل

١

خلال الأسبوع الماضي شغلتني فكرة صغيرة. وامتدت منها تأملات طويلة واسئلة لمن حولي. هل تذكر أول نجّار عرفته في حياتك؟ أذكر إنه جدّ هايدي (الشيخ باللحية البيضاء في مسلسل الرسوم المتحركة). جدّ هايدي أول نجار عرفته في حياتي، تذكرت المشهد وهم يسكنون القرية عندما ينزلون من الجبل في موسم الثلوج والبرد. نشارة الخشب، والقطعة التي تحولت بين يديه إلى غزال، ومكعبات للعبومن تلك المشاهد انطلقت في رحلة عبر الذاكرة. أول مرة أعرف أن الجبنة تذوب مع الحرارة على رغيف الخبز، أول أصدقاء عرفتهم (هايدي وبيتر)، كيف هي فصول السنة؟ ما معنى انهيار ثلجي؟ السفر بالقطار، والخدم، جبال الألب، والعنزات الجبلية والنوافير. هذه الصور الأولى التي تلتقطها الذاكرة وتصبح مثل قالب نتوقع من خلاله الأشياء. أدعوكم في التفكير في الصور الأولى لحياتكم، وكيف أصبحت مرجعًا للأيام اللاحقة فيها.

٢

قضيت ساعات النهار والعمل خلال الأسبوع الماضي في غرفة الجلوس. نشاهد حلقات متتابعة من برامج الألغاز البوليسية وحلّ الجرائم المجهولة. استخدم كل مهارات التفكير والتحليل واتسابق مع المحققين للوصول لإجابة. غالبًا تحليلي صحيح، وفي بعض الأحيان تفاجئني سذاجتي في إغفال تفصيل مهمّ!

٣

خلال الأسبوع الماضي أنهيت رواية أربطةلدومينيكو ستارنونه. كانت قراءتها مثل الامساك بالشوك، لم استطع إفلاتها من يدي، وانتهت وأنا منهكة بخليط من المشاعر. الرواية كُتبت بمهارة والترجمة ممتازة.

٤

أشعر بالحماس وتتجدد الحياة بداخلي كلما شاهدت وثائقي يروي سيرة حياة لمبدع، أيّا كان المجال الذي يعمل به. والأسبوع الماضي شاهدت وثائقيات سلسلة American Masters أحدهما عن الرسام الأمريكي أندرو وايث، والآخر عن الكاتبة الأمريكية لويزا ماي إلكوت (مؤلفة رواية نساء صغيرات). أعرف عنهما القليل جدًا، والأعمال الأشهر قد تظلم مسيرة حياة كاملة. ما تنظر إليه هو بمثابة قمة جبل صغيرة في البحر، والباقي يغيب تحت السطح.

٥

تعرّفت على مبدأ السيسو الفنلندي Sisu ويساعدهم على مواجهة المصاعب! يمكنكم القراءة عنه أكثر هنا:

٦

جربت تلميحة قرأت أن اليونانيين يستخدمونها لشواء بطاطا مقرمشة وشهية. النتيجة رائعةبعد غسل البطاطا وتقطيعها لمكعبات كبيرة (بوصة تقريبًا) أقلبها في تتبيلة بمقادير متساوية من: زيت الزيتون، عصير الليمون، مرقة الدجاج، وملح وفلفل. ومن ثم الشواء في فرن ساخن (حرارته ٤٥٠ فهرنهايت) لمدة ٤٥ دقيقة. أظن أن السرّ في الليمون ومذاق المرقة، وأظنّ أنني سأتبع الطريقة دائمًا.

.

.

.

*اللوحة أعلاه للرسام الأمريكي اندرو وايث

أميّة جديدة

١

استيقظت يوم أمس بفكرة تأملتها لأيام.

الفكرة تزورني خلال أحاديثي مع الآخرين حول ما يمر به العالم الآن، من طريقة تعاملنا مع الأحداث، من أمنياتنا القادمة، من تفاصيل حياتنا اليومية بشكل عام. اسميتها في حديث مع صديقاتي أميّة جديدة“. نحن الآن في مواجهة مع المجهول، وكلّ منا يستخدم معرفته بطريقة تمكّنه من العبور بسلاسة. هل نتبع نفس الطرق؟ في الغالب لا. كل شخص يتفاعل مع ما حوله بمعرفته. قد نصطدم بالمواقف والوقت وهذا ما يشعرنا بانعدام المعرفة أو بكلمات أخرى أمية“. لقد استيقظنا في صباح أحد الأيام (توقفت عن حساب متى) ووجدنا أنفسنا في مساحة معزولة. أشخاص نعيش معهم لسنوات لكننا لم نضطر لقضاء جلّ وقتنا بينهم. نحنُ الآن ملزمون بطريقة أو أخرى لتعلم الحياة معهم من جديد. وإذا كان المعزول وحيدًا لم يجرب في حياته البقاء وحيدًا ليوم كامل، سيتعلم من البداية كيف يفعل ذلك. كيف نضبط وقتنا؟ كيف نعمل وننتج؟ كيف نتواصل مع الآخرين بنفس الحرارة لكن افتراضيا؟ كيف نهتم بصحتنا النفسية؟ كيف نطهو طعامنا؟ كيف وكيف وكيف. والقائمة تطول. الأمر يشبه بالنسبة لي الاستيقاظ وعدم قدرتي على قراءة الكلمات، أن أفقد مفتاح الحياة الأهمّ بالنسبة لي. الأمر الطريف أنني أفكر في هذه الفترة بأفراد معينين من عائلتي وأصدقائي، أولئك الذين لا يعودون لمنازلهم إلا للتهاوي في فراشهم. كيف هي أيامهم الآن؟

٢

أحببت فكرة التدوين اليومي، لأسبوع فقط.

تربكني المتابعة الدقيقة لوقتي، وبشكل أدق تصيبني بالغثيان أحيانًا. لكن أنا من أوجد هذه المهمّة وألزمت بها نفسي في الأيام الماضية. الخميس والجمعة ذابت الساعات على بعضها ولا أعلم اليوم (السبت) كيف مرّت وماذا فعلت بالضبط؟ أذكر يوم الخميس مليء بالعمل. بدأت من الثامنة وانتهيت في الثامنة. شاهدت فيلمًا مع أختي، وتناولنا عشاء لذيذ أعدنا فيه تدوير سلطة الغداء. هذه السمة الأحب لأيامي: اكتشافات المطبخ! بالأمس أيضًا جربت وصفة لإعداد اـ French Toast بدون استخدام البيض، آخر بيضة في المنزل أرعبت الجميع، وتركناها على الرفّ. كل يوم تنتظر دورها وكل فرد يعتقد أن الآخر يشتهيها. هذا الجوّ المشحون بالإيثار والترقب دفعني للبحث عن وصفة. أكيد هناك وصفة لمن لا يحبّ البيض. وبالفعل نفس مقادير الوصفة العادية مع استبدال البيض بملعقة بودرة نشا الذرة لتمنح المزيج التماسك والخبز القرمشة.

٣

بالأمس شاهدت أختي الصغرى ترتدي قبعة التخرج والعباءة (تتخرج من الثانوية) وتتزين لالتقاط صورة. تقول أن الحفل سيكون افتراضي هذا العام، والجميع سيلتقط صورته اليوم للذكرى. افتراضي افتراضي افتراضي. والآن هل يمكننا تسمية أي شيء على منصة رقمية افتراضي؟ بعد كل هذه السنوات من التشكيك في واقعيته، يصبح حقيقتنا.

٤

أعود للفكرة التي بدأت بها. وأفكر في أميّة جديدةمن نوع آخر. كيف سنعود للحياة؟ ما نتيجة هذه العزلة؟  بالأمس تقول أختي بأنّها ستعود للحياة على مهل، ستعيد اكتشاف الأماكن والأشخاص والأشياء. واتفق معهاوهذا الأمل الذي نحمله في قلوبنا هو ما يدفعنا للعيش والتعلّم من جديد.

.

.

اللوحة أعلاه للرسام Henri Manguin