هذه ليست إجازة!

خلال فترة سكني الأولى في الرياض بين ٢٠٠٨ و٢٠١٠ كانت خالتي تقترح علي أنا وابنتها في بعض الليالي الخروج والمشي في مراكز التسوق حتى نؤجل موعد نومنا. كانت لدينا مشكلة في النوم المبكر جدًا والاستيقاظ في منتصف الليل. كانت تقنية ناجحة لدرجة أننا نوشك على البكاء في طريق العودة ونحمل أنفسنا متثاقلين للدور الثاني. أفكر في هذه التقنية هذه الأيام مع مصارعة الجت-لاق أو اضطراب الرحلات الجويّة الطويلة. لكنني الليلة أحارب النوم المبكر بكتابة هذه التدوينة ولا أعلم متى سأنتهي منها وأنشرها. عنوان التدوينة جاء من عبارة رددها صوتي الداخلي عليّ خلال الأسبوعين الماضية.

هذه الرحلة مزيج من عطلة منتظرة، وتجربة سفر في ظل الجائحة المستعرة حول العالم، ومحاولة لتقديم الدعم المعنوي والعضلي لأختي التي انهت رحلة دراسية عمرها عشر سنوات في أميركا وشارفت على العودة. بدأت الفكرة كمزحة خلال مكالمة فيستايم مع منى: هل تريدين أن آتي لمساعدتك؟ يمكنني ذلك! ترددت قليلا ثم أجابتني: لا أظن أن ذلك ضروري.

لم نعد للحديث في الموضوع مدة شهر ثم عدت لسؤالها مرة ثانية بعد أن حسمت أمري وراجعت حساباتي واتفقت مبدئيا مع جهة عملي للحصول على إجازة. آخر مرة التقيت بمنى في يونيو ٢٠١٩، جمعتنا نيويورك وقضينا أول أيام الصيف في التجول والتهام الحياة دفعة واحدة.  تحدثت عن مشاعري في التدوينة السابقة والتي كتبتها بانتظار رحلتي.

نيويورك أولًا

كانت الخطة أن أقضي عدة أيام في نيويورك عند وصولي والخيار الثاني كان واشنطن لكنني لم أزرها منذ سنوات ولم أكن مستعدة لاكتشافها وحدي. كانت أيام معدودة وغرائبية بدأت بمشكلة في بطاقتي الائتمانية التي غفلت موظفة الفندق عن طريقة استخدامها الصحيح وسحبت المبلغ أربع مرات لتقفلها ويُسحب منها ويبقى معلقا في غيمة رقميّة. لم تعد النقود لرصيدي إلا بعد مغادرتي لنيويورك واضطررت حينها لاستنفاذ مدخراتي لدفع رسوم السكن. قصة مجنونة كانت ستقتل فرحتي فورًا لكنني اخترت التركيز على اللحظة والخروج للمدينة والاستمتاع بها. تحدثت عن زيارة المدينة في هذه المقالة التي نشرت على موقع ثمانية.

وضعتني الإجراءات الاحترازية في مشكلة الحجز المسبق والدفع ومن ثمّ تعطلي عن الذهاب إما بسبب الاعياء والجو الحارّ أو بسبب الخطط البديلة التي ظهرت فجأة. وإذا كنت سأسجل قائمة لسلبيات السفر في ظل هذه الأوضاع ستكون المدفوعات المسبقة غير المستردة -حتى وإن كانت بسيطة- إحداها.

لم تكن كثير من التجارب متاحة خلال زيارتي في هذه الزيارة فقد اخترت المشي وسيلة تنقل أولى ثم سيارات الأجرة وأخيرًا أوبر، وتحاشيت تمامًا المترو. لا سيما بعد المقتطفات المرعبة لفيضانات شبكة الأنفاق في نيويورك بعد هطول المطر الغزير على المدينة. فقد شاهدت الناس يخوضون في الماء وقد غمر أجسادهم، وخشيت على نفسي من موقف كهذا. فأنا أولًا لا أجيد السباحة، وثانيًا ليست هذه الطريقة التي أود أن أغادر بها الحياة.

أما سيارات الأجرة فقد سمعت دائمًا عن حربهم الضروس مع سائقي أوبر، وكيف اختطفت الخدمة الأكثر تنظيمًا البساط من تحت أقدامهم. صحيح مع سائقي الأجرة لا يمكنني توقع جودة السياقة أو طريقة الوصول، لكنني أضمن رسوم مناسبة لميزانيتي المحدودة، وبعض الأحاديث الممتعة التي لن أجدها في مكانٍ آخر.

في إحدى المرات بدأت حديثًا مع سائق سيارة أجرة صمَّم طريقة مبتكرة لتبريد المقعد الخلفي من السيارة بعد وضع حاجز بلاستيكي محكم بينه وبيني. وذلك عن طريق أنابيب معدنية موصلة من فتحة التكييف يعبر الهواء النظيف منها دون المرور بمقصورته والمخاطرة بالعدوى.

إذا كنت سأجمع هدايا رحلة نيويورك في صندوق واحتفظ بها سيكون ضمنها: زيارة معرض التصوير المخصص لأكثر من ١٧٠ مصورة أمريكية وعالمية والذي مكننا من رؤية الحياة عبر عدسة نسائية في فترة لم تشجعهن على حمل الكاميرا. والهدية الأخرى ستكون زيارة معرض رسومات سيزان وخطوطه الأولى ومسودّاته. وأخيرًا حصولي على نسخة من الكتاب الذي طبعه أصدقاء مايكل سايدنبرغ صديقي المكتباتي الراحل واحتفظ لي صديقي بنسخة منه مع إهداء دافئ.

أرض الخضرة الغامرة

بعد عدة أيام في نيويورك ودعتها بمشاعر متضاربة فلا أنا استمتعت بزيارتها تمامًا ولا أنا التي شعرت بالحزن والباص الضخم يبتعد عنها. لكنني أذكر بوضوح اللحظة التي استدرنا باتجاه نفق لينكولن وموجة البكاء التي غرقت بها حينما تأكدت من وجهتي التالية: منى! لم اهتم لنظرات الركاب المتباعدين ولا الكمامة التي غرقت بدموعي كلّ ما فكرت به هو كيف ستمرّ الساعات الأربعة التالية أو كيف سأمررها بلطف.

التقينا في مواقف سيارات متجر والمارت الكبير هناك تقف باصات الرحلات ويجر الركاب حقائبهم ولكل وجهته. شعرت بالمدينة كلها تحتفل بلقائنا الأشجار والطيور والغيوم المكتنزة التي ظللتنا. في الليلة الأولى غفوت بصعوبة وأعرف لماذا، فسور منزل أختي منخفض جدًا وأنا أنام على فرشة أرضية واتخيل بأنني نائمة على الرصيف وأن أي متسلل للحديقة سينقض علي! هذا الكابوس الغريب لم يتمكن مني في الليلة التالية فقط قررت ببساطة النوم في الجهة المعاكسة حتى لا ألمح الباب القصير وإنارة الشارع.

أحبّ بنسلفانيا. أحببتها منذ زيارتي الأولى لأميركا في ٢٠١٣ وأصبحت وجهتي المفضلة لا لأن اخوتي يسكنونها بل لأنها تذكرني بالمروج والتلال والغابات التي حلمت بزيارتها منذ الطفولة. ثم زرت اسكتلندا وشعرت أنها امتداد طبيعي لبنسلفانيا لولا المحيط والولايات التي تفصلهما. وأضيف على ذلك ذاكرتي المصورة التي تظهر أنواع النباتات والمسطحات المائية التي تعزز هذا الارتباط في ذهني.

احتفلت بعيد الأضحى مع منى وأخذتني في جولة مكوكية حول مدينتها وزواياها المفضلة. قضينا نزهة بجوار بحيرة مع إحدى صديقاتها. وعدة أيام في زيارة للمزرعة حيث تمارس ركوب الخيل منذ سنوات. وفي إحدى تلك الزيارات قررت تجربة ما يسمى بالــEquus Coaching والذي سأتحدث عنه بالتفصيل في تدوينة لاحقة لكن ما يُقصد به باختصار هو تدريب شخصي تساعد في التعرف على جوانب مختلفة من الحياة والتواصل مع الآخرين وتقوم أساسًا على التفاعل مع الخيول.

نعم الخيول! فهي كائنات حساسة جدًا ومن خلالها يمكننا التعرف على سماتنا الشخصية فيما يتعلق بالمبادرة والملاحظة والتفاعل. تتم هذه التجربة عادة مع ميسرة أو ميسر متمكن في التدريب والإرشاد الشخصي والتعامل مع الخيول طبعا. وخلال ساعة أو أكثر بقليل يتم التركيز على نقاط قوتك وأي مشاكل أو صعوبات قد تعكسها طريقة تفاعلك مع ما حولك. كانت التجربة مميزة وقريبة من نفسي ومؤثرة بشكل عميق لعدة أسباب أحدها وأهمّها أن مرشدتي التي تواصلت معها لأكثر من سنة عبر فيستايم كانت هي الميسرة لهذه التجربة. والسبب الثاني أنّ هذا النوع من التدريب أو الإرشاد لا يتطلب ركوب الخيل. المزيد من التفاصيل سأشاركها معكم مستقبلًا!

إنقاذ الجندي «منى»

خلال زيارتي لمدينة ستيت كولج في بنسلفانيا الأمريكية اكتملت سعادتي بالتعرف على صديقات منى والدائرة التي كانت تتحرك داخلها خلال سنوات دراستها. صديقة العائلة -ومرشدتي- دعتنا للعشاء في بيتها والتقينا بابنها وزوجها. كانت الأحاديث ممتعة وملونة، وجاء الحديث على عطلتي الأولى بعد الجائحة والتي قررت قضاءها في أميركا مع تعدد الخيارات المتاحة لي. قلت ضاحكة أنها ليست عطلة. هل تعرفون فيلم إنقاذ الجندي رايان؟ يمكنكم تسمية هذه الرحلة بــ «إنقاذ الجندي منى». أنا هنا لمدّ يد العون لها كي تعود بأقل ضغوطات ممكنة -حاولت في الحقيقة لكن الضغوط كانت أكبر من طاقتنا.

ومنذ تلك الليلة المقمرة بدأ العدّ التنازلي لإفراغ المنزل، بيع ما تيسر، والتبرع بجزء آخر، وعندما دقت ساعة الصفر بدأت رحلات رمي القمامة تزداد وجزء آخر من المتروكات على الرصيف المقابل -وهذا تقليد عرفت عنه من منى فساكني البيوت يتركون قطع الأثاث والممتلكات التي يرغبون بتقديمها مجانًا على الرصيف المقابل للبيت على ألا تشلّ حركة السيارات أو البشر واحتفلنا فعليًا بالقطع التي وجدت لها منزلًا جديدًا.  

كانت الأيام في بنسلفانيا الخضراء هادئة نسبيًا، استعدت معها شهيتي للأكل ووازنت مديونية النوم استعدادا لرحلة العودة الطويلة. أردت حضن الأشجار والركض تحت المطر والتمدد على العشب ولو كان ذلك ممكنًا لحملت قطعة من الأرض في جيبي. أقول أنا ابنة الصحراء التي اشتاقت لهذه المناظر وكأنني طفل لا يهدأ يلصق وجهه بنافذة المنزل والسيارة متتبعًا الأغصان والورق.

معنا قطّ!

قبل السفر إلى أميركا بدأت أنا ومنى سلسلة إجراءات إلزامية لتتمكن من اصطحاب قطّها إلى الوطن. وددت لو كنت بحثت بشكل أكبر في الموضوع فكل همي أن ما تحتاجه هو رقاقة تحمل معلوماته وتزرع تحت فرائه الكثيف ومجموعة أوراق رسمية تعرف بعمره وحالته الصحية واللقاحات التي تلقاها. صُدمنا بأن الإجراءات ليست بهذه البساطة –مقارنة بالوقت المتاح لنا للعمل وهو ١٠ أيام تقريبا. البداية تكون بجمع أوراقه الرسمية وجوازه الصحي ثمّ توثيقها لدى عيادة بيطرية رسمية أمريكية ومن ثم ختمها ونسخها رقميًا. الخطوة التالية هي رفع الطلب من موقع وزارة البيئة والمياه والزراعة عبر خدمة استيراد حيوان أليف وتزويد الوزارة بمعلومات الحيوان الموثقة. بعد أن تتم الموافقة تطبع كافة الأوراق التي يجب تصديقها من سفارة سعودية أو خليجية في البلد الذي ترغب بالاستيراد منه.

لم نتمكن من تصديق أوراق السفارة حتى اللحظة الأخيرة وكانت إضافة درامية لسلسة من الأمور التي احتجنا إنجازها قبل السفر.

أما عن العودة، فقد اختارت منى قيادة السيارة عبر طرق ريفية خلفية وكانت أجمل لحظة وداع لأميركا التي قضت فيها ثلث عمرها تقريبًا. الجو الممطر والغيم الكثيف والطرق الملتفة بين بنسلفانيا وفرجينيا ومدينة واشنطن كانت مثل حلم. ودودو القطّ يجلس في المقعد الخلفي يقاطعنا بموائه أحيانا، ويقتحم المرتبة الأمامية هاربًا من حقيبته في عقدة صعبة من الطريق.

وصلنا للفندق الذي قضينا فيه عدة أيام قبل الرحلة، وكان استثنائي في مساحة الغرفة ومستوى الراحة التي حصلنا عليها. تقول منى أن شخيري كان مكثفا وهذه إشارة جيدة أنني استطعت النوم بعمق أخيرًا. صدقت منى الأوراق لدى السفارة في زيارة واحدة. وذهبنا بعدها لمدينة مجاورة لإيقاف السيارة والمكتبة الضخمة التي وضبت بداخلها بانتظار الشحن.

في المطار رددنا عبارة «معنا قطّ» لتصبح شعار نهاية يوليو وعودتنا لبيتنا ولمدينتنا واجتماعنا العائلي المنتظر. معنا قطّ كان عبارة لطيفة صرفت انتباهنا عن حزن المطارات وقلق طوابير التفتيش. هنا موظفة تلاطفه وتنهي اجراءاته وهناك طفلة تقترب منه مترددة وتشجعها أمها على تحيته. وفي الطائرة مضيفة تخاف القطط وتتجاوز رعبها قدر المستطاع.

في الطريق إلى المنزل انقسمنا أنا واخوتي على سيارتين تنقلنا وتنقل الحقائب ولوهلة شعرت بحاجتي للالتفات والنظر إليهم عبر النافذة الكبيرة هذه المرة الأولى التي نجتمع فيها سوية منذ خمسة أعوام.

الحمد لله!

هذه ليست إجازة هذه رحلة لمّ شمل انتظرتها طويلًا.

.

.

.

الثلاثاء – ٦ يوليو

كان طريق العودة للمنزل اليوم طويلًا أطول من المعتاد ربما لأنني كنت انتظر اللحظة التي ارتمي فيها على سريري واتأمل السقف بصمت وهي الفقرة المحببة من اليوم. لا أغفو بعد ساعات العمل لأن نتيجة قيلولات السابعة مساء كارثية. أحبّ هذه اللحظة وأعتقد بأنني كتبت عنها في تدوينة سابقة: هذه اللحظة الفاصلة بين يوم العمل والخروج لعائلتي وإخوتي والحديث والاستمتاع ببقية الأمسية. خلال الأسبوعين الماضية وجدت نفسي أعمل حتى التاسعة مساء بلا توقف، ابحث واقرأ واكتب وأقفز بين المهامّ وهذه مشكلة العمل على أكثر من مشروع في نفس الوقت. لكنني اخترتُ ذلك بوعي، لم يجبرني أحد على العمل على أكثر من مشروع وتقسيم وقتي وعقلي وروحي. أحيانًا أنسى أيّ الهيفات أنا؟ تذكرت موقف طريف حدث خلال جلسة نقاش بؤري (الترجمة العربية Focus Group) نعم الترجمة غريبة وجديدة عليّ. خلال النقاش سُئلت عن رأيي حول حملة تسويقية وكنت اتحدث في البدء عن نفسي كهيفاء. ثمّ شرحت أن هيفاء التي ليست أنا ستفكر هكذا وهكذا. بعد انتهائي من الحديث صمتت قليلًا وكدت انفجر من الضحك. ما هذا التعبير؟ واليوم في الحقيقة أفكر أين هيفاء التي أقسمت قبل سنة تقريبًا ألا تدفع بنفسها للحافة بكثرة المشاريع والأفكار. وأن تلتزم بمشروع واحد لفترة واحدة.

لا أعلم.

في الصورة الخارجية أحمل صينية مليئة بالأكواب الزجاجية وأمشي بتوازن على حبل معلق بين بنايتين. لكن الواقع يقول أن الأكواب كُسرت كلها وأنا اتأرجح على حافة الهاوية.

حسنًا بالغتُ قليلا.

اليوم أحد الأيام التي أعود فيها إلى المنزل وأذكر بضبابية كل المهامّ التي قمت بها والأحاديث التي تبادلتها مع الآخرين من حولي. أذكر أنني عطشت قليلا، ثم مررت الصيدلية في طريقي واشتريت فرشاة أسنان جديدة لا أذكر لونها الآن، وعلبة فيتامين ج ومعجون أسنان لمعالجة الجير. هذا هو الأسبوع العاشر من ارتدائي لقوالب تقويم الأسنان، تبقى ثلاثة وتنتظم من جديد. وهذه المرة الثانية التي أقوم فيها أسناني، لم اهتم كثيرًا للمسافات التي ولدت بينها لكنّ تراكم الجير وخطر تهاويها بعد عدة سنوات دفعني لاختيار طريق العلاج. أتمرن كلّ صباح على ابتسامتي الجديدة وابتهج متجاهلة المبلغ الذي ثقب ميزانيتي لعدة أشهر.

تعرفون التعب الذي يدفعكم إلى البكاء على أنفسكم وكأنكم تقرؤون قصة حزينة؟ هذا هو التعب الذي أشعر به الآن. أعمل بجدّ ولا أرى أبعد من نهاية الأسبوع. خططي مختصرة ومحددة وتقويمي في شكله الأكثر مرونة من سنوات. إذا استيقظت ولم أشعر بالرغبة بالخروج أو الحديث أفعلها. إذا شعرت بالنعاس باكرًا وقد وعدت بالخروج للعشاء، أتمدد وأنام. لا أحب هذه الحالة لكنني أعرف يقينًا أنها عابرة. هذه كآبة الصيف؟ لا أحب استخدم مصطلحات قوية مثل الكآبة بهذه السهولة والعفوية. شاشة تنبيهات مهامّي تومض: تبقى مهمتان لهذه الليلة. آخذ نفسًا طويلا وأفكر ما هو تقييمك للموضوع يا هيفا؟ هل ترغبين في القيام بمزيد من العمل لهذا اليوم؟

أواصل الكتابة هنا، هذا ما أودّ التركيز عليه خلال الدقائق القادمة.

يوم الأحد الماضي قدّمت ورشة عمل ليومٍ واحد حول رواية القصص الشخصية، أحببتها كثيرًا منذ لحظة التخطيط لها واستقبال طلبات التسجيل حتى نهايتها وإرسال العرض الذي قدمته. شعرت بخفتها في روحي أكثر من أي ورشة أخرى. ربما لأنها تتحدث عن أكثر شيء أحبّه واحتاجه في أيامي: رواية القصص الشخصية.

حضرت أختي منى الورشة وكانت متحمسة لها مسبقًا. أنهت مناقشة الدكتوراة الشهر الماضي وبنهاية الشهر الحالي تنتهي رحلتها الطويلة في بلاد العمّ سام. آخر مرة جلسنا سوية، تحدثنا، ضحكنا، مشينا، وسهرنا، واحتضنتها قبل عامين. توداعنا عند باب فندق وتوجهت للمطار بينما توجهت هي لأحزن زاوية في المدينة. اسميها هكذا لأنها محطة باصات حزينة لا أذكر أنني ابتسمت فيها أبدًا. إما أنني أودع أحد اخوتي أو أقف وحيدة بانتظار رحلتي.

لا أعرف كيف كانت حياتي ستكون دون مكالمات فيستايم اليومية التي تسبقها منى بـ: «الي فاضي يكلمني». نتحدث لساعات، ونشاهد البرامج والفيديوهات ونجرب تقنيات مثل Watch Party التي تتيح لنا مشاهدة فيلم أو مسلسل في نفس الوقت ومن عدة مواقع. وإذا لم تكن هذه التقنية فعالة؟ نستخدم أقدم تقنية لضبط الوقت، نصفّر الفيديو، ونعدّ للثلاثة ونبدأ المشاهدة.

اشتقت لمنى كثيرًا ويهوّن عليّ هذا الشوق أنها ستعود إن شاء الله ونجتمع من جديد. عشر سنوات؟ أكثر؟ فقدت شهية العدّ بعد السنة الثالثة. وفي كلّ مرة نجتمع في نيويورك وتضطر للمغادرة باكرًا تُظلم المدينة وتطبق المباني على قلبي. هذه الأسابيع صعبة بسبب كل هذه المشاعر بسبب المنعطفات التي تنتظر والخطوات التي يجب أن أبتّ في أمرها بسرعة لأن إطالة مداها غير مجدٍ.

يقول لي عقلي: اضغطي أسنانك أنتِ متوترة. اسأله لماذا؟ ويقول لا أعلم فقط اضغطيها!

احتاج إجازة.

وكتاب لذيذ وممتع.

الكثير من الشمس والبحر والنوارس.

والبوظة، جالونات من البوظة.

حينها فقط قد يستقيم مزاجي ويعتدل.

.

.

.

.

[Photo by Édouard Boubat]

عن الصداقات العابرة للأجيال

على الطاولة الجانبية لسريري بقايا زهور خزامى مجفّفة وجدتها هذا الصباح خلال ترتيب الصباح واستقبال الأسبوع الجديد. كانت هذه الزهور ما تبقى من زينة الشعر التي وضعتها في حفلة ميلاد صديقة نهاية الأسبوع الماضي. عبرت صديقتي بوابة الثلاثين بحماس وحبور. إذا استعدت صورة تلك الليلة الرئيسية أتذكر رفقة صديقتي الملونة بالأعمار. سيدات وفتيات تتراوح أعمارهم بين بداية العشرينات والأربعينات. الصورة كانت نظرة على حياة هذه الصديقة الاجتماعية واختياراتها للصديقات ونظرة على حياتي الشخصية كذلك. خلال الست سنوات الماضية ومنذ انتقالي لمدينة الرياض عرفت بشكل دقيق معنى أن تحيط نفسك بأصدقاء من كل الأعمار، أن تكوّن «صداقات عابرة للأجيال» إذا صحّ التعبير. ربما بدأ الأمر بدافع الحاجة أو الفضول أو كليهما. لدي اليوم صديقات من كلّ الأعمار وندور في مساحات واحدة وتجمعنا نفس الاهتمامات إلا أن لكل عقد جمالياته وسماته التي أتذكرها عبر مواليده. الطريف في الأمر أن الموضوع تكرر على ذهني قبل حفلة صديقتي هذه وفي أكثر من سياق. قبل أسبوع تقريبا التقيت بصديقة تجمعني بها معرفة افتراضية للإفطار وسألتها خلال حديثنا عن سنة ميلادها لاكتشف أنني أكبرها بعشرة أعوام. هل كنت سأتنبه لهذا الفرق لو لم نناقش مواضيع مرتبطة بفترة زمنية عشتها أو عاشتها؟ أفلام الكرتون التي كانت تشاهدها مثلا، أو الأماكن التي قضت فيها أوقات اللعب. وبعد هذا الإفطار والحفلة التي حضرتها قرأت مقالة نُشرت في أبريل الماضي عن أهمية الصداقات بين الأجيال والأعمار المختلفة.

تلخص المقالة في محاورها الرئيسية الأفكار التالية:

  • منافع رفقة كل فئة وأهميتها لنمونا النفسي والاجتماعي. وتشير لدراسة أمريكية درست شريحة من الأفراد لتجد أن ما لا يقل عن ثلث الأمريكيين يرتبطون بأصدقاء أكبر أو أصغر منهم بـ ١٥ سنة.
  • مع التغيرات في المجتمع وانتقال الأفراد بين المدن والمناطق للعمل أو الدراسة تمتد العائلة وتتسع رقعة وجودها على البلاد ويصبح الأفراد في مناطقهم الجديدة مرتبطين بأشخاص من أجيال مختلفة (شخصيا هذه الفكرة ذكرتني بتعرفنا على من يكبروننا بسنوات عديدة لملء شعور الارتباط مع كيان أبوي أو أمومي أو حتى علاقة مشابهة بعلاقتنا مع الأجداد والجدات)
  • الصداقات بين الأجيال تكسر الصور النمطية وتقربنا ممن يصغرنا أو يكبرنا وصناعة فرص لكلا الطرفين للنمو ورؤية الحياة من منظور مختلف.
  • التخفف من المقارنات. الصورة هنا أعمّ وأشمل ولا تقف عند حدّ الانغماس في المقارنة المتعبة. صداقة شخص أكبر منا مثلا يعطي نظرة مستقبلية عندما أمرّ بوقت صعب: هذا الشخص تجاوز مصاعب حياته ويعيش ويزدهر ولا يقف عند عثرة واحدة وأنا استحق منح نفسي هذه التجربة.
  • صداقة الأكبر سنًّا تضعنا بالقرب من أشخاص تغيرت قائمة الأولويات في حياتهم. بدلا من الركض المستمر لتحقيق المكاسب المادية والنجاح والشهرة يركزون أكثر على الرضا والهدوء والاستقرار.
  • صداقة الأفراد الأصغر سنا ومنحهم الدعم والنصح يشعرنا بمعنى وجودنا.
  • صداقة من هم أصغر منا يدفعنا لتجربة ما هو خارج اعتيادنا.

المقالة تؤكد على فكرة مهمة: ألا نبقى منغلقين على الخيارات الافتراضية لصداقات مقاعد الدراسة. يمكننا دائمًا الانضمام لمجموعة عمرية مختلفة لاكتشاف صورة جديدة عن الحياة وعن أنفسنا. أحبّ سماع قصصكم الخاصة في الصداقات العابرة للأجيال، شاركوني في التعليقات.

.

.

الصورة من Unsplash

وقت مستقطع

شعرت يوم الخميس الماضي بأنّ عقلي استنفذ طاقته تمامًا. كان الأمر أشبه بجهاز إلكتروني يصل لدرجة حرارة عالية ويقرر التوقف عن العمل بشكل آليّ. على غير العادة كان التوقيت مناسبًا جدًا للراحة ووقتٍ مستقطع مستحق. شعرت بالإعياء بعد وجبة غداء شهية وتجربة أولى لـ Porterhouse وهو مطعم مختصّ باللحوم المعتقة والستيك. بدأت نهاية أسبوع باحتفالية بمناسبة التحاق أختي بوظيفة جديدة وإتمامها أسبوعها الأول هناك.

قضيت الجزء الأكبر من مارس في العمل على مشاريع متعددة، وقدمت ورشة ممتعة وتعلمت مهارات جديدة بسرعة فلم يكن لديّ رفاهية للتعلم بهدوء.

أحببت خلال الشهر الماضي نافذة الكتابة الجديدة التي فُتحت لي على موقع ثمانية، وكتبت خلال الأسابيع الماضية في مواضيع مختلفة وقريبة من نفسي. أشعر وكأنني شددت نفسي بقوة للخروج من مساحة الراحة سواء في المواضيع التي اخترتها أو القصص التي ضمنتها في المواضيع. ومن جهة أخرى، تعلمت للمرة الأولى السماح للآخرين بتحرير وتنقيح ما اكتبه، وأنا فخورة بفريق التحرير في ثمانية فجهودهم جعلت ما أفكر به وأصنعه أجمل بالتأكيد.

بين بداية فبراير ونهاية مارس أصيبت ركبتي بينما كنت اتمرن وتعلمت درس الحياة مع التمارين العنيفة. قضيت الأسابيع وأنا اتحرك ببطء وأعاني من نزول وصعود الدرج. كانت رائحتي تفوح بالمنثول ولصقات الألم وتوقفت عن الصلاة على الأرض. عدت خلال الأسبوع الماضي للسجود على الأرض وكم اشتقت لتلك اللحظة!

إصابات أقدامي تذكرني بفترات لا أحبّها من حياتي لذلك في كلّ مرّة يحدث أمر مشابه أضع يدي على قلبي وأتمنى ألا تطول. تلقيت في منتصف مارس الماضي لقاح استرا-زينيكا مع أعراض خفيفة والحمد لله. لقد شكّل موضوع اللقاح فكرة مقلقة لي لفترة حتى قرأت المصادر المتاحة وسمعت من مختصين بشكل كافٍ لأنطلق.

أحد منجزاتي التي سعدت بها أيضًا، إعادة تأثيث غرفة الاستقبال الخاصة بنا بعد تعطيلها لعدة أشهر وعدم مناسبتها لاستقبال أيّ ضيوف. اخترت كلّ شيء بحبّ وسهولة حتى أنا استغربت من قلة حيرتي. وبدأت فعليًا أمسياتي مع الصديقات والعائلة احتفالا بالمساحة الطازجة!

الأسبوع المقبل نستقبل شهر رمضان المبارك شهري المفضل لإعادة شحن طاقتي وتنظيف روحي والاستعداد للنصف الثاني من السنة. لرمضان القادم قررت أخذ وقت مستقطع من منصات التواصل الاجتماعي، سأركز على كتابة عمودي الأسبوعي وقراءة الكتب التي خططتُ لالتهامها خلال الأشهر الماضية.  وسأتبع نظام غذائي منعش «Whole 30» أحببته وإبريل دائما موعد جيّد لتطبيقه. أيضًا سأعيد ترتيب خطط السنة بعد دراسة لأول ثلاثة أشهر وتغيير ما يلزم كي لا أضيع وقتي على مشاريع غير جاهزة للانطلاق أو التحديث.

أشياء محببة للفترة الماضية

  • شموع برائحة الورد من Bath & Body Works (اقتنيتها خلال عرض توفير لتصبح قيمة شمعتين ١٣٩ ريال بدلًا من ١١٠ للواحدة)
  • سجادة صلاة جديدة خاطتها والدتي لتستبدل سجادتي القديمة
  • بدأت وأختي دورية كل أسبوعين مع بنات العم والخال لتفقد أحوالهم وتبادل القصص والأحاديث
  • فيلم Sound of Metal
  • فيلم Promising Young Woman

الصورة في التدوينة لـ Jan Buchczik

كيف نتعامل مع الأسئلة الفضولية؟

هل وجدتم أنفسكم ذات مرّة أمام سؤال -أو أسئلة- محرجة لا ترغبون في إجابتها؟

أمرّ بهذه التجربة منذ سنوات وتعلّمت تدريجيًا كيفية التعامل معها بشكل أفضل سواء كانت الأسئلة في دائرتي الاجتماعية الضيقة أو في مكان العمل أو مع الغرباء. لكن قبل التفصيل في طريقة التعامل مع الأسئلة هناك التساؤل الذي يزورني دائمًا لماذا يسأل الآخرون هذه الأسئلة؟ ومع الوقت وجدت عدة تصنيفات للأشخاص وقد يكونون أحد هؤلاء:

  • هناك من يسيء تقدير مستوى الحميمية والقرب بينكم وبينه ويعتقد أن طرح مثل هذه الأسئلة متاح ومقبول بينكم.
  • هناك من يحبّ مشاركة كلّ تفاصيل حياته بلا تصفية أو تحديد ولا يجدون حرجًا في ذلك ويتوقعون بأنكم تشاركونهم هذه الأريحية. وأجدهم يطرحون هذه الأسئلة بحسن نيّة ولا يقصدون تطفلًا.
  • يشعرون أن طرح الأسئلة الفضولية والاستفسار عن كلّ ما يخصكم هي الطريقة المثالية للتواصل معكم وإظهار الاهتمام بكم. وقد تجدون في المقابل أنهم يتوقعون منكم نفس الشيء، أي عندما تمتنعون عن الأسئلة الفضولية حول حياتهم الخاصة سيكون ذلك مؤشر لعدم اهتمامكم.
  • الحالة الأخيرة والتي أفضل عدم اللجوء للتفكير بها إلا بعد الاستيضاح والسؤال: أن الشخص متطفل سيء الخلق ولا يمكننا إيجاد أي عذر له.

عندما تُطرح علينا الأسئلة المحرجة نتجمد ولا نستطيع الردّ أو نشعر بالخجل والانزعاج وكل هذه المشاعر تؤثر على تجاوبنا بصورة سريعة وهادئة. وقد نجد أنفسنا نبوح بأمر لا نودّ مشاركته مع أي شخص في العالم فكيف مع شخص لا تجمعنا به علاقة وثيقة، أو نجيب إجابة مقتضبة وغريبة وغير منطقية مثل «لا أدري» وهذا سيظهرنا بمظهر مرتبك. لهذا السبب وجدت أن التحقق أولا من السائل والاستفسار أكثر يوضح الهدف ويساعدني في إكمال المحادثة بحسن نيّة والمحافظة على هدوئي. في هذه الحالة أقول: هذا سؤال مثير للاهتمام، لماذا تسأل؟ أو لماذا يشكل هذا السؤال أهمية لك؟ أو ما الذي يهمّك معرفته عن هذا الموضوع؟ هذه الأسئلة مناسبة إذا كنت أفكر في إكمال المحادثة لأنها تشجع السائل على توضيح هدفه من السؤال، أما إذا كنت لا أرغب بالإجابة تمامًا انتقل لطريقة أخرى. حينها أتعامل مع الأسئلة بشكل قاطع واضح ولطيف وحتى لو شئت استخدام «لا أريد الإجابة» أفعلها فقد أصبحت أسهل مع سنوات من المحاولة والتجربة والشجاعة!

هناك مجموعة من الإجابات اللطيفة التي يمكنكم اعتمادها:

  • أنا آسفة هذا موضوع خاصّ أو شخصي جدًا.
  • يصعب علي مناقشة الموضوع في الوقت الحالي.
  • الوقت غير مناسب لهذا الحديث (إذا كنتم مع مجموعة من الأشخاص ولا مجال للحديث في موضوع شخصي)
  • الموضوع غير مريح بالنسبة لي.

وفي أحيانٍ أخرى وعلى حسب السائل أقلب الموضوع لمزحة أو نكتة سريعة وإذا حصل إلحاح أتصرف بطريقة مختلفة. ما أفعله دائما هو أنني أؤجل استخدام الصرامة والحزم قدر الإمكان وأمنح الآخرين فرصة لتوضيح مقصدهم. لكن إذا تكرر الأمر في أكثر من مناسبة أغيّر من نبرتي دون تردّد لأقول شيء مثل: هذه المواضيع لا أشاركها إلا مع أشخاص محددين ومقربين مني. أو أرجو منكم احترام حدودي الشخصية، عذرًا لكن لا أفضل مناقشة تفاصيل حياتي بهذا الشكل وغيرها من الردود الحاسمة.

أعلم أن الموضوع مربك ونجد أنفسنا فيه كثيرًا لكن ينبغي علينا في الوقت الذي ندافع فيه عن خصوصيتنا الانتباه لنبرة صوتنا ولغة حديثنا وأجسادنا. يمكننا تقديم الردّ الحاسم ونحن نبتسم وننظر في عينيّ محدثنا وننقل له مشاعرنا بلطف وحبّ.  ولدت فكرة هذه التدوينة من سؤال وصلني يوم الجمعة على انستقرام، وكانت الإجابة المختصرة محرضة لمزيد من التفاصيل هنا.

وأنتم حدّثوني عن تجاربكم في الموضوع؟

.

.

الصورة من Unsplash