ڤيڤيان ماير: سيدة الحيوات المتعددة

أنت محظوظ إذا كانت عينك تلتقط الكنوز بسهولة. إذا كان وقودك فضولك. وطبعاً إذا صادفت في ٢٠٠٧م مزاد على مجموعة صناديق منسية في وحدة تخزين بشيكاغو الأمريكية.

جون معلوف حظه كبير، نعم. لأنه وبينما كان يمارس هوايته الأثيرة -حضور المزادات والبحث عن كنوزها- وجد مجموعة صناديق تحتوي على الآلاف من الصور والأفلام الغير مظهّّرة. لمن تعود هذه الصناديق؟ لسيدة اسمها ڤيڤيان ماير. وفوراً بحث جون عن اسمها في محركات البحث ولم تعد إليه أي نتيجة مفيدة. هل تجربون ذلك الآن وتخبروني أين يوصلكم البحث؟

من هي ڤيڤيان؟

نحن ممتنون طبعاً لجهود البحث وفضول جون معلوف الكبير الذي دفعه لجمع كلّ ما يمكن معرفته عن هذه السيدة. ويمكن اختصاره في السطور القليلة القادمة.

ڤيڤيان دوروثيا ماير ولدت في نيويورك في العام ١٩٢٦م وتوفيت في شيكاغو عام ٢٠٠٩م-هذا يعني أن الصور اكتشفت قبل وفاتها-. تعرفها المواقع الإلكترونية اليوم بأنها “مصورة شارع-Street Photographer” أمريكية. قضت معظم سنوات حياتها الأولى في فرنسا. وبعد عودتها للولايات المتحدة الأمريكية في أربعينات القرن الماضي بدأت رحلة أربعين عاما من العمل كمربية أطفال ومساعدة منزلية. قضت سنوات عملها بين شيكاغو، نيويورك، لوس أنجليس وسافرت حول العالم وزارت آسيا وأمريكا الجنوبية، اليمن، مصر وغيرها. التقطت حوالي ١٥٠ ألف صورة للناس والمباني والشوارع الأمريكية.

لم تُكتشف أعمال ماير حتى وفاتها وذلك بعد عثور جون معلوف على صناديقها ونشره للصور في مدونة الكترونية خاصة. ثمّ تبع ذلك حملة اهتمام كبيرة نقلت أعمالها حول العالم وأقامت المعارض الخاصة لذلك.

vlcsnap-2014-11-16-21h41m43s211

النقطة المهمة التي يجب ألا تغيب عن ذهنكم: ڤيڤيان خبأت كل أعمالها في صناديق وحافظت على سرية هوايتها، على الرغم من أن أفراد جميع الأسر التي عملت لديها ماير كانوا يتذكرون تفاصيل حملها للكاميرا وتصوير حياة الشارع الأمريكي كلما سمحت لها الفرصة بذلك.

متابعة قراءة ڤيڤيان ماير: سيدة الحيوات المتعددة

يد واحدة تكفي أحياناً.

تعرّضت كفي اليسرى لحرق من الدرجة الثانية قبل أسبوعين تقريباً. لم أدرك فداحة الحريق فوراً. قمت بإسعاف نفسي على وجه السرعة ثم بدأت بصنع الضمادات المنزلية واستخدمت كريمات موضعية للحرائق ومضادات حيوية. تطور الأمر خلال 48 ساعة وبدأت أصابعي بالانتفاخ، ولم أعد قادرة على ثنيها بشكل طبيعي. هل ذهبت للمستشفى؟ لا طبعاً. واصلت العلاج المنزلي واتبعت نصيحتي التي أكررها دائما: لا تتخلص من الفقاعات التي تنتفخ على الجلد سواء كانت ناتجة من حريق أو احتكاك الحذاء. كانت نصيحة عشوائية لكنني وبعد قراءة المزيد حول الموضوع اكتشفت بأنها ضمادة طبيعية من الجسم تحمي الجلد تحتها وتمتلئ بمواد معالجة. ما إن تتخلصوا منها تصبح المنطقة المصابة التي لم تلتئم بعد معرضة للهواء والجراثيم ومشكلات أخرى. كنت استيقظ ليلاً فزعة إذ كانت حرارة الإصابة تجتاحني كل حين وكأنها حدثت للمرة الأولى. كأنني أمرر كفي على لهب مستمر. نصيحتي الأولى والأهم: تعلموا الكتابة بيدكم الأخرى، يد بديلة، يد مساعدة. بقيت يدي ملفوفة لأسبوع وأكثر. كنت اطهو الطعام، أقطع الخضروات، اقرأ الكتب، أتصفح الإنترنت واكتب الرسائل النصية –وأسجلها صوتياً- للأهل والأصدقاء، خرجت للتسوق، رتبت غرفتي. كل ذلك بيدّ واحدة. وبدأت تأمل نعمة اليدين وتذكرت من جديد عملية استخراج إبرة الخياطة من قدمي قبل عدة سنوات والأسبوعين المريرة التي أمضيتها بلا مشي، بالقفز على قدم واحدة، واستخدام العكاز. لم تكن المشكلة في استخدام يدي في كلّ شيء، لم يصبني تغيير الضمادات بالملل، ولم أتململ من انتظار شفاءها. لكنّني احتجت بشدة للكتابة بالقلم وأصابعي التي تمسكه معطوبة. وفكرت لو أن يدي اليمنى تتقن الكتابة كما أتقنت القصّ والتلوين وكلّ الأعمال الدقيقة الأخرى. أنا بخير الآن، يدي تتحرك بحرية، والجرح في طريقة للشفاء. وأقاوم بشدة العبث بالجرح فهذا ما فعلته في سنّ مبكرة وأدفع ثمنه اليوم بندوبي الكثيرة!

كيف قضيت الأسابيع الماضية؟

  • تخلصت من الـ Jet –lag بعد رحلة نيويورك.
  • الكثير من الاسترخاء وبعيداً عن شاشات الأجهزة الإلكترونية. أنشطة بدينة وتأمل وتمرينات تنفس.
  • أفكر في كتابة تدوينة عن التغييرات الجذرية التي بدأت بها في مايو الماضي على الصعيد الصحّي بجانبيه النفسي والجسدي.
  • عائلتي تبحث عن سكن في العاصمة، وأنا الآن أبحث عن عمل.
  • انتهيت من كتاب “Contagious” لبيرغر وسأفرد له حلقة البودكاست القادمة بالكامل.
  • اطلعت على الأسئلة الجميلة التي وصلتني على بريدي وسأجيب عليها بإذن الله.
  • بدأت بقراءة مذكرات آن فرانك مع أختي الصغرى وحتى الآن مشوّقة، وهنا تدوينة أحبها كثيراً كتبت فيها سهام مراجعة عنها.
  • شاهدت سلسلة وثائقية من بي بي إس “Great Estates of Scotland” تستعرض مساكن تاريخية في إسكتلندا. من يسكنها حالياً؟ ولمحة عنها في الماضي والحاضر ومستقبلها كذلك. أحببت أنّ الوثائقي مختصر لكنه شامل وستجدون روابط لتحميله بواسطة التورنت الحلقة 1،2،3،4 .
  • كرست وقت فراغي مع أختي لمشاهدة الوثائقيات –الكثير منها- . اخترت ذات يوم مشاهدة هذا الوثائقي عن النازيين الجدد، وتبعه مشاهدة وثائقي عن متطرفي اليهود. عرض فكرة التطرف على الجهتين تماماً وشرحت مفاهيم كثيرة مناسبة لعمر الثانية عشرة.
  • شاهدت وثائقيات مهمة عن التغذية والصحة وقد أفرد لها تدوينات خاصة اذا سمح الوقت وهي بلا ترتيب: Fed UpHungry for ChangeFat Sick and Nearly Dead.
  • انتهيت من قراءة عدة كتب بعد جوع قرائي طويل، أحببت منها “حماقات بروكلين” لبول أوستر، ربما هذه الرواية هي مفضلتي الجديدة ضمن أعماله التي اطلعت عليها، بها روح نيويورك الكوزموبوليتانية وشخصياتها الملونة، كثير من فنّ وكتب وصراعات ومناجاة للذات. وفوق هذا الترجمة كانت جيدة جداً. هنا مراجعة مختصرة ولطيفة عنها. الشتاء يقترب وهو موسم قراءة السير الذاتية وكتب المعرفة العامة. سأشارككم اختياراتي عندما انتهي منها.
  • قرأت “مورفين” لميخائيل بولغاكوف والتي تقاطعت مع حياة مؤلفها بصورة غريبة وذكرتني بكثير من تفاصيلها بالمسلسل الذي تابعته مؤخراً “The Knick“.
  • انتهيت من قراءة “البحث عن فلسطين” لنجلاء سعيد، بورتريه لطيف عنها وعن أسرتها المميزة. صراعها من أجل إيجاد هوية حقيقية ووصولها إلى حالة توازن. أحببت التعرف على إدوارد سعيد بعين ابنته بعيداً عن ما يكتبه عن نفسه وعن صورة المفكر الشهير. واكتشفت أننا نتشارك في حبّ راديو نيويورك الكلاسيكي والفول السوداني من شركة بلانترز!
  • تابعت مسلسل Bates Motel وانتهيت من موسمه الأول وتبقى ثلاث حلقات من الثاني الأحدث. مسلسل غرائبي بامتياز ويلعب على الأعصاب. أحاول كثيرا تجاهل فكرة الالتزام بمتابعة المسلسلات لكنني أفشل وأجد نفسي مندمجة بها كثيراً وبعيدة عن القراءة والمهامّ الأخرى.
  • أقاوم نوبات الكسل الضارية والاشتياق لأخوتي بصعوبة، أفشل كثيراً ولكنني لا أيأس. شكراً للصديقات ولعائلتي المتفهمة برغم كلّ شيء.
  • تُكمل مدونتي هذا الشهر: سبع سنوات. سبع سنوات من حبّ التدوين والحفاظ على هدف واحد: التحرر بالكتابة والتنفس ومشاركة المعرفة والمتعة التي احصدها من هذا الكون العظيم معكُم. احتفاء بالسنة السابعة سأحاول تكثيف تواجدي هنا ما استطعت، وشكراً لمتابعتكم الدائمة يا أصدقاء : )

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الخامسة)

bhny

سكن جدّي لفترة من حياته في بناية مكونة من شقق. خلف تلك البناية كانت مساحة من المبنى حولها لمتاجر صغيرة وتمّ تأجيرها. أحد المتاجر أصبح قرطاسية وصاحبها والدي. كانت الرحلة اليومية لشراء شيء -أي شيء- من القرطاسية متعتي في العطل. وعندما انتهت كل أدوات القرطاسية الممكنة اقتنيت لعبة كاميرا ترش الماء من عدستها. قرب القرطاسية من البيت وتشاركها مع جدرانه كان خطرا على محفظتي الصغيرة.

في رحلتي الأخيرة لنيويورك تكررت الحكاية مع مكتبة 192 المذهلة! بيني وبينها ناصية واحدة، بضعة خطوات من الفندق إليها، وبطاقتي الائتمانية التي توقفت عن العمل في عدة متاجر لم تفعل ذلك هناك.

في المرة الأولى ذهبت لاستكشاف المكان. وما أحببته في المكتبة هو رفوفها المرتبّة أبجدياً، روايات وسير، وكتب فنية وكتب تصوير وقسمين أحدها للأطفال والآخر للناشئة. من كل كتاب نسخة واحدة -أو اثنتين على الأكثر- لكن في المكتبة مخزن خاصّ بالكتب. اذا انتهت النسخ على الرفّ تستبدل بجديدة، وهكذا تحتفظ المكتبة بترتيب حميم بأقل نسبة من الفوضى.

photo 4
192 books in Chelsea.

في زيارتي الأولى حملت عدة كتب وسألت عن كتاب “پاريس نيويورك” لصور فريد ستين وللأسف لم يكن متوفراً. أثرت حماسة البائع عندما أخبرته بأنني سأحضر اطلاق الكتاب خلال أيام وأردت الحصول عليه للاستعداد للتوقيع. طلبه من أمازون لكن المدة قصيرة جداً للانتظار.

واكتشفت بعد زيارة عدة مكتبات حول المدينة أن الكتاب لم يتوفر في أيّ منها، وكانت أول مرة شاهدته فيها يوم إطلاقه، ربّما أرادت المكتبة المستضيفة للمناسبة احتكاره لديها حتى انتهاء الحفل.

استمرت زياراتي للمكتبة الصغيرة قرب فندقي، مرة واثنتين، ومرة ثالثة مع أخواتي، ورابعة قبل عودتي للسعودية. وفي كل منها اكتشف كنزاً جديداً. اشتريت حكايات غريم لحصة أختي الصغرى، ورواية جديدة للفتيات ومجموعة قصص خيالية قصيرة. تحبّ قراءة روايات الخيال والرعب أكثر من الروايات الواقعية ولا أحاول تحديد مسار قراءتها ما دامت الكتب مناسبة لفئتها العمرية.

تغيرت طريقتي في شراء الكتب، وكلما قلت ذلك لأحد المقربين أجاب: لأنك وصلت لمرحلة اكتفاء ربما؟ ولكنني لا اكتفي، وهذا الولع والاهتمام يكلّفني كثيراً على ما يبدو.

المكتبة الثانية مكتبة پوسمان اكتشفتها في سوق تشيلسي، سوق ضخم بمتاجر الأغذية واللحوم، بعض المقاهي والمطاعم، ومحلات للانتيك والمجوهرات والملابس. مكان مثالي لقضاء نهار أو نهارات، وحتى في المساءات الممطرة وجدت نفسي أتجول بداخله. لديهم في هذه المكتبة تشكيلة أسميتها تشكيلة مناسبة للسياح، كتب جديدة أكثر مبيعاً، كتب قديمة، تذكارات نيويوركية ودفاتر ملونة وورق تغليف هدايا، صحيح مساحة المكتبة أكبر من تلك القريبة من الفندق لكنّ العناوين المثيرة للاهتمام قليلة جداً. أخذت منها كتاب پروست عن أيام القراءة، كتاب مقالات صغير ومميز. وأخذت مذكرة للعام ٢٠١٥م بلوحات فنية تصوّر نساء قارئات.

الشيء المهمّ الذي يلفت الانتباه في مكتبات نيويورك وربما في أغلب دول العالم: ثبات الأسعار. تذهب لأكثر من مكتبة وتجد الكتاب نفسه بنفس السعر المطبوع على الغلاف. لا زيادة وأحيانا نقصان في بعض المكتبات التي تعدّ عروضاً أسبوعية أو شهرية على ثيمة معينة.

photo 1
Strand Bookstore
Strand Bookstore
Strand Bookstore

في ليلة أخرى ذهبت لسهرة مع نفسي بين رفوف مكتبة ستراند -١٨ ميلاً من الكتب- . قلت بأنني في كل مرة أزورها أصاب بحالة هلع. كل هذه الكتب سأبحث بينها؟ سأشتري؟ أريدها كلها! بعد دراستي السابقة للممرات قررت الذهاب فوراً للدور الأرضي الموازي لخط سير المترو، هناك تباع الكتب المخفضة والمستعملة. وجدت كنوز في المرة الماضية وبحثت عن المزيد في هذه المرة، أخذت كتباً عن الكتابة الإبداعية، وفنّ كتابة المذكرات والسير الذاتية. أنا أكتب حالياً من الذاكرة لأنّ ما نسبته ٨٠٪ من الكتب التي اقتنيتها تنتظر خلف المحيط موعد شحنها للسعودية. لم يكن الوزن العائق الوحيد بيني وبين شراء المزيد. هناك انتباه من نوع خاص: هل سأقرأ هذا الكتاب الآن؟ بعد شهر؟ ثلاثة؟ وكلما زادت المدة التي أخمّنها كلما زادت المسافة بين يدي وبين الكتاب ومضيت مبتعدة بأسرع وقت قبل أن اضعف مجدداً.

من جديد لم يكن كتاب “باريس نيويورك” متوفراً على الرغم من سعة قسم كتب الصور والتصوير ورفوفه المهيبة.

Processed with VSCOcam with a3 preset

ثمّ جاء أحد أيامي المفضلة خلال السنة: زيارة جديدة لمكتبة مايكل السرية. هذه المرة لم اقتني الكثير من الكتب. كتابان في الفنّ أحدهما عن إدغار ديغا، والآخر عن روح الفنّ. الكتب مستعملة بطبعة قديمة نسبياً ولها رائحة عجائبية. أمضيت بقية الزيارة في تأمل الرفوف بلا هدف، والتحدث لساعات مع مايكل وضيوفه. حدثنا مايكل عن رأيه في تجمعات الـ AA المخصصة لمدمني الكحول المتعافين وما يحدث فيها من دراما وكثير من السخرية. يقول بعبارات بسيطة بأن مدمن الكحول يجد في زيارة هذه الاجتماعات إدمانا جديداً يشغله عن الأول. تفاصيل كثيرة قادته للحديث عن تجربته الشخصية وكيف قررّ الشفاء ذاتياً من مشكلته مع الكحول دون الحاجة لزيارة هذه الاجتماعات.

تحدث مع ضيوفه عن عالم جميل وددت لو انتقلت من أجله لنيويورك وبقيت هناك! اجتماعات قراءة شعر، توقيع كتاب صديق، وتعارف شباب الكتّاب في فصول دراسية للكتابة الإبداعية. كلّ هذا سيحدث خلال سبتمبر وفي الشهر الذي يليه وتستمر حياة الكتب في مدينة تحبّ الكتب كنيويورك.

تحدثنا عن الكاتب جوناثان ليثم الذي زرت توقيع كتابه العام الماضي ضمن مهرجان النيويوركر، وهو صديق قديم ومساعد لمايكل، كان يبيع الكتب في صغره في مكتبته ببروكلين قبل تحولها لمكانها السرّي. لجوناثان كتاب جميل لم انته منه بعد “The Ecstasy of Influence: Nonfictions, Etc.” مجموعة مقالات للكاتب تناولت عدة مواضيع عن حياته، حياته مع الكتابة، وغيرها. لديه أيضا كتاب مقالات آخر “The Disappointment Artist ” عن بدايته مع الكتابة وكل العناصر المؤثرة فيها. انتهت الزيارة بكثير من الأفكار، وكتابين فقط يا للدهشة!

photo 3
Three Lives and Company

في المنطقة الغربية من منهاتن، قرية غرينتش تحديداً. مكتبة الحيوات الثلاثة، “Three Lives & Company” أريد أن أقول لهم بأنني أحبّ اسم المكتبة كثيراً وكان داخلها أجمل! انتظرت لنصف ساعة في الخارج تحت الشمس لأنني لم أحمل مظلة، ولأنني وصلت باكراً. في المكتبة رفوف مزدحمة وكتب من دور نشر كبيرة وصغيرة، أحببت توفر المزيد من الروايات العالمية التي لا نجدها عادة في المكتبات التجارية أو التي تتبع خط استهلاك القرّاء. فيها تشكيلة جيدة من كتب NYRB ، و Penguin. كتب الشعر أيضاً كثيرة. هناك اقتنيت الكتاب الذي يشاركني آخر الليل مؤخراً، وأحمله في كلّ مكان.

كتاب “البحث عن فلسطين” لنجلاء سعيد ابنة إدوارد سعيد. قرأت فيه على عجل في الليلة الأولى وشغلتني عنه المدينة.

photo 1

في مطار جون كينيدي عدت لمواصلة القراءة وكان الكتاب رفيقي الجيّد خلال ساعات الصحو. في انتظار الرحلة جلس إلى جواري مجموعة من اليهود الارثودكس وكانت عين شيخ كبير منهم على الغلاف، ضحكت داخلي لمصادفة حملي للكتاب في هذا اليوم، في هذا المكان. تجاوزت منتصف الكتاب بالقراءة المتأنية، وفيه سيرة مرحة لفتاة تبحث عن هويتها الحقيقية. ذكرتني تساؤلاتها وصراعها الشخصي بكتاب والدها “خارج المكان” لكنّها ذكرتني أكثر بكتاب آميلي نوثومب “بيوغرافيا الجوع” أحد أقرب السير الذاتية إلى قلبي. ولا أمانع في قراءته مرة واثنتين وثلاث.

photo 3

في العاشر من سبتمبر الماضي توجهت لمكتبة PowerHouse Arena في بروكلين لحضور إطلاق كتاب المصور الشهير فريد ستين “پاريس نيويورك”. المصور توفي منذ سنوات لكنّ اطلاق الكتاب جاء على يدّ ابنه پيتر ستين المصور السينمائي وحفيدته كاثرين فريير. كان حديث عائلي بامتياز، تبادل الابن وابنته الحديث عن المصور، رحلته من ألمانيا مرورا بباريس وصولاً إلى نيويورك. مع التركيز على الأسباب التاريخية التي دفعته للهجرة القسرية ومن بينها الحكم النازي لألمانيا وتهديده لليهود. الفكرة من الكتاب جمع صور الحياة اليومية التي التقطها فريد ستين بين باريس ونيويورك، مع تفاصيل سيرته وصور لأشهر البورتريهات التي التقطها. بعضها نعرفها بالنظر لكننا لا ندري حقيقة من هو مصورها. كنت هناك لاكتشاف فريد ستين بعد رؤية أعماله خلال السنتين الماضيتين وهو الوقت الذي بدأت فيه الاهتمام بفوتوغرافيا الشارع وأهمّ مصوريها. لفريد ستين نمط معين فهو يمسك بالكاميرا قرب جذعه وينظر في شاشتها الصغيرة ليحدد مساحة التصوير، لم يكن يستخدم الكاميرا التقليدية التي يحتاج إلى النظر من خلال عدستها، هناك لقاء مباشر بينه وبين موضوع التصوير، يشعر الناس بالراحة فتكون صورهم كذلك. هناك قصة مهمّة عن تحول فريد ستين من تصوير الشارع لتصوير البورتريه ويوجزه ابنه بيتر في متاعب الظهر التي بدأ يعاني منها وعدم قدرته على المشي لمسافات طويلة حول نيويورك. هكذا، دبر له الأصدقاء فرصة اللقاء بشخصيات مهمة لتصويرها من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: البرت آينشتاين، هرمان هسه، توماس مان، حنة آرنت وجورجيا أوكيف.

بيتر ستين وكاثرين فريير يقومان بعمل جبار للحفاظ على أرشيف فريد ستين. يجوبون العالم بحثاً عن ما يمكنهم إيجاده من الصور المفقودة، ويقيمون المعارض وخلال اطلاق الكتاب تحدثا عن وثائقي ضخم يعده الابن عن والده وشاهدنا جزء مقتبس محفز منه. حصلت على نسختي الموقعة واستمتعت كثيراً برؤية الصور وسماع الحكايات عن قرب. خلال كتابة هذه التدوينة وجدت في يوتوب وفي موقع المصور فريد ستين تسجيل فيديو عن مشروع بيتر وابنته وعن المصور بشكل عام يمكنكم مشاهدته هنا والتعرف عليه أكثر.


.
.

Fred Stein Fine Cut from Kate Freer on Vimeo.

photo 2

لم اقرأ الكتاب بعد، فقط تصفحته سريعاً ونظرت للصور مثل الأطفال. فكرة حصولي عليه أشعرتني بالأمان حتى أعود لاكتشافه.

 * * *

في كل رحلة لي خارج البلاد، أبحث عن الكتب كبحثي عن كنز وأكثر. في مدينتي فرع لمكتبة جرير وتحولت تدريجياً على مر السنوات إلى قرطاسية ضخمة لا أجد فيها ما احتاجه من الكتب. أعيش على رحلاتي السريعة لمكتبات تبعد عن مدينتي عشرات ومئات الأميال. وانتظر كل عام سفري وسفر الأصدقاء للحصول على الكتب. ما عادت الكتب الإلكترونية تمتعني كالسابق. أصبحت احتاج الورق لأقرأ وأحاول جهدي لتحمل الشاشات في حالة الكتب الممتعة. أحلم بمكتبة عظيمة توفر لي كلّ ما أبحث عنه، وإذا لم توجد، قد أكون أنا من يؤسسها بإذن الله : )

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الرابعة)

Don Giovanni Ristorante - Chelsea
Don Giovanni Ristorante – Chelsea

السفر الجيّد يتطلب الكثير من التخطيط، التخطيط للأكل!

العام الماضي تركت كل شيء للمفاجآت، كانت هناك مغامرات “مذاقية” كثيرة لكنّها لم تشبع فضولي. أما هذه المرة فقد قضيت وقت لا بأس به في البحث عن أهم المطاعم والمقاهي القريبة من مسكني وحول المدينة بشكل عام. قرأت عن التقييمات وحددت الأسعار وفكرت في كلّ شيء أرغب في تجربته. التطبيق الذي أحبه كثيرا حتى في حالة الاختيارات العشوائية “Yelp” ربما كان هناك تطبيق أفضل منه لكنني اعتدت استخدامه. فيه تقييمات كثيرة وصور وتفاصيل عن قائمة الطعام والأسعار وما إذا كان المكان مفتوح أو مغلق، وفي حالة مهمة هل يقدمون وجبة (الفطور/الغداء Brunch) في ذلك اليوم أو لا.

يمكنني الآن التفكير في قائمة على الشكل التالي: سلطة كمثرى، سلطة تين، سلطة تين وزيتون، سلطة رمان، سلطة سيزر بالدجاج، سلطة ربيان، ريزوتو –الكثير من الريزوتو-، ربيان وبطاطا مقلية، سمك وبطاطا مقلية، بوظة، جيلاتو، كعك جبن وشوكولا، كعك جبن وجزر، كرات الدونات وتغميسة الشوكولا، كعك موز، كعكة الليمون السعيدة، كعكة جوز الهند، تيراميسو، كروسون بالأعشاب وجبن الماعز، ساندويتشات دجاج، بيض مقلي ونقانق الديك الرومي، شوربة الطماطم، بيتزا ميسينا، بيتزا كاليفورنيا، بيتزا في فرن حجري، كعك سلطعون، ريزوتو بالسلطعون، كثير من الطماطم والدجاج والصلصة والفطر والأهم من هذا كلّه الجبنة التي فكرت في تسمية الرحلة باسمها تكريما لروعتها: الجورجونزولا! وما هي هذه الجبنة السحرية؟ إنها جبنة شهيرة في المطبخ الإيطالي، من أنواع الجبنة الزرقاء التي بدأت صناعتها قبل قرون في منطقة إدارية في ميلانو الإيطالية ومنها جاء اسم الجبنة. تُعتّق من ثلاثة إلى أربعة أشهر حتى تكتسب طعمها القويّ وقوامها الخاص. تناولت الجورجونزولا مع المعكرونة والستيك والبرغر، تناولتها مع السلطة، والبطاطا المقلية بزيت الكمأه. للجبنة رائحة قوية جداً لا ينكرها الأنف، ما إن يصل الطبق لطاولتكم سينتبه لها كل من حولكم.

شيء آخر مميز جرّبته في الرحلة: أكل الشارع الآسيوي مقدّم بحلة مختلفة في مطعم وعلى كراسٍ وطاولات. الفكرة في مطعم Spice Market بنيويورك صنع مزيج من الأكلات الآسيوية الشعبية التي تقدم عادة في الشارع وتقديمها في قائمة طعام خاصة بهم. كانت هناك السمبوسة والمعكرونة بالخضار ونوع مميز من البرغر بمكونات آسيوية. حتى الحلوى، فهم يقدمون بوظة الجوافة المثلجة وتيراميسو القهوة الفيتنامية. كنت دائما أسمع بالقهوة الفيتنامية وشاهدت وثائقي ذات مرة وكتبت عنه (هنـــا) حتى تذوقتها وذهلت من طعمها. أنا في العادة لا أحب الحليب المركز المحلّى ولا أفضّل إضافته في الحلويات، وقد أذهب لأبعد من ذلك وأشعر بالغثيان اذا اكتشفت وجوده. شاهدت اسم القهوة الفيتنامية في قائمة المطعم وسألت النادل عنها ونصح بها بشدة! تأتي القهوة الفيتنامية في كوب أسفله كمية من الحليب المركز المحلى وتعلوه القهوة الكثيفة والمركزة. القهوة ساخنة وتحركونها سريعاً مع الحليب المركز المحلى لينتج خليط متجانس، الطعم لذيذ جداً لم أتوقع تقبّله، لكنني فعلت.

كميات الأكل المقدمة في نيويورك -والولايات المتحدة الأمريكية عامة- كبيرة، وتكفي لشخصين وربما ثلاثة أحياناً. لذلك كونوا مستعدين لتقليل الطلبات حتى تعرفون كمية الأكل التي يمكنكم استهلاكها! الأسعار أيضا ليست منخفضة. خاصة إذا كنتم مثلي قررتم عدم تناول الطعام من سلاسل المطاعم السريعة المنتشرة في كل مكان وفضلتم الجلوس في مطعم نظيف يقدم أكل واضح المكونات ومعد بطريقة جيدة. نجحت بتوفير الكثير عندما قررت اقتسام الطعام مع أختي –ما عدا حالات قليلة لم اخجل فيها من إعلان رفض المشاركة- كنا نقتسم طبق مقبلات أو سلطة ثم طبق رئيسي واحد، ونترك الحلوى والقهوة لمكان آخر. وهكذا إذا تناولنا الغداء يكون العشاء غائبا أو خفيفاً والعكس. وفرت النقود وعند وصولي سارعت بالوقوف على الميزان لأجد أنني ومع تلذذي بالكثير من الأطباق لم أزدد غراماً واحداً. وربما كان السبب في ذلك أميال المشي التي قطعتها في المدينة واللياقة المستعادة في الوقت المناسب؟

نيويورك مدينة تتطلب اللياقة، الكثير منها. لياقة بدنية، عقلية، نفسية. قبل الرحلة بحوالي شهرين قررت تغيير نمط حياتي بعد تكاسل عظيم وتراكم للتعب. بدأت بممارسة تمارين تفاوتت بين العنيف والمتوسط ومشيت ساعة يومياً في المعدّل. لا لم يكن هذا استعدادا للسفر. لكنّه أثر في طاقتي –وطاقة أختي كذلك- وكل يوم مع كل مغامرة جسدية في المدينة أفكر لو لم أكن بصحة ولياقة جيدة ماذا حدث؟ ركضت للحاق بموعد ما، مشيت لساعات من شرق المدينة لغربها ووصلت لنقاط أبعد شمالا وجنوباً. وقفت لساعات، واضطررت للاكتفاء بساعات نوم قليلة. لم احتج لحبة مسكّن واحدة، وكنت سأقع فريسة لتغير الجو بعد الرحلة لكنني استقبلته بالكثير من فيتامين سي والدفء.

nyc1-8

المشي عنصر مهمّ في تأمل مكان جديد، وأصبحت كل الشوارع واللوحات والبشر جزء من أحلامي خلال الأيام الماضية. أتذكر زاوية فجأة وأحاول التحقق من أنني رأيتها بعيني ولم تكن صورة أو مشهد من فيلم. كنت في كلّ مرة أقف على رأس الشارع –الناصية- أتذكر ما كتبه جمال الغيطاني في كتابه “مدينة الغرباء” في حديثه عن نيويورك:

“النواصي عندي أحد مصادر الحنين، والخوف والتوق، كل ناصية تعني التقاء طريقين، وكل طريق يعني المضي إلى غاية، إلى مصير، ولا يمكن للإنسان أن يمضي إلى أكثر من طريقين في وقت واحد، إما هذا وإما ذاك، من هنا تصبح النواصي نقطاً لتفرّق المصائر وتلاقيها، والسعي إلى المجهول أحياناً، من هنا ينشأ الخوف، أما التوق فيبدأ عند لقاء من نحبّ واللقاء يعني فراقاً، فمجرد بدئه يعني العد التنازلي للوصول إلى نهايته. مدينة نيويورك مصممة على شكل قطع الشطرنج، تتقاطع الشوارع، ولهذا تتعدد النواصي، من واحدة إلى أخرى، ربما لهذا السبب يجري الناس في مشيهم، لحركة الناس خصوصية في هذه المدينة شاهقة الارتفاع، متعددة الأجناس، ولأنّ كل من يحل بناصية يعني أنه عابر وليس مقيماً، لذلك اعتبرتها مدينة غرباء الكل فيها عابر، ما من مقيم.”

nyc1-9

المشي ذكرني بكتاب آخر “نيويورك التي لا يعرفها أحد” لـ وليام هيلمريتش. لم انته منه قبل السفر وأنوي فعل ذلك ثم كتابة مراجعة مطولة، أثر بي كثيراً وأتمنى أن تكون المراجعة لائقة. لكنه ليس موضع حديث الآن. في أحد الأيام خرجت للمشي في جولة سياحية من نوع خاصّ، مشيت فيها مع دليل لخمسة ساعات تقريباً حتى الجزء السفلي من منهاتن Lower Manhattan ومررت بشارع وول ستريت ومبانٍ عتيقة مختلفة. عجبت من نفسي لسببين: كنت منطلقة بالحديث والأسئلة، ولم استخدم هاتفي المحمول ولو للحظة خلال تلك المدة. نسيت كلّ مؤثر خارجي وركزت تماماً على ما رواه لي وأراني إياه. فكرة هذه الجولة عثرت عليها صدفة في بحثي عن الخدمات المجانية للمدينة. هناك منظمة غير نفعية في نيويورك تسمى Big Apple Greeter تقدم خدماتها لزوار المدينة مجاناً ومن قبل متطوعين نيويوركيين. الهدف من هذه المنظمة منح الزوار فرصة التعرف على نيويورك مع سكّانها بهدوء وبسرعتهم الخاصة وأماكنهم المحببة. كل ما عليكم فعله هو الدخول للموقع الخاصّ بهم وتعبئة معلومات مهمة عن موعد زيارتكم، مكان سكنكم في نيويورك، والأماكن المفضلة للزيارة –لديكم أكثر من خيار لتسجيلها- ثمّ اهتماماتكم أو الغرض من الجولة ثم أوقات وتواريخ محددة للجولة المرغوبة. بعد انتهاء عملية التسجيل يصلكم بريد الكتروني فيه شكر على التسجيل وعبارة مهمّة جداً أصابتني بالإحباط مفادها أنهم استلموا طلبي وتفاصيله لكن هذا لا يعني توفر الجولة كما أردت فهناك الكثير من الزوار وعدد محدود من المتطوعين في الأوقات التي اخترتها. قبل سفري بليلتين تقريباً وصلتني رسالة الكترونية من الموقع تبلغني بوجود دليل لي وتاريخ ووقت الجولة ثم طلبوا مني الاتصال به عند الوصول للمدينة لتأكيد وجودي.

photo 4

كانت الجولة صباحية، انطلقت مع بيتر –الدليل- الخمسيني المتمرس في التاريخ والعمارة النيويوركية من فندقي ومشينا على الـ High Line أحد كنوز المدينة الجديدة. وهو باختصار سكة حديد قديمة ومرتفعة عن الأرض حوّلت إلى متنزه ورئة خضراء للمدينة. يمتد على عدة شوارع وأصبح معبر لمن يريد التجول في نيويورك دون الحاجة للمرور بازدحام النواصي وانتظار الإشارات. على امتداده تجدون مقاهي وفروع مطاعم واستراحات للتمدد والتأمل. هناك فرق موسيقية لهواة، وجولات سياحية، وجدران المباني حوله قُدمت في كثير من الأحيان كهدية للفنانين للرسم عليها وعرض الأفلام وهكذا. مكان مختلف يحتاج إلى أكثر من زيارة حتماً، وكان فندقي مقابل لأحد مداخله وهذا جيد. بعد الممشى المرتفع انتقلنا مشينا لمنطقة تسمى بمنطقة “تعبئة اللحوم –Meatpacking District” ومنها إلى West Village و غرينتش. أكثر ما أبهرني في الرحلة المباني وألوانها وتنوعها. لم أكن أعلم بأنني سأهتم للعمارة في يوم ما. وبيتر يشرح على كل مبنى ما يتذكره من تاريخه، مبانٍ كانت بلا نوافذ وفتحت نوافذها ورفعت لعدة أدوار، مخازن الميناء على نهر هدسون التي أصبحت صالات فنيّة وأماكن للاحتفالات وفنادق فخمة. هذا مبنى من العشرينات وآخر يقف من نهاية القرن التاسع عشر. لم أكن اسجل ما يقوله، كنت امتصّ المعلومات بسعادة واسأل عن المزيد. السلالم خارج البنايات كانت لأغراض سلامة ولغرض أهمّ: لم تكن مساحة الشقق تسمح بسلالم داخل المبنى وهكذا كان كل دور يصل للخارج أو الداخل. كنت أقول لنفسي يمكنني رؤية كل هذا بالمشي فقط. لكن وجود دليل وحوار يدور بين شخصين منح التجربة بعد آخر وثراء خاص.

في الحلقة القادمة

ماذا عن الكتب والمكتبات؟

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الثالثة)

nyc1-5
Photo By Modi

حلقة اليوم إهداء للمترددين في الأحاديث القصيرة مع الغرباء. أشباهي طبعاً. لكن ليس بعد هذه الرحلة. أنا عادة لا أجيد الحديث مع الغرباء، أو الجلوس في الانتظارات لوقت طويل. أحتاج شيء للانشغال عن العالم حولي وربما التخلص من ورطة الأسئلة. في السفر إما أنك على عجل أو خجل من السؤال أو ببساطة لا تهتم للمارة أو المتواجدين معك. كنت في الحالات كلها أحد الثلاثة. ولكن قبل الحديث عن الكلام مع الغرباء سأروي لكم قصة ليلة من الصمت الإجباري في نيويورك!

في المدينة تقام دائما عروض مسرحية خاصة خارج برودواي، هناك مصطلح يستخدم في هذه الحالة للتفريق بين الأعمال المسرحية التي تعرض في برودواي أو تلك التي خارجه “Off-Broadway show”. أحد هذه العروض الخارجية عرض مسرحي يسمى “Sleep No More“. تخيلوا مزيج من ماكبث شكسبير وحكايات فندق مهجور منذ ثلاثينات القرن الماضي. التجربة المسرحية هذه تسمّى “تجربة غامرة” ينغمس فيها المشاهد ويصبح جزء من المسرح ويتفاعل عن قرب مع الشخصيات. مكان العرض الذي بدأ من ٢٠١١م هو فندق مكيتريك الذي يشير الموقع الخاصّ بالعرض بأنه فندق بني في الثلاثينات لكنه لم يبدأ العمل بسبب انطلاق الحرب العالمية الثانية وفتح أبوابه الآن. وأنا اعتقد بأن ما ذكر مجرد إضافة لتحفيز الزوار حيث أن المبنى يبدو بحالة جيدة اليوم. سأحاول الحديث عن تجربتي التي حاولت فيها عدم قراءة أي معلومات مسبقة أو مشاهدة تصوير للمكان – مجرد نبذة سريعة– ولكل شخص سيكون هناك قصة خاصة.

اشترينا التذاكر قبل وصولنا بأسبوع تقريباً لا أعلم هل هي متوفرة عادة أم تحتاجون الشراء باكراً. يبدأ الدخول للعرض في الساعة السادسة مساء وتغلق الأبواب في السابعة ويمتد العرض حتى التاسعة مساء. في الاستقبال يختم على أيدينا شعار الفندق ونتسلم بطاقة تشبه بطاقات لعب الورق ونضع حقائبنا وهواتفنا وكلّ ما نحمله في غرفة الاستقبال. ثم تبدأ الرحلة. كان الدخول إلى الصالة الرئيسية مدهش، لا أريد إعطاء الكثير من التفاصيل فهذا سيفسد العرض! لكن هناك معلومة بسيطة: إذا وجدتم أنفسكم مترددين في الدخول فهذه الفرصة لكم للتراجع والتوقف لأنها ستعطيكم نبذة عن ما يمكن توقعه في الساعات القادمة. بعد الدخول ستائر مخملية ثقيلة في الطريق ما إن تبتعد حتى تجدون أنفسكم في حانة قديمة، دخان وأناس يتحركون في كلّ اتجاه وفرقة جاز من الثلاثينات تستعد للبدء. كل الموظفين في المكان يرتدون ملابس قديمة ويتحدثون بطريقة قديمة كذلك. شعرت بأنني في مشهد من Boardwalk Empire أو في فترة حظر الكحول بشكل عام. البطاقات في أيدينا واكتشفت بأن أخواتي يحملن أرقام مختلفة وهذا كما يقولون من صميم التجربة، أن تمشي وحيداً وتشاهد العرض أفضل من أن تكون في مجموعة. التجربة الفردية أهمّ. نادى الموظف على بطاقاتهم وذهبوا وانتظرت برعب – لا أدري لماذا شعرت هكذا- عندما حان دوري دخلت إلى مصعد قديم مظلم مع مجموعة من المشاهدين، نسيت أن أقول تمّ تسليمنا أقنعة خاصة وضعناها ما أن غادرنا الحانة للمصعد. في المصعد يشرح لنا المطلوب منّا: ممنوع خلع القناع في أي وقت داخل الفندق، اذا أردتم استراحة عودوا إلى هنا وستجدون طريقكم، ممنوع الكلام، أو الضحك وأن أي مخالف سيخرج من العرض فورا، أو الوقوف في طريق الممثلين وهم يؤدون أدوارهم. وكونوا حذرين من الاقتراب وبدء تفاعل مع الممثلين فقد يكون ذلك بداية لمشهد لن تتراجعون عنه. ويعود ليذكرنا بأنّ كل ما نراه مشاهد من عرض، لن يحدث لنا مكروه، والموظفين -غير الممثلين- سيرتدون أقنعة سوداء لتعريفهم. هكذا؟ صمت كامل، وأفكر في أخواتي، وعن شكل التجربة القادمة.

الفندق عبارة عن عدة أدوار -خمسة كما أذكر مع أننا هبطنا وصعدنا كثيرا- غرف فندق، وغرف أخرى لأطفال، ومصح للأمراض العقلية، مقبرة وباحات وصالة للرقص! كل هذا في أدوار متجاورة تتغير موسيقاها بانتقالكم من مكان لآخر، وبرودة التكييف وحرارته وكذلك الرائحة -في دور المصح كنت أشم الكلوروفورم أو مادة طبية أخرى- شعرت بقشعريرة في ٩٠٪ من الوقت وبددت خوفي تارة بقراءة المعوذات وتارة بالانطلاق خلف الفضول. كان التحدي الأكبر الأول لي في هذه التجربة: عبور المقبرة، في إحدى الأدوار مقبرة فيها فزاعة وأصوات رهيبة والكثير من التبن الذي يطقطق تحت الأقدام، لم يكن هناك أحد معي حتى الغرباء الذين استأنست بظلالهم وحركتهم الهادئة وهمهمة المتهورين منهم لم يكونوا هناك، قررت العبور فهي على كل حال لم تكن مقبرة حقيقية. أما التحدي الثاني فكان عدم اللحاق بالممثلين. كانوا يركضون في كل اتجاه بعد انتهاء مشاهدهم لتشتيت الجمهور، وإذا ثبتت في مكانك سترى شيئا مختلفاً. التمثيل محترف ومميز والتصميم الداخلي للمكان والأصوات مذهلة. التقيت بأخواتي بعد عدة أدوار، حاولنا كثيرا التفاهم بالعيون ونجحنا مرات ومرات استخدمنا شد الملابس والصفعات الخفيفة. يُطلب منكم قبل العرض بيوم الاستعداد بارتداء ملابس مريحة وأحذية مريحة كذلك والحضور على الوقت. هناك مشاهد راقصة سحرية وحوارات وانفعالات ومشاهد شجارات بين الممثلين. سأكون صريحة معكم وأخبركم بأنني اعترضت طريق الممثلين في إحدى المرات على الرغم من التحذيرات، وما كان من الممثل إلا أن دفعني جانباً بامتعاض. شعرت بالخجل وددت لو أمكنني الاختفاء. وفي مرة ثانية وبناء على اللافتة التي سمحت للزوار بتجربة الأثاث واستخدامه جلست بكلّ حماستي لقراءة رسائل قديمة بخط اليد على الكرسي الذي غارت وسادته ونهضت سريعاً. في النهاية وباختصار سيخرج كل زائر بعرضه الخاصّ، شاهدت من الأدوار بعض المشاهد وانتقلت بينها وتغيرت زوايا رؤيتي والأحداث، وهذا ما حدث مع أخواتي. كل منا كان مخرج العرض الخاص يقتطع ويكمل ويعيد مشاهدة كل دور بحسب ما يقتضي فضوله. “Sleep No More” تجربة مميزة جداً لا تفوتوها في رحلتكم إلى نيويورك، مجرد ساعتين ستختبرون فيها جوانب سيكولوجية واجتماعية في أنفسكم لم تعلموا بوجودها -أو غيابها- من قبل.

الاستخبارات السوڤيتية تتعقبني!

نيويورك ستغير كل معارفكم المسبقة في الاحاديث القصيرة. كنت وما زلت أقول لا تتحدث في السياسة أو الدين مع شخص تلتقيه للمرة الأولى. تحدث عن الطقس، عن المدينة، عن الهوايات. جد أي موضوع آخر وابتعد عن المواضيع الشائكة. لكن ما يحدث معي في كل مرة أن الطرف الآخر لا يتردد في السؤال عن بلدي، والشرق الأوسط وعن الإسلام، ويريد مني تلخيص سريع لكل ذلك خلال جولة في سيارة الأجرة أو الوقوف في انتظار القهوة. غالباً أهزّ رأسي واكتفي بالابتسام والإجابات القصيرة لكن السيد “اسحق” كما سأسميه -لأنني نسيت اسمه الآن- استدرجني إلى حديث مليء بالضحك والهلع!

في إحدى الأيام أوقفنا اسحق وركبنا السيارة فالتفت نحونا بحماس وقال: بون جور! دُهشنا أنا وأختي ولكننا رددنا تحيته بون جور بلا تردد. قال: بون جور، هذه تحيتكم؟ أنتم من فرنسا صحيح؟ ضحكنا لغرابة الإشارة وقلنا لا. عاد ليسأل: الجزائر؟ وأجبنا بلا، وحتى لا تطول لعبة البنغ بونغ هذه قلنا أننا من السعودية. وكانت الحماسة للحديث تزيد! تعرفون السائق الذي يلتفت ويترك المقود ليتحدث إليكم؟ لا أحب هذه الالتفاتة، تخيفني. راقب الطريق وتحدث. انطلق في حديثه بالأسئلة المعتادة: كيف جئتم وماذا تفعلون؟ وما رأيكم في نيويورك؟ كنا نجيب بتهذيب ولكنه انطلق بلا دعوة يشكو أمريكا -عرفت من لهجته بأنه روسي- ورغبتها في إفساد نساء العالم، وإيقاف الإنجاب ونشر الانحلال والشذوذ وإبعاد الناس من المعابد .. وهكذا. كنا نعلّق بحيادية لأننا لم نفهم سرّ هذا الغضب. ثمّ سألته عن بلده الأصلي وقال بأنه يهودي من روسيا. اكتفيت بـ أها ممتدة ثم قلت بأنني حزرت لهجته. قال: لديكم في السعودية يهود؟ قلت ربما، كانت هناك أعداد كبيرة قديماً لكنني لست متأكدة من الإحصائية الآن. ثمّ سأل: قتلتوهم؟ قلت لا. ربما لم يقتنع أو كانت لديه رؤية أخرى، وأنا في الحقيقة لم أكن أعرف على وجه التحديد التفاصيل الكاملة لما يسأل عنه. عاد للحديث عن روسيا وقلت له بأنني ترجمت رواية لكاتب روسي، ويهودي. ثمّ أخبرني بأنّني الآن في خطر، كاتب مطلوب من الكي جي بي وكتابه صودر قبل نشره! الاستخبارات تتبعك الآن وساعاتك معدودة، هل تعرفين الساعة الرملية؟ تك توك تك توك .. كدت اقفز من السيارة، أعرف بأنه يمزح لكنّه دفعني للتفكير لوهلة. سأل عن معاني بعض الكلمات بالعربية ثم قال: ما معنى صدّيقين؟ قلت له الصادق دائما، المعروف بالصدق، الذي لا يكذب. ثمّ قال لي بأن المعنى العبري لنفس الكلمة بنفس النطق يعني: قديس لا يصدر منه الخطأ. طالت المسافة وزادت الأحاديث وعندما توقفنا تمنّى لنا يوما سعيدا وأن يلتقينا في الغد.

أول جملة عربية في نيويورك

في الفندق الذي سكنت به موظف بملامح عربية -أو إفريقية- لم تكن سمرته شديدة، سمرة صحراء هكذا فكرت، ربما كان من الصومال أو موريتانيا. لكنه يتكلم إنجليزية صحيحة وبلكنة بروكلينية. خلال فترة سكننا تحدثنا بالعربية أحيان كثيرة، في الاستقبال، في المقهى، تشاجرنا قليلاً، ومزحنا وعلقنا على مواقف مررنا بها، لكن كانت العربية مساحتنا الآمنة في الحديث. لا أحد سيفهم ما نقول. ربما.

خلال فترة السكن واجهت مشكلة مع بطاقتي الائتمانية ولم أتمكن من دفع رسوم الأسبوع التالي. حاولت مراراً وطلبت منهم الانتظار حتى اتصل ببنكي.

في الصباح التالي كنت خارجة من مصعد الفندق باتجاه المقهى، وقابلني الموظف الذي تحدثت عنه سابقاً. قال لي: “جربت بطاقتك بس ما نفعتش” هكذا قالها، ولكنني سمعتها “@$@#^&)ـ(٪ٍ&” نسيت كل الكلمات العربية التي تحدثت بها في حياتي، أو كانت الدهشة؟! قلت له: sorry! وأعاد الجملة من جديد واستوعبت، سريعاً أعدت شريط احاديثنا في الاستقبال، أتمنى أنها لم تكن معيبة. واصلنا النقاش عن البطاقة وأيامي الباقية وحجز سيارة المطار بالعربية.

شعرت بأن قلبي يغنّي، كأنني أجريت تمريناً لوجهي. عاشت العربية!

في مكتبة مايكل السرية

nyc1-6

أردت أن اكتب تدوينة منفصلة عن زيارتي الثانية هذا العام لمكتبة مايكل السرية. سأفعل بإذن الله لكنني الآن سأكتب عن الأحاديث القصيرة اللطيفة التي تفتح أبوابا لفرص مدهشة. هناك في المكتبة التقيت بعدد من الزوار واستدرجتني إحداهن للحديث عن عملي ووضع الكتابة والأدب في السعودية وغيرها من الأسئلة الجيدة لبدء الحديث في مكتبة. قالت بأنها ولدت في البحرين وعاشت حتى عمر العاشرة ثم انتقلت وأسرتها إلى أمريكا -هي أمريكية- ثم تحدثت عن تحويل مسارها التعليمي لخدمة طموحها وما تريد فعله في الحياة. درست الاقتصاد وعملت لفترة بتخصصها، ثم قررت إكمال الدراسة العليا في الكتابة الإبداعية، وهكذا أصبحت اليوم أستاذة جامعية في الكتابة الإبداعية في جامعة New School بنيويورك. وتعمل محررة لمجلة نيويوركية متخصصة في الآداب والفنون والترجمة. ثمّ تحول الحديث اللطيف إلى عرض مفتوح للكتابة معهم. ماذا سأكتب؟ قالت لي عن الحياة في الشرق الأوسط، الفنون والأدب وأشارت لكثير من الكتاب والشعراء العرب الذين استضافتهم المجلة. كما أوصتني بقراءة كتاب An Unnecessary Woman للكاتب اللبناني ربيع علم الدين يحكي قصة علياء، سيدة بيروتية وحيدة تختار كل يناير كتاب جديد لترجمته لنفسها. اقتنيت الكتاب وانتظر وصوله مع شحنة الكتب التي تركتها ورائي! أما بالنسبة للمجلة فسأترك اسمها مفاجأة عندما أبلغكم بنشر أولى كتاباتي معهم.

في الحلقة القادمة :

الأكل، الكثير من الأكل واللياقة في نيويورك.