بدأت كتابة هذه التدوينة في صالة مكتظة بالمسافرين. ودّعت والدتي قبل نص ساعة وانطلقت للحاق برحلتي إلى باريس. حرارة المكان وتململ الجالسين ووقوفي لوقتٍ طويل قبل إيجاد كرسيّ خالي كل هذا سبب لي الانزعاج وبعض الدوار. اعتدلت في مكاني منتصرة – حصلت على كرسي. تركت اغراضي بعد ايماءة من رأسي للجالس قربي: أرجوك راقبها من فضلك. لم أقل شيئا فقط إشارات بيدي ورأسي ورفع لي ابهامه موافقًا. اشتريت قبل أيام كتاب تذكاري يصوّر أشهر إشارات اليدّ الإيطالية وما تعنيه اللغة غير المنطوقة.
اخترت شرب فنجان كابوتشينو أخير في العاصمة “الحلم”! وجلست لالتقاط أنفاسي وتدوين كل ما أود تذكره عن الأسبوع الماضي. اعتمد طريقة تدوين مختلفة هذه المرة مبنية على الذاكرة المصوّرة في جهازي -وقلبي. امسك مذكرتي الورقية وابدأ ببناء مخطط مقسّم على الأيام والتجارب. مبدئيًا قسمت المحتوى لعدة تدوينات وهذا ممتع!
سيكون لديّ فرصة أكبر للحديث عن المتاحف والمعارض والأعمال الفنية التي وقفت أمامها وإعادة التفكير فيها بالكتابة يحقق لي التجربة الغامرة والأثر الممتد. أحببت في زيارتي لروما سقف التوقعات المنخفض الذي منحته لها. خطط مرنة قابلة للتغيير، البطء والتعرف تدريجيًا على المكان. مقارنة برحلاتي الأولى لمدنٍ أخرى، كنت املأ جدولي بالكثير من التجارب والأماكن وأشعر بالإرهاق والغضب لاضطراري أحيانًا لتأجيل تجربة أو إلغائها بعد الدفع!
لم أضع الكثير من الفعاليات على الأجندة، لكنني فكرت جيدًا في اختياري للفندق. أردت أن نحظى أنا ووالدتي بعطلة منعشة والبداية تكون في الفندق الذي سنقضي فيه ساعات الاستجمام الأطول. اخترت فندق لوكارنو البوتيكيّ الذي يعود تاريخه للعشرينيات ميلادية من القرن الماضي. بني المبنى الرئيسي على طراز الآرت-نوفو المعماري الذي كان الطراز الأحدث آنذاك. أما المبنى المجاور الذي ضمّ إلى الفندق لاحقًا فيعود تاريخه إلى ١٩٠٥ للميلاد، فقد كان منزلًا لعائلة عريقة من فينيسا.
حافظ المكان على تاريخه مع إضافة لمسة حداثة لكلّ شيء. تقنيات وأثاث عملي وإنارة متميزة. لكن الزوايا القديمة تظهر فيه بوضوح. وفي ركن خفيّ بعيد عن قاعة الاستقبال الدافئة خزائن زجاجية تحتضن صور وسجلات وقصاصات من السنوات التي مرّت على المكان. ساكنيه الأشهر، وتفاصيل مثل الأواني والتذكارات.
الغرف ليست واسعة بشكل كبير، لكنها مثالية في التصميم. بمجرد وصولنا أنا ووالدتي افرغنا حقائبنا في الخزائن. وأصبحت الحركة والحياة أسهل! أعلم أن هناك أجنحة أكبر في المكان وغرف عائلية مبهرة لكنها بطبيعة الحال أغلى سعرًا.
بالإضافة للتصميم والهدوء والخصوصية العالية في الفندق، أحببت أنّ المشي منه لأبرز المعالم حوله سهل جدًا. فهو على بعد دقائق من ساحة الشعب الصاخبة خلال النهار، والمحاطة بالمتاجر، والمقاهي، والمطاعم. بالإضافة إلى قربه من منطقة السلالم الإسبانية.
وبالنسبة للخدمات فالمطعم الرئيسي للفندق يقدم وجبة إفطار رائعة -وفعلت شيئا مختلفًا هذه المرة فقد حجزت الغرفة مع الإفطار. نستيقظ أنا ووالدتي ونهبط للطابق الأرضي وكأننا في منزل ضيوف حميم. نفكر في شهيتنا هذا الصباح؟ حلو أم مالح؟ ما هي القهوة التي نودّ تجربتها؟ وكلّ اشتراطات طعامنا مجابة والموظفون مرحّبون. وننطلق في يومنا بعد ساعة أو تزيد من الاستمتاع بتناول الوجبة إما في صالون الطعام الداخلي، أو في الباحة الوسطى مع العصافير التي تلتقط من أطباقنا فتات الخبز وقطع الجبن.
استحضر وأنا أكتب التدوينة الآن نعمة تجربة السفر مع شخص يختلف عنك في الكثير من الأشياء. والدتي تحب الهدوء والبطء وتبحث دائمًا عن فرصة للراحة والانعزال في الإجازة. تذكرت عبارة حفظتها في ملاحظاتي كتبتها مدونة في نشرتها البريدية:
“لقد كان لديّ الكثير من الوقت غير المحدود للقيام بالأشياء التي أحبّها، وشعرت بقدر كبير من الإلهام والامتنان الذي كان مفقودًا في حياتي مؤخرًا.”
تفرّغت تمامًا لتذوق الخضروات والفواكه الشهيّة بعد حصاد سبتمبر، وذهلت من لذة زيت الزيتون وحاولت تتبع عناصره ذات مرة لأجد معلومة عن المزرعة التي جاء منها: زرعت أشجار الزيتون بين كروم العنب لتعطيها هذا المذاق المختلف. قطع خبز ساخنة وقليل من الزيت ورشة من الفلفل الأسود كانت بداية وجبتي الأولى في روما. وصخب الشارع يتسلل عبر الباحة الخلفية للفندق. لسيارات الإسعاف هنا نغمة مختلفة عن أي مكان آخر. مزعجة لكنها ستبقى في ذاكرتي بعد مغادرة المدينة.
الوصول لمكان جديد يشعرك بالتحدّي والتوتر. مثل قطة متحفزة أحاول تذكر الشوارع ومداخل الأحياء وكأنّي لا أملك خريطة استشيرها لاحقًا. للوهلة الأولى تخيّلت أن روما معركة ينبغي الانتصار فيها. ولكن مع مرور الوقت تهذّبت مشاعري وقررت أن اكتشفها بهدوء وعلى مهل.
في كل مرة أخرج من الفندق اقرأ الشوارع الصغيرة بعمق واتأمل المارة والعاملين. وفي اليوم الأخير خلال ساعات الركض وتسوق الهدايا. وجدت الشعور اللطيف الذي كنت ارجوه: شعور العودة إلى المنزل! حيث الفندق ومطعم البيتزا الدافئ وصاحبته التي أصبحت صديقتي ووالدتي وأهدتني في ميلادي احتفالية إيطالية وفناجين مدموغة باسم المطعم: أصبحتِ الآن عميل ذهبي مهمّ جدًا.
في روما تتبعت خطوط الزمن على واجهات المباني، والأرض، ووجوه الشيوخ والعجائز. رأيت أثر الزمن على أشجار الصنوبر التي زرعت على التلال العالية. تلوّن الرخام في الفاتيكان، ومياه النافورة العذبة التي عاشت هنا مئات السنين. عندما أخبرتني موظفة الفندق في اليوم الأول أن النوافير وأماكن التزود بالماء البارد العذب في المدينة وفيرة. كل ما عليك فعله هو حمل مطارتك أو عبوة الماء في كل مكان واملأها واستمتع.
جمعت في هاتفي عشرات الصور لكل ما يشدّ انتباهي من تفاصيل بناء تذكرني بشيء أو مشهد أو شخص. تعبت وفي إحدى المرات ضحكت من نفسي قبل أن ألقي بهاتفي في الحقيبة معلنة الاستسلام: هذه المدينة أكبر من صورك يا هيفا!
لفت انتباهي أيضًا استعدادات المدينة لاستقبال أكثر من ٣٥ مليون حاجّ كاثوليكي احتفالًا بسنة اليوبيل ٢٠٢٥. الكثير من أعمال الإصلاحات والبناء والتي رافقها بعض الاقفال لنواحٍ من المدينة أو معالمها التاريخية. وصلتني رسائل تستوضح مدى سوء الأمر، ولكن في حالتي لم أواجه أي صعوبات في الجهات التي زرتها فقد حظيت بتجربة سلسة ومتكاملة.
رحلتي إلى روما كانت لعدة أسباب: زيارة مكان جديد، الاحتفال بعام والدتي الستين، ويوم ميلادي الثاني والأربعين في منتصف كلّ هذا. الكثير من المصادفات السعيدة واللحظات المنتظرة وبعض الازمات والتعقيدات طبعًا فهذا هو وجه الحياة الذي أعرفه.
هذه هي التدوينة الأولى في سلسلة قصيرة سأحكي فيها عن روما.
شكرًا لكم على متابعتكم وحضوركم الدائم.
.
.
.