أشعر بالغرابة في كلّ مرة أنشر تدوينة جديدة هنا. نسيت كيف افتتح التدوينات وأنا بحاجة للتخفف من فكرة كتابة جملة افتتاحية مناسبة لمحركات البحث أو النبذة التي تظهر في الرابط عندما يبعث به أحد إليك. شهرين ونصف تقريبًا بين التدوينة الأخيرة واليوم. هذه الفترات الممتدة من الصمت يصحبها كثير من الصخب والتحولات في العالم الخارجي*. الكلام كلّه في رأسي يطفو، يتقلب ويتلوّن. يتصاعد ويخبو.
أحب الكلمات كثيرًا!
يمكنكم اكتشاف ذلك لو مررتم بمكتبي ورفيقتي خلال ساعات العمل ستروننا نلعب بالكلمات، نرميها ككرة خفيفة بيننا. ما رأيكِ؟ هل كلمة مركز أفضل أو ممر؟ ربما معبر أو جسر؟ أكتب جملة وأمررها لها وتعيد تنسيقها وتختار كلمة ذهبية مثل “يتقفى” لتصف معرضًا فنيًا يسافر بالزمن. بينما كان اختياري تقليدي ونمطي جدًا: يعكس .. يعكس ماذا؟
تمتصّ طاقتي الاجتماعات في منتصف اليوم واستذكر ساعات الصباح التي قضيتها اليوم في لقاء صديقة جديدة. أحبّ الانترنت أيضًا -ليس بدرجة حبّي للكلمات. ممتنة لهذه النوافذ المضيئة والفرص العفوية، وفكرة: لماذا لا نفعلها؟ لنلتقي اليوم ونكتشف البقية لاحقًا. تمنيت لو أنّ شهيتنا للطعام كانت مفتوحة لكنت اقترحت أن تجرّب كعكة الموز الشهية لديهم. اكتفينا بالقهوة وتبادلنا القصص السريعة مع وعد بتجديد اللقاء متى ما سمحت الفرصة.
هذه سنتي العاشرة في الرياض. رسميًا سأصبح رياضية؟ كنت قد أجريت بحثًا شخصيًا جدًا عمّا تفعله بك المدن الكبرى عندما تنتقل إليها. الركض والتوتر وخلطة غريبة من الطموح والاحتراق! قضيت السنوات العشرة في صراع مع جسدي وصحتي وطموحي. وسلّمت أخيرًا أن سلم الأولويات سيقلب رأسًا على عقب. وأنّه ما من عيب في أن تستقر في وظيفة هادئة منخفضة المخاطرة وعالية القيمة في جوانب أخرى. وظيفة سمحت لي بالأساسيات التي يطلبها جسدي منذ عدة سنوات ويرسل نداءات استغاثة بلا مجيب. النوم الكافي، زيارة الطبيب وعمل الفحوصات للأعراض الصحية الغريبة. وطبعا التخلص من الكيلوغرامات الزائدة التي حملتها معي. هذا الشهر أتممت سنة مع رحلة التنظيف والعلاج. سعيدة جدًا بالتحسن الذي لاحظته ولاحظه الكثيرون من حولي.
استحضر هنا اقتباسًا أحفظه في هاتفي من قصيدة لنيّرة وحيد.
لن أعبث في الكلمات بترجمتها وسأتركها هنا:
and I said to my body. softly. ‘I want to be your friend.’ it took a long breath. and replied, ‘I have been waiting my whole life for this.’
Nayyirah Waheed
جسدي سعيد أعرف ذلك، لأنه يتجاوب معي بشكل أفضل. أعطيه الراحة والاهتمام ويعطيني القدرة على مجابهة الأيّام. سأكتب رسالة طويلة لجسدي يومًا ما، جزء اعتذار وجزء قصيدة حبّ.
عدت أيضا للتخطيط اليومي والأسبوعي – والشهري بعد توقف سنوات. ظننت أنّ العفوية والعيش بلا خطة يناسبني لكّنه تسبب بالفوضى العارمة. فوضى مفتعلة طبعًا ونتيجتها أعادتني لنفسي. أنا لا يصلح لي التنقل في الأيام بلا مراسي. وجاء الفصل الأحبّ من السنة: شهر رمضان. قلتها من قبل وسأقولها دائمًا: شعور بداية السنة يحضر هنا بقوة. كان شهرًا هادئًا والطريف في الأمر أنني قلت لصديقتي: أريد عزلة تامّة! لا أريد رؤية أحد أو الخروج كثيرًا من المنزل. الأسبوع الأول كان للعمل وبعدها فقدت صوتي! نعم فقدت صوتي. استيقظت ذات يوم وبعد صمت الصباح المعتاد** حاولت تحفيز حنجرتي للحديث وفشلت. بقيت على هذا الحال مع مزيج غريب من السعال والاعياء لأسبوع كامل وما إن تشافيت من العرض حتى ظهر آخر وأبقاني حبيسة المنزل.
مضى الشهر وأنا في عزلة حقيقية كما أردت. لكنّه الأكثر سكينة وهدوء منذ سنوات. ربما ساعدت الأجواء في هذا الشعور العام بالسلام فالمطر يغمرنا كل عدة أيّام والعائلة تجتمع بشكل متقارب بعكس الانتظار لنهاية الأسبوع.
في الفترة الماضية عدت للقراءة باختيار كتب مختلفة المواضيع واستعدت شهيتي وفضولي. عنوان التدوينة اقتباس من رسالة لسيلفيا بلاث لا أذكر لمن بعثتها لكنّ العبارة بقيت في ملف الملاحظات لديّ. نعم أعيش كلّ لحظة بكثافة فظيعة. لكن هذا جيّد لأنّ هذا هو شكل الحياة الذي أبحث عنه. تباطؤ وهدوء يسمح لي برؤية الأشياء بوجهها الحقيقي. كيف كانت الأيام فيما مضى قبل هذا الهدوء العظيم؟ مثل النظر عبر نافذة قطار ينطلق بسرعة. لا أنا قبضت على مشهد محدد ولا وصلت.
فقدت قطّتي شهيتها قبل مدة قصيرة. القفز بين المواضيع لعبتي المفضلة***
فقدت شهيتها ونابها الأخير****.
هذه الأحداث تذكرني بفكرة ترعبني: قطتي عجوز! وسيأتي الوقت الذي تغادرنا فيه ومهما تجاهلت الفكرة إلا أنها تضعني بمقابل فكرة أخرى: التقدم في العمر وما يفعله بنا. قطّتي تبلغ السادسة عشرة هذا العمر الذي يقابله ثمانين سنة بعمر البشر. عجوزة تتأرجح ذاكرتها بين يومٍ وآخر. روح صغيرة رافقتني خلال سنوات رعايتي لها. أقولها مازحة أحيانًا لكنها فكرة عميقة في قلبي: علاقتي بها أطول من علاقتي بكثير من الأشخاص الذين عبروا حياتي! لا أحبّ الزوايا المظلمة من الحكايات لكنها موجودة وحقيقية.
هذه تدوينة غرائبية فوضوية ولذيذة أقول ذلك وأنا أحاول القبض على آخر كلماتها في رأسي. أودعها هنا في مخزني الحبيب.
.
.
.
*اتخيل مدونتي صندوق أو غرفة تحت الدرج
**أحبّ قضاء ساعات اليوم الأولى في صمت تامّ إذا استطعت
*** تقول زميلة عمل أنها تفاجأ كلما زارت جناحنا. كلّ واحدٍ منا يتحدث عن شيء مختلف والجميع يستمع والكلّ يعلق ثمّ نقفز لموضوع عشوائي آخر وهكذا. في قلب هذا الصخب نفهم بعضنا البعض أما الزوار القادمون من المكاتب الأخرى فيقع عليهم عبء الفهم أو الجلوس للمراقبة والشعور بالدوار.
****تخلّصت من نابها الأول قبل سنة تقريبًا أو أكثر. لم تنتظر الذهاب للبيطري وتركته في ممر الغرف ليفزعني منتصف الليل.
.
.
.
Painting by Nathanaëlle Herbelin