ثلاثة أيام مع غابو: اليوم الأول

gabriel-garcia-marquez-613x335

ماركيز مهموم بسبب ما آلت إليه الصحافة في أمريكا اللاتينية. كان ماركيز نفسه صحفياً ومراسلاً. في مارس 1995م بدأ مؤسسته الصحفية لخلق صحافة لاتينية أفضل. يسميها ماركيز “مدرسة بلا جدران” وتهدف إلى إحياء الصحافة عن طريق ورش العمل المتنقلة والتدريب الصحفي في المنطقة. حماس ماركيز تولد من مشاكل الصحافة المعاصرة، أصبح المراسل الصحفي يبحث عن الأخبار العاجلة التي تصنع الضجة والأضواء مع إغفال الإبداع وأخلاقيات العمل. أعمالهم تعتمد على الوثائق السرية المسربة وتغرق في الأخطاء النحوية وتفتقر للعمق. “لا تحركهم الأسس للقصة الأفضل، تلك التي تروى بطريقة جيدة وليست التي تنشر أولا” قال ذلك في خطاب تعميده للمؤسسة. ماركيز انتقد طرق الجامعات ورؤساء التحرير في التعامل مع المهنة الأفضل في العالم –بالنسبة له-. إنّه يعتبر الصحافة المطبوعة شكلا من أشكال الأدب، ويطلب تبعا لذلك أن تركز الصحف على تدريب العنصر البشري فيها قبل استخدام التقنيات الحديثة.

مؤسسة ماركيز مدعومة من قبل اليونسكو ومقرها بارانكيا الكولومبية وينظم من خلالها العشرات –وربما المئات- من الورش التدريبية ويحضرها المئات من المشاركين من شتى بلدان العالم وتتنوع مواضيع الورش بين أساسيات كتابة التقرير الصحفي- الريبورتاج- ورواية الأخبار وتقنياتها وعرضها في التلفزيون والراديو والصحف. كما تناقش الورش أخلاقيات الصحافة وحريتها والعمل في المناطق الخطرة. بالإضافة إلى التحديات التي تصنعها التقنيات الحديثة للمهنة.

تُدرّس هذه الورش من قبل متخصصين وتستهدف الشباب تحت عمر الثلاثين بخبرة لا تقلّ عن ثلاث سنوات في مهنة الصحافة. ومع أن مقرها في كولومبيا إلا أن ورش التدريب الخاصة بالمؤسسة تقام في الخارج. في الأكوادور، فنزويلا، المكسيك، وإسبانيا. ورشة التدريب المركزية في المؤسسة هي تلك التي يدرسها ماركيز بنفسه والصحفية الكولومبية المستقلة سيلفانا باترنوسترو بادرت بالتسجيل فيها وقُبلت للمشاركة في ورشته الخامسة.

هذه التدوينة تلقي الضوء على مذكراتها من أبريل 1996م وحضورها لورشة الثلاثة أيام مع ماركيز. حاولت ترجمة أهم تفاصيل هذه المقالة واستبعدت بعض التفاصيل التي لا تخلّ بنقل الحكاية لكنها قد تكشف أحداث أعمال ماركيز لمن لم يقرأها بعد. أتمنى أن تجدوا فيها ما تحبّوه، اقرؤوا، استمتعوا وبالتأكيد انشروا.

“ثلاثة أيام مع غابو”

تقدمت للمشاركة وقُبلت. من شدة حماسي للحضور وصلت قبل الجميع إلى المركز الثقافي الإسباني بقرطاجنة وأنا التي تتأخر دائما عن كلّ شيء. المركز في منزل بطابقين وتصميم معماري رائع. هناك باحة داخلية ونافورة وتملكه الحكومة الإسبانية. المكان مناسب جدا لماركيز، فقرطاجنة مدينته، وكثير من الشخصيات التي كتب عنها سارت على طرقها الضيقة المرصوفة بالحصى. على بعد عدة أحياء من المركز يقع ميدان الكاتدرائية، هناك تنبّه فلورنتينو أريثا إلى فيرمينا داثا اليافعة. سيفيرا ماريا دي تودوس لوس إنجليس ابنة الثانية عشرة التي واصل شعرها النمو بعد وفاتها عاشت في دير سانتا كلارا القريب كذلك. منزل غابرييل غارسيا ماركيز قريب من الدير الذي أصبح فندقاً اليوم. يمكن لساكنيه اختلاس النظر إلى منزل الكاتب. ‘هذا مخجل’ قال لي أحد النزلاء ‘كنت أشاهده كل صباح وهو يتناول إفطاره، ثم أقفلت الستائر أخيرا’.

الاثنين، ابريل 8، 1996م

9 صباحاً

وحدي بين 12 صحفي نجلس حول طاولة خشبية بيضاوية. نجلس بهدوء مثل طلبة منضبطين في مدرسة يسوعية ننتظر بدء الدرس. يفتح غابرييل غارسيا ماركيز الباب ويدخل مرسلاً نظره عابثة باتجاهنا. كان يعرف التوتر الذي نشعر به الآن. غابو –كما يحب الكثير مناداته- يرتدي ملابس بيضاء اللون. هنا في منطقة الساحل الكاريبي بكولومبيا يرتدي الرجال اللون الأبيض عادة. كلّ شيء أبيض حتى الحذاء. يقول صباح الخير ونوشك أن ننهض وننحني ونردّ بصوت واحد ‘صباح الخير بروفيسور’. بقي من الكراسي الخالية اثنان. كلاهما مواجهان للنافذة وظهرهما للباب. اختار غابو الصحفي المكسيكي سيزار روميرو الجالس بجانبي وقال له: لقد شاهدت ما يكفي من أفلام رعاة البقر. لا أجلس وظهري للباب أبداً. بالإضافة إلى أن لي أعداء أكثر من أعدائك.

قال سيزار: دون غابرييل! طبعا. بينما توجه غابو لكرسيّه تذكرت ما قاله لي صديق كوبيّ. قال لي: ستحظين بوقت رائع. إنّه يوجه انتباهه للنساء أكثر من الرجال. فالنساء يمنحنه الحظّ. الحضور النسائي في الورشة ينحصر فيّ وأندريا فاريلا.

يجلس غابو إلى يساري وأشعر بالتوتر. تبدأ يداي بالتعرق وأجففها في بنطالي. ثم أعقد ذراعيّ أمامي. يضع ساقاً فوق أخرى. أخفض بصري لأنظر باتجاه حذائه الأبيض وحافته المدببة والمصقولة بعناية. سوار ساعته أبيض كذلك. اركزّ على قميص “الغوايابيرا” المفضل لدى رجال أمريكا اللاتينية، يرتدونه خارج بناطيلهم ويستريح على أوراكهم بجيوبه الأربعة. وأحياناً تزينه التطريزات والزركشة.

لقد ارتبطت هذه القمصان في ذاكرتي بالأجداد والوزراء وملاك الأراضي. بالرجال الذين تفوح منهم رائحة الكولونيا والويسكي. أما قميص غابو فكان بلا زركشة أو تطريز، مصنوع من كتّان فاخر يمكنك الرؤية من خلاله. وبنطاله قطني مخطط. تناقض غير متوقع.

يضع على الطاولة حقيبة جلدية سوداء، نوع حقائب بدأ الرجال بحمله في السبعينات. يرتدي نظارته ويخرج قائمة أسماء المشاركين ومقالاتهم التي قدموها لينقدها وينقحها خلال الثلاثة أيام. لا يسمع صوت سوى هدير جهاز التكييف. لا أحد ينظر لغابو. لكننا جميعاً عشنا مواقف أكثر توترا وأشد وطأة من هذه اللحظات.

روبن من كالي سافر وحيدا إلى أورابا أكثر مناطق كولومبيا عنفاً حيث مهربي المخدرات ورجال العصابات. ويلسون داثا قضى عشرين يوما في مدين وسط تجار المخدرات والعاهرات وأعضاء العصابات. أما روميرو فقام بتغطية تمرد زاباتيستا في تشياباس المكسيكية. وإدغار تيليز حقق في علاقة الرئيس الكولومبي أرنستو سامبر باتحاد تجار المخدرات “الكارتل”. لكنّ ماركيز وبعد فوزه بجائزة نوبل للآداب أصبح أكثر شهرة من نجوم أمريكا اللاتينية. لا يحظى بجماهيرية مشابهة سوى لاعبي كرة القدم وملكات الجمال. يوقفه الناس في الشارع للحصول على توقيعه. حتى أولئك الذين لم يقرؤوا كتبه. يستشيره الرؤساء والوزراء والسياسيون وناشروا الصحف ورجال العصابات ويطلبون نصيحته. يكتبون إليه الرسائل ويرغبون به حولهم. أي شيء يقوله، أي شيء يتحدث عنه يصبح عنوانا رئيسيا في الصحف. العام الماضي خُطف أحد إخوة رئيس كولومبي سابق وطلب أفراد العصابة أن يتولى ماركيز رئاسة البلاد مقابل إطلاق سراح المخطوف. كتبوا في رسالة طلبهم “نوبل، انقذ وطن الآباء”.

نحنُ الكولومبيون نفخر بماركيز وكأنه فرد من أفراد العائلة. نجعل عظمته خاصتنا. غابو هو الابن الذي تستعرض به العائلة. اسمه يتردد في مسابقات الجمال مع البابا. عندما تُسأل ملكات الجمال عن الشخصية الملهمة في حياتهن كنّ يجبن: والدي، البابا، غابرييل غارسيا ماركيز. أي الشخصيات تردن لقاءها؟ غابرييل غارسيا ماركيز. ولو طرح السؤال نفسه على صحفيي كولومبيا ستكون لهم نفس الإجابة. نحنُ الصحفيون نقول: لقد كان غابو مراسلا صحفيا قبل أن يصبح روائياً، إنّه القدوة الأهم لنا.

يقرأ غابو الأسماء في القائمة ويضيف تعليقاً دافئا بعد كلّ اسم. روبن فالنسيا والبعض يسمونه “مايسترو” وأجد أن اللقب هذا رسمي جدا ومتكلف. كنتُ من جهة أخرى استخدم غابو في الحديث عنه، لكن ما إن أصبحت أمامه كان اللقب مباشرا جدا.

يُظهر ماركيز التودد لأندريا، لقد حضرت معه ورشة تدريب في السابق. يقول لها مازحا: “تقضين وقتا أكثر هنا، أكثر من الوقت الذي تقضينه في مكان عملك. سأطلب من مديرتك إرسال سريرك.” أندريا خجولة. وتودد ماركيز يؤثر بها فتحمرّ وجنتيها.

يُفتح الباب ويندفع شاب إلى الداخل مستعجلا بتنفس مضطرب. يرتدي قميصا ازرق يلتصق بجسده ويحمل تحت ذراعه جريدة. يدخل وتدخل معه حرارة وفوضى مركز قرطاجنة.

“متأسف” اعتذر وجلس سريعا بجوار سيزار روميرو.

“ومن أنت؟” سأله غابو.

“تاديو مارتينيز”

تاديو مضطرب وغابو يعرف ذلك.

“تاديو مارتينيز من جريدة قرطاجنة.” يقرأ غابو من القائمة. “والآن لنرى. زملاءك هنا قدموا من كاراكاس، بوغوتا، كالي، مدين، سان خوسيه، مكسيكو، نيويورك، وميامي. لكّنك جئت من زاوية الشارع وأنت آخر الواصلين”. شعرنا جميعاً بالسوء لأجله. هزّ غابو رأسه وابتسم.

العاشرة صباحا

بدأ غابو بالحديث عن كتابه “الجنرال في متاهته” يتحدث الكتاب عن سيمون بوليفار محرر أمريكا الجنوبية من الاستعمار الإسباني. البطل والمؤسس والأيقونة التاريخية. صورته تزين المكاتب والدوائر العامة. بزّته العسكرية المنشاة وحصانه الأبيض متأهبا لبدء المعركة. “لكن لم يتحدث أحد في سيرته عن غنائه وإصابته بالإمساك” قال غابو ثمّ أضاف “الناس في العالم ينقسمون إلى قسمين: قسم يتغوّط بشكل جيد، والقسم الآخر لا يستطيع ذلك. هذا يصنع فروقا شخصية كثيرة لكن المؤرخين يستبعدون أهميته” هكذا يبرر ماركيز انزعاجه من الصورة التي رُسمت لبطله ولهذا السبب كتب “الجنرال في متاهته” يقول أنه كتب الرواية بصيغة الريبورتاج. كل تفصيل، كل معلومة تأكد من صحتها بنفسه لأنها ومهما كانت بسيطة ستؤثر على العمل وتمنحه القوة. على سبيل المثال: تحدث في الرواية عن ليلة العاشر من مايو في 1830م وهي الليلة التي نام فيها بوليفار في غوادواس الكولومبية وأراد ماركيز التأكد من ذلك فاتصل بأكاديمية العلوم في مكسيكو للتحقق من اكتمال القمر. بالفعل كان القمر مكتملا في نفس التاريخ. القمر تفصيل مهمّ في الرواية –يقول ماركيز- إذا كان هناك تفصيل حقيقي واحد سيصدق القراء كل شيء.

تذكرت موضوعا صحفيا كتبه غابو عن موجة الجفاف التي ضربت كاراكاس وتحدث فيه عن رجل يحلق ذقنه بعصير المشمش. معلومة يمكن التحقق منها وإثبات صحتها طبعاً. لكننا نتذكر من جديد أننا أمام غابو نفسه الذي قيل أنّ ابتداعه الكبير منعه من أن يكون صحفياً جيدا. غابو هو الكاتب نفسه الذي قصّ في رواياته وبوجه صارم بلا انفعالات عن ريميديوس الجميلة التي ارتفعت بخفة إلى السماء وعن رائحة سانتياغو نصار التي عصفت بالمدينة بعد موته. وكأنه كان يقرأ عينيّ عندما قال “الاحداث الغرائبية في رواياتي كلها حقيقية، أولها نقطة بداية حقيقية وارتباط بالواقع. الحياة في حقيقتها أكثر إثارة مما يمكننا اختلاقه. اخبرنا بأن سيدة تنشر شراشفها البيضاء النظيفة وتمد ذراعيها باتجاه الشمس كانت الملهمة في كتابة قصة ريميديوس الجميلة. يقول بأنّ المرء يحتاج أن يكون صحفيا للانتقال بين المذهل والسحري.

الظهيرة

يوشك وقت الغداء على الوصول. بدأ غابو بالحديث في التاسعة صباحا ولم يتوقف. إنه يحكي القصص ويناقش ولا يكتفي بالتدريس. لأكثر من ثلاث ساعات جلسنا جميعاً، لم نتحدث إلا قليلاً. لم أتناول فطوري لكنني لا أشعر بالجوع. ماركيز لا يشرب القهوة لكننا نفعل، إنها الرفيق الأفضل لأحاديثه وقصصه.

“يولد القاص ولا يُصنع” يقول غابو “موهبة القصّ كالغناء تهبها الحياة لك ولا يمكن تعلّمها. التقنيات، ربّما يمكن تعلمها. لكي تعرف أن شخصا ما قاصّ جيد اطلب منه رواية آخر فيلم شاهده” ثم يؤكد “الأهم من هذا أن يمتلك الإنسان الشجاعة في البحث عن مهنة أخرى إن لم يكن يحسن القص”. الكتابة كما يصفها ماركيز هي فعل تنويم مغناطيسي. إذا نجح الكاتب في تنويم قارئه فإن أي عثرة في الكتابة ستوقظه من نومه وسيتوقف عن القراءة. إذا كانت الكتابة “تعرُج” سيهجرك القارئ. ينبغي على الكاتب ابقاء قارئه تحت التنويم بالانتباه لكل تفصيل، لكل كلمة ويستمر بذلك حتى يسمم قارئه بالمصداقية واللحن الثابت. يتوقف غابو قليلاً ويضع يديه على الورق “الآن سأقول لكم، لقد قرأت مقالاتكم كلّها وكنت متيقظا طوال الوقت”

تنهّدت، والبعض قهقه، والبعض الآخر تحرّك في مقعده مرتبكاً.

الواحدة مساء

“لنرى ما في جريدة اليوم!” مدّ غابو يده عبر الطاولة والتقط جريدة تاديو مارتينيز. “هل هناك قصة نذهب لتغطيتها؟” يهز غابو رأسه محبطاً. ثم يقول “مذهل، جريدة محلية ولا يوجد على صفحتها الأولى أي خبر عن قرطاجنة. اخبر رئيسك يا تاديو: الجريدة المحلية يجب أن تنشر أخبارا محلية على الصفحة الرئيسية.

“لا شيء مهم” تمتم ماركيز وقلب الصفحات ثم قال “وجدت شيئا، لنرى. فرن للبيع، غير مستخدم، لم يتم تركيبه بعد. يجب أن يباع. اتصل بغلوريا بيدويا على 660-1127 تحويلة 113. قد تكون هذه قصة جيدة. هل نتصل بها؟ أراهن أنّ هناك شيء ما. لماذا تريد هذه السيدة بيع فرن؟ لماذا لم يتم تركيبه؟ يتوقف وينتظر أن يظهر علينا الحماس. لكن يبدو أن أحدا لم يهتم لهذه السيدة وفرنها المفكك، خصوصاً وأنه بإمكاننا مواصلة الاستماع إليه. يرى غابو قصة في كلّ شيء وخلال الأيام الثلاثة القادمة اكتشفت أنّه ممتلئ بالحنين ويشتاق لعمله الصحفي. يقول “الصحافة ليست مهنة. الصحافة غُدّة”

تحدث ماركيز أيضاً عن تكرار الكاتب لنفسه وتجربة طرق جديدة في الكتابة للفرار من ذلك. وعن التأثر بكتابة الروائيين الذين نحبهم. “نحنُ الكتاب بحاجة للدفاع عن أنفسنا ضد الكتّاب الذين نحبهم. من السهل الوقوع في الفخ وتقليدهم”.

شعرت بالألفة تجاه غابو. منذ اللحظة التي دخل فيها للمكان وبدأ الحديث. لقد قال في أكثر من مناسبة بأنه يعيد رواية القصص التي حكتها له جدته. الاستماع لغابو يذكّرني بجدّي. أشعر بأنني استمع إليه، فقط لو كان جدي يحسن الكتابة.

بعد الغداء

“سأقدم للكتّاب نصيحة: اكتبوا في بداية الرواية حكاية بسيطة، واختموها بنهاية مجلجلة. ثم املؤوا ما بينها بالوصف والاستعارات الأدبية. ضعوا سياجاً لقصتكم كما لو كنتم تمنعون قطيع ماشية من الفرار. وإذا لم تتمكنوا من ذلك ابدؤوا البحث واستمروا بذلك. قد يأخذكم البحث إلى أي مكان. أنتم بحاجة لإغلاق القصة وإنهاء حلقة المعلومات عند نقطة ما. التفاصيل هي مفتاح الرواية بدونها ستغرقون. حتى ثيربانتس أضاع حمارا. لذلك تفادوا إضاعة حميركم ما استطعتم.

أحد مشكلات الكتابة لديّ أنني أقلق أكثر من اللازم. لو كان بإمكانك الكتابة كما تتكلم ستحقق حلم الكاتب الأوحد. لكن ما إن تحاول ذلك ستجد صعوبة هائلة.

في المكسيك كنت أكتب والنافذة مفتوحة لأستمع للمطر والعصافير وأكتب عنها في النصّ الذي أعمل عليه. ليس بعد الآن. اقتصار القدرة على الكتابة في مكان محدد ووقت محدد ومساحة محددة هوس روائيين. الآن يمكنني الكتابة في أي مكان كما كنت أفعل وأنا صحفيّ. أوصل جهاز الحاسب المحمول PowerBook بالكهرباء في أيّ فندق وأكتب ثم أنقل ما كتبته على قرص مرن. كل فصل في ملف مستقل. أنا مدمن على الكتابة في شاشات لها شكل ورق الصفحات. لكنها لا تصنع بعد الآن. اشتريت منها ما استطعت شراءه، لديّ الآن إحدى عشر. أعتقد أن المرء بحاجة لشراء كل ما يجعل عمله أسهل. أجهزة الحاسب الآلي مذهلة. لقد بدأت كتابة ‘الحبّ في زمن الكوليرا’ على أحدها. تغير معدل الصفحات التي انجزها يوميا من واحدة إلى عشرة. وعدد الكتب التي أكتبها من واحد كل سبع سنوات إلى واحد كلّ ثلاثة. ولكنّ صعوبة الكتابة لا تتوقف عند ذلك. إن أسوأ لحظات الكتابة التي يعيشها الروائي –والصحفي- هي مواجهة الصفحة الخالية.

أكتب يوميا من الثامنة والنصف صباحا وحتى الثانية أو الثالثة بعد الظهر. وبسبب سنوات الجلوس الطويلة أعاني الآن من آلام الظهر لذلك العب التنس يومياً. وأحياناً، عندما انتهي من الكتابة القي بنفسي على الأرض.”

الساعة تقارب السابعة مساء. ينظر غابو في ساعته البيضاء ويقول “يا شباب، لن أتأخر عن التنس بسببكم” يقول ذلك وينهض ليغادر المكان.


فوتوغرافيا الشارع: الحلقة الأولى

وجدت في نفسي مؤخراً ولعاً بالتصوير والمصورين خصوصاً الأعمال المقدّمة في النصف الأول من القرن الماضي. وأجد نفسي ابحث دائماً في ما يسمى “فوتوغرافيا الشارعStreet Photography” وأحاول بعدة طرق تطوير معرفتي وربما خوض تجربتي الخاصة قريباً في نفس المجال. بداية من هذه التدوينة سأشارككم بالصور والمصورين الذين لفتوا انتباهي وأصبحت أفكارهم في مستودع الإلهام. قد أشير كذلك إلى كتب معيّنة ومعارض شاهدتها أو سأشاهدها مستقبلاً.

running legs1
من مجموعة “سيقان راكضة”

قبل عدة أيام صادفت مجموعة من الصور تحت مسمّى “سيقان راكضة” للمصورة الأمريكية النمساوية المولد ليسيت مودل Lisette Model. بحثت أكثر عن المصوّرة وحياتها وأعمالها ووُلدت هذه التدوينة.

ولدت إليز فيلك آميلي شتيرن في فيينا، في العام 1901م. والدها طبيب ايطالي/نمساوي من أصول يهودية أما والدتها فهي فرنسية كاثوليكية وعُمّدت مودل على دين والدتها. بعد سنتين من ميلادها غيّر والداها اسم عائلتهم إلى شيبرت.

model_8
ليسيت مودل بعدسة ويغي

تلقّت مودل تعليمها على يد عدد من المدرسين الخصوصيين وأتقنت ثلاث لغات. بعمر التاسعة عشرة بدأت دراسة الموسيقى مع المؤلف وعازف البيانو آرنولد شونبرغ وارتبطت بحلقة أصدقاءه الخاصة. تقول عنه “لو كنت سأختار أكثر المعلمين تأثيراً على حياتي فسيكون شونبرغ”. لكنّ مودل تركت الموسيقى في 1933م وتوجهت للتصوير والرسم. غادرت فيينا بعد وفاة والدها إلى باريس لدراسة صوت مغنية السوبرانو ماريا فرويند والتقت في تلك الفترة بزوجها المستقبلي الرسام اليهودي إفزا مودل. درست ليسيت عند الرسام والنحات الفرنسي أندري لوت. كما بدأت دروسها في التصوير بتعليمات بسيطة وتقنيات لتظهير الأفلام من أختها الصغرى أولغا شيبرت – وهي مصوّرة كذلك- . كما تذكر المصادر أنّها درست التصوير بالأساس مع المصور الباريسي روجي أندري.

model_2
من مجموعة “انعكاسات”

في العام 1934م زارت مودل والدتها في نيس الفرنسية – حيث استقرت هي وأختها أولغا- ، حملت معها في تلك الرحلة الكاميرا والتقطت صور مجموعتها “Promenade des anglais” التي اشتملت على صور بورتريه عن قرب للسياح المحليين. كانت صور أولئك الأغنياء ساخرة تفضح وحدتهم وقلقهم. نُشرت تلك المجموعة لاحقاً في الدورية الفرنسية الشيوعية “Regards”.

تزوجت ليسيت من إفزا مودل في العام 1937م وهاجرت معه في العام التالي إلى نيويورك الأمريكية هرباً من اضطرابات أوروبا السياسية. وهناك انضمت إلى رابطة مصوري نيويورك ودرست مع سيد غروسمان –مصور أمريكي ومعلم وناشط اشتراكي- . هناك عملت في الجريدة اليسارية “PM” والتي يُعتقد أنّ اسمها مرتبط بموعد صدورها المسائي. عملت مودل في معمل تظهير الصور ثمّ أصبحت مصورة للجريدة.

من مجموعة "انعكاسات"
من مجموعة “انعكاسات”

بحلول العام 1940م كانت صورها معروضة في متحف الفنّ المعاصر MoMa”” وتعمل في مجلة هاربر بازار. تحت اشراف المدير الفنّي للمجلة آنذاك اليكسي برودوفيتش، التقطت مودل صوراً غير تقليدية للنوادي الليلية بنيويورك وواصلت تجاربها في التصوير. عملت هناك حتى انتقلت للعمل كمدرّسة للتصوير في المدرسة الجديدة “The New School” وذلك في العام 1951م وحتى 1954م ثم من العام 1958م وحتى وفاتها. من أشهر من تعلم لديها المصورة ديان آربس صاحبة صورة التوأم الشهيرة التي ألهمت ستانلي كوبرك في فيلم The Shining.

حصلت مودل على منحة غوغنهايم في 1965م ومنحة أخرى من “CAPS- برنامج الفنانين المبدعين لخدمة المجتمع” في العام 1967م. عُرضت مجموعات من صورها في متحف سميثسونيان الوطني وجورج ايستمان هاوس.

legs2
من مجموعة “سيقان راكضة”

لصور مودل خصائص عامة يمكن أن أوجزها في التالي: عنيفة ولها صبغة كابوسية أحيانا بسبب ارتجاجها وانعدام الألوان فيها. في الصور مشاعر قهر واختناق وكأنها التقطت من قبل شخص اختل توازنه بشكل مفاجئ على حافة الرصيف أو تعثّر بشخص عابر. كما أنها تفضل دائماً طباعتها بأحجام ضخمة مقارنة بالمصورين الآخرين (16×20 بوصة). صورها لا تدّعي الكمال والفنية ولذلك هي مذهلة ومحببة!

بالنسبة لمجموعتها التي لفتت انتباهي اعتمدت فيها التقاط الصور من زاوية منخفضة، تركز على أجساد المارّة من الخصر لأسفل، ولها مظهر مضطرب نتج من سرعة التقاط الصورة وحركتها هي والهدف. هذه السرعة تلتقط عجلة وول ستريت وساعات الذروة النيويوركية على الجادة الخامسة وغيرها. كما يظهر تأثرها بتعليمها الموسيقي بطريقة خاصة.

lisetteModel-glamour
من مجموعة “انعكاسات”

تقول مودل “لا تلتقطوا صورة لشيء لا يثير شغفكم، أبداً” وتتحدث عن التصوير العفوي الخاطف Snapshot وتقول “أحبّ اللقطات الخاطفة لأنها الأقرب إلى الحقيقة من بين كلّ الصور. في اللقطات الخاطفة علّة واضحة ونقص، ومن هنا تأتي فتنتها”.

عندما سألها المصور الأمريكي إدوارد وستون عن سرّ التأثيرات التي تظهر على صورها أخبرته بأنها تأخذ أفلامها للتظهير في متجر/صيدلية على ركن الشارع. جوابها السّاخر وصورها المضطربة وانعدام التركيز فيها، كل هذا يجتمع فيعكس تجاهلها للقواعد الفنية واحتقارها للعالم كما كانت تعرفه.

توفيت مودل في 1983م بسبب أزمة قلبية.

كنزة حمراء.

redcardigan
By Amanda Blake

أعرف أنني أكثر صبراً الآن. كيف؟ لأنني لا اقتلع أوراق البقدونس من سيقانها بالسكين وبسرعة. أفكك الحزمة برفق واسحب السيقان واحدة تلو الأخرى برفق. ثم أقص الذي لا احتاجه منها. كانت هذه الحقيقة غائبة تماماً عنّي، الركض الدائم في رأسي لألحق بموعد لا أعرفه. وغير حكاية البقدونس الكثير من التصرفات التي لاحظت توقفي عنها مؤخراً. مقاومة الكرنفال في رأسي وعدم نقله للخارج آتت ثمارها كما توقعت. أتنفس، أعد حتى الثلاثة وأفكر: لماذا الركض على الدرج؟ لماذا اشد الملابس من علاقاتها؟ لماذا اصطدم بطاولة الطعام في طريقي للمطبخ وأُهشّم اصبع قدمي كلّ يوم؟ هل أنا في عجلة للحاق بشيء؟ لا طبعاً. استيقظ في وقت مناسب، واستعد في وقت مناسب، وأراقب الوقت إذا كان هناك شيء مُنتظر.

قبل بداية العام كتبت أربعة عشر هدفاً لأحاول تطبيقها، وذكرت بأنني سأذكر تجربتي في ذلك وأدوّن عنها كلما سنحت الفرصة. في هذه الحالة وللحدّ من العجلة والركض –بلا سبب- يمكن التفكير في هدفين: التنفس بشكل أفضل، وتجنّب الدراما! تحتاج هيفا التفكير بهدوء والتحرك بهدوء أكثر ويمكن بالتنفس علاج ذلك، كلما أصبح التنفس أبطأ كلما زاد تركيزي في المحيط حولي واللحظة المهمّة التي لا تتكرر.

خلال فبراير يرتدي الكثير من السيدات –والرجال أحيانا- اللون الأحمر دعماً لنشر الوعي بأمراض القلب. هناك يوم قوميّ أمريكي وبريطاني لذلك، ويقع كلاهما في شهر فبراير. بالأمس -7فبراير- كان يوم ارتداء الأحمر في أمريكا والذي يحلّ في أول جمعة من كلّ فبراير. وإذا فاتكم ارتداء كنزة حمراء أو شال للتعبير عن دعمكم للمبادرة. يمكنكم مشاركة البريطانيين في يومهم لارتداء الأحمر والذي يحلّ في 26 فبراير الجاري.

12109743

أقرأ منذ عدة أيام في “قصص تولستوي” بترجمة غائب طعمة فرمان والصادرة من دار المدى. وهكذا بقراءة الكتاب والاستماع لـ “آنا كاريننا” تبدأ رحلتي مع الأدب الروسي، وقد يكون هذا مشروعي القرائي لهذا العام إلى جانب قراءاتي الأخرى. القصص المنشورة في هذا الكتاب كُتبت بين (1828-1910م)، كتبها تولستوي على مدى نصف قرن وتشمل نماذج من مجمل إبداعه. أحبّ دائما البحث عن قصص الكتاب القصيرة، واعتقد شخصياً إنها الطريقة الأفضل للدخول لعالمه، لسببين: لأنه يكتبها على مسار حياته الأدبية وفيها تتضح شخصيته وهي تتبلور، والسبب الآخر كونها نماذج مصغرة لما يمكن للقارئ توقعه في الروايات أو الأعمال الأخرى.

الأسبوع الماضي أيضاً شاهدت هذا الفيديو الخفيف والممتع لغريتشن روبن –مؤلفة كتاب مشروع السعادة وكتب أخرى- تتحدث فيه عن اكتساب العادات وتغيير الحياة وارتباطها بالسعادة. تناقش موضوع مهمّ وقد لا ننتبه له، وهو اختلاف البشر وطبائعهم في تلقّي الأوامر وتغيير العادات وكيف يمكن لفهمنا الأعمق بهذه الاختلافات مساعدتنا في اكتساب العادات بسهولة وتغيير حياتنا.

قسّمت غريتشن الأشخاص إلى الأقسام التالية:

– المؤيد: وهو الذي يتفاعل بسرعة وجاهزية تجاه الأوامر التي توجه له، سواء كانت داخلية من نفسه أو خارجية من رؤسائه أو المجتمع أو أيّ شخص سواه. والأمر نفسه ينطبق على العادات.

– المستفهم: شخص يطرح الأسئلة ويشكك في كل الأوامر التي توجّه له، ويحتاج المزيد من التوضيحات حتى يصل للاقتناع بها أو إيجاد سبب منطقي لها.

– الثائر: يقاوم كلّ القوانين والأوامر. سواء كانت داخلية أو خارجية.

– المدفوع: يتجاوب مع الأوامر الخارجية ويجد مشقة في التجاوب مع الأوامر الداخلية التي تصدر من نفسه.

تذكر روبن أنّ الثوار يشكّلون أقل نسبة من البشر، ثم يزيد عنهم بقليل المؤيدون، ويقع الغالبية بين المستفهمين والمدفوعين. أيضاً لكل من هذه الأنواع هناك إيجابيات وسلبيات، ومعرفة أنفسكم ونقاط ضعفكم أو قوّتكم سيساعدكم في التوصل لأفضل الطرق التي تروضون فيها حياتكم للتغيير. فالمؤيد يجد دافعيته في الإنجاز التام لما يُطلب منه والعمل معه جيد لأنه يتبع القوانين ولا يحتاج لرقابة ومتابعة ويفعل ما يتوقع منه لكنّ ذلك أيضاً يدفعه لظهور أسوأ ما فيه وهو القلق الدائم والتوتر كي لا يفشل أو يخذل الآخرين وأولهم نفسه وتحدّه القوانين وتؤطره وتتعبه بيئات العمل التي لا قوانين بها. لا يريد المؤيّد أن يلام، ويستيقظ صباحا ليتساءل
“ماذا على جدولي اليوم؟ ماذا أفعل اليوم؟”،
لدى المؤيد فكرة ثابتة عن القوانين ويريد للجميع العمل بها. أما النوع الثاني “المستفهم” فيجد دافعيته في صوت المنطق. يحتاج أولا التحقق من وجود المنطق ليقرر بنفسه اتباع الأمر أو تجاهله. ولا يتبع القوانين التي تتعارض مع المنطق أو تميل للعشوائية. العمل معهم صحيّ للمنظمات فهذا يعني الدقة والتحقق من الأمور قبل القيام بها. لكنّ ذلك يجعلهم يخفقون في أمور أخرى تظهر سلبياتهم، المستفهم لا يتناول الدواء الموصوف له إذا لم يكن منطقياً ويجيب على تساؤلاتهم. يحتاج المستفهم للمزيد من المعلومات كذلك وهذا يعني تعطله عن إنجاز العمل. ويعترف كلّ منهم بأن هذا متعب على المدى البعيد. يستيقظ المستفهم ويسأل نفسه “ما الذي يحتاج للإنجاز اليوم؟”.
أما النوع الثالث “الثائر” فيجد دافعيته في رغبته الحالية. يقاوم الثائر السيطرة والتحكم سواء كان مصدرها خارجياً أو داخلياً. يحبّ أن يتخذ قراراته من شعوره بالحرية. يجد الثائر نفسه مدفوعاً لكثير من التصرفات بالحدس أو الرغبة فقط. وستجدون في حديثه إحساس بالتحدّي “سأريك..” “انظر كيف افعل ذلك..”. و عبارات مثل “سأفعل ذلك لأنني أحبك وليس لأنه يتحتم علي” وجمل على شاكلة “لا يمكنك إجباري على فعل ذلك” و “سأفعل ذلك لأنني أريده وليس لأنك طلبته مني”. أي شيء تطلبه من الثائر سيفعل عكسه، ويقاوم كلّ التحكم ولا يعطي نفسه أي قوانين. ميزة العمل مع الثائر تتمثل في الابتكار والعمل خارج الحيز المرئي، لديه حماسة واندماج في العمل والمشاريع. لكنّ مساوئ شخصيتهم تتمثل في مقاومتهم للقوانين وعكس الكلام وهم أيضاً متعبون من ذلك ولا يستطيعون الالتزام بعادات شخصية. الثائر يستيقظ صباحا ويتساءل “ماذا أريد أن أفعل اليوم؟”. أما النوع الرابع والأخير “المدفوع” ويجد دافعيته في الأوامر الخارجية والمسؤولية. سيجد صعوبة في الأوامر أو العادات الداخلية ويكره أن يخذل الآخرين أو كسر توقعاتهم. ستجدونه يتفاعل بشكل جيد مع مواعيد تسليم المهام النهائية، مع التدريب وجماعات العمل والمرشدين، ويحمل على عاتقه مسؤولية القدوة الجيدة. العمل معهم عظيم لأنهم يسمعون ويطيعون. أما مساوئ شخصيتهم فيشعرون بها في أنفسهم بسبب سعيهم الدائم لإرضاء الآخرين ينسون أنفسهم كثيراً. وهم الأكثر عرضة للاحتراق النفسي، وليس لديهم الدافع للبدء بمشاريع أو مهامّ تخصهم.

هذه هي النقاط الرئيسية التي احتوى عليها الفيديو، حاولت ترجمتها بأفضل شكل ممكن واختصارها لكم.

مخرج تولستويّ:

“أيعقل أن الناس يشعرون بالاكتظاظ في العيش في هذه الدنيا الرائعة، وتحت هذه النجوم التي لا تسبر؟ وهل يمكن حقاً أن يبقى في نفس الإنسان شعور الحقد والانتقام ونوازع القضاء على بني جنسه؟ يبدو لي أن كل ما في قلب الإنسان من شر لا بد سيختفي في تماسه بالطبيعة، بهذا التعبير الأعظم فصاحة عن الجمال والخير”

النصائح الذهبية للكتابة الماركيزية

Marquez-funny

 

  1. أكتب ما تعرفه.

    “إذا كنت سأقدم نصيحة لكاتب شاب، سأقول له أكتب عن شيء حدث لك. يمكن دائما اكتشاف ما إذا كان الكاتب يكتب عن شيء حدث معه أو شيء أُخبِر به. يدهشني دائما الإعجاب الذي تحظى به كتاباتي لكونها تولد من مخيلتي. والحقيقة أنني لم أكتب سطراً واحداً بلا أساس واقعي.”

  2. اقتبس من طفولتك.

    “لقد اكتشفت أنّ كلّ أحداث طفولتي تحمل قيمة أدبية. والآن أصبحت أقدّرها أكثر.”

  3. أوجد السّحر.

    “مئة عام من العزلة” رواية استخدم ماركيز فيها الواقعية السحرية. تحتوي القصة على سجاجيد طائرة، والسيمياء –الكيمياء القديمة-، حلويات تصيبكم بالأرق وتفقدكم الذاكرة. لقد تعلّم ماركيز كتابة القصص بهذه الطريقة من جدته. كانت تحدثه عن أشياء خارقة للطبيعة، أشياء أسطورية. لكنّها كانت تروي القصص بطريقة جادة وطبيعية. يسمّي ماركيز ذلك بـ الوجه الخالي من التعابير Brick Face. نبرة الراوي لا تتغير بانتقاله من العناصر السحرية للعناصر الواقعية، ولا يتعرض للمقاطعة.

  4. كن صحفياً.

    “لقد ساعدتني الصحافة في كتابة الروايات فقد أبقتني قريباً من الواقع.” على الرغم من عنصر الفنتازيا في أعمال ماركيز إلا أنّ قصصه بُنيت على أسس واقعية. والسبب في ذلك؟ تدريبه الذي تلقاه كصحفي. فالكثير من كتّاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانوا صحفيين في البدء من بينهم مارك توين، إرنست همنغواي، وجون شتايبنك.

  5. اجعل قارئك يصدّقك.

    “في الصحافة يختل العمل بالكامل إذا كانت هناك معلومة خاطئة. على النقيض من ذلك، في الرواية تمنح معلومة واحدة حقيقية الشرعية للعمل بالكامل. هنا يكمن الفرق الذي يعتمد على تفاني الكاتب. يمكن للروائي فعل أي شيء يدفع بقارئه لتصديقه”. سبق وتحدثنا عن الكتابة عما تعرفونه لكنّ ذلك يعد الأساس ونقطة البدء للاختراع. عندما تخترعون شيئاً صدقوه أولا. وإلا كيف ستتوقعون من الآخرين ذلك؟

  6. خذ قفزات بالأحاسيس.

    من العناصر المدهشة في أعمال غابرييل غارسيا ماركيز، الطريقة التي يدمج فيها بين الأحاسيس والمشاعر الغير متوقعة. مثال على ذلك مدخل رواية “الحبّ في زمن الكوليرا” الذي كتب فيه ماركيز “رائحة اللوز المرّ تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية”. اللوز والغراميات الغير مواتية كيف يمكن الربط بينها؟ لستُ متأكدا لكنّ الرابط مذهل.

  7. استخدم الرمزية السياسية.

    احتجت لقراءة أكثر من 59 صفحة من “مئة عام من العزلة” لاكتشف أنّ ماكوندو كانت رمزاً لكولومبيا. كتب ماركيز الرواية وسط الاضطرابات السياسية لستينات القرن الماضي، وصوّرت الرواية مشاعره تجاه وطنه الذي يحبه. سرّ الكتابة بالرموز السياسية يكمن في ثلاثة أشياء –كما في كتابة القصص تماماً- “تسلية القارئ، الترفيه عنه، ثم تثقيفه” يمكن للحكايات السياسية تثقيف القارئ لكن إذا لم تسلّيه وترفه عنه لن تحظى بالكثير من القرّاء. 

 

* تُرجِمت هذه النصائح عن “7 Writing Lessons From Gabriel Garcia Marquez” للكاتب “Joe Bunting”.

أمريكا بالسيارة.

americabycar-5

“لا يمكن فصل السفر بالسيارة عن التجربة الأمريكية.” حدثت نفسي في رحلتي الماضية.

لا، لم تكن قراءتي لكتاب جاك كيرواك “على الطريق” السبب الرئيسي، على الرغم من أنني أجلتها حتى انطلقت في رحلتي البرية الأولى هناك. إنما كانت الصورة التي رسمتها في مخيلتي عشرات الأفلام السينمائية والقصص والكثير من أغنيات الفلكلور الأمريكية. هكذا يجب أن تكون طريقة تعرّفك على هذه القارة. بالسيارة ولساعات ممتدة وأيام. لم تكن رحلتي طويلة كما توقعت، وانتظر الرحلة التي وعدت بها نفسي وأخوتي بقطع القارة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب. لكن، كنت محظوظة كفاية بقطع الطريق الذي مرّ به المستعمرون الإنجليز الأوائل. بين شاطئ فرجينيا وبنسلفانيا كانت رحلة السبع ساعات بمثابة الحلم. لم استطع أن أغفو لأكثر من ساعة –ربما حدث ذلك فجأة وبلا تخطيط وللحظات- رأيت غابات ممتدة، أنهار، خليج ضخم وشاطئ محيط بدا وكأنه خالٍ من البشر. طرق معبدة، طريق شبه معبدة وطرق فرعية تقودكم للمزارع والحقول. خيول وأبقار، نسور تحوم فوق الطريق السريع بحثاً عن جيفة حيوان دهس للتوّ. سيارات وبشر ولوحات. استعدت فكرة راودتني قبل السفر، فكرة لمجموعة صور. وبدأت بالتقاط صور للطريق، من جهات السيارة المختلفة ونوافذها ومراياها. صور مهزوزة وصور جيدة حتى امتلأت ذاكرة الهاتف. بعد عدة أسابيع فكرت بنشر بعض منها بالإضافة إلى مجموعة التقطتها في نيوجيرسي ونيويورك. لم أجد هاشتاغ أنسب من #americabycar لنشر الصور من خلاله في انستغرام. وفي هذا الهاشتاغ وجدت عدة صور التقطت قبلي وكانت كلها تقريباً في معرض للمصور لي فريدلاند الذي قدم مجموعة مصورة لأمريكا من داخل السيارة. واصلت إدراج صوري في الهاشتاغ وتبعني أفراد العائلة –كما ستلاحظون من الصور المدرجة تحته- . الفروق كثيرة بين صوري وصور لي فريدلاند. بداية من الألوان ومرورا بالمناظر وانتهاء بالاحترافية التي يملكها المصور المخضرم. سأحاول في هذه التدوينة التحدث عن مجموعة “America By Car” للمصور لي فريدلاندر.

America-By-Car-332x338

لي فريدلاندر مصوّر أمريكي التقط مجموعة من الصور الأحادية –باللونين الأبيض والأسود- من داخل سياراته المستأجرة –تويوتا وشيفروليه كما اتضح لاحقا- ولمدة خمسة عشر عاماً. التقط صوراً لأمريكا برفقة أجهزة السيارة وإطارات النوافذ والمرايا الجانبية. التقط 192 صورة وصنّفها إلى مجموعات، لا جغرافيا إنما بحسب الموضوع: أنصاب تذكارية، كنائس، منازل، مصانع، محلات بيع البوظة، تماثيل سانتا كلوز بلاستيكية، ومعالم على الطريق. لي فريدلاندر استلهم مشروعه المصوّر من أعمال غاري وينوغراند وروبرت فرانك التي صوّرت الحياة الأمريكية الحقيقية. إنما اختلفت طريقة العرض، فالمصور هنا لا يغادر سيارته إلا مرة واحدة ليصور بورتريه شخصي ويطل برأسه من نافذة الراكب. تنوعت الصور ومحتوياتها. تارة نرى النافذة الأمامية على اتساعها، وتارة يظهر المقود والراديو، وعدادات السرعة والوقود، وفي أحيان أخرى يلتقط الصور عبر النافذة الخلفية التي تشبه شاشة سينمائية. أما المرايا الجانبية فقد تطفلت عليها السماء بغيومها أو المنازل وأحيانا المصور وكاميرته. صور بسيطة واضحة وأخرى معقدة مليئة بالطبقات والتفاصيل. ويمكن نسبة هذا التأثر إلى والكر إيفانز ويوجين آتغيت.

lee-friedlander-montana-3-091310-lg

يُظهر فريدلاندر أيضا ولعاً باللوحات الإرشادية على اختلافها وأخطاءها المتعددة وحروفها المتساقطة.

tumblr_m762cnuxs91qzn0deo1_500

السيارات كما نعلم تعزل البشر عن بعضهم، هذا ما حاول فريدلاندر تذكيرنا به في كل صورة من صور المجموعة. أيضاً، كانت هناك مسافة بين صور فريدلاند وحاضر الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية. تعلقت عدسته بآثار الحرب الأهلية ونصبها التذكارية وخجلت عن توثيق المعالم المعاصرة –إلا في حالة واحدة ظهر فيها ملصق سيارة يدعم حملة أوباما وبايدن الانتخابية- وهذا أيضا شيء لاحظته وأنا أتصفح المجموعة للمرة الأولى، ربما ما يعتبره البعض عيباً في الصور وجدته شيء مميز وجيد، كأنها من حقبة ماضية، خارج الزمان وإن بدت في أماكن معروفة ومسجلة. ومع أنّه لم يعبر بنيو أورلينز وديترويت وهي مناطق منكوبة في أمريكا، إلا أنه عبر “حزام الصدأ“، مرّ بمصانع أكرون أوهايو، ومنازل كليفلاند التي تشابهت وتلك التي صورتها لوحات تشارلز بورتشفيلد التي غطت فترة الكساد العظيم. السيارة مرة أخرى حالت بينه وبين التعاطف مع ما يراه. لم اقتن الكتاب بعد، لكنني شاهدت صوره موزعة في كثير من المواقع وقرأت عدد من التقارير التي كُتبت عنها ومن هذه المقالات ترجمت مقتطفات هذه التدوينة، هنا مقالة وهنا واحدة أخرى