كنت وما أزال، ذلك المندهش الذي يحيا بالدهشة، ويبحث دومًا عن أسبابها طلبًا للمزيد من الدهشة: الدهشة بالدنيا، بالله، بالناس، بالمدن، بالأرياف، بما تراه العين وبما لا تراه العين. وعندما لا أندهش أحس أن خطأ ما قد وقع، فيّ أنا أو في الناس أو في الأشياء. وأبحث مجددًا عن السبب. ولهذا كان عليّ أن أكتب، وكان عليّ أن أترجم، وكان عليّ أن أرسم. كان عليّ أن أخوض بحارًا من الكلمات. بحارًا من الخطوط والألوان، وبحارًا من الأنغام لا تخوم لها. وكان عليّ أن أكثر من السفر ومن الترحال، وأكثر الحديث والنقاش مع الناس من كلّ جنس ولون، أساتذة وتلاميذ، زملاء وغرباء، خصومًا ومريدين. لكي أستمر في هذه الدهشة، وأستمرّ في محاولتي معرفة هذه الدهشة، ومعرفة أسبابها وأبعادها.
فأنا حياتي رحلة إثر أخرى من خلال الأزمان. فهي رحلات على مستويات مختلفة –ولو أن هذه المستويات أحيانا سائرة آنيًا، في الاتجاه نفسه. وكان لا بد من إيجاد الوسيلة التي تبقي على سلامة النفس. وتبقي على يقظة الحواس، وهي التي تبقي على نبض الحياة الداخلية التي تتجوهر بها إنسانية المرء في بحث ما، وفي توق ما.
وإذا كان لا بدّ من أن ألخص هذا كله، أقول:
من المرارات المتعاقبة أردت استخلاص قطرتين من الحلاوة. من البؤس المتكرر أردت الانتهاء إلى وهج يعجز عن أن ينال منه أي بؤس. في زمنٍ مهشّم معذب أردت أن أتبيّن جمالًا يتخطى التهشم والعذاب. وبقدر ما انخرطت في زمني كان همّي أن أنتزع منه ما ينمّي شجرة الأمل بأن الإنسان سيخرج من ذلك كلّه منتصرًا لإنسانيته، ومنتصرًا لحبّه وممتلئا من نعمة الله وروعة الكون–ولن تنتهي دهشته، ولو أن بؤسه أيضًا قد لا ينتهي.
– جبرا إبراهيم جبرا | من كتاب الاكتشاف والدهشة (حوار في دوافع الإبداع) لماجد صالح السامرائي
.
.
.