يوماً ما سأزور نيويورك سأجد هذه المكتبة وسأتبضع منها، مكتبة للكتاب المستعمل، مكتبة سريّة غير مصرحة. http://t.co/Y2alTsY2Ex
— Hayfa Al-Qahtani (@ihanq) March 14, 2013
كتبت التغريدة أعلاه في مارس 2013م، كانت أقرب إلى الأمنية مع إنني كنت أعلم حينها برحلتي المقبلة إلى نيويورك. توقفت عن التفكير في مكتبة مايكل سايدنبرغ في اللحظة التي نشرت فيها تلك التغريدة. ومضت الشهور سريعاً وصولاً إلى أغسطس، سافرت في نهايته تقريباً وتواصلت بالبريد الإلكتروني مع مايكل بخصوص زيارة مكتبته ولم أجد رد. أُحبطت قليلاً لكنني لم أتوقف عن البحث والمحاولة. ولكن، قبل أن استرسل في الحديث عن مايكل ومكتبته سأخبركم قليلاً عنها. مايكل سايدنبرغ كاتب وبائع كتب نيويوركي شهير، بدأ هذه المهنة في سبعينات القرن الماضي، ولكن ومع مرور الوقت وتراجع مبيعات الكتب وارتفاع الإيجارات النيويوركية قرر مايكل نقل مكتبته لشقته الخاصة، وبيع الكتب المستعملة والجديدة فيها بلا تصريح وبلا ملاحقة ضريبية! مكتبة خاصة تشبه حانات بيع الكحول وقت الحظر في بداية القرن العشرين Speakeasy وهذا ما ستفعله عزيزي الزائر. ستحاول البحث عن مايكل والتواصل معه ثم الوصول لمكتبته. ولكن مايكل لا يجيب على رسائلي، وشككت بأنّ البريد الإلكتروني الذي أرسلت عليه التماساتي وشرح لقصتي وأنني سآتي من خلف المحيط لنيويورك وأنّ مكتبته أكثر مكان سأحرص على زيارته. بلا ردّ. فكرت من جديد ووجدت أن التواصل مع رئيسة تحرير المجلة الإلكترونية التي يكتب بها سيقودني إليه، وكان ذلك ما حصل وكتبت لرايتشل روزنفيلت وأرفقت رسالتي السابقة لمايكل بها، لم تمض عدة ساعات حتى وجدت الردّ المبهج منها. قالت لي أنها تواصلت مع مايكل ليقرأ رسالتي ويعود إليّ، وفي حالة لم يحدث ذلك ستعود هي لتخبرني بالتفاصيل. أتذكر جيداً أين وصلني الرد الأول من مايكل – بعد عدة أيام طبعاً- كنت على شاطئ المحيط أتأمل النوارس والأطلسي العظيم. رحب مايكل بزيارتي وزودني برقم هاتفه الذي يقول في الفيلم التسجيلي القصير أنه متوفر للجميع في حالة بحثوا عنه في الدليل، ولكن من يستخدم دليل الهاتف اليوم؟.
بدأت بالتفكير في رحلتي، وانتظر تواجدي في نيويورك على أحرّ من الجمر. وجاء سبتمبر سريعاً كما تمنيت. بعثت برسالة قصيرة لمايكل استفسر عن عنوانه في منهاتن. سكنت في رحلتي الأولى في بروكلين في منطقة بعيدة عن شمال شرق منهاتن حيث يسكن واحتجت لمعرفة الوقت للخروج والعودة لأن غروب الشمس كان بمثابة ساعة سندريلا وإعلان للعودة. لم يزودني بعنوانه وعلق: عندما تتواجدين في منهاتن وقبل وصول بحوالي 30 دقيقة سأبلغك بمكان السكن. سرية أكثر من هذا؟ شعرت بالرعب قليلاً وضحكت أختي من جنوننا واقتحامنا لهذه المغامرة. ماذا لو كان مايكل شخصاً مختلاً يستخدم الكتب لاستدراج القرّاء لكهفه لقتلهم والتهامهم؟ لم نكثر من هذه الأفكار الدرامية.
تحمسنا للوصول وخلال الوقت المتفق اتصلت به وبعث بعنوان الشقة 7. حملت معي مبلغ نقدي جيد –أو هكذا اعتقدت- ووصلنا للمبنى. حاولت أختي إثارة رعبي للمرة الأخيرة. على باب المبنى وبجانب كل جرس للشقق يظهر اسم الساكنين. لكن الشقة 7 لم تحمل اسماً. وهذا شيء آخر يعطينا إشارة للعودة.
لم أتردد في ضغط الزرّ وبلا سؤال فُتحت البوابة أمامنا، صعدنا كما شرح لي ووصلنا للشقة، كان مايكل أمام الباب ومشهد الكتب التي وصلت حتى الباب سبب لي الدوار واختلطت بداخلي المشاعر. احتجت لعدة دقائق حتى استعدت توازني واعتذرت منه لأكثر من مرّة، دمعت عيناي وخذلتني بشكل لم أتوقعه. أنا هنا، أنا في مكتبة مايكل سايدنبرغ السرية بعد عدة أشهر من الانتظار والحلم. تبادلنا الاحاديث الخفيفة في البداية، التعارف وقصة رحلتي واهتماماتي. حدثته عن مهرجان بروكلين للكتب والذي لن استطيع حضوره للأسف لتعارضه مع موعد بدء دراسة أخوتي وعودتنا لبنسلفانيا. ضحك مايكل وعلّق: هكذا أفضل. أبدى امتعاضه من هذه المهرجانات “الصورية” والتي لا تخدم الكتاب والقراء على عكس ما تعلن. واعترف لكم، شعرت بالراحة واختفى شعور الحسرة الذي عشته لأيام بسبب ضياع الفرصة. بدأنا باستكشاف الرفوف وحاول مايكل جاهداً مقاومة التوصية بأحدها. تكلمنا كثيراً وعن كلّ شيء، من الكتابة للكتب للسياسة والربيع العربي والثورات العالمية والماركسية – يبدو أنّ مايكل شيوعي متخفّي تفضحه كتبه- والإخوان المسلمين! تحدثنا أيضا عن تجسس الحكومات وضحكت منى من تشاركنا للخوف الطفولي الذي أثبت حقيقته اليوم “في أجهزة التلفزيون زُرعت شرائح للتجسس علينا”. تحدثنا لثلاث ساعات متواصلة، لم انتبه معها لحرارة منهاتن الخانقة، ولا لغروب الشمس. وجدت كلّ كتب الحياة الممكنة، حتى لم استطع شراء أيّ منها بسبب الحيرة. مايكل يؤكد أنني لم أكن احتاج لشراء الكتب وأنّ زيارتي للمكان ولقائي به كافٍ. وجدت منى غرفة صغيرة في الشقة تكدست فيها كتب الفنون والرسم والتصوير، حملت بعضها معها وقررنا التبضع. في غرفة أخرى، طبعات أولى لدور نشر عالمية، بنغوين وراندوم هاوس وكتب أخرى لنيويورك رفيو أوف بوكس. رؤية الكتب ذكرتني بالترجمة التي كنت أعمل عليها آنذاك. ترجمة رواية “كل شيء يمضي” للكاتب الروسي فاسيلي غروسمان. أخبرت مايكل بالكتاب واتبعت جملتي بـ إنه كاتب روسي إذا كنت تعرفه. أعرفه؟! علق مايكل بدهشة وأبدى إعجابه بمشروعي الهائل! إنه كاتب عظيم. وأنت تصنعين شيئا مذهلاً، ترجمة رواية للمرة الأولى بلغتك الأمّ. اعترف بأنّ مشاعري تغيرت 180 درجة بعد تعليقه، كنت أعلم بأنني أصنع شيئا مدهشا واستمتع بذلك. لكنّ، تغيرت نظرتي للموضوع بعد أن استمتعت للملاحظة الخارجية. خارج عقلي، خارج رؤيتي ومشاعري الخاصة.
اخترت كتب عن همنغواي، وكتاب عن جون شتاينبك. وعرض عليّ مايكل رواية للكاتب النيويوركي جوناثان ليثم. قال لي هل رأيتِ هذا الكاتب المشهور؟ لقد كان يعمل في مكتبتي وهو صغير. والآن ينشر رواياته ويقدم نصائحه للكتاب. الرواية التي اقترح علي شراءها هي “Chronic City” لماذا هذه بالذات؟ يقول لأنها الشخصية الرئيسية فيها مقتبسه عنه، حتى الكلب ذي الثلاثة أرجل فيها، كلبه هو. تبنى مايكل الكلب منذ زمن، وذات مرة قابلته سيدة في الشارع وأخبرته بأنّ كلبه يشبه كلباً قرأت عنه في رواية لجوناثان ليثم وحدثته عنها. ضحك مايكل من هذه الصدفة وأخبرها بأنّ الكلب الذي يرافقه هو بطل تلك الرواية وأن البطل مقتبس عن حياته، يقول أنها ابتسمت ومضت، ربما لم تصدقه!
عندما انتهينا من التسوق وبعد تأمل النسخ القديمة التي حصلنا عليها وبعضها توقفت طباعته منذ عقود مضت. اقترحت على منى الذهاب لماكينة الصرف الآلي وسحب المزيد من المال لتفادي الإحراج. لكنها وبعد عودتها وحساب تكلفة ما حملناه صعقنا – قليلا – ثمّ سألنا مايكل عن المبلغ الذي نحمله وأخبرناه بأننا نحمل 140 دولاراً تقريباً، قال هاتوا ما معكم واكتفى به. شعرت برغبة عارمة في البكاء. بعض الكتب الفنية القديمة والنادرة التي أخذتها منى تصل قيمتها إلى أكثر من 100 دولار. هذا إذا استبعدنا قيمة كتبي. لم يكن مايكل يحاول استدراجنا لشراء المزيد من الكتب، ولا يبحث عن المكسب المادي الضخم، إنه يريد فقط دفع فواتير إيجار المكان – الذي لا يسكن فيه فبيته يبعد عدة شوارع- ويريد اللقاء بالمهتمين والشغوفين بالقراءة حول العالم.
في مكتبة سايدنبرغ اجتماعات أسبوعية يلتقي فيها أصدقاءه من الكتاب والفنانين. مكتبته مكان للقاء الشبان والشابات الذين يحلمون بتغيير العالم ونشر السلام. حدثني عن انطلاقة “Occupy Wall street” الحركة الاحتجاجية النيويوركية وأن أحد الذين اطلقوها كان يجلس على الكرسي الجلدي العتيق حيث جلست لأستريح وتحدى أصدقاءه – ومايكل – بنشر تغريدات تحشد الآلاف من البشر في ذلك المكان وفي وقت قصير. بعد هذا السرد التاريخي المميز عرض علينا البقاء ومشاركتهم الاجتماع الأسبوعي لكننا اضطررنا للمغادرة، وأخبرني بأنّ العناوين التي أريد شراءها في المستقبل سيجهزها ويمكن لمنى استلامها منه وإرسالها للسعودية.
لم استوعب تفاصيل ذلك المساء سريعاً. حتى الكتب التي حملتها لم أتصفحها حتى عدت إلى بنسلفانيا بعد عدة أيام. ووجدت في الكتاب الذي يختصر حياة همنغواي في صور وتعليقات وقصص مكثفة، فاصل كتاب أثار اهتمامي. يبدو فاصل الكتاب كبطاقة أعمال يقدمها مكان ما، اسم المكان Bookforum”” وعنوانه في برودواي، مقابل جامعة كولومبيا ويفتح أبوابه سبعة أيام في الأسبوع ليلا ونهاراً، ويبيع الكتب الأكاديمية، وكتب بأغلفة ورقية، وأغلفة متينة، وكتب مستعملة ومخفضة! كلّ هذا في مكان واحد! استغربت في الحقيقة من اسم المكان وخدماته ولماذا لم أجده في دليل مكتبات نيويورك وبحثي الذي قضيت فيه ساعات وساعات للتجهيز لتسوقي الورقي خلال تواجدي. لم يكن هناك عنوان لموقع الكتروني فخمنت أنّ المكان قديم، أو على الأقل هذا الفاصل. بحثت في غووغل عن المكتبة وموقعها ولم أجد أيّ شيء، في كل مرة كنت اكتب فيها العنوان المفصل يظهر لي مطعم سوشي “Vine Sushi” هذا عنوانه وهذه جامعة كولومبيا مقابلة له. كانت هناك مكتبة صحيح، ولكنّها أقفلت أبوابها في 1995م – قبل حوالي 20 عاماً- بسبب ديون متراكمة لم أجد هذه المعلومات بالتفصيل وكل ما وصلت إليه هذه المقالة التي نُشرت في 1998م في جريدة نيويورك تايمز ويأتي فيها إشارة للمكان الذي أصبح اليوم مطعماً للسوشي. هذه القصة الطريفة والغريبة تظهر علاقة البشر بالقراءة والكتب والطعام وتفاوت هذه الأولويات وتفاوت أهميتها مع مرور الوقت.
كنت قد وعدت مايكل سايدنبرغ بعدم الإفصاح عن مكان مكتبته، أو نشر موقعها على الإنترنت، ولم التقط صور للمكان لأنني ببساطة خجلت من رفع هاتفي واقتحام خصوصيته. وجدت لاحقاً الكثير من الصور التي نشرها الزوار وأصدقاءه وأرفقوها بكتابتهم عن المكان وندمت لأنني لم أفعل. ربما في رحلتي القادمة. قبل عدة أيام أرسلت رسالة الكترونية لمايكل أخبره عن نشر الترجمة ووعدته بإحضار نسخ من الكتاب المترجم للمكتبة في المرة القادمة. سيضع الرواية مع الكتب العالمية في مكتبته السرية، وقد يجد قارئ عربي نفسه هناك ذات يوم وسيسعدني اكتشافه لترجمتي. لم أجد ردّ على رسالتي حتى لحظة كتابة التدوينة. وقد استعين برايتشل من جديد!