
قبل خمس سنوات تقريباً تركت وظيفة رائعة براتب جيّد وساعات عمل مناسبة لأنها لم تتناسب وطموحاتي –آنذاك– تركتها بلا ترددّ أو ندم. لكنني عانيت طويلاً من استفهامات من حولي، أصدقاء، وأفراد العائلة الممتدة. لم تدم بطالتي طويلاً، عدت للعمل الحر وعملت في صحيفة لسنتين، ثم انتقلت لمجلة تُنشر اقليمياً، وبين تلك الوظيفة وما بعدها عملت لفترات متقطعة في مجال التدريب والتعليم. هلعي من تعثر حياتي العملية قابلته رغبة شديدة وحماس لتعلم كلّ المهارات التي افتقرت لها ولم توفرها لي حياتي الأكاديمية. لقد نجحت في مسامحة نفسي وتجاوز ما اشعرني به الجميع وصوروه كخطأ جسيم. في نفس الفترة قرأت بلا توقف وانتقلت بين المؤلفين والقارات، اشبعت فضولي تجاه احداث تاريخية لم أفهمها في صغري، استمعت للموسيقى وتعرّفت على اهتمامات عمري القادمة. العمل من المنزل وعزلتي بالمقابل قطعتني عن لقاءات الصديقات والحياة الاجتماعية التي عاودت الانضمام إليها بعد غياب عامين في الرياض، لم أجد طريقاً لتجاوز هذه العزلة فكنت أجد سعادتي في زيارة للعاصمة كل عدة أسابيع للقاء قريباتي وصديقاتي الجدد. من اللحظة التي غادرت فيها وظيفتي تلك عانيت مادياً وقاومت رغبتي في العودة للروتين المرهق أصبحت حياة المتعة والتعلم والترفية أغلى بكثير من قدرتي على التسوق شهرياً أو شراء الهدايا لأفراد عائلتي.كل ما أوفره اصرفه في الكتب أو التجارب الجديدة، رحلة لبلد قريب، زيارة المعارض الفنية، والمشي، الكثير من المشي.
* * *
ثم جاء انتقال العائلة للرياض، وتخلينا عن كل شيء وراءنا، البحر والذكريات وبيت امتلكناه بعد مشقة، عدنا من جديد لهلع المسكن المؤقت والظروف الغائمة. لكننا أقدمنا عليها بقلب شجاع! لم تعد النزهة والاعتماد على ما يمكن توفيره لتبديده على الترفيه مسألة مقبولة. الآن أنا بحاجة لعمل ثابت ومصدر دخل آمن لمساعدة والدي ووالدتي حتى نجد ضالتنا ونمتلك بيت الاحلام رقم ٢. عدت للعمل من جديد والمفاجأة كانت أنني أحببت ما أفعله، كانت ساعات اليوم تنتهي وأنا على المكتب أتردد بين الخروج ومواصلة الكتابة. بعد عدة أشهر من العمل ككاتبة محتوى ابداعي ظهرت لي فرصة الانضمام لطاقم تدريس مدرسة ثانوية/متوسط وتدريس مادة الحاسب الآلي – من صميم تخصصي– كانت المحفزات مغرية إلى الحدّ الذي قفزت فيه بحماس ووافقت على عرض العمل، كانت هذه هي الوظيفة الأوليّة التي تقدمت إليها قبل انتقالي للرياض. لم يحصل توافق، وصرفت النظر عنها. فكرة العمل في وظيفتين يعني تغطية مصروفاتي الشهرية والمساهمة في مصروفات العائلة والحصول على المنزل. كنت أعمل لثمانية ساعات متواصلة في المدرسة، ثم أعود للمنزل في الثالثة مساء وأعمل لست ساعات أخرى في كتابة المحتوى. كانت التجربة انتحار. انتحار لأن صحتي تعثرت، هواياتي انزوت في المقعد الخلفي للسيارة. ذهبت في عطلة، سافرت وحيدة لأفكر في وضعي وهل سيستمر هذا الضياع طويلاً؟ تقلصت مهام العمل تدريجياً، وأصبحت أعمل في وظيفة واحدة. لم يتغير شيء! ابكي بمعدل يومي بسبب الضغوط، افتقدت الكتابة والتدوين والقراءة، بعد أن كان معدل قراءتي كتابين اسبوعياً أصبحت انتصر وأشعر بالفخر إذا انتهيت من كتاب واحد كل ثلاثة أشهر. جلد للذات كلّ يوم، ادائي التدريسي رائع بشهادة منسقة القسم والمديرة، استطلاع رأي للطالبات يكشف للإدارة –ولي– بأنني أفضل مدرسة حاسب آلي مرت عليهم من مراحل دراستهم المبكرة. لكن الرضا الداخلي: ميّت.
* * *
صارحت عائلتي الصغيرة برغبتي في ترك وظيفتي واستعدت بداخلي الفترة التي مررت بها قبل خمسة أعوام. كانت الصدمة أخفّ خاصة وأني مهدت لهم بشكل واضح عدم ارتياحي، العمل الحالي حرمني من الاستماع لصوتي الداخلي. وساهمت رحلتي لنيويورك في تشجيعي على اتخاذ القرار، كانت ستمتد لأسابيع لولا اضطراري للعودة للعمل. كنت سأكتب عنها، سأنتهي من مشاريع عدة لكن. . عدت للعمل والركض خلال عدة أيام. فكرت: لو أنني في وظيفة أكثر مرونة، أو ببساطة حرّة. بكت المنسقة عندما ابلغتها برغبتي في مغادرة المكان، واصدقكم القول ترددت بعد أن شهدت مشاعرها هذه. وفكرت طويلاً في طالباتي المفضلات والتدريس الذي أحبه أكثر من أي شيء آخر. جلست لوضع قائمة اصنف فيها الايجابيات والسلبيات: سأعود لفوضى الدخل المالي، سأعاني طويلاً من اسئلة الاقارب والغرباء، سيرتي الذاتية بوظائفها المختصرة والسريعة ستثير ريبة جهات العمل المستقبلية. ما الذي ساستعيده؟ راحتي، نومي المسلوب، صباحاتي، وقت الكتابة، السفر، القراءة الكثير منها، والعمل الحرّ. كانت هناك مرحلة انتقالية صعبة، فيما لو مضيت باتجاه قراري سأكون مضطرة للعمل لشهرين أو أكثر حتى نهاية الفصل الدراسي مع معرفتي التامة بأن هذا العمل لن يدوم. كنت بحاجة لمسامحة نفسي على كلّ شيء، تعبي وانشغالي وانقطاعي عن القراءة وقلقي وتوتّري والتركيز على شيء واحد: أداء عملي بشكل مثالي والانتهاء منه بأقل خسائر وضرر.
* * *
في قلب حيرتي مررت بتدوينة جميلة في مدونة “Zen Habits” التي أحبها وتُلهمني. كانت التدوينة عن مواجهة الاحباط والخيبة التي تصادفك تجاه نفسك، وكيف تتجاوزها. نشعر بالاحباط والخيبة عندما لا نرتقي للمعايير التي وضعناها لأنفسنا، ولم نستطع تحقيق أي هدف أو نجاح نرضاه. عندما نفتقر للانتاجية المعتادة، ونترك مهامنا – الصغيرة منها والكبيرة– بلا انجاز. لا نتغذى بشكل جيد، ولا نتمرّن. القائمة تطول لكن الفكرة اتضحت لي بشكل جيد، أنا أعاني منها كلها! الخطوة الأولى هي الاعتراف بمشاعرك، النظر إليها من الداخل، والتعرف على ما يصاحبها قد تكون هناك احتمالية بأننا نتوقع من أنفسنا الكثير، أكثر من المعقول. ثم تأتي المرحلة التالية: نعطي هذه المشاعر مساحة، نعيشها ونعيها، ولا نصارعها. الخطوة الثالثة: نتعاطف مع أرواحنا، ونحتضنها، مهما كانت الظروف الخارجية مؤذية لا تتعاون معها عليك. والخطوة الرابعة كانت الأهم لدي: اكتشاف روعة الحاضر، كيف سأمضي هذه الايام حتى وصولي لخط النهاية، نهاية الفصل الدراسي. استعدت روتيني – أو جزء منه– ، عدت للخروج والتنزه، الاجتماع مع صديقاتي مع تجاهل الحديث عن احباطي العام، تخلصت من القيلولة لأدخل أنشطه ممتعة مكانها، عدت للقراءة تدريجياً باختيار روايات صغيرة مدهشة، أو قراءة كتب متنوعة التخصص استعدادا للفصل القادم من حياتي العملية. ابحثوا عن شيء تتقنونه ويمكنكم قياس نجاحكم الملحوظ فيه بشكل يومي بعيداً عن أجواء الاحباط. كنت انتهي من عملي قبل ظهيرة الخميس واستقبل نهاية الاسبوع بحماس ونشاط، لا اترك لحظة للصدفة واقسم وقتي على المتع المفقودة. الخطوة الأخيرة والممتعة: واصلوا التقدم بفضول. وهذا ما حصل معي، تقدمت للعمل في جهات مختلفة مع التأكيد بأني لن استطيع مباشرة أي وظيفة إلا في يناير. وعلى شرط آخر: سأعمل بدوام جزئي أو عن بعد. هل كانت لدي فكرة بأني سأحصل على وظيفة؟ لا طبعاً. كان الخروج من الوظيفة مرعب، لأنه يساوي المجهول. واصلت تقدمي بلا توقعات، أيّ توقعات. مرت الايام ببطء وسعادة لأنني قررت التعايش معها، وتوقفت عن البكاء. وصلت لخطّ النهاية واحتفلت الخميس الماضي. انتهى العام وقد تحررت من قيود اخترت الدخول إليها بكامل قواي العقلية والجسدية. انتهيت من تدريس فصل كامل، تقييم طالباتي والفخر بمن تفوق منهن. ممتنة لتلك الأيام بكل ما فيها، علمتني حدود صبري، وقدرتي على العودة من الاحباط التامّ. سنة ٢٠١٥م كانت سنة الخروج من منطقة الراحة بجدارة. والخبر الجميل الذي أريد أن اختم به هذه التدوينة: الاسبوع المقبل سأبدأ العمل من جديد مع شركة همزة المتخصصة بكتابة المحتوى الابداعي. والقادم أجمل.
تحديث ٢٠١٨
تركت ثلاثة وظائف بعد هذه التدوينة، لم تكن روحي حرّة ولم تشبع نفسي كما أحبّ. في ديسمبر ٢٠١٧ تركت وظيفتي الأخيرة واستعد الآن للعمل على مشروعي الخاصّ. مرحلة جديدة من رحلتي مع العمل الإبداعي. وسأخبركم بتفاصيلها حين تكتمل.
تحديث ٢٠٢٠
في العام ٢٠١٨ بدأت شركتي الخاصة لصناعة المحتوى. في بداية ٢٠١٩ عدت للعمل في وظيفة من جديد، كانت كارثية على المستوى الشخصي، جيدة مهنيًا. لم أستطع البقاء لأكثر من عشرة أشهر وتركتها. عندما قدمت استقالتي لم يكن أمامي وجهة واضحة، كنت أعمل على مشاريع محتوى عبر شركتي، وبعض المشاريع الإبداعية الأخرى بشكل مستقل. عملت كمستشارة محتوى لجهة حكومية حتى بداية ٢٠٢٠. وصلني عرض وظيفي رائع وبدأت العمل قبل أسبوع من انتشار جائحة كورونا. ما زلت في وظيفتي الممتعة والجديدة كليًا على كل ما سبق وعملت به. أحبها وأظن إنها المرة الأولى التي أفكر في استقرار وظيفي طويل.
.
.
.