احتفظ باقتباس لشين باريش يصف فيه التقويم الشخصي بأنه أصدق سيرة ذاتية لنا. عندما عدتُ لتقويم ٢٠٢٤، كان الأمر أشبه بقراءة قصّة بلا حوار. قصاصات عائمة وأفكار مجتزأه من سياق خفيّ ومدن زرتها، ومواعيد رحلات، ووقفات تأمل متقطّعة. لقد عشت عامًا كاملاً من العشوائية العفوية، كمن يلتقط أنفاسه بعد فترة طويلة من الركض. وتدريجيًا أعدت تشكيل الروتين الذي دمّرته عمدًا. وأقول دمّرته عمدًا لأني رأيت كلّ شيء يتداعى من حولي، أوقات نومي وقراءاتي وكتابتي ونشاطي البدني وحتى اختياراتي الغذائية. وفي نفس الزاوية كنت أراقب نفسي لأرى ما يمكن تبنيه من جديد، وما يستحق الاستمرار أو التخلي. وقررت: آن الأوان للهدم أولًا ثم البناء خطوة بخطوة. استخدمت أسئلة ظريفة للتفكير مثل: ما الذي يسهل تبنيه؟ ما الذي يشعرني بالراحة ويمكنني الاستمرار عليه؟ لم أكن أبحث عن الكمال، بل عن الاتساق!
وضعت المرح والاستمتاع في مقدمة أولوياتي. تعاملت مع كل شيء بميزان اللعب والفضول، أكتشف وأتعلم. جرّبت أشياء جديدة بلا خوف من الفشل. قابلت أشخاصًا من عوالم مختلفة، واتجاهات ومجالات عمل. تعلّمت أيضًا أن بناء العلاقات يحتاج إلى فضول حقيقي تجاه الآخر. استمعت أكثر مما تحدثت، وأصبحت أكثر تقبلاً للاختلافات.
ركّزت انتباهي على علاقات محددة لتحسينها وإثرائها. ودفعت بنفسي في أحيانٍ كثيرة للخروج من المنزل واكتشاف المدينة التي حلمت بالانتقال إليها لسنوات. وفي السياق ذاته آمنت أنّ العزيمة مهمّة لكنها غير كافية، فقد تكون العنصر المفقود الذي بحثت عنه طويلا لكنها لم تُفعل بشكلها الكامل حتى تحققت من أهميتها في داخلي. تخففت من الحوارات الداخلية المؤذية وكما نصحتني أختي موضي «ارفعي قدمك عن الكوابح، فالمركبة تنزلق بسرعة وستقف في مكانٍ ما لكنّ المقاومة لن تساعدك في شيء».
في ختام سنة مدهشة، ودعت المشاريع العالقة للأبد. في العمل والعلاقات والملفات والحاجيات المكدّسة في مساحتي الخاصة. أصبحت هذه العناصر عبئًا ثقيلا. هكذا تبدو الأشياء بلا مستقبل! ولأنّني في طريقي لإعادة البناء والتهيئة كان الاستغناء خطوة جادة للبدء.
وعلى صعيد استعادة الاهتمام والشغف اخترت التخطيط لتقديم ورش عمل إبداعية خلال ٢٠٢٥، ستتنوع بإذن الله بين ورش الكتابة والسرد القصصي. واخترت أيضًا تقديمها حضوريًا حول المملكة في مدن أحبها وأعود إليها. وجزء آخر من الورش سيكون افتراضيًا ليسمح بعدد أكبر بالحضور.
اخترت اليوم «الخميس» ليكون الموعد الأسبوعي لتدوينة جديدة. عدت لملخص تدوينات قصاصات على مر السنوات الماضية وفوجئت بالكم الهائل من المدخلات! اشتقت للكتابة الأسبوعية وحماس التفكير في موضوع كلّ مرة. هذه المساحة التي سأعود من خلالها لنفسي، لتوثيقّ ما مرّ، وللتأمل في فكرة أو أكثر وتوسيع النقاش خارج رأسي.
.
.
Edward Sutcliffe (British, 1978), Floral Painting*
استخدمت الفنانة الأمريكية بيتي مارتن العبارة هذه لتصف لوحة استوحتها من صورة فضائية لحرّة خيبر قرب المدينة المنورة. عندما قرأت العبارة استقرت في ذهني: أريد كتابة تدوينة لها هذا العنوان! لم أجد شيئًا يصف ما أمرّ وأشعر به مثل هذا. براكين تثور وتهدأ لمئات السنين دون حركة. لا أحد يتوقع متى تثور مجددًا ولا أحد يتوقع ما الأثر الذي سيتركه هذا الثوران المفاجئ. كنت اتحضّر هذا الأسبوع للحديث عن رحلتي الأخيرة إلى باريس. زيارة لمكان محبوب ودهشة متجددة. ومنها أكمل سلسلة تدوينات رحلة أكتوبر. لكن التفكر في نفسي طغى على كلّ المشاريع الكتابية. أريد تدوينة عشوائية تصف ما أمرّ به هذه الأيام.
أكتب هذه التدوينة في قهوة صغيرة في حيّ لا أذكر اسمه في مدينة الخبر. هذه المدينة التي تبخّرت مشاعري وذكرياتي نحوها على امتداد السنوات العشر الماضية. أزور المنطقة الشرقية لحضور مؤتمر الفنّ الإسلامي في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء». عنوان هذه الدورة: «في مديح الفنّان الحرفي». لا يمكنني إخفاء رغبتي العظيمة في البحث عن إلهام أو إشارة تعيدني لكلّ الأشياء التي أحبّها. قبل أكتوبر كتبت تدوينة عن العشر سنوات الماضية، وهذه الرحلة تأتي تحديدًا في الذكرى العاشرة لمغادرتي المنطقة الشرقية. وصلت للمطار ونظرت لرقم البوابة وابتسمت: نفس البوابة التي سافرت منها للرياض! نفس صالة الوصول لكن منطقة المبيعات أكبر. في الخارج الجوّ لطيف مع إننا في منتصف اليوم، لم تكن الشمس حامية، والطريق إلى الخبر قصير جدًا بشكل مضحك! أو أنّ ازدحام الرياض روّضني لتصبح رحلات السيارة فوق أربعين دقيقة مجرد فسحة قصيرة في اليوم.
تابعت قراءة كتاب بدأته قبل سفري الماضي: كتاب من المكتبة العامّة – لسوزان أورلين وتوقّفت عند اقتباسات كثيرة منه. لكنّ أهمّها كان التالي:
«في السنغال، التعبير المهذب لقول إن شخصًا ما قد توفي هو قول إن مكتبته أو مكتبتها قد احترقت. وعندما سمعت تلك العبارة للمرة الأولى، لم أفهمها، ولكن مع مرور الوقت أدركت أنها تعبير مثالي. إن عقولنا وأرواحنا تضمّ مجلدات خطتها تجاربنا وانفعالاتنا؛ ووعي كل فرد هو مجموعة من الذكريات صنّفناها وخزّناها داخلنا، لتكون مكتبة خاصّة لحياة عيشت.»
قرأت الاقتباس قبل وصولي للخُبر، ومنذ ساعات الصباح الأولى في اليوم التالي بدأت بتأمل الاقتباس من زاوية مختلفة. لقد احترقت مكتبة الخبر في قلبي! لم يعد هناك أي مشاعر ارتباط أو فرح غامر بالوصول، وهذه المدينة بالتحديد كانت المتنفس الذي نهرب إليه في نهاية الأسبوع لكنّها كانت مدينة أخرى وكنّا زوّارًا مختلفين. الواجهة البحرية لم تعد تلك التي ألفتها، الكثير من الحواجز الخشبية ولا يمكنني رؤية البحر بالمرور في الشارع الرئيسي. أنا بحاجة للوصول من الداخل لرؤيته. بعض المحلات والمجمعات التجارية الصغيرة ما زالت في مكانها. أفكّر في زيارة مجمع الراشد حيث كنا نقضي جلّ رحلتنا الأسبوعية. تسوّق وتناول لوجبة سريعة أو قهوة ومن ثمّ العودة. حتى الطرق داخل المدينة وتحويلاتها تغيرت. أحاول التقاط الصور الذهنية لأعرف أين يتجه سائق أوبر لكن المعالم تغيرت وذاكرتي: احترقت.
طريق الإخلاء
كان الهدف الثانوي من زيارة المنطقة الشرقية هذا الأسبوع (بعد زيارة مؤتمر الفنّ الإسلامي) زيارة الجبيل الصناعية. أردت إقفال ملفات مفتوحة في رأسي منذ عشر سنوات. فهذا الأسبوع يعلن الذكرى العاشرة لصباح بارد ملأت فيه حقائبي وانطلقت إلى المطار. غادرت منزلنا مع الفجر، حجزت رحلة مبكرة لألحق بساعات العمل يوم الأحد. عدت للمنزل بعد أن تأكدت بأن عائلتي ستنتقل إلى الرياض بشكل كامل. وجد والدي وظيفة استشارية مناسبة لتقاعده، ووجدنا الفيلا المناسبة للسكن وأخرى مجاورة لمركز والدتي وأعمالها. أذكر تسللي من الغرفة كي لا أزعج نوم جدّتي. لا أذكر سبب تواجدها هنا في ذلك اليوم؟ هل كان للدعم النفسي؟ أو أنها تحبّ اللحظات العاطفية المؤثرة. تريد أن ترتجل أبيات من قصيدة مؤثرة وتبكي قليلًا وتبكينا. بعد انتقالنا لسنوات وفي كلّ مرة تزور أخوالي هناك تمرّ بالبيت وتتذكر. أذكّرها أنّه لم يعد لنا وهؤلاء الناس الذي يسكنونه ينشدون الهدوء. ما حصل خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه أنني أقلقت هدوءهم بالتجول حول المداخل والتقاط الصور والذكريات. فعلتها مع بيوتنا التي سكناها في المدينة. ومع مدرستي الابتدائية وزوايا أخرى أردت وضعها في صندوق وإطلاقها في الحياة.
اختيار وقت النهار لزيارة المدينة كان لرسم ذاكرة جديدة غير تلك التي تركتها ورائي. انتبهت لشيء وحيد افتقده في مدينتي الحالية: الكثير من الأشجار والخضرة. ممرات المشي بين الاحياء والهدوء المطبق الذي وجدت في الحارات عند الساعة الواحدة ظهرًا. كأنني باغتت حلم أحدهم، حلمي ربّما؟ أقول لصديقتي عندما توقفنا أمام بيت مختلف جذريًا لا أذكر منه إلا أشجار الشارع حوله: كنا هنا وكان البيت بدورٍ واحد، له مدخل من هنا وما إن التففت حول الشارع حتى رأيت المنـظر الجديد. بيت بدورين، لونه أبيض وزخارف جصّية حول نوافذه. الباب الرئيسي ملغي ونُقل لجهة الشمال حيث كنا نقف بانتظار الباص وتطلّ والدتي من السور لتتأكد من مغادرتنا بأمان. أذكر الممر طويلًا وموحشًا في صباحات الشتاء، تغيرت أحجامنا وصار رصيفًا ضيقًا يسهل عبوره في عدة خطوات.
على هذا المنوال انتقلنا من بيت لآخر، وتوقفنا لاستراحة في مقهىً جديد نسبيًا. طلاب الكلية والتخصصات التقنية والموظفين وطالبات الكلية القريبة وفتيات المدارس كلنا في فترة استراحة من شيءٍ ما، القهوة كانت لذيذة وباردة ومنعشة. تركتُ بيتنا الأخير للوقفة الأخيرة. تفحّصته غير مصدقة لما آل إليه. حزين جدًا ومهمل بشكل ملحوظ. الألوان الجديدة والتفاصيل التجميلية منحته مظهرًا فوضويًا. ما زال الحديد المزيّن على النوافذ نفسه لكنّه متناقض بشكل صارخ مع ألوان المنزل الحالية. وقفت قبالة نافذتي الأخيرة -تنقلت في البيت ثلاث مرات وكان لي ثلاث نوافذ تطلّ على منظر مختلف.
غادرت الجبيل بعد أن أقفلت الفصل المتبقي من القصة تمامًا. كانت السماء غائمة والمطر ينهمر خفيفًا. هذه الصورة الرومانسية لمنظر معتاد وهو في هذه الحالة الخروج من المدينة إلى الفضاء الرحب. في كل مرة كنت أسافر عنها لا انتبه للوحة صغيرة على الطريق تشير إلى «طريق الإخلاء» المحاذي للمنطقة الصناعية. عشت لثلاثين سنة في مدينة صناعية مجهزّة لإخلاء سكّانها في حال الطوارئ. لم انتبه للوحة قبل اليوم وشعرت بأنّ هناك رسالة خفيّة وراء ذلك. انطلاقنا على الطريق مبتعدين، باسمين، متحفزين لأيامنا القادمة.
الجزء المفقود من الأحجية
خلال السنوات الماضية كنت استكشف سبل عيش حياتي بكلّ الطرق. أهداف متحركة ومتغيرة، أهواء وهوايات وعلاقات. تدور الدوائر وتنفتح وتنغلق وأنا ما زلت في حالة تجريب مستمّرة. لكنّ الشعور الغامر الدائم كان: أين أنا الآن؟ وما الذي أريده حقًا؟
التقيت خلال رحلتي القصيرة بثلاث سيّدات لطيفات، عرفتهن في فترات مختلفة من حياتي. كنتُ في كلّ مرة شخصًا مختلف لكن الجوهر موجود. دوائرنا متشابكة بشكل عجيب وغير متوقّع. تحدثنا في كل شيء تقريبًا. حدثتهم عن رحلتي هذه وعن تساؤلاتي وبحثي عن الجزء المتبقي من الأحجية الكبيرة: كيف مضت هذه السنوات وكيف أقبض على ما أحببته من النسخ الماضية لهيفا؟ أحببت نظرتهم المتعمقة ورؤيتهم المحفزة حول الموضوع. وجدت إجابات منعشة ستقودني إلى فصل جديد.
أحبّ الكتابة هنا جدًا، وفي الفترات التي أضعت طريقي باتجاه فكرة قديمة أو شعور مفقود، يكفي أن انقر على مساحة البحث وأجد ما أريده ماثلًا أمامي. قصاصات صندوق مجوهرات نفيسة لا يمكنني إبداله أو التخلي عنه.
أين توقفت حكايتنا المرة الماضية؟ تشجعت هذا المساء لإنهاء التدوينة الأخيرة من السلسلة قبل أن تتبخر الحكايات تدريجيًا من رأسي. هذا الأسبوع أعادني لروما أكثر من مرّة، بدأ الأمر خلال زيارة بنات خالي لبيتنا وحديثهم عن رحلتهم الإيطالية الملوّنة. زاروا فيها الشمال الإيطالي وانتهت بروما. لكلّ منا حكاياته الخاصة عن المدينة، تبادلنا التجارب والملاحظات وتحققت من جديد أن لكل مدينته التي تحتضنه. ابنة خالي أحبّت فلورنسا كثيرًا ولم ترق لها روما بنفس الدرجة. قلت لها أنّي قاومت البكاء بعينين دامعتين وأنا ارتفع بعيدًا عن روما وهذا يحدث للمرة الأولى في حياة أسفاري.
.
والمرة الثانية كانت وأنا أقاوم الأرق بتقليب صور الهاتف، وتوقفت مطولًا عند صورة لي ولوالدتي في نهار مثالي من أكتوبر. كنا نرتدي الأزرق في اتفاق سبق زيارتنا لمعرض بورغيزي. أجّلت زيارة المكان لنهاية رحلتي تقريبًا كمن يؤجل التحلية لنهاية الوجبة. متأهبة وصلت باكرًا وانتظرت ووالدتي في الحديقة تحت الشمس الساطعة والحنونة في ذات الوقت. كل شيء حولنا مثل مشهد مجتزأ من لوحة كبيرة سبحان خالقها. الأشجار والزرقة والغيوم التي نودّ لو نقبض عليها. التقينا بمرشدتنا عند مدخل المعرض ومع مجموعة صغيرة بدأنا الجولة. خيار الجولات الجماعية لم يكن خياري المفضل في السابق، لكن روما كانت مدينة المرات الأولى بامتياز. مرشدتنا طالبة فنون جميلة متحمسة تضع يدها بلطف على بطنها وانتبهت لحملها الثمين! هذا الصغير أو الصغيرة برفقة أمها كل يوم في جولاتها تستمع للحكايات وأسئلتنا الفضولية.
.
.
يحتضن القصر كنوزًا عدة من الفنّ الأوروبي، وكغيره من المعارض التي زرناها يجمع اللوحات والمنحوتات. قصة هذا المعرض بدأها سكيبيوني بورغيزي الكاردينال وجامع المقتنيات الفنيّة. الذي عُرف بكونه راعي للفنون والفنانين ومنهم جان لورينزو بيرنيني وكارفاجيو. في كلّ زيارة لمعرض فنّي يكون لدي هدف أساسي وآخر ثانوي وقد تتعدد الأهداف وأحبّ كثيرًا المفاجآت. الهدف الأساسي هو رؤية مجموعة منحوتات جان لورينزو بيرنيني. وأهمّها “اختطاف بروسربينا”، القطعة الأهم في المجموعة وتفاصيلها الواقعية التي تحبس الأنفاس. يمكنكم رؤية الدقة والاحترافية والجنون في الفنّ! هذا النحات الذي يعمل مع الحجر وكأنه يفصل قطعة من حرير. يمكنكم رؤية المفاصل والعضلات والاجساد في حركة مستمرة. درت حول المنحوتة عدة مرات وفي كل خطوة أقف للحظات مذهولة. قطعة الرخام الهائلة تتوهج وكأنها جسد حيّ. أصابع بلوتو المغروسة بعنف في جسد بروسربينا وألمها ورهبتها التي كان بيرنيني قادرًا على حبسها في قطعة من الحجر، وتحويلها إلى مشهد ينبض بالحياة. وإذا التفت حولك سترى نظرات الانزعاج من المشهد المزعج وفي لحظة أخرى الإعجاب الشديد بصنعة بيرنيني وحرفيته العالية.
.
.
وددت لو قضينا النهار بطوله في هذه الغرفة لكنّ مرشدتنا انتقلت لقاعة أخرى وحاولت التأخر قليلًا قبل اللحاق بها وبالمجموعة. في قاعة ثانية استقبلنا عمل آخر من أعمال بيرنيني “أبولو ودافني”، هذه المنحوتة التي تجسد لحظة تحول دافني إلى شجرة هربًا من أبولو. الحركة من جديد، الحركة والرخام الصامت كيف لهذين النقيضين أن يجتمعا؟ الحركة المتدفقة في المنحوتة تقبض على انتباهنا. فالأوراق في كفي دافني تنبثق من يدها في لحظة تحوّل أبدي. التوتر بين المطاردة والهرب، والحياة والتحول.
عبرنا صالة ضخمة زينت جدرانها وسقوفها بالنقوش والتقطت عيني في زاوية بعيدة غرفة روائع كارفاجيو. رقصة الظل والضوء التي تميّز لوحاته وتمكننا من التعرف عليها بين مئات الأعمال الأخرى. لوحة “داوود يحمل رأس جالوت” واحدة من الأعمال التي تذهلني حدّ الرعب. واقعية رسم الملامح والموقف. تعكس اللوحة صراع الفنان الداخلي بين الضوء والظلام الذي يعيشهما، وهذا ما أشارت إليه بعض الكتابات فوجه جالوت هنا رُسم انعكاسًا لوجه كارفاجيو.
مضت الساعات الثلاث التي قضيناها في القصر وزواياه الفنيّة بسرعة عبور الغيم في الخارج. لم أتمكن من زيارة الحدائق بالكامل لكن اقتنيت كتابًا من المكتبة لتعليم رسم النباتات والأزهار مستوحى من الحديقة وجمالها. عدنا للفندق أطراف هذا اليوم الجميل وقد غمرت المدينة إضاءة ذهبية دافئة. نسيم هادئ وجموع الناس تتجه لوسط المدينة حيث يبدأ صخب الليل. أقفلت أمنية أخرى وملأت خزانة الذاكرة بالصور.
في وداع مدينة واستقبال أخرى
.
.
نهاري الأخير في روما كان مليئًا بالعشوائيات. أردت السير بلا خطة حول المنطقة، وتناول العشاء في مطعمنا المفضل القريب. ثم تذكرت زيارة قائمتي القديمة المنسية ووجدت فيها مكانًا جيدًا لرؤية المدينة من منطقة مرتفعة. السلالم الاسبانية لم تف بالغرض والمطاعم حولها أقفلت حجوزاتها باكرًا. اخترت زيارة فيلا ميديتشي. وفيلا مديتشي يا أصدقاء هي مركز ثقافي فرنسي في قلب روما. مرتفعة على تلة بينتشو هذه القلعة كانت وما زالت مركزًا للفنّ والثقافة منذ القرن السادس عشر. تجمع الفيلا بين العمارة الإيطالية الكلاسيكية والفنّ المعاصر في بعض معروضاتها. مبنى تاريخي منعزل وهادئ وجسر بين حضارتين. أودع روما اليوم لأذهب لباريس غدًا وأين أذهب؟ الاكاديمية الفرنسية.
بنيت الفيلا في ١٥٤٠م من قبل الكاردينال جيوفاني ريتشي وانتقلت لاحقًا إلى ملكية أسرة مديتشي. وبفضل ثروة الأسرة وثقافتها تحولت الفيلا إلى واحة فنيّة جمع فيها الكاردينال فرناندو دي مديتشي مجموعته الضخم من التحف والآثار الرومانية. أما الحدائق المذهلة -حتى ذلك اليوم- فقد ضمت نوافير وتماثيل أثريه وما زالت من أجمل الحدائق في روما بإطلالتها التي لا تُنافس.
وفي ١٨٠٣م حوّل نابليون بونابرت الفيلا إلى مقر للاكاديمية الفرنسية في روما، وهي مؤسسة أطلقها لدعم الفنانين والمبدعين الفرنسيين. وكان شروط الانضمام إليها كما أخبرتنا مرشدتنا في الجولة أن تكون رجلا فرنسيا عازبًا وأن تقضي إقامتك الفنية في روما وتتلمذ على يدي أشهر الفنانين والحرفيين. كانت مجالات الدراسة محصورة في الفنون الجميلة: كالرسم والنحت. واليوم تغيرت الشروط وأصبحت الأكاديمية تستقبل الطلبة من كل أنحاء العالم بلا استثناء، وتحتضن الفنانين وأسرهم ليقيموا في الفيلا وحدائقها الملهمة. واليوم يمتد عمل الاكاديمية ليشمل مجالات مختلفة من الفنون: كالرسم والنحت والموسيقى والأدب والسينما وغيرها من الفنون المعاصرة.
.
.
لم تكن المعروضات الفنيّة وفيرة كما توقعت، وصعدت الكثير من السلالم وشعرت برغبة شديدة في التوقف والنزول ولكن كل هذا النشاط البدني أثمر. فما إن خرجت باتجاه الحدائق وتمهلت في التنزه بين أشجار السرو الإيطالية، وسمعت الصوت المحبب لأوراق الخريف تحت قدمي واتجهت إلى جانب المبنى المفتوح على المدى، حتى استقبلني منظر من الأحلام. ولم أدر حينها هل التقط صورًا بهاتفي أم بكاميرا الفيلم؟ وقررت أن ألتقط كل الصور الممكنة فهذا المنظر يستحق التذكر والمشاركة.
قائمة مفضلات قصيرة
جولات التسوق السريعة هي سمة مغادرة المدن دائمًا. لم يكن لديّ قائمة أو أماكن مفضلة أبحث عنها. بعض الأماكن ظهرت في طريقي مصادفة وأخرى بعد بحث واستكشاف. زرت مكتبة في مكان غريب تهبط السلم إليها مثل محطة مترو وكانت الكتب فيها على الأغلب إيطالية مع مجموعة محدودة من كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية. لعبت مع نفسي لعبة ممتعة هناك. كنت أمر بين الرفوف والطاولات وأقرأ عناوين الكتب وأحاول أن أحزر عنوانها العربي خاصة مع ظهور اسم المؤلف أو الغلاف الشهير لرواية أو سيرة أو مجموعة قصص.
وفي يومٍ آخر اكتشفت محلّ عطور إيطالي عطوره كلها بأساس زيتي ولا يمكن استخدامها على الملابس أو الاقمشة. استخدامها يعني رشها مباشرة على الجلد. واخترت عبوات صغيرة من العطور التي وقع عليها الاختيار لتجربتها وربما العودة إلى المحل من جديد.
أما الجلود والحقائب فاخترت مكانين فقط وحرصت أن يكون المتجر إيطالي وأن يصعب علي إيجاده في مكان آخر. هذا هو محكّ التجربة الكاملة في زيارة مدينة جديدة.
أما مكاني المفضل رقم واحد فكان Antica Libreria Cascianelli لستُ أدري إن كان متجرًا للعاديات أو مكتبة أو صالة فنيّة أو منزل زوجين ظريفين لديهما الكثير للحديث عنه! قضيت وقتًا لا بأس فيه بعد رحلة غداء. اكتشفت ووالدتي صناديق امتلأت بصور لغرباء من كل مكان. صور من عشرينيات القرن الماضي بل أقدم من ذلك، والاربعينيات والخمسينيات. صور لأطفال صور لاحتفال زوجين، وأخرى لأمهات وأطفالهنّ. التقطت عشرات منها وفكرت سأكتب قصة لكل صورة وسيكون تمرين كتابي رائع.
ومكاني المفضل رقم ٢، متجر القرطاسية والجلود فابريانو، تعرفت عليه أول مرّة في مارليبون في لندن قبل عدة سنوات. وأصبح على قائمتي الايطالية المنتظرة. قرب السلالم الاسبانية متجرهم الرئيسي الضخم وإذا فاتكم زيارته في المدينة ستجدون معروضاته في متجر جيّد في مطار روما لهدايا اللحظة الأخيرة قبل الانطلاق.
وأنا أكتب الجملة السابقة أدركت أن سلسلة روما انتهت هنا، لديّ الكثير من القصص والتأملات التي قد تستيقظ فجأة في مساءات لاحقة. هناك الكثير من الصور على حسابي في انستقرام وقائمة محفوظة يمكنكم الاطلاع عليها والتعرف على القصص المصورة وراء الكلمات هنا.
أودّ تقديم التفاصيل حول الموضوع: استيقظنا فجر يوم الرابع من نوفمبر والدور الأرضي يغرق في بوصات من الماء. يبدو أن أنبوبًا رئيسيا فُتح في سقف المطبخ وتدفقت المياه لساعات أو أقلّ، لا يمكننا الجزم عمومًا. أنا وحبّي الشديد للرمزيات، شعرت أن تدفق الماء مصاحب لتدفق الكلمات في رأسي وأنّ الوقت حان لكتابة الجزء التالي لتدوينة روما. هذه المرّة عن الجولات الفنيّة الساحرة! عن المشاعر الغامرة التي أحاطت بي في كلّ زيارة لمعرض أو متحف. وكل ما أفكر فيه: الجودة والاتقان والحبّ الشديد لما صنعه الحرفيّ والفنان.
الحديث عن الجولات الفنيّة في روما والتي اخترتها بعشوائية يشبه محاولة استعادة حلم. في هاتفي المئات من الصور، لوحات ومنحوتات ونقوش والتقاطات للأرضيات! كلّ شيء كان في عيني لوحة جميلة. ولكن ولأجل ترتيب هذه الذاكرة وتنظيمها في تدوينة سأحكي عن كلّ زيارة في فقرة مختلفة.
.
في ضيافة دوريا بامفيلي
في خطة ذهنية لزيارة روما تصوّرت أن يكون اليوم الأول لفيلا بورغيزي مثلا، أو متاحف الفاتيكان. لكنّ هذا القصر التاريخي الذي تحوّل لاحقًا إلى معرض فنّي كان زاويتي الهادئة التي بدأت بها جولاتي. وكان هادئًا بالفعل في الصباح الباكر فقد وصلت ووالدتي مع المجموعات الصغيرة الأولى للمكان.
يقع معرض دوريا بامفيلي في قلب روما ويروي قصص الفنّ والصمود والإرث الذي امتلكته أسرة بامفيلي إحدى الأسر الأكثر نفوذًا في روما. أما المجموعة الفنية التي يحتضنها القصر فقد بدأت الأسرة في جمعها في القرن السابع عشر الميلادي. وهذا القصر يعود إلى أواخر عصر النهضة، واحتفظ ببهائه على ما يبدو حتى اليوم.
أحببت تداخل تاريخ المجموعة الفنية مع تاريخ الأسرة وانعكاس نفوذها وثروتها على كلّ ركن من أركان القصر. لا أدري من أين أبدأ هنا؟ هل هو المعمار “الأعجوبة” أو السقوف المزينة بإتقان أو المرايا واللوحات التي جسدت البذخ الفنّي. وأثناء التجوّل حول المكان يدرك الزائر أنه يتجول في منزل عائلي ضخم لم يصمم ليكون معرضًا فنيا. وهذه هي المشاعر التي تنتابني دومًا عند زيارة المنازل أو القصور التاريخية. لم أشعر بأني في جولة فنيّة أو فرجة. هناك حميمية دافئة لتخيّل أسرة ارستقراطية تعيش مع كنوزها.
تضم المجموعة أهم الأعمال الفنيّة من عصري النهضة والباروك. هنا فيلاسكيز، وكارفاجيو -سيكون تتبع أعماله شريطًا رقيقًا يجمع أجزاء جولتي الأوروبية. ورافاييل وتينتوريتو وبيرنيني. روعة ممتدة تعكس تطوّر الفنّ الإيطالي والأوروبي بشكل عام.
.
لا يمكن النظر لهذه المجموعة الفنيّة وتجاهل الدور الذي لعبته الأسرة وتفانيها في المحافظة على الثقافة الإيطالية. كل لوحة ومنحوتة لها قصة اقتناء وعناية، كل منها تركت بصمة على الحياة الاجتماعية والسياسية في روما. وعلى مرّ القرون حافظت الأسرة على القصر والمعروضات سليمة، وسمحت لنا برعايتها هذه بالاستمتاع بها للأبد. والمعلومة المثيرة للاهتمام أنّ الأسرة ما زالت تملك المعرض، ويشارك أحفادها في صيانته والعناية به مما يضمن استمرارية هذا الجسر بين ماضي روما وحاضرها للأجيال القادمة. هذا التاريخ الحيّ الذي لمسته بنفسي، كان أجمل بداية لرحلتي في روما.
تركنا القصر وتجولنا قليلًا في المنطقة لتستوقفني لوحات الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو على لافتات في الشارع. تبعت اللوحات لأصل إلى قصر بونابرت (سميّ القصر على والدة الامبراطور الفرنسي) والذي أصبح معرضًا فنيًا. يبدو أننا وجدنا الكنز! وأشارت والدتي علي لندخل، لكن التذاكر بيعت بالكامل لهذا اليوم وطابور ممتد حول المباني ينتظر الدخول. ما وجدناه في تلك اللحظة كان المعرض الأكبر لفرناندو بوتيرو في روما. اشتريت التذكرة عبر الموقع وامتلأت حماسًا لزيارته في الغدّ.
.
استعادة بوتيرو
تعرفت على فرناندو بوتيرو قبل حوالي ١٥ سنة. كانت إحدى لوحاته غلافًا لمجموعة القصص القصيرة الكاملة لغابرييل غارسيا ماركيز. اختارت دار المدى لوحة «بورتريه رسمي للمجلس العسكري- Official Portrait of the Military Junta» لتكون غلافًا للمجموعة. ومنها بدأت البحث والتعرّف على الفنان الكولومبي. يمكن التعرف بسهولة على أعمال بوتيرو لأنه اختار تصوير البشر بأجساد ممتلئة بالألوان والحياة. لوحاته ومنحوتاته لها هذا الطابع الخاصّ الذي أطلق عليه مسمّى «البوتيريه أو Boterismo» والذي ركز فيه على تصوير الأجساد بشكل مبالغ فيه. تصوّر بوتيرو الشكل البشري بما يتناقض مع معايير الجمال المعاصرة. وهو لم يفعل ذلك مع البشر وحسب، حتى الحيوانات في عالمه ضخمة ومستديرة.
ارتديت ذلك النهار فستانًا برتقاليًا فاقعًا احتفالا بالفنان الكولومبي وبدأت جولة ساحرة مع والدتي تعرفنا فيها عن قرب على أكثر من ١٢٠ عملٍ فنيّ. تنوعت اللوحات بين الألوان المائية ورسومات الفحم والمنحوتات التي استعرضت مسيرة الفنان ومساهمته في الفنّ المعاصر. بالإضافة لأعماله الشهيرة، ضم المعرض أعماله الأخيرة التي نفذها قبل وفاته في سبتمبر ٢٠٢٣، وأعمالًا أخرى لم تُعرض من قبل.
.
.
مررت بعبارة أتفق معها كثيرًا: كان بوتيرو رسال حبّ إلى أمريكا اللاتينية. بوتيرو شاعر بصريّ بامتياز، اقتبس عن قارّته الأمّ ألوانها ومشاهد الحياة فيها. مزيج من التناقضات والتناغم هذا ما تفكر به عندما تمر على أعماله الفنية.
استوقفتني والدتي في إحدى زوايا المعرض لتلتقط صورة للذكرى. كانت الخلفية لوحة ضخمة لمشهد صامت: برتقال وليمون، كان اختيار لون فستان اليوم مثالي!
شخصيات بوتيرو تذكرك بالاحتفال بالحياة. ممتلئة جريئة لا تشتكي من تردد أو خجل من أشكالها، وتدعونا للتفكير بطريقة غير تقليدية. تنظر إليّ، تلهمني وتعيد ثقتي في صورتي المنعكسة أمامي.
استخدام بوتيرو للألوان، وخاصة في لوحاته، أمرٌ يستحق التأمل. درجات الألوان العميقة والغنية تضفي على كل قطعة دفئًا ومرحًا. الأحمر الدافئ، الأزرق العميق، والأخضر الزاهي تخلق مشهدًا يُحس، وليس فقط يُشاهد. وعلى هذا المشهد علّقت والدتي بأن نظرتها لاختيار الألوان في أعمالها وتوليفها مع بعض ستتغير بعد بوتيرو، والتقطت الكثير من الصور لأعماله.
.
ذكّرني معرض بوتيرو بأن الفن ليس دائمًا بحاجة إلى الجدية والواقعية ليحمل عمقًا. ففنّه، رغم طابعه المرح والمبتهج أحيانًا، يلامس جوانب أساسية من الحياة — الفرح، الحزن، الحب، وتقبّل الذات. مع التأمل في فنه، شعرت بتقدير عميق لرسالته: أنّ الجمال لا يعني بالضرورة التكيف مع تعريفات ضيقة، بل يرتبط باحتضان الحياة بكل تنوّعها.
كيف تحتفل بميلادك في يوم مطير؟
استيقظت صباح الثامن من أكتوبر بلا خطّة أو وجهة معينة. تناولت الإفطار مع والدتي في الفندق واقترحت أن نخرج للمشي حول منطقتنا ونستكشف المحلات ونتسوق قليلًا. كانت النشرة الجوية حذرت من عاصفة ممطرة حول منتصف اليوم. لكن الجوّ في الخارج مشمس والسماء ترتدي زُرقة مميزة.
خلال عدة ساعات علقنا في المطر وركضنا بمظلة شبه مكسورة لنعود للفندق. جلست متململة. أفكر في الساعات المهدورة الآن وكيف سأذكرها في المنزل بعد أسبوعين أو ثلاثة من الآن؟ بحثت سريعًا في قائمة مفضلات روما التي جمعتها منذ سنوات ووجدت قصر باربيريني أحدها. معرض فنّي وتحفة معمارية أخرى تنتظر الاكتشاف. اشتريت تذكرة لفترة ما بعد العصر وأعلنت لوالدتي: فتاة الميلاد ستخرج في موعد مع نفسها!
.
يقع قصر باربيريني في قلب روما، وهو أحد القصور الباروكية البارزة في المدينة. بدأ بناء القصر بطلب من أسرة باربيريني عام 1625 واستمر العمل عليه حتى 1633. والأسرة من الأسر ذات النفوذ الكبير في روما خلال القرن السابع عشر. كان الراعي الأساسي للمشروع هو الكاردينال ماتيو باربيريني، الذي أصبح لاحقًا البابا أوربان الثامن، وهو أحد الشخصيات المحورية في تاريخ الفاتيكان.
شارك في تصميم القصر ثلاثة من أشهر المهندسين المعماريين في تلك الحقبة. أولهم كارلو ماديرنو الذي وضع الأساس الأولي للتصميم، واعتمد على الطراز الباروكي الذي يجمع بين المساحات الواسعة والتفاصيل الزخرفية. والثاني فرانشيسكو بوروميني الذي أكمل العديد من أجزاء القصر بما فيها الدرج الحلزوني المميز الذي يعدّ تحفة فنية قائمة بذاتها. والثالث والأخير والمفضل لديّ جيان لورينزو برنيني الفنّان الشامل الذي أنهى العمل على تصميم واجهة القصر.
كان قصر باربيريني في البداية مقرًا لإقامة الأسرة. وبعد قرون، تحوّل القصر إلى معرض الفن الوطني القديم (Galleria Nazionale d’Arte Antica) في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح مقرًا لمجموعة رائعة من اللوحات والمنحوتات.
عبرت حديقة القصر لأصل إلى المدخل الرئيسي مرورًا بالمتجر الظريف. تركت مظلتي في خزانة صغيرة وانطلقت باتجاه الصالة الأولى. في القاعات الأولى للقصر تكتشف لمَ تخصص بالفن القديم. لم تكن لوحات القرن الثالث عشر والرابع عشر وجهتي وهذا يتضح من سرعة خطواتي بين القاعات. أفكر في المزيد من لوحات كارفاجيو، ولوحة بورتريه هنري الثامن لهولباين وسقف القاعة الكبرى لبيترو دا كورتونا. تناهى لسمعي صوت مجموعة من الطلاب في زيارة للمكان مع أستاذهم. حينها قررت التعجّل في الصعود لقاعة اللوحات الرئيسية لاستمتع برؤيتها قبل وصولهم. في كلّ قاعة دخلتها كان بصري يتنقل بحماس بين الأرضيات واللوحات والسقوف، لا يوجد مساحة خالية تمامًا من الفنّ. كل التفاتة لبصرك ستنقلك لبعد مختلف.
.
كان هناك شيء مسلٍّ في تسارع خطواتي وأنا انتقل من غرفة لأخرى، بينما أودع مكانًا يدخل الطلاب إليه بعدي وهكذا. سباق لطيف من أجل لحظة عزلة في حضرة كنوز عصر النهضة. وبعض الزوايا التي غفلت عنها أعينهم كنت أقضي فيها وقتًا مطولا للقراءة والتصوير والتذكر. لكننا التقينا أخيرًا في القاعة الرئيسية الكبرى حيث طلب منهم أستاذهم الجلوس على الأرض وتأمل السقف المذهل برموزه الفنيّة والسياسية. يصادفكم في القصر رمز النحلة، في النقوش والزخارف وعلى السقوف وفي المنتجات التذكارية المباعة في المتجر.
.
انقشعت الغيوم والجوّ القاتم تدريجيًا وفي نفس الوقت شارفت جولتي على الانتهاء. مررت بالمتجر وكما فعلت في كلّ الزيارات ابتعت كتابًا يلخص المعروضات وتفاصيل البناء والمعمار وحقيبة قماشية لحمل كل هذا. كان القصر ملاذًا مؤقتًا بعيدًا عن الشوارع الغارقة في المطر، وشعرت بسعادةٍ غامرة لاختياري هذا المكان وعفوية الخطة التي أضافت بعدًا جديدًا لرحلتي.
إذا كان لهذه الرحلة من سِمة أساسية ستكون أنا، أتبع كارفاجيو وضوءه وظلاله، ومنحوتات بيرنيني، وتاريخ عصر النهضة بين شوارع روما وأروقة متاحِفها.
.
.
.
في الحلقة القادمة من السلسلة سأشارككم رحلتي لفيلا بورغيزي ووداع روما وقائمة مفضلّات الرحلة.
بدأت كتابة هذه التدوينة في صالة مكتظة بالمسافرين. ودّعت والدتي قبل نص ساعة وانطلقت للحاق برحلتي إلى باريس. حرارة المكان وتململ الجالسين ووقوفي لوقتٍ طويل قبل إيجاد كرسيّ خالي كل هذا سبب لي الانزعاج وبعض الدوار. اعتدلت في مكاني منتصرة – حصلت على كرسي. تركت اغراضي بعد ايماءة من رأسي للجالس قربي: أرجوك راقبها من فضلك. لم أقل شيئا فقط إشارات بيدي ورأسي ورفع لي ابهامه موافقًا. اشتريت قبل أيام كتاب تذكاري يصوّر أشهر إشارات اليدّ الإيطالية وما تعنيه اللغة غير المنطوقة.
اخترت شرب فنجان كابوتشينو أخير في العاصمة “الحلم”! وجلست لالتقاط أنفاسي وتدوين كل ما أود تذكره عن الأسبوع الماضي. اعتمد طريقة تدوين مختلفة هذه المرة مبنية على الذاكرة المصوّرة في جهازي -وقلبي. امسك مذكرتي الورقية وابدأ ببناء مخطط مقسّم على الأيام والتجارب. مبدئيًا قسمت المحتوى لعدة تدوينات وهذا ممتع!
سيكون لديّ فرصة أكبر للحديث عن المتاحف والمعارض والأعمال الفنية التي وقفت أمامها وإعادة التفكير فيها بالكتابة يحقق لي التجربة الغامرة والأثر الممتد. أحببت في زيارتي لروما سقف التوقعات المنخفض الذي منحته لها. خطط مرنة قابلة للتغيير، البطء والتعرف تدريجيًا على المكان. مقارنة برحلاتي الأولى لمدنٍ أخرى، كنت املأ جدولي بالكثير من التجارب والأماكن وأشعر بالإرهاق والغضب لاضطراري أحيانًا لتأجيل تجربة أو إلغائها بعد الدفع!
لم أضع الكثير من الفعاليات على الأجندة، لكنني فكرت جيدًا في اختياري للفندق. أردت أن نحظى أنا ووالدتي بعطلة منعشة والبداية تكون في الفندق الذي سنقضي فيه ساعات الاستجمام الأطول. اخترت فندق لوكارنو البوتيكيّ الذي يعود تاريخه للعشرينيات ميلادية من القرن الماضي. بني المبنى الرئيسي على طراز الآرت-نوفو المعماري الذي كان الطراز الأحدث آنذاك. أما المبنى المجاور الذي ضمّ إلى الفندق لاحقًا فيعود تاريخه إلى ١٩٠٥ للميلاد، فقد كان منزلًا لعائلة عريقة من فينيسا.
حافظ المكان على تاريخه مع إضافة لمسة حداثة لكلّ شيء. تقنيات وأثاث عملي وإنارة متميزة. لكن الزوايا القديمة تظهر فيه بوضوح. وفي ركن خفيّ بعيد عن قاعة الاستقبال الدافئة خزائن زجاجية تحتضن صور وسجلات وقصاصات من السنوات التي مرّت على المكان. ساكنيه الأشهر، وتفاصيل مثل الأواني والتذكارات.
الغرف ليست واسعة بشكل كبير، لكنها مثالية في التصميم. بمجرد وصولنا أنا ووالدتي افرغنا حقائبنا في الخزائن. وأصبحت الحركة والحياة أسهل! أعلم أن هناك أجنحة أكبر في المكان وغرف عائلية مبهرة لكنها بطبيعة الحال أغلى سعرًا.
بالإضافة للتصميم والهدوء والخصوصية العالية في الفندق، أحببت أنّ المشي منه لأبرز المعالم حوله سهل جدًا. فهو على بعد دقائق من ساحة الشعب الصاخبة خلال النهار، والمحاطة بالمتاجر، والمقاهي، والمطاعم. بالإضافة إلى قربه من منطقة السلالم الإسبانية.
وبالنسبة للخدمات فالمطعم الرئيسي للفندق يقدم وجبة إفطار رائعة -وفعلت شيئا مختلفًا هذه المرة فقد حجزت الغرفة مع الإفطار. نستيقظ أنا ووالدتي ونهبط للطابق الأرضي وكأننا في منزل ضيوف حميم. نفكر في شهيتنا هذا الصباح؟ حلو أم مالح؟ ما هي القهوة التي نودّ تجربتها؟ وكلّ اشتراطات طعامنا مجابة والموظفون مرحّبون. وننطلق في يومنا بعد ساعة أو تزيد من الاستمتاع بتناول الوجبة إما في صالون الطعام الداخلي، أو في الباحة الوسطى مع العصافير التي تلتقط من أطباقنا فتات الخبز وقطع الجبن.
استحضر وأنا أكتب التدوينة الآن نعمة تجربة السفر مع شخص يختلف عنك في الكثير من الأشياء. والدتي تحب الهدوء والبطء وتبحث دائمًا عن فرصة للراحة والانعزال في الإجازة. تذكرت عبارة حفظتها في ملاحظاتي كتبتها مدونة في نشرتها البريدية:
“لقد كان لديّ الكثير من الوقت غير المحدود للقيام بالأشياء التي أحبّها، وشعرت بقدر كبير من الإلهام والامتنان الذي كان مفقودًا في حياتي مؤخرًا.”
تفرّغت تمامًا لتذوق الخضروات والفواكه الشهيّة بعد حصاد سبتمبر، وذهلت من لذة زيت الزيتون وحاولت تتبع عناصره ذات مرة لأجد معلومة عن المزرعة التي جاء منها: زرعت أشجار الزيتون بين كروم العنب لتعطيها هذا المذاق المختلف. قطع خبز ساخنة وقليل من الزيت ورشة من الفلفل الأسود كانت بداية وجبتي الأولى في روما. وصخب الشارع يتسلل عبر الباحة الخلفية للفندق. لسيارات الإسعاف هنا نغمة مختلفة عن أي مكان آخر. مزعجة لكنها ستبقى في ذاكرتي بعد مغادرة المدينة.
الوصول لمكان جديد يشعرك بالتحدّي والتوتر. مثل قطة متحفزة أحاول تذكر الشوارع ومداخل الأحياء وكأنّي لا أملك خريطة استشيرها لاحقًا. للوهلة الأولى تخيّلت أن روما معركة ينبغي الانتصار فيها. ولكن مع مرور الوقت تهذّبت مشاعري وقررت أن اكتشفها بهدوء وعلى مهل.
في كل مرة أخرج من الفندق اقرأ الشوارع الصغيرة بعمق واتأمل المارة والعاملين. وفي اليوم الأخير خلال ساعات الركض وتسوق الهدايا. وجدت الشعور اللطيف الذي كنت ارجوه: شعور العودة إلى المنزل! حيث الفندق ومطعم البيتزا الدافئ وصاحبته التي أصبحت صديقتي ووالدتي وأهدتني في ميلادي احتفالية إيطالية وفناجين مدموغة باسم المطعم: أصبحتِ الآن عميل ذهبي مهمّ جدًا.
في روما تتبعت خطوط الزمن على واجهات المباني، والأرض، ووجوه الشيوخ والعجائز. رأيت أثر الزمن على أشجار الصنوبر التي زرعت على التلال العالية. تلوّن الرخام في الفاتيكان، ومياه النافورة العذبة التي عاشت هنا مئات السنين. عندما أخبرتني موظفة الفندق في اليوم الأول أن النوافير وأماكن التزود بالماء البارد العذب في المدينة وفيرة. كل ما عليك فعله هو حمل مطارتك أو عبوة الماء في كل مكان واملأها واستمتع.
جمعت في هاتفي عشرات الصور لكل ما يشدّ انتباهي من تفاصيل بناء تذكرني بشيء أو مشهد أو شخص. تعبت وفي إحدى المرات ضحكت من نفسي قبل أن ألقي بهاتفي في الحقيبة معلنة الاستسلام: هذه المدينة أكبر من صورك يا هيفا!
لفت انتباهي أيضًا استعدادات المدينة لاستقبال أكثر من ٣٥ مليون حاجّ كاثوليكي احتفالًا بسنة اليوبيل ٢٠٢٥. الكثير من أعمال الإصلاحات والبناء والتي رافقها بعض الاقفال لنواحٍ من المدينة أو معالمها التاريخية. وصلتني رسائل تستوضح مدى سوء الأمر، ولكن في حالتي لم أواجه أي صعوبات في الجهات التي زرتها فقد حظيت بتجربة سلسة ومتكاملة.
رحلتي إلى روما كانت لعدة أسباب: زيارة مكان جديد، الاحتفال بعام والدتي الستين، ويوم ميلادي الثاني والأربعين في منتصف كلّ هذا. الكثير من المصادفات السعيدة واللحظات المنتظرة وبعض الازمات والتعقيدات طبعًا فهذا هو وجه الحياة الذي أعرفه.
هذه هي التدوينة الأولى في سلسلة قصيرة سأحكي فيها عن روما.