أزرق ممتد

لم أكن متأكدة بشكل قاطع من ارتباط حياتنا اليومية بالكوابيس التي نراها خلال نومنا، حتى توقفت مؤخرًا أحلام السيارة المنطلقة على الطريق وأنا مرتبكة أبحث عن حلّ لإيقافها أو قيادتها ولا أستطيع! أصبحت الأحلام أكثر وداعة، الآن هيفا تبدأ بتشغيل السيارة، تعرف أي الدواسات تستخدم، وتنطلق على طريق ولا تسقط من هاوية. والسبب؟ هو دروس تعلّم القيادة التي تلقيتها في مارس الماضي، أما الرخصة والاختبار ذهبت في النسيان مع إقفال كلّ شيء.

ما هو الكابوس الذي تخلصت منه في أغسطس؟ كوابيس البحر المائج. لقد فعلتها أخيرًا وركبت الماء وأقول الماء لأنني لم أكن في قارب، صغير كان أو كبير على امتداد حياتي. نعم عشت لثلاثين عامًا في مدينة ساحلية، لكنني كنت دائما على الساحل. لذلك ولدت كوابيسي، من المدّ الهائل، للموج الذي يغمرني، للظلمة الممتدة وأنا لا أسبح ولا أغرق. نعم أنا واعية للتفسير خلف رموز الأحلام، وربما هي مسائل من الحياة لكنها تظهر على شكل بحر، أو أسد، أو حتى عنكبوت. لكنني تخلصت من كابوسي الحقيقي، وقضيت عدة أيام في البحر. كانت مثل حلم هادئ. وقد تخوفت من احتياجي لعلاجات الغثيان لكن الموج كان لطيفًا. وأدرك اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى إلى أي درجة أحب البحر. وإلى درجة احتاجه في أيامي. وستة أشهر بعيدة عن رؤيته أصابتني بشوق غريب. شوق الذي يغمض عينيه ويرى أزرق ممتدّ في كلّ مكان، ويسمع صوت نوارس ولا يراها في مدينته الصحراوية.

ركبت البحر وحصلت على عدة ليالٍ بعيدًا عن المنزل وهكذا كسرت تعهدي بعدم الذهاب إلى أي مكان حتى تنجلي الجائحة أو يُعرف لها علاج. كانت الرحلة مزيج من عمل وترفيه، ولكن أيضًا كان لديّ خيار رفضها أو تأجيلها. لم أفعل. وتزامن ذلك مع قراءة لمقالة صادفتها في هارفارد بزنس ريفيو خلال أغسطس الماضي.

المقالة في المجمل تتحدث عن ضرورة الحصول على إجازة، حتى في هذه الظروف، وتطابقت أفكار المقال مع ما بدأت ترويض نفسي عليه: لن تكون الرحلة كما خططتِ لكّنها فرصة لتغيير المناظر والبشر.

في المقال نصائح متفرقة عن كيفية تحقيق هذه الخطة، ومن الممكن ألا تكون سفر بالمعنى الحقيقي (ركوب طائرة، أو قطار، أو سيارة) قد تكون ليلة في فندق قريب في مدينتك، أو نهاية أسبوع بصحبة أقاربك. المهمّ هو ألا تتنازل عن فكرة الراحة والاستجمام.

أغسطس كان شهر اليقظة، أن أكون منشغلة تمامًا بشيء، بعيدة عن منزلي وأشيائي المألوفة، عن زاوية التأمل التي أقضي بها نهاية النهارات، ثم يغمرني شعور هائل، أريد أن أعود الآن للمنزل، أريد أن ابدأ شيء، أن انتقل لمكان، لا أعرف ما هو لكنّه شعور موجود وملحّ لتغيير كلّ شيء. هل سبق وشعرتم بهذا؟

هل كانت هذه حصيلة الخروج الأول للحياة؟ حصيلة إيقاف القلق والهلع للحظات لنتخيل العالم بلا جائحة؟ نلتقي بأحبتنا ونتذوق أطايب الحياة، نتسوق ونمشي في ضوء الشمس، نتأمل أضواء المساء في مدينة بعيدة. نعم قد يكون هذا هو السبب، كنت فقط بحاجة للنوم ليلة واحدة بعيدًا عن حبسي الفيزيائي والمعنوي.

الرفض والبدء من جديد

تزورني كثيرًا فكرة الرفضهذا الشعور الذي يأتي بمثابة حاجز، أو تحويلة إجبارية في الطريق. ونحن، إما أننا نواصل ونقاوم هذه العقبة أو نستسلم ونعود أدراجنا. والرفض يأتي بأشكال كثيرة، فهو مرة مقابلة عمل تحولت إلى منحدر ورسالة إلكترونية تفيد باستبعادك. ومرة صمت ممتد لا يمكنك تفكيكه أو فهمه بطريقة أخرى غير أنّه رفض متأنق. قد ترفضنا العلاقات وتنتهي، وقد تستغني عنّا جهة العمل فجأة وبلا إنذار. كلّ هذه المواقف رفض. وبعد أن مددت خطتك ورسمت كل اتجاهاتها بحذر يأتي الرفض وكأنه طفل مشاغب، يقلب كلّ شيء ويقول: هاه ماذا ستفعل الآن؟ في كثير من المرات شعرت بأنّ الرفض نهاية كلّ شيء، واحتجت لوقت طويل لاستيعاب طريقي وخطتي من جديد. لكن، مع العمر والتقدم في الحياة واكتساب الخبرات، قررت أن أمنح نفسي وقفة قصيرة فقط لإعادة التهيئة والانطلاق من جديد. وفي أحيان كثيرة ويا لدهشتيكان الرفض أجمل عقبة وجدتها في طريقي، ورضيت وقنعت بأقدار الله، لاكتشف أنني ما كنت لأرى هذا المنظر الجديد، ما كان لي أن أجد ضالتي لو لم يكن الطريق مقفلًا في وجهي للحظات.

صحيح الرفض متعب، ومخجل أحيانًا سأستطرد قليلًا هنا: تذكرت رسائل الإعجاب التي بعثتها لأشخاص لم أجد منهم سوى ردود غريبة أو مجاملة سببت لي المغص بدلًا من الفرح ودارت الأيام وتقاطعت طرقنا في عمل أو علاقات مشتركة. كيف تتوقعون أنني تعاملت مع الموقف؟ نسيت رسائلي تمامًا. كان الرفض موجعًا وقتها، لكن الآن أفكر بجدية: الحمد لله أنّ الرد لم يكن بالقبول والموافقة، ربما لم نكن متوافقين تمامًا، وربما كانت تصوراتي الحالمة عن هذا الشخص هي ما قادتني بالدرجة الأولى لكتابة الرسالة. وعلى أيّة حال، لم تتغير فكرتي عن المبادرة، وربما سأفعلها مرة واثنتان وثلاث.

ما الذي وجدته مفيدًا للتعامل مع كلّ أشكال الرفض؟

  • الوعي بمشاعري والاعتراف بها، لا أهمشها ولا أقمعها ولا أقاومها بشدة. إذا كنت حزينة، أو خجلة، أو محبطة، أواجه كلّ شيء وأعطيه مساحته. ثم أنهض من جديد.
  • إذا قوبلت بالرفض هذا لا يعني النهاية، كوني أصل وأقف عند الحاجز يعني أنني أقدمت بطريقة أو بأخرى، دفعت نفسي إلى مداها، وهذه العقبة ليست إلا دليل على شجاعتي مهما كان الموقف.
  • أعامل نفسي برفق، واستبعد التقريع والكلام المؤذي معها. ودائمًا أتذكر النصيحة التي تقول: عامل نفسك وكأنها صديق تحبّه جدًا وتثق به. هل ستقابلها بالأذى الدائم والبذاءات؟ لا أعتقد.
  • الرفض الذي أواجهه والعبارات والأحاديث المصاحبة لهذا الرفض لا تمثلني بالكامل. قد تكون مرتبطة بجزء من شخصيتي، الجزء الذي اخترت إظهاره في تلك اللحظة. وسواء كان الرفض من وظيفة أو علاقة، يجب ألا يحدد هذا الموقف تقديري لذاتي ونظرتي لها.
  • أتعلم من هذا الرفض درس للحياة. ومثل أيّ تجربة أخرى، يصبح الموقف بوصلة يحدد خطواتي القادمة وما الذي يجب عليه فعله للتقدم إلى الأمام.

انتصار مهمّ

أحبّ خوض مغامرات وتحديات مع جسمي، أعرف أن الله وضع قدرات هائلة في أجسامنا وعلينا اكتشافها بكلّ الطرق. تارة يكون التحدي نظام تغذية جديد، أو تمارين مختلفة، وتارة أخرى يكون التحدي مع الساعة البيولوجية وكيفية ضبطها لتناسب طاقتي وأهدافي اليومية. أعرف مثلًا أن البقاء يقظة بعد الساعة ١٢ صباحًا يرسل جسمي في اليوم التالي في رحلة فوضوية من الكسل والضياع. لذلك اعتمدت الاستعداد للنوم قبل ١١ مساء، والانشغال بأي نشاط يبدّد آخر ما تبقى من طاقتي، سواء قراءة، أو تدوين يوميات، أو مكالمة هاتفية.

ما هي المشكلة التي واجهتها الفترة الماضية؟ أن وقت صلاة الفجر يصادف غرق في النوم العميق، وما من سبيل للاستيقاظ بهدوء لأن المنبّه يفزع كل خلية في جسمي، وأوفر هذا الفزع لموعد الاستيقاظ للعمل عادة. لكنني ما زلت أعمل من المنزل لليوم وساعتي البيولوجية توقظني حول الثامنة والنصف بلا منبّه.

احتجت لإضافة تنبيه بيولوجي جديد، بدأت بمنبه بصوت خفيف وبعيد في الغرفة، يصل لعمق نومي وكأنه نداء خافت. واستيقظ في نفس الوقت لعدة أيام. ثمّ توصلت لفكرة شرب السوائل في وقت متأخر قريب من وقت الغفوة، وأصبح جسمي يوقظني في الرابعة والنصف أو بعد بقليل. لقد انتصرت! حدث الأمر بمرونة وهدوء والآن أتممت الأسبوع الأول من الاستيقاظ للفجر بلا منبّه.

ماذا أحببت في أغسطس؟

.

.

.

إلى الحقيقة وما بعدها

ليكن شفاؤك الذاتي مهمّتك الأولى

مررت بهذا الاقتباس قبل عدة أشهر واحتفظت به، كتبته على ورقة صغيرة، ونسخته لعدة نسخ. أحمله في محفظتي، ودسسته في مذكرتي اليومية، وبين الأقلام على المكتب تركت نسخة إضافية منه.

لقد بدأت محاولاتي الفعلية للاستشفاء منذ وجدت نفسي حبيسة المنزل قبل عدة أشهر، وما زلت. لقد كان الركض في العمل والحياة وزيارة الصديقات والأقارب وسيلة تخدير جيّدة لما أشعر به وأفكر فيه. لكن اللحظة الحاسمة جاءت. سبق وتكلمت عن الموضوع في عدة تدوينات سابقة. لم يتغيّر الكثير، بدأ الأمر بالقراءة، الكثير من المقالات عن مساعدة النفس والبحث عن شفاء. الأدعية اليومية وصلوات آخر الليل، الحديث لمن يهمّه الأمر، والكتابة، الكثير من الكتابة والتدوين الذي لا أعود لقراءته مرتين. لقد وجدت ضالتي قبل عدة سنوات مع صفحات الصباحالتي تحولت إلى صفحات المساء والظهيرة، وفي حالات نادرة هطول ما قبل النوم.

احتاج كلّ مرة أعود للتدوين لقراءة الأرشيف، لأنني أكرر نفسي، اختار كلمات مختلفة ربّما، لكنها نفس الحكاية، مع تغير مسقط الضوء.

خلال الشهر الماضي وبعد تجربة الحديث إلى مرشدة عدة مرات، قررت حسم أمري والاتفاق معها على جلسات أسبوعية، لقد جرّبت أثر أن يسمعك شخص مختلف، ويطلب منك النظر في ذاتك لكنني لم اقتنع في البدء. أوجدت في نفسي أعذار كثيرة، أنا تجاوزت منتصف العقد الثالث من العمر ويفترض بأنني عرفت نفسي جيدًا، ما الذي يعنيه الاستسلام التامّ وترك المقود للآخرين؟ هل سأكون متصالحة مع فكرة بثّ مشاعري ومشاكلي لشخص غريب؟ وغيرها من الأسئلة التي اثنت عزيمتي لوقت طويل.

لكنّ الغضب واليأس تمكّن مني، ولم تعد المقالات الأسبوعية تشفيه، ولا مديح مسؤولي العمل على مهامّي المنجزة بكفاءة، ولا الأصدقاء والأحباب من حولي وضحكاتهم. كل شيء يبدو مثل نسخة من فيلم بلا ألوان وإن غمرته الحياة للحظات.

كتبت لها رسالة وشكرتها على محاولتها السابقة والواجبات التي مررتها لي لتجربة نفسي بها. هذه المرة أنا عازمة على الاستمرار.

شكوت لها شعوري الدائم بالغضب، والثقل الذي يسببه التفكير في قصص سابقة، أو حالات متنوعة لا شأن لها بالوقت الحاضر. بدأت العمل بالاستماع التامّ ومن ثمّ أوصتني بالكتابة، الكثير منها.

خلال أسابيع، بدأت بملاحظة الأمور الدقيقة التي تخرجني عن هدوئي، أركز فيها وأعيد تحليلها بهدوء واجتازها. أنسى كثيرًا بأن التفاعل مع المواقف ليسَ ضروريًا، وأن دخول النقاشات التي لن تؤثر على سياق حياتك غير ضروري، بل مذموم أحيانًا. شعرت بعد تطبيق التمارين والتأمل لجدولي اليومي ولحظات الانتكاسة أنني تعافيت فجأة، لدرجة أنني لم أجد ما أتحدث عنه في الاتصال التالي مع المرشدة، وضحكت وقالت هذا طبيعي سيأتي الحديث، لا تشعري بالحرج أو الاضطرار للثرثرة. وأقول لها أن ما أمرّ به الآن يشبه أن يتقن طفلك خدعة أو مهارة في خصوصية بيتك، وتطلب منه تكرارها أمام الضيوف ويرفض بعناد. هذه حكايات غضبي وما يشغلني واختفائها المفاجئ عندما تحدثنا.

من أنتِ؟

قد يكون الثقل الذي تشعر به هو فجوة بين شخصيتك الحقيقية والشخصية التي تظهر بها للعالم الخارجي. عندما تحدّثنا في هذا الموضوع سألتني المرشدة: من أنتِ فعلًا يا هيفا؟ انطلقت للحديث عن عملي، عن حياتي، عن مكاني بين أفراد عائلتي، وشيئًا فشيئًا أدركت بأنني أصف نفسي من الخارج، أصف هيفا في قصص الآخرين. لكنّي لم أقل أي شيء عن نفسي بمعزل من كلّ هذا.

طلبت مني التفكير بعمق في الأمر، وحاولت تسهيل الموضوع باقتراح تمرين واسئلة من قبيل لو لم تخف من شيء ماذا ستفعل؟ وماذا لو امتلكت الدعم المالي غير المحدود ماذا ستفعل؟ وغيرها من الأسئلة التي تدغدغ المشاعر وتفتح باب للأمل، والحلم ربما.

لتعرف نفسك تمامًا فكّر في لحظة السعادة الصافية، اللحظة التي تتخذ قرار أو تقول شيئًا لأنك تعنيه، وترغب بقوله، وفعله. لا أن تأتي خطواتك من خوف، أو تردد، أو صورة تحجب حقيقتك لتعبر بها إلى مساحة القبول.

لستُ هيفا المدرسة، ولا الكاتبة، ولا التي تجتهد كلّ يوم بالبحث عن طريقة جديدة لإقناع عميل بفكرة إبداعية، أو رسم طريق لمشروع ما.

البحث عن أناالحقيقية يعني الغطس لأعماق سحيقة، أين أنا قبل كلّ هذه الطرق المرسومة بالمسطرة، أين أنا قبل الاختبارات المدرسية، وأوسمة التفوق، وشرائط الشعر المشدودة.

جزء من التمارين والأسئلة يمرّ بمنطقة ممتعة لكنها في نفس الوقت تفتح ملفات لم أرغب بالعودة إليها، كأن يقول لك السؤال ما هي أكثر لحظات حياتك تمردًا؟ وأذكر حدثين على وجه التحديد وكلها حصلت قبل عمر الثامنة، تلك النسخة الصافية من روحي، جرّبت أن تمسك بالمقص، وتمرره على شعرها وملابسها بدلًا من الورق. انتهيت بقصة غريبة، ومدرسة روضة أصابها الهلع ولم تعرف كيف تبلغ والدتي بالكارثة.

أحبّ هذه القصة، وأقلبها في رأسي كثيرًا. أنا لا أقول بأنني سأقص شعري بلا تركيز، أو ملابسي. ولكن لحظة الهدوء التي شعرت بها هيفا في ذلك العمر وهي تفعل شيء ما، شيء وجدت فيه سعادة صافية. أريد ذلك!

هل تظنون أن أمر البحث في النفس سهل؟

لا طبعًا.

ليست لدي رفاهية التوقف عن العمل وكسب الرزق، وليست لدي رفاهية ساعات اليوم الطويلة التي أقضيها في نبش الذاكرة. كنت أسرق الوقت من هنا وهناك. أو أقبض على نفسي وأنا ألمح لمعة سعادة بعيدة في عيني بمجرد مروري بلحظة تشبه حدث قديم واتمسك بها. أكتب من جديد، واطرح المزيد من الأسئلة على نفسي لأصل.

من أنتِ عندما تستبعدين عملك؟ والكلمات والقصص والأخبار والروابط المفيدة التي تشاركينها على الشبكات الاجتماعية؟ من أنتِ في هدوء يومك؟ في الصباحات التي تقضينها مع صديقة؟ من أنتِ بصحبة إخوتك؟

وأكتب. وتمتدّ القوائم وتدهشني لأنها لا تشبه الشخص الماثل هناك، على المنصة يمرر الهدايا والفوائد.

تذكرت في تلك اللحظات حديث أحد الأصدقاء الذي يصفني وهذا رأيه طبعًابأنني شخصية ذات هيبة، قد تدفع بالآخرين للتردد والحديث معك عن أشياء عفوية وبسيطة، فكرة المزاح مثلًا قد ترعبهم! ليس وحده من يقول ذلك، ولن أكذب إذا قلت بأنّ الموضوع يسبب لي الضيق، وكنت استغرب كثيرًا عندما يصرح المقربون والأصدقاء بأنّ هيفا في الفضاء الإلكتروني لا تعكس تلك اقتربنا منها وعرفناها.

ومن جهة أخرى، أحبّ كثيرًا اللحظات التي يصرح فيها البعض بأنّ شخصيتي خارج الفضاء الإلكتروني مطابقة لما يقرؤونه ويرونه.

إذا قلت بأن آراء الآخرين لا تهمّني تمامًا فأنا أكذب، نعم أهتم. وأذهب مع الرأي الذي يقول بأن العلاقات والمسافات بين الناس وبيننا حياة كاملة، هذا التفاعل، هذه الرؤية، وهذه الآراء مهمّة في نموّنا النفسي والاجتماعي. نحن بحاجة للخروج من أنفسنا ولو للحظات.

كيف وصلت هنا؟

نعم كنت أتحدث عن هيفا بصورتها المحببة.

أذكر بأنني ألغيت حسابي على موقع Goodreads لسببٍ قد يبدو اليوم سخيفًا لكنّه مهم في قصة نموّي وشفائي: لم أرد أن يكون كل ما أنا عليه، مراجعات كتب، لستُ هيفا القارئة فقط، ولا أريد الارتباط الأبدي بالقراءة وكأنها مهنة أو صفة. لكنني لم أتوقف عن هوايتي الأحبّ، إنما اخترت أن أذهب في مخبأ سرّي، أرسل منه ومضات قصيرة وقصص لمن يرغب بها.

طبعًا كلما تذكرت هذه القصة أشعر بالخجل لأن ما علاقة هذا بذاك؟ لا يمكنني طبعًا استعادة الحساب، وحاولت بعدها البدء الجديد ولم اتحمس للفكرة فتركتها للنسيان. وهذا مثال على الأفعال الغريبة التي كنت وما زلتأقوم بها لأنفصل من صورة التصقت بي ولم أعد أشعر بالانتماء لها.

أذكر قصص أخرى ترتبط بكتابة تغريدة عفوية، أو مشاركة صورة، أو أي شيء قد يجده المتابعون مخالف للصورة الذهنية التي وضعوها لي. بعض التعليقات وإن بدت بريئة في لحظة، تصبح مؤذية عندما أفكر بها مرة ومرتين ولا أستطيع تجاهلها. من يحددّ حقيقتك؟

توقفت هنا لنصف ساعة تقريبا وعدت للكتابة، وشعرت بأنّ مكان التدوينة في المسودات، أو الصفحات التي لا أعود لقراءتها مجددًا.

سأحارب هذه الفكرة وأمضي لتنفيذ تمرين الأسبوع. أن أكتب عن نفسي كما أحبّ، بلا قيود، أو تدقيق أو التفكير في: ماذا سيستفيد القارئ؟ هل هذا محتوى ترفيهي؟ هل بدأت التدوين للترفيه؟ أو للفائدة فقط؟ أسئلة كثيرة ومقلقة : )

الآخرون طبعًا لا يحددون حقيقتك، أفكر بالآخر وكأنه جهاز استقبال لما أبثّه، وظيفتي ليست الترفيه، أو التلقين أو التعليم، أنا هنا لأعبّر وأشارك قصة. وهذه إحدى الصفات التي توقفت عندها عندما فكرت في هيفا الحقيقية.

منذ عمر مبكّر أحببت سرد القصص، اختلقت الكثير منها، وأضفت البهارات والدراما، وفي هذا السياق كنت أرفّه عن والديّ ومدرساتي، وأقاربي. هذا الجوع للقصّ لم يغادرني أبدًا على مرّ السنوات. ولكنني لوثته أحيانًا بالعبء الذي أضعه عليه. أن تقول قصة مفيدة، قصة فيها معلومة، أو نتيجة نهائية. وتحوّلت الكتابة من هواية محببة، إلى وظيفة، ثمّ طريقة لجذب الانتباه والقبول. لا عيب في ذلك طبعًا، لكنني أفرطت وابتعدت عن التوازن كثيرًا.

خلال الأيام الماضية بدأت تدريجيًا مشاركة جوانب من حياتي اليومية دون تدقيق أو مراقبة ذاتية. لم يكن الأمر سهلًا وهذا ما قد يثير الاستغراب والحنقعندما تكون شخص يعيش حياته بحقيقتها الكاملة ولا يجد مشاركة لقطة من مسلسل كرتوني للكبار أمر يدعو للتوتر وتزوره أفكار مثل: ماذا سيقول المتابعون عن هذا؟ إنه مسلسل كرتوني يزدحم بالنكات البذيئة! كيف تشاهدينه؟ لكنني أحبّه.

كما بدأت الكتابة في القائمة اللانهائية للأمور التي أجدها أقرب لنفسي وتشبهني وتثير بداخلي سعادة صافية! أحب الضحك من قلبي على النكات البذيئة خصوصًا القديمة منها التي ترويها جدتي وهي تلف غطاء رأسها على فمها وتغرق بالضحك. أحبّ برامج الواقع التافهة وأتابعها بحماس لأكثر من عشر سنوات، أحب المشروبات الغازية الباردة وحاولت الإقلاع عنها ولم استطع، أكسل في أيام كثيرة ولا أرتب غرفتي حتى تغرق في الفوضى، أعتذر عن الخروج من المنزل لأنني أحاول إتمام مسلسل اكتشفته صدفة، اتبادل مع الصديقات الـ memes الغريبة، ونقضي الساعات في كلّ مرة نلتقي في تخيل العلاقات التي كدنا نفقد أنفسنا لنبقيها وعندما نظرنا لها في المرآة مبتعدين اكتشفنا بأنها كابوسية، لدي لوحات في بنترست خصصتها لمنزلي الحلم، وأحبّ قائمة كتبتها وأحفظها في صندوق عن صفات شريك حياتي الرائع واقتباسات وقصائد حبّ سأشاركها يومًا ما وأتذكرها في اللحظات التي أفقد رأسي وأندفع بكل قوّتي تجاه شخصٍ غير مناسب.

تضحكني فكرة أني بحاجة لكتابة هذه الأشياء في قائمة، ولم انتهِ منها بعد لكنّها نصيحة مرشدتي لتذكيري بأنّني حقيقية وأن كل هذه الضغوط التي أضعها على نفسي في رأسي فقط، أنا بحاجة للتحرر من الصندوق الذي وضعت نفسي فيه ولم يضعني فيه أحد.

تهانينا وصلتم لنهاية التدوينة!

كانت حفلة صاخبة في رأسي ووددت وضعها في صفحة كي لا أنساها، وأعود إليها لأتذكر نقطة الانطلاق. نقطة الحقيقة والخفّة. لن يتغير كلّ شيء في ليلة واحدة، لكنني سأحاول.

أناناس

يحاول والدي منذ ثلاثة أيام إقناعي بتجربة ثمرة الأناناس التي اقتناها من أجلي. ولكنّني اتبع حدسي في الأكل لمدة، ويتكرر وقوفي في منتصف المطبخ، وفتح الثلاجة، والنظر للقطع اللامعة بعصيرها على شكل نصف دوائر مضلعة. أقفل الباب وأخرج فالمزاج يطلب شطيرة بيض وجبنة، أو مربى برتقال وجبنة، أو أفوكادو مهروس بالتوابل على خبزة محمصة. اليوم فقط قررت أنه وقت مناسب لتناول الأناناس، لاذعة، حلوة ومفاجأة. ومع قطعتين من الجبنة الدسمة كانت هي وجبة الغداء لليوم. يعبّر الآباء عن حبهم بطرق كثيرة وعن غضبهم وامتعاضهم وخيبتهم كذلك، وفي حالة والدي يفعلها بانتقاء الفواكه بيديه، أو زيارة المخبز المفضل، وحمل أكياس من الخبز الطازج، وشمع العسل، وآخر ابتكارات المحل من الزيتون والمربياتكيف تشكره على ذلك؟ تأكل وتأكل ثمّ تأكل. لقد كان شعوري بالذنب تجاه حماسه وتسوقه هو الدافع للأكل. وأحيان كثيرة لا أجوع ولا أرغب بتناول صنف معيّن، لكنني أثقل نفسي بالذنب، وأمد يدي، ملعقة من هنا وملعقة من هناك. وصوته يتردد: كلوا منه قبل أن يفسد! احتجت لوقت طويل حتى تخلصت من شعور الذنب المرتبط بالأكل، هذا الشعور بالتحديد مرتبط بمشاعر سيئة أخرى صنعت بيني وبين الغذاء رابطة غريبة ومضطربة.

كيف تحررت تدريجيًا؟

وجدت مكان جديد اسمه التغذية الحدسية (يمكنكم الاستماع لتجربتي معها في حلقة بودكسات قصاصات الأحدث) ومعه أصبحت أقوى في وضع الحدود حول ما أحبّ أكله وما استبعده. التغذية الحدسية تمنحك القوة للوقوف للحظات أمام الثلاجة، أو الطبق، أو حتى رفّ الأطعمة في السوبرماركت قبل الشراء. تفكر بوعي: هل احتاج هذا؟ هل شهيتي تجاهه قوية؟ وهل هو جيد وصحي على المدى البعيد أو سيسبب لي مشاكل وتحسس؟ الكثير من الأسئلة السريعة والأجوبة ضرورية قبل تمرير اللقمة الأولى إلى معدتك. تحررت تدريجيًا من عقدة تناول الطعام لمجرد أنه هنا، أو سيفسد، أو سينفدوالآن عندما يعلن والدي بعد رحلة تسوق أو زيارة لمطعم أو مخبز عن مجموعة من اللذائذ، أشكره فورًا، أساعده في ترتيبها، واسأله هل يرغب بتناول شيء منها؟ ثمّ أؤكد له بأنّ أحدًا من أفراد العائلة سيستلذ بها خلال اليوم. وأنني حاليًا لا احتاجها أو سأعد منها طبقًا لاحقًا. هكذا إذا تمّ الأمر بهذه البساطة والوضوح، لأنّ أحدًا لن يعرف ما الذي تفكر به أو تحسه حتى تعبّر عنه.

العودة إلى ٢٠٠٩

بعد التدوينة السابقة وحالة الإحباط وانعدام الحماس التي غمرتني، بدأت البحث في نفسي وعدت لمذكرات سابقة وأحوال مشابهة لم يكن البحث سهلًا بالتأكيدلكنني قرأت وقرأت. وكانت رحلة ممتعة بالرغم من اضطراري لقراءة الجيد والسيء من الذكريات. الشيء الذي رددته بيني وبين نفسي: ما هي الفترة التي أحببتها من حياتك؟ وإذا أمكن حصرها في سنة واحدة أو سنتين فأي أعوامك الماضية ستكون؟ الفكرة هي: أريد مراجعة تلك السنة، عاداتي، اهتماماتي، علاقاتي، استهلاكي، قراءاتي. كل شيء يمكنني البحث فيه وإعادة إنعاشه اليوم سيكون مفيدًا. ووقع الاختيار على الفترة بين (سبتمبر ٢٠٠٨ويناير ٢٠١٠) تلك الأشهر مرّت وكأنها حلم، أو رحلة ممتعة. كانت مغامرة اكتشاف للذات من النوع الممتاز. كنت أكثر اهتمامًا بنفسي من ناحية تنظيم الوقت والعمل. ومن جهة أخرى كنت مرحّبة أكثر بالعلاقات الجديدة، والتعارف، واكتشاف المدينة من وجهات نظر مختلفةاليوم ذهبت للسوق بعد انقطاع طويل، ليس بسبب كورونا بل بسبب انعدام الحاجة لزيارة مجمعات التسوق لغرض غير زيارة مطعم، أو حضور فيلم في السينما. منظر الكمامات على الوجوه، وحرارة الجوّ، والتوجّس من اقتراب أحدٍ منك. رواية رعب غرائبية. قررت شراء قطع ملابس جديدة من تخفيضات مغرية، وعدت لشراء عطر حياتي الأول بعد انقطاع حوالي ١٢ سنة اكتشفت خلالها الكثير من العطور المميزة، التي استيقظت صباح أحد الأيام الماضية ونفرت منها جميعها.

أعود لهيفا ٢٠٠٩، تقرأ كثيرًا، وتنصت، وتبادر بلا تردد.

مختارات لطيفة لمنتصف يوليو

  • جربت مطعم Treehouse في العاصمة يعتمد نظام Farm-to-table الذي أحبّه في كل مكان ولا أجد له شبيه بكثرة لدينا. 
  • استخدم منتجات R.E.N للبشرة وخصوصًا كريم النهار، أحبّ تركيبتها اللطيفة للبشرة الحساسة، ونظافتها مقارنة بالمنتجات الأخرى، أيضًا أحببت تسعيرة المنتجات المناسبة جدًا، وتوفره عبر موقع iherb.
  • شاهدت سلسلة وثائقية ممتعة An American Aristocrat’s Guide To Great Estates، هذه السلسة تتبع سيدة أمريكية أصبحت جزء من عائلة ارستقراطية إنجليزية وتدير قصر العائلة وحدائقه. جولي بدورها تزور أقدم وأعرق القصور والقلاع التي ما زالت تحت إدارة الأُسر الأرستقراطية الإنجليزية، وتتعلم منهم كيفية إدارة هذه الممتلكات وكيف تبقي على مجدها السابق.
  • زرت مقهى/مطعم Moonshell في الرياض، أحببت المكان جدًا، وتخصصه بالأطباق والمشروبات النباتية الصرفة جديد عليّ. خلال النهار اشتدت الحرارة في المكان وفكرت بأنني سأزوره المرة القادمة مساءً، أو عندما يصبح الطقس أفضل وأكثر اعتدالا.
  • ضبطت وصفة المحمّرة طبق المقبلات المفضل لديوأصبحت أعدها بكمية إضافية، وأحمل منها علب للأصدقاء.

.

.

.

 

الربع الثاني

بعد يومين من الآن ينتهي الربع الثاني من السنة، وبالنسبة لي شخصيًا ستة أشهر كاملة مضت وأنا بنصف وعي! ومع أنّ الحياة تعود تدريجيًا لما كانت عليه قبل أن تغمرنا عاصفة الجائحة، وتغمر العالم بأكمله. إلا أنني أقولها بصراحة: لا أشعر أنني بخير.

ممتنة للصحة، والأمان، والعمل الذي يوقظني كلّ يوم، ممتنة لكل الأشياء التي أذكرها ولا أذكرها. لكنّ شعورًا بانعدام الجدوى والتراخي يحيط بي منذ مطلع الشهر. ألقيت باللوم على منازل القمر، وهرموناتي وتقلباتها الشهرية، والتركيز الشديد في العمل وتعلم لغة جديدة ثلاثة أيام في الأسبوع. لكن لا، لو كانت هذه كلها السبب لاستطعت وضع يدي على المشكلة. استيقظ في الصباح وعزيمتي صفر، أودّ لو كنت أختي التي تنتظر تسجيل الجامعة، أو طفل الجيران الذي يعبر عن كل شيء بالبكاء ورفس الأرض وتلبّى كل رغباته. أود لو بقيت ساكنة اتأمل السقف حتى أصل لأساس مشاكلي وضعفي. لكنني استيقظ واعبر الغرفة للباب وتبدأ حياة الروبوت. اسمع بودكاست Before Breakfast مع لورا فاندركام في محاولة لإشعال حماسي لليوم. أرتب فراشي وأثني اللحاف بزاوية مضبوطة، أضرب الوسائد وأعود للسرحان من جديد: هشة وباردة تنتظر عودتيأطحن القهوة، أغلي الماء، أحمل طبق الفطور والكوب وأصعد الدرج. الشيء الذي يلفت انتباهي شاشة الأسهم أمام والدي، يوم خضراء ويوم حمراء. جلسته هي نفسه، وتركيزه ونظارته، وامتعاضه، لكن شيئا ما يختلف كل يوم. أعمل بين العاشرة والثانية، آخذ استراحة، أعدّ غدائي واستمتع عندما تنتصر وصفتي وتحوز على إعجاب حصة فنأكل سويةفي أيّام ينتصر الوعي لأجرب أشياء مختلفة، أخرج لزيارة ربى، أو السوبرماركت، وأعود لغرفتي من جديد. تصلني باقة ورد هدية من صديقة أخرى والتقط لها الصور من كافة الزوايا. احتفل بها قليلًا ثمّ أعود لحالة النظر في الفراغكتاب ممتع على طاولة بجوار السرير لكنني لم أتمكن من اتمامه، وأوجّه لنفسي كل يوم نفس الأسئلة: حسنًا، إذا كان هذا ضجر كيف يمكنك التغلب عليه؟ لكنه ليس كذلك. هذا ليس ضجر، هذا انعدام دوافع. ولن ينفع معه تغيير وقت العمل، أو البحث عن هوايات جديدة، أو تناول وجبة الغداء بدلًا وجبة الفطور مثلا.

لكن، من جهة أخرى قدرتي على المضي في الأيام تدهشني، هل هذه أنا أمّ ظلي؟ هل هذه أنا أو نسخة احتياطية مني؟

نهاية الأسبوع الماضي دعوت قريباتي لنلتقي للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر أو خمسةما عدت أذكر، وكان حماس الاستعداد لوصولهم وقود أسبوعي. أنجز العمل، وأفكر في التحلية التي سأقدمها، وطبق الأجبان، والمحمّرة التي أعدها بحب. غرقت في سعادة ممتدة لعدة ساعات، وما إن استيقظت في اليوم التالي وتأملت السقف من جديد، أدركت أنني عدت للدائرة نفسها. أعرف أن هذه الحالة تزورني كل عدة سنوات، عندما أفقد كل خططي وتضيع البوصلة. لكنها تحدث هذا العام، وتضاعف أثرها لأسباب كثيرة منها الجائحة والحجر الطويل. واليوم، والحياة تعود تدريجيًا لسابق عهدها، أمرّن نفسي من جديد على التواصل الاجتماعي، وأحاول التخفف من قلقي وهلع التواجد في أماكن عامة بعد أن دربت نفسي على البقاء وحيدةأكتب كلّ يوم، وأدون مشاعري لكن في أحيانٍ كثيرة أشعر بأن التأمل الهادئ والغفوة أفضل من اجترار أفكاري المؤذية. كتبت هذه التدوينة لأنفض عني هذا الانزعاج، وأمارس حيلة قديمة مع نفسي: كلما تحدثت عن الأشياء المزعجة غادرت أسرع.

أريد ألوان كثيرة، ووجوه أليفه والكثير من القصص والأحاديث، أريد دعوات فناجين قهوة لأن الحديث معي مختلف، أريد رسائل مكتوبة بحبّ واهتمام، أريد أن أكون أقلّ افتراضية، وأقرب لنفسي وللعالم.

.

.

.

هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

تأخرت هذه التدوينة كثيرًا، والسبب الرئيسي والوحيد: شُغلت بنفسي!

في وقتٍ مضى كان التفكير في التدوين مرتبط بقرصة الذنب المتكررة اكتبي اكتبي اكتبي. بغض النظر عن الوضع والمزاج وكل ما يحدث حولي. قاومت هذه المرة لأنني رتبت الأولويات جيدًا وكانت المدونة في نهاية السلسلة. أكملت ثلاثة أشهر في وظيفتي الجديدة، وقضيت شهر رمضان طيّب ومنتج.

كان العيد هادئًا جدًا وقاومت كسل الاحتفال بسبب العزلة، استيقظت باكرًا وارتديت ملابس جديدة وخبزت لعائلتي رغيف العيد الشهي والتقطنا صورة عائلية وهذا التقليد غاب طويلًا عنا.

خلال الفترة الماضية شاركت نموذج لتلقي اسئلتكم والكتابة عن إجاباتها، كانت الفكرة مبدئيًا ممتعة ولم أتوقع أن يغمرني كمّ هائل من الاسئلة. بعدها قررت تصنيفها وتقسيمها وتحويلها إلى تدوينات مصغرة تبدأ من هذه التدوينة.

للاسئلة صياغات مختلفة، لكنها تجتمع في التالي:

  • ما هو نظامك اليومي؟
  • كيف تقسّمين وقتك؟
  • كيف أضع نمط حياة يحقق أهدافي بحيث يتكوّن لدي روتين وعلى مدى سنوات يحقق نتيجة كبرى؟
  • ما سرّ الاستمرارية وكأن لا خيار آخر غير الاستمرار؟
  • كيف أصنع عادات تستمر طويلًا؟
  • هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

أحببت هذه الاسئلة كثيرًا، ربما لأن نمط الحياة وتصميم اليوم من أقرب الأشياء لنفسي. وربما أيضًا لأنني عانيت لسنوات حتى حصلت على ما يشبه النظام أو الروتين. في البداية يجب أن أخبركم بأنني لم أكبر في منزل يهتم بالروتين الصارم، وفي شريحة كبيرة من الوقت اختار والداي أن يتركا لنا الحريّة في إدارة يومنا. المهمّ جدًا هو النوم في وقت محدد، وإنجاز الواجبات المدرسية. عدا عن ذلك كل شيء امتلكنا حريّة تجربته وعيشه. في أيام الأسبوع نعود للمنزل من المدرسة، نتناول الغداء، ونقضي النهار كله في مشاهدة التلفزيون،وإتمام الواجبات، واللعب في الخارج. وفي الصيف امتدت ساعات اللعب والاكتشاف واختلطت الأيام بلا نهاية. وإذا كانت العطلة الصيفية في بيت الأجداد، نستمتع بالفوضى التي تأتي مع كثرة الناس والمُتع.

إذًا ما الذي ضبط هذا كله؟

لم اكتشف أهمية الروتين والنظام إلا في مرحلة الدراسة الجامعية. بعد انتهاء المدرسة والجدول اليومي للحصص والواجبات المفروضة علي، أصبح اليوم كله ملكي واتحمل مسؤولية إدارته ولا أحد سينقذني. لم تعد والدتي توقظني للمدرسة في الصباح ولم تعد لتذكرني بتناول الغداء أو حلّ الواجبات! الضربة الأولى كانت السهر الطويل أيام الدراسة والنوم في المحاضرات والخجل من الاستاذات والزميلات، ثم شهدت الضربة التي أوجعت الطالبة المثالية: الرسوب! للمرة الأولى في حياتي أمر بهذا الموقف، رسوب وإعادة الدراسة أو الاختبار من جديد والانتظار لسنة أخرى. أيضًا بالرسوب هذا فقدت مرتبة الشرف. الزلزال الكبير أجبرني على إعادة حساباتي. بدأت تدريجيًا بضبط ساعتي اليومية واستخدام المنبّه لتذكيري بفعل الأشياء. لم يكن الموضوع لطيف أو محبب لكن بعد فترة أصبح أسهل حتى وصلت لإلغاء المنبه والاعتماد على منبهي الداخلي. ضبطت خلال فترة الدراسة الجامعية نومي، ودراستي، ونشاطي البدني، وتركت مساحة للتعلم الحرّ والقراءة واكتشاف الكتابة والانطلاق لحياة صناعة المحتوى التي أعرفها اليوم. بعد انتهاء الدراسة الجامعية، عدت للفوضى مؤقتًا واستعدت اتزاني. وكلما مررت بمنعطف جديد أو تجربة حياتية وعملية مختلفة يهتز النظام وأعود لاكتشافه من جديد. مررت بتغييرات كثيرة، منها الانتقال لمدينة أخرى للدراسة من جديد، والعيش مع أقاربي، وهذا تغيير يتطلب نظام جديد أيضًا. من ثم بعد عامين العودة للمنزل والبدء بوظيفة بدوام كامل بعد ثمان سنوات من العمل المستقل. هناك أيضًا التغييرات الموسمية التي تأتي مع مشاريع عمل مرهقة اتفرغ لها بالكامل. والتغيير الأكبر هو انتقالي وعائلتي للرياض قبل خمس سنوات. كانت مرحلة تعلم جديدة وتنظيم مختلف لكنها الأحبّ لقلبي. قد أقضي ساعات كثيرة في كتابة تفاصيل هذا التغيير، لكنّه بشكل عام حدث بالتدريج. ولو نظرت له من الأعلى سيكون قائمًا على: التجربة، والاكتشاف، والخروج من منطقة الراحة.

كيف نبدأ؟

في المرحلة الأولى وقبل اعتماد أي خطة لتنظيم الوقت تخيلوا يومكم المثالي، كيف تريدون قضاء ساعات اليقظة بين العمل والترفيه والنوم؟

القائمة تشبه شيء كالتالي:

  • بدء الصباح بحماس.
  • إنجاز مهامّ العمل.
  • وقت مخصص لتجهيز أو تناول وجبات الطعام الشهية والمحببة.
  • قضاء وقت مع العائلة بذهن حاضر.
  • الأعمال المنزلية.
  • وقت للتمرين أو المشي.
  • القراءة أو الاطلاع والاكتشاف.
  • مشاهدة البرامج أو المسلسلات.
  • الاستعداد للنوم.
  • النوم الكافي.

هذه القائمة عامّة ولا أنصح بتخصيصها (على الأقل في البداية) يهمّ معرفة ما هو شكل اليوم المنشود، ومن ثمّ وضع التفاصيل حسب كل يوم من أيام الأسبوع، أو الموسم. وهذا ما أفعله بالتخطيط الأسبوعي في مذكرتي.

إذا كانت حياتك فوضى عارمة، لا تيأس! البدء في هذا التنظيم قد يبدو متعب قليلًا أو بلا فائدة لكنه ضروري وسيغير حياتك للأفضل.

الفترة التالية

إنشاء جدول يومي، حتى لو استعنت بجدول جاهز من الانترنت أو من تجربة صديق أو قريب (في هذه الحالة جربت أتابع المقربين مني وانتفع بعاداتهم الإيجابية). يمكن أن يكون الجدول مرن في البداية، يعني مثلا لو قررت الاستيقاظ في السابعة صباحًا وتأخرت حتى الثامنة ليست كارثة! ما زال بإمكانك الاستعداد وتناول فطور جيد قبل البدء بالعمل في التاسعة. وقياسًا على ذلك كل المهام والعناصر المحددة في جدولك.

ما هو الشيء الذي يمكنه إحباطك في هذه المرحلة؟ أن تقرر إنجاز كل شيء بمثالية، أو ما اسميه تناول الحياة دفعة واحدة“. لا تندفع من الصفر للمليون، اهدف لتحسين حياتك بنسبة معقولة في البدء واستمتع بالنتائج الأولية. مثال: لو ما تمرنت أبدًا لا تبدأ بتمرين مدته ساعتين أو باستخدام جهاز رياضي جديد. غيّر تدريجيًا من عاداتك واعتمد المشي الخفيف أو صعود الدرج كل ساعة والنزول مثلا.

في هذه المرحلة أيضًا يمكن اعتماد أمرين مهمين: النوم والاستيقاظ في وقت محدد بشكل يومي حتى تضبط كل شيء بينهما.

وقد تعود في هذه المرحلة للقائمة التي دونتها في المرحلة السابقة لتحقيق يوم مثالي، واعتمد عنصرين أو ثلاثة منها كل عدة أسابيع حتى تصبح عادة ثابتة وانتقل لغيرها وهكذا.

أيضًا ستتمكن من التعرف على نفسك أكثر في هذه المرحلة، الثوابت التي ظننت أنك لن تغيرها في يومك ستغيرها، هل كنت تظن إنّك تكره الصباحات؟ أعد اكتشافها! هل ظننت أنك لن تحصل على وقت للقراءة يوميًا؟ جرب. ومن الممكن أيضًا مشاركة هذا التغيير مع شخص أو مجموعة أشخاص حتى يثيرون حماسك ويقدمون لك الدعم الذي تحتاجه.

إذا لم تكن التدوينة هذه كافية يمكنكم الاطلاع على مواضيع مفصّلة في مدونتي تناولت موضوع بناء العادات والطقوس والتدرج فيها وهي:

 

 

.

.