إلى الحقيقة وما بعدها

ليكن شفاؤك الذاتي مهمّتك الأولى

مررت بهذا الاقتباس قبل عدة أشهر واحتفظت به، كتبته على ورقة صغيرة، ونسخته لعدة نسخ. أحمله في محفظتي، ودسسته في مذكرتي اليومية، وبين الأقلام على المكتب تركت نسخة إضافية منه.

لقد بدأت محاولاتي الفعلية للاستشفاء منذ وجدت نفسي حبيسة المنزل قبل عدة أشهر، وما زلت. لقد كان الركض في العمل والحياة وزيارة الصديقات والأقارب وسيلة تخدير جيّدة لما أشعر به وأفكر فيه. لكن اللحظة الحاسمة جاءت. سبق وتكلمت عن الموضوع في عدة تدوينات سابقة. لم يتغيّر الكثير، بدأ الأمر بالقراءة، الكثير من المقالات عن مساعدة النفس والبحث عن شفاء. الأدعية اليومية وصلوات آخر الليل، الحديث لمن يهمّه الأمر، والكتابة، الكثير من الكتابة والتدوين الذي لا أعود لقراءته مرتين. لقد وجدت ضالتي قبل عدة سنوات مع صفحات الصباحالتي تحولت إلى صفحات المساء والظهيرة، وفي حالات نادرة هطول ما قبل النوم.

احتاج كلّ مرة أعود للتدوين لقراءة الأرشيف، لأنني أكرر نفسي، اختار كلمات مختلفة ربّما، لكنها نفس الحكاية، مع تغير مسقط الضوء.

خلال الشهر الماضي وبعد تجربة الحديث إلى مرشدة عدة مرات، قررت حسم أمري والاتفاق معها على جلسات أسبوعية، لقد جرّبت أثر أن يسمعك شخص مختلف، ويطلب منك النظر في ذاتك لكنني لم اقتنع في البدء. أوجدت في نفسي أعذار كثيرة، أنا تجاوزت منتصف العقد الثالث من العمر ويفترض بأنني عرفت نفسي جيدًا، ما الذي يعنيه الاستسلام التامّ وترك المقود للآخرين؟ هل سأكون متصالحة مع فكرة بثّ مشاعري ومشاكلي لشخص غريب؟ وغيرها من الأسئلة التي اثنت عزيمتي لوقت طويل.

لكنّ الغضب واليأس تمكّن مني، ولم تعد المقالات الأسبوعية تشفيه، ولا مديح مسؤولي العمل على مهامّي المنجزة بكفاءة، ولا الأصدقاء والأحباب من حولي وضحكاتهم. كل شيء يبدو مثل نسخة من فيلم بلا ألوان وإن غمرته الحياة للحظات.

كتبت لها رسالة وشكرتها على محاولتها السابقة والواجبات التي مررتها لي لتجربة نفسي بها. هذه المرة أنا عازمة على الاستمرار.

شكوت لها شعوري الدائم بالغضب، والثقل الذي يسببه التفكير في قصص سابقة، أو حالات متنوعة لا شأن لها بالوقت الحاضر. بدأت العمل بالاستماع التامّ ومن ثمّ أوصتني بالكتابة، الكثير منها.

خلال أسابيع، بدأت بملاحظة الأمور الدقيقة التي تخرجني عن هدوئي، أركز فيها وأعيد تحليلها بهدوء واجتازها. أنسى كثيرًا بأن التفاعل مع المواقف ليسَ ضروريًا، وأن دخول النقاشات التي لن تؤثر على سياق حياتك غير ضروري، بل مذموم أحيانًا. شعرت بعد تطبيق التمارين والتأمل لجدولي اليومي ولحظات الانتكاسة أنني تعافيت فجأة، لدرجة أنني لم أجد ما أتحدث عنه في الاتصال التالي مع المرشدة، وضحكت وقالت هذا طبيعي سيأتي الحديث، لا تشعري بالحرج أو الاضطرار للثرثرة. وأقول لها أن ما أمرّ به الآن يشبه أن يتقن طفلك خدعة أو مهارة في خصوصية بيتك، وتطلب منه تكرارها أمام الضيوف ويرفض بعناد. هذه حكايات غضبي وما يشغلني واختفائها المفاجئ عندما تحدثنا.

من أنتِ؟

قد يكون الثقل الذي تشعر به هو فجوة بين شخصيتك الحقيقية والشخصية التي تظهر بها للعالم الخارجي. عندما تحدّثنا في هذا الموضوع سألتني المرشدة: من أنتِ فعلًا يا هيفا؟ انطلقت للحديث عن عملي، عن حياتي، عن مكاني بين أفراد عائلتي، وشيئًا فشيئًا أدركت بأنني أصف نفسي من الخارج، أصف هيفا في قصص الآخرين. لكنّي لم أقل أي شيء عن نفسي بمعزل من كلّ هذا.

طلبت مني التفكير بعمق في الأمر، وحاولت تسهيل الموضوع باقتراح تمرين واسئلة من قبيل لو لم تخف من شيء ماذا ستفعل؟ وماذا لو امتلكت الدعم المالي غير المحدود ماذا ستفعل؟ وغيرها من الأسئلة التي تدغدغ المشاعر وتفتح باب للأمل، والحلم ربما.

لتعرف نفسك تمامًا فكّر في لحظة السعادة الصافية، اللحظة التي تتخذ قرار أو تقول شيئًا لأنك تعنيه، وترغب بقوله، وفعله. لا أن تأتي خطواتك من خوف، أو تردد، أو صورة تحجب حقيقتك لتعبر بها إلى مساحة القبول.

لستُ هيفا المدرسة، ولا الكاتبة، ولا التي تجتهد كلّ يوم بالبحث عن طريقة جديدة لإقناع عميل بفكرة إبداعية، أو رسم طريق لمشروع ما.

البحث عن أناالحقيقية يعني الغطس لأعماق سحيقة، أين أنا قبل كلّ هذه الطرق المرسومة بالمسطرة، أين أنا قبل الاختبارات المدرسية، وأوسمة التفوق، وشرائط الشعر المشدودة.

جزء من التمارين والأسئلة يمرّ بمنطقة ممتعة لكنها في نفس الوقت تفتح ملفات لم أرغب بالعودة إليها، كأن يقول لك السؤال ما هي أكثر لحظات حياتك تمردًا؟ وأذكر حدثين على وجه التحديد وكلها حصلت قبل عمر الثامنة، تلك النسخة الصافية من روحي، جرّبت أن تمسك بالمقص، وتمرره على شعرها وملابسها بدلًا من الورق. انتهيت بقصة غريبة، ومدرسة روضة أصابها الهلع ولم تعرف كيف تبلغ والدتي بالكارثة.

أحبّ هذه القصة، وأقلبها في رأسي كثيرًا. أنا لا أقول بأنني سأقص شعري بلا تركيز، أو ملابسي. ولكن لحظة الهدوء التي شعرت بها هيفا في ذلك العمر وهي تفعل شيء ما، شيء وجدت فيه سعادة صافية. أريد ذلك!

هل تظنون أن أمر البحث في النفس سهل؟

لا طبعًا.

ليست لدي رفاهية التوقف عن العمل وكسب الرزق، وليست لدي رفاهية ساعات اليوم الطويلة التي أقضيها في نبش الذاكرة. كنت أسرق الوقت من هنا وهناك. أو أقبض على نفسي وأنا ألمح لمعة سعادة بعيدة في عيني بمجرد مروري بلحظة تشبه حدث قديم واتمسك بها. أكتب من جديد، واطرح المزيد من الأسئلة على نفسي لأصل.

من أنتِ عندما تستبعدين عملك؟ والكلمات والقصص والأخبار والروابط المفيدة التي تشاركينها على الشبكات الاجتماعية؟ من أنتِ في هدوء يومك؟ في الصباحات التي تقضينها مع صديقة؟ من أنتِ بصحبة إخوتك؟

وأكتب. وتمتدّ القوائم وتدهشني لأنها لا تشبه الشخص الماثل هناك، على المنصة يمرر الهدايا والفوائد.

تذكرت في تلك اللحظات حديث أحد الأصدقاء الذي يصفني وهذا رأيه طبعًابأنني شخصية ذات هيبة، قد تدفع بالآخرين للتردد والحديث معك عن أشياء عفوية وبسيطة، فكرة المزاح مثلًا قد ترعبهم! ليس وحده من يقول ذلك، ولن أكذب إذا قلت بأنّ الموضوع يسبب لي الضيق، وكنت استغرب كثيرًا عندما يصرح المقربون والأصدقاء بأنّ هيفا في الفضاء الإلكتروني لا تعكس تلك اقتربنا منها وعرفناها.

ومن جهة أخرى، أحبّ كثيرًا اللحظات التي يصرح فيها البعض بأنّ شخصيتي خارج الفضاء الإلكتروني مطابقة لما يقرؤونه ويرونه.

إذا قلت بأن آراء الآخرين لا تهمّني تمامًا فأنا أكذب، نعم أهتم. وأذهب مع الرأي الذي يقول بأن العلاقات والمسافات بين الناس وبيننا حياة كاملة، هذا التفاعل، هذه الرؤية، وهذه الآراء مهمّة في نموّنا النفسي والاجتماعي. نحن بحاجة للخروج من أنفسنا ولو للحظات.

كيف وصلت هنا؟

نعم كنت أتحدث عن هيفا بصورتها المحببة.

أذكر بأنني ألغيت حسابي على موقع Goodreads لسببٍ قد يبدو اليوم سخيفًا لكنّه مهم في قصة نموّي وشفائي: لم أرد أن يكون كل ما أنا عليه، مراجعات كتب، لستُ هيفا القارئة فقط، ولا أريد الارتباط الأبدي بالقراءة وكأنها مهنة أو صفة. لكنني لم أتوقف عن هوايتي الأحبّ، إنما اخترت أن أذهب في مخبأ سرّي، أرسل منه ومضات قصيرة وقصص لمن يرغب بها.

طبعًا كلما تذكرت هذه القصة أشعر بالخجل لأن ما علاقة هذا بذاك؟ لا يمكنني طبعًا استعادة الحساب، وحاولت بعدها البدء الجديد ولم اتحمس للفكرة فتركتها للنسيان. وهذا مثال على الأفعال الغريبة التي كنت وما زلتأقوم بها لأنفصل من صورة التصقت بي ولم أعد أشعر بالانتماء لها.

أذكر قصص أخرى ترتبط بكتابة تغريدة عفوية، أو مشاركة صورة، أو أي شيء قد يجده المتابعون مخالف للصورة الذهنية التي وضعوها لي. بعض التعليقات وإن بدت بريئة في لحظة، تصبح مؤذية عندما أفكر بها مرة ومرتين ولا أستطيع تجاهلها. من يحددّ حقيقتك؟

توقفت هنا لنصف ساعة تقريبا وعدت للكتابة، وشعرت بأنّ مكان التدوينة في المسودات، أو الصفحات التي لا أعود لقراءتها مجددًا.

سأحارب هذه الفكرة وأمضي لتنفيذ تمرين الأسبوع. أن أكتب عن نفسي كما أحبّ، بلا قيود، أو تدقيق أو التفكير في: ماذا سيستفيد القارئ؟ هل هذا محتوى ترفيهي؟ هل بدأت التدوين للترفيه؟ أو للفائدة فقط؟ أسئلة كثيرة ومقلقة : )

الآخرون طبعًا لا يحددون حقيقتك، أفكر بالآخر وكأنه جهاز استقبال لما أبثّه، وظيفتي ليست الترفيه، أو التلقين أو التعليم، أنا هنا لأعبّر وأشارك قصة. وهذه إحدى الصفات التي توقفت عندها عندما فكرت في هيفا الحقيقية.

منذ عمر مبكّر أحببت سرد القصص، اختلقت الكثير منها، وأضفت البهارات والدراما، وفي هذا السياق كنت أرفّه عن والديّ ومدرساتي، وأقاربي. هذا الجوع للقصّ لم يغادرني أبدًا على مرّ السنوات. ولكنني لوثته أحيانًا بالعبء الذي أضعه عليه. أن تقول قصة مفيدة، قصة فيها معلومة، أو نتيجة نهائية. وتحوّلت الكتابة من هواية محببة، إلى وظيفة، ثمّ طريقة لجذب الانتباه والقبول. لا عيب في ذلك طبعًا، لكنني أفرطت وابتعدت عن التوازن كثيرًا.

خلال الأيام الماضية بدأت تدريجيًا مشاركة جوانب من حياتي اليومية دون تدقيق أو مراقبة ذاتية. لم يكن الأمر سهلًا وهذا ما قد يثير الاستغراب والحنقعندما تكون شخص يعيش حياته بحقيقتها الكاملة ولا يجد مشاركة لقطة من مسلسل كرتوني للكبار أمر يدعو للتوتر وتزوره أفكار مثل: ماذا سيقول المتابعون عن هذا؟ إنه مسلسل كرتوني يزدحم بالنكات البذيئة! كيف تشاهدينه؟ لكنني أحبّه.

كما بدأت الكتابة في القائمة اللانهائية للأمور التي أجدها أقرب لنفسي وتشبهني وتثير بداخلي سعادة صافية! أحب الضحك من قلبي على النكات البذيئة خصوصًا القديمة منها التي ترويها جدتي وهي تلف غطاء رأسها على فمها وتغرق بالضحك. أحبّ برامج الواقع التافهة وأتابعها بحماس لأكثر من عشر سنوات، أحب المشروبات الغازية الباردة وحاولت الإقلاع عنها ولم استطع، أكسل في أيام كثيرة ولا أرتب غرفتي حتى تغرق في الفوضى، أعتذر عن الخروج من المنزل لأنني أحاول إتمام مسلسل اكتشفته صدفة، اتبادل مع الصديقات الـ memes الغريبة، ونقضي الساعات في كلّ مرة نلتقي في تخيل العلاقات التي كدنا نفقد أنفسنا لنبقيها وعندما نظرنا لها في المرآة مبتعدين اكتشفنا بأنها كابوسية، لدي لوحات في بنترست خصصتها لمنزلي الحلم، وأحبّ قائمة كتبتها وأحفظها في صندوق عن صفات شريك حياتي الرائع واقتباسات وقصائد حبّ سأشاركها يومًا ما وأتذكرها في اللحظات التي أفقد رأسي وأندفع بكل قوّتي تجاه شخصٍ غير مناسب.

تضحكني فكرة أني بحاجة لكتابة هذه الأشياء في قائمة، ولم انتهِ منها بعد لكنّها نصيحة مرشدتي لتذكيري بأنّني حقيقية وأن كل هذه الضغوط التي أضعها على نفسي في رأسي فقط، أنا بحاجة للتحرر من الصندوق الذي وضعت نفسي فيه ولم يضعني فيه أحد.

تهانينا وصلتم لنهاية التدوينة!

كانت حفلة صاخبة في رأسي ووددت وضعها في صفحة كي لا أنساها، وأعود إليها لأتذكر نقطة الانطلاق. نقطة الحقيقة والخفّة. لن يتغير كلّ شيء في ليلة واحدة، لكنني سأحاول.

هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

تأخرت هذه التدوينة كثيرًا، والسبب الرئيسي والوحيد: شُغلت بنفسي!

في وقتٍ مضى كان التفكير في التدوين مرتبط بقرصة الذنب المتكررة اكتبي اكتبي اكتبي. بغض النظر عن الوضع والمزاج وكل ما يحدث حولي. قاومت هذه المرة لأنني رتبت الأولويات جيدًا وكانت المدونة في نهاية السلسلة. أكملت ثلاثة أشهر في وظيفتي الجديدة، وقضيت شهر رمضان طيّب ومنتج.

كان العيد هادئًا جدًا وقاومت كسل الاحتفال بسبب العزلة، استيقظت باكرًا وارتديت ملابس جديدة وخبزت لعائلتي رغيف العيد الشهي والتقطنا صورة عائلية وهذا التقليد غاب طويلًا عنا.

خلال الفترة الماضية شاركت نموذج لتلقي اسئلتكم والكتابة عن إجاباتها، كانت الفكرة مبدئيًا ممتعة ولم أتوقع أن يغمرني كمّ هائل من الاسئلة. بعدها قررت تصنيفها وتقسيمها وتحويلها إلى تدوينات مصغرة تبدأ من هذه التدوينة.

للاسئلة صياغات مختلفة، لكنها تجتمع في التالي:

  • ما هو نظامك اليومي؟
  • كيف تقسّمين وقتك؟
  • كيف أضع نمط حياة يحقق أهدافي بحيث يتكوّن لدي روتين وعلى مدى سنوات يحقق نتيجة كبرى؟
  • ما سرّ الاستمرارية وكأن لا خيار آخر غير الاستمرار؟
  • كيف أصنع عادات تستمر طويلًا؟
  • هل بناء الروتين مهمّة مستحيلة؟

أحببت هذه الاسئلة كثيرًا، ربما لأن نمط الحياة وتصميم اليوم من أقرب الأشياء لنفسي. وربما أيضًا لأنني عانيت لسنوات حتى حصلت على ما يشبه النظام أو الروتين. في البداية يجب أن أخبركم بأنني لم أكبر في منزل يهتم بالروتين الصارم، وفي شريحة كبيرة من الوقت اختار والداي أن يتركا لنا الحريّة في إدارة يومنا. المهمّ جدًا هو النوم في وقت محدد، وإنجاز الواجبات المدرسية. عدا عن ذلك كل شيء امتلكنا حريّة تجربته وعيشه. في أيام الأسبوع نعود للمنزل من المدرسة، نتناول الغداء، ونقضي النهار كله في مشاهدة التلفزيون،وإتمام الواجبات، واللعب في الخارج. وفي الصيف امتدت ساعات اللعب والاكتشاف واختلطت الأيام بلا نهاية. وإذا كانت العطلة الصيفية في بيت الأجداد، نستمتع بالفوضى التي تأتي مع كثرة الناس والمُتع.

إذًا ما الذي ضبط هذا كله؟

لم اكتشف أهمية الروتين والنظام إلا في مرحلة الدراسة الجامعية. بعد انتهاء المدرسة والجدول اليومي للحصص والواجبات المفروضة علي، أصبح اليوم كله ملكي واتحمل مسؤولية إدارته ولا أحد سينقذني. لم تعد والدتي توقظني للمدرسة في الصباح ولم تعد لتذكرني بتناول الغداء أو حلّ الواجبات! الضربة الأولى كانت السهر الطويل أيام الدراسة والنوم في المحاضرات والخجل من الاستاذات والزميلات، ثم شهدت الضربة التي أوجعت الطالبة المثالية: الرسوب! للمرة الأولى في حياتي أمر بهذا الموقف، رسوب وإعادة الدراسة أو الاختبار من جديد والانتظار لسنة أخرى. أيضًا بالرسوب هذا فقدت مرتبة الشرف. الزلزال الكبير أجبرني على إعادة حساباتي. بدأت تدريجيًا بضبط ساعتي اليومية واستخدام المنبّه لتذكيري بفعل الأشياء. لم يكن الموضوع لطيف أو محبب لكن بعد فترة أصبح أسهل حتى وصلت لإلغاء المنبه والاعتماد على منبهي الداخلي. ضبطت خلال فترة الدراسة الجامعية نومي، ودراستي، ونشاطي البدني، وتركت مساحة للتعلم الحرّ والقراءة واكتشاف الكتابة والانطلاق لحياة صناعة المحتوى التي أعرفها اليوم. بعد انتهاء الدراسة الجامعية، عدت للفوضى مؤقتًا واستعدت اتزاني. وكلما مررت بمنعطف جديد أو تجربة حياتية وعملية مختلفة يهتز النظام وأعود لاكتشافه من جديد. مررت بتغييرات كثيرة، منها الانتقال لمدينة أخرى للدراسة من جديد، والعيش مع أقاربي، وهذا تغيير يتطلب نظام جديد أيضًا. من ثم بعد عامين العودة للمنزل والبدء بوظيفة بدوام كامل بعد ثمان سنوات من العمل المستقل. هناك أيضًا التغييرات الموسمية التي تأتي مع مشاريع عمل مرهقة اتفرغ لها بالكامل. والتغيير الأكبر هو انتقالي وعائلتي للرياض قبل خمس سنوات. كانت مرحلة تعلم جديدة وتنظيم مختلف لكنها الأحبّ لقلبي. قد أقضي ساعات كثيرة في كتابة تفاصيل هذا التغيير، لكنّه بشكل عام حدث بالتدريج. ولو نظرت له من الأعلى سيكون قائمًا على: التجربة، والاكتشاف، والخروج من منطقة الراحة.

كيف نبدأ؟

في المرحلة الأولى وقبل اعتماد أي خطة لتنظيم الوقت تخيلوا يومكم المثالي، كيف تريدون قضاء ساعات اليقظة بين العمل والترفيه والنوم؟

القائمة تشبه شيء كالتالي:

  • بدء الصباح بحماس.
  • إنجاز مهامّ العمل.
  • وقت مخصص لتجهيز أو تناول وجبات الطعام الشهية والمحببة.
  • قضاء وقت مع العائلة بذهن حاضر.
  • الأعمال المنزلية.
  • وقت للتمرين أو المشي.
  • القراءة أو الاطلاع والاكتشاف.
  • مشاهدة البرامج أو المسلسلات.
  • الاستعداد للنوم.
  • النوم الكافي.

هذه القائمة عامّة ولا أنصح بتخصيصها (على الأقل في البداية) يهمّ معرفة ما هو شكل اليوم المنشود، ومن ثمّ وضع التفاصيل حسب كل يوم من أيام الأسبوع، أو الموسم. وهذا ما أفعله بالتخطيط الأسبوعي في مذكرتي.

إذا كانت حياتك فوضى عارمة، لا تيأس! البدء في هذا التنظيم قد يبدو متعب قليلًا أو بلا فائدة لكنه ضروري وسيغير حياتك للأفضل.

الفترة التالية

إنشاء جدول يومي، حتى لو استعنت بجدول جاهز من الانترنت أو من تجربة صديق أو قريب (في هذه الحالة جربت أتابع المقربين مني وانتفع بعاداتهم الإيجابية). يمكن أن يكون الجدول مرن في البداية، يعني مثلا لو قررت الاستيقاظ في السابعة صباحًا وتأخرت حتى الثامنة ليست كارثة! ما زال بإمكانك الاستعداد وتناول فطور جيد قبل البدء بالعمل في التاسعة. وقياسًا على ذلك كل المهام والعناصر المحددة في جدولك.

ما هو الشيء الذي يمكنه إحباطك في هذه المرحلة؟ أن تقرر إنجاز كل شيء بمثالية، أو ما اسميه تناول الحياة دفعة واحدة“. لا تندفع من الصفر للمليون، اهدف لتحسين حياتك بنسبة معقولة في البدء واستمتع بالنتائج الأولية. مثال: لو ما تمرنت أبدًا لا تبدأ بتمرين مدته ساعتين أو باستخدام جهاز رياضي جديد. غيّر تدريجيًا من عاداتك واعتمد المشي الخفيف أو صعود الدرج كل ساعة والنزول مثلا.

في هذه المرحلة أيضًا يمكن اعتماد أمرين مهمين: النوم والاستيقاظ في وقت محدد بشكل يومي حتى تضبط كل شيء بينهما.

وقد تعود في هذه المرحلة للقائمة التي دونتها في المرحلة السابقة لتحقيق يوم مثالي، واعتمد عنصرين أو ثلاثة منها كل عدة أسابيع حتى تصبح عادة ثابتة وانتقل لغيرها وهكذا.

أيضًا ستتمكن من التعرف على نفسك أكثر في هذه المرحلة، الثوابت التي ظننت أنك لن تغيرها في يومك ستغيرها، هل كنت تظن إنّك تكره الصباحات؟ أعد اكتشافها! هل ظننت أنك لن تحصل على وقت للقراءة يوميًا؟ جرب. ومن الممكن أيضًا مشاركة هذا التغيير مع شخص أو مجموعة أشخاص حتى يثيرون حماسك ويقدمون لك الدعم الذي تحتاجه.

إذا لم تكن التدوينة هذه كافية يمكنكم الاطلاع على مواضيع مفصّلة في مدونتي تناولت موضوع بناء العادات والطقوس والتدرج فيها وهي:

 

 

.

.

 

الركض في مضمار جديد

بينما عبرت السيارة إحدى دوارات المدينة انتبهت لشاحنة نقل صغيرة تحمل جهاز Elliptical الرياضي. شيء يشبه دراجة ثابتة تمرّن الجسم بأكمله. فكرت في حماس الشخص أو الأشخاص الذين طلبوا هذا الجهاز، وربما كانت تلك فكرة جيدة بالتزامن مع موسم تخفيضات نهاية العام. اشتري الجهاز واشتري معه قصة محاولة جديدة في التمرن وتغيير حياتي واتباع نمط صحي.

مذهل!

لكن ما هو العمر الافتراضي لهذا الحماس؟ تذكرت نفسي قبل عدة سنوات عندما اشتريت مجموعة من الأجهزة الرياضية عبر تخفيض هائل في نهاية العام. اشتريت جهاز مشي، وأثقال، وهذا الجهاز، وأشياء إضافية لا أذكرها اليوم. بعد عدة أشهر من الاهتمام تحولت إلى قطع ديكور إضافية في فوضى الصالة. وهذا الـ Elliptical خاصة أصبح منشرة ملابس من الطراز الممتاز. وتمسكت به لسنة أخرى أو اثنتين، حتى استسلمت أخيرًا وقررت التبرع به لمن يحتاجه.

نهاية العام تقترب وأنا أركض بين الأفكار، والنقلات، وأحاول جاهدة إغلاق الملفات التي لم تثبت جدارتها في الوقت المتاح. أيامي اختلطت عليّ، وأحداثها أذكرها كما يتذكر المحموم كوابيسه. ومن جهة أخرى، هذه أنشط فترة في حياتي بالتعلم. مضى وقت طويل على تعلم أيّ شيء، وخلال ثلاثة أشهر، شُغلت بالتعلم عبر الانترنت، وفي ورش العمل، ومن خلال الاختبارات الشخصية وتحليل نتائجها.

كانت الفكرة نشر هذه التدوينة قبل عدة أسابيع، لكنها بقيت في المسودات وتوزعت أفكارها في الدفاتر الصغيرة التي أحملها في تنقلاتي مؤخرًا.

التزمت بالعمل على مشروع يتطلب مني الحضور لمكاتب الجهة بدوام جزئي، وعدت للانضباط بعد إجازة شبه طويلة. اكتشفت بأنني أحب العمل المستقل جدًا لكن إذا كان مصحوبًا بالخروج من المنزل لعدة ساعات. هذا الخروج يمنح الوقت إطار محددّ. أعرف مثلا بأنني سأخرج من الساعة الواحدة ظهرًا وحتى السادسة، وأرتب يومي وأعمالي حولها.

كانت هذه السنة بمثابة اختبار طويل، كلما قلبت الصفحة ظهرت مجموعة من الاسئلة، والألغاز! الشيء الأكيد الآن أنني اجتزت الاختبار، درجاتي متفاوتة، وإجاباتي تحتمل أكثر من تفسير. اجتزت الاختبار وحصلت على التقييم على الأقل تقييمي لنفسي.

والآن على غرار السنة الماضية سأشارككم قائمة ١٩ لـ ٢٠١٩:

١صناعة مساحة للاسترخاء والتوقف تمامًا عن العمل.

٢التخفف من المقتنيات حتى المحببة.

٣الهدوء والتأمل.

٤التبسّط في الطعام.

٥العودة إلى الداخل.

٦تسليم دفة القيادة.

٧السفر لوجهات جديدة.

٨قول نعم للتغيير وإن كان مربكًا.

٩التنازل عن رغبة شخصية ملحّة قد تكون مؤذية لأحبتي.

١٠البدء بتعلم قيادة السيارة.

١١التنازل عن آراء أثبتت عدم جدواها ومناسبتها لحياتي الآن.

١٢كتابة الرسائل الطويلة والاحتفاظ بها دون إرسال.

١٣العودة للتعلم في مجالات مختلفة.

١٤الاستسلام للفوضى مؤقتًا.

١٥الالتزام بمشروع لسنة كاملة.

١٦بناء مساحة تواصل مشتركة وممتعة بين الأصدقاء.

١٧إعادة تصميم الحياة الاجتماعية وتنظيم لقاءات واجتماعات ذات معنى.

١٨أمسيات الطهي الشهرية مع مها البشر

١٩العمل خارج المنزل كلما سمحت الفرصة بذلك.

.

.

.

حدّثوني عن ٢٠١٩ خاصّتكم، كيف كانت؟

كيف غيّرتكم؟

.

.

.

الفصل ٣٧: إعادة الإعمار

قضيت عدة دقائق صباح الأربعاء وأنا أحاول تذكر أي فرشاة أسنان تخصني؟ نسيت تمامًا ولوقت غير بسيط لون فرشاتي واحتجت للتأكد من أختي التي تشاركني غرفة الحمام. هذا النسيان المخيف يقابله عدة أسابيع عاصفة من ختام الأشياء، وبداياتها. خلال الأسابيع الماضية انهيت العمل على مشروع طويل المدى، توقعت الاستمرار فيه لكن خطة حياتي والتغيرات التي مررت بها حتمت التوقف وإعادة التفكير. كانت تجربة جميلة، وممتعة ولا أنكر: انقذت وضعي المالي. والآن تعود الأيام لمرونتها وانطلاقها. خلال الأسابيع الماضية احتفلت بعيدي السابع والثلاثين، كان يوم ممتع بصحبة الأحبة والأصدقاء واحتفلت به كما يجب. أيضًا ذهبت في رحلة قصيرة للندن بصحبة موضي أختي. كان الغرض من سفرها حضور ورش عمل إبداعية، وكنت الهاربة من كل شيء بحثًا عن سرير وثير، وأمطار تغسل روحي.

التدوينة أدناه مسودة طويلة بدأت العمل عليها قبل ثلاث أسابيع تقريبا، وكلما مررت بفكرة أضفتها حتى أصبحت مثل لحاف مرقع ومحبوب!

أردت العمل عليها في رحلتي، واكتشفت في الجو أنّ الملف الذي بدأته على جهازي في المنزل ولم أرفعه على الغيمة التي تحمل كل شيء. هذه المسودة التي قاومت قفل الجهاز المفاجئربما قُطعت الكهرباء في غيابي، قاومت النسيان والضجر والتردد الذي يزورني كلّ مرة أكتب فيها عن أي شيء. التردد الذي يبث الرعب في مسودة كتابي الأول وأطل عليه برجاء أن نتفق ويظهر للنور.

غرفة المكاتب

في طفولتي انتقلنا للعيش في منزل أرضي واسع. هذا البيت يزورني في الأحلام دائمًا، ربما لأننا قضينا فيه فترة طويلة مقارنة بالثمانية منازل الأخرى. وكل هذا فقط في الجبيل قبل انتقالنا للرياض. المنزل يتوسطه حديقة صغيرة يعلوها منوَر. حول المنور والحديقة تدور الغرف. من جهة صالة الجلوس، ومخزن صغير فيه ماكينة خياطة وأدوات وأقمشة بدأت منها والدتي مشروع حياتها. يجاوره غرفة والديّ الرئيسية، مخزن الألعاب، وثلاث غرف متجاورة كانت أكبر من احتياجنا بعد العيش في مساحات ضيقة. كانت غرفة نومنا مثل غرفة الدببة الثلاثة، أسرتنا وخزانة تكفينا أنا وأخواتي، والغرفة المجاورة في البدء كانت غرفة المكاتب! نعم هكذا كنا نسميها، فيها ثلاثة مكاتب لم تستخدم للواجبات المنزلية إلا مع حماس البدايات. لاحقًا أصبحت أرضية الصالة وقت الظهيرة مكان حل الواجبات، في المنتصف تمامًا أمام التلفزيون.

غرفة المكاتب كانت مسرح لأعمالنا الدرامية المرتجلة، وذات ليلة قررت الانفصال عن أخواتي والانتقال إليها بوضع اليد. فرشت الأرض واستخدمت أبجورة وتخيلت أنني كبيرة كفاية للعيش وحدي. كانت أطول ليلة أرق مرّت علي. أشجار الحديقة وظلالها أرعبني، أنفاس أخواتي التي افتقدتها كانت مثل تهويدة أغفو عليها. صباح اليوم التالي عدت للغرفة متحججة بصلابة الأرضية وعدم مناسبتها للنوم.

استمرت غرفة المكاتب طويلًا قبل أن تتحول لغرفة ضيوف. لكن هذا الشعور الذي يلازمني، الرغبة في مساحة للعمل، وأخرى للنوم. الحاجة التي جاءت من العمل المستقل والعودة لضيق المساحات مع انتقالنا لمدينة جديدة ومنزل مؤجر.

مع بداية السنة الماضية اقترحت موضي فكرة قد تساعد في تحسين مساحة عيشنا. انتقل لغرفتها وتكون مخصصة للنوم فقط، وتحويل غرفتي الأكبر إلى مساحة عمل وترفيه. الوضع السابق كان غرفة موضي الصغيرة جدًا، مع سرير وخزائن، وتلفزيون ضخم. نجتمع فيها للمشاهدة أو العمل على أجهزتنا المحمولة بينما غرفتي الأكبر نصف مكتب، ونصف مكتبة، ومساحة نوم وتخزين صغيرة ومساحات فارغة غير مستغلة. رفضت بشدة، والآن أحاول تذكر سبب رفضي ولم أجد غير الكسل للأسف. كنت في فوضى عارمة وأحببت أن أبقى فيها لأطول وقت ممكن. فالتمسك بحالة الفوضى المادية للغرفة، والأثاث المتراكم والأشياء كان يشغلني من فوضى نفسي. وهذا مريح.

خلال الشهور الماضية، وعندما تعاظمت حاجتنا للاسترخاء والعمل لساعات طويلة، بينما يرتاح أحدنا في غرفة أخرى. راجعت نفسي، ووافقت على الفكرة. نحتاج غرفة منظمة للعمل ومشاهدة التلفزيون في مساحة واسعة وليس على وسائد على الأرض. نحتاج أريكة مريحة للقراءة لساعات، واستقبال الصديقات الحميمات وأفراد العائلة بعيدا عن برودة مجلس الضيوف.

كان شهر رمضان هو الموعد المرتقب، لكن التأخير نقلنا للعيد، وسفري، والعودة للعمل والركض من جديد. حتى جاءت عطلة اليوم الوطني وقررنا أن تكون الموعد النهائي للانتقال. لم يكن لدي أي فكرة عن الخطة، هل ستكون جردة عظيمة؟ أو فقط نقل للأشياء بين ضفتين. لم تكن العطلة كافية بالتأكيد، لذلك بدأنا مبكرًا في جرد الأشياء في مكانها قبل نقلها. الملابس والكتب والذكريات وما بينها. لقد وصلت لمرحلة جديدة من العيش، ولو ركزت قليلًا ونظرت حولي ما هي حاجتي الأعظم الآن؟ مكان ممتع ومريح للجلوس. تبرعنا بالملابس والاكسسوارت، واقتنينا أريكة، وانتقلنا لنغفو ليلة الأحد في غرفة مشتركة جديدة.

ورشة عمل

قدمت بداية شهر أكتوبر ورشة عمل لأساسيات صناعة المحتوى الرقمي، وكانت أمتع من اسمها الطويل! هذه هي المرة الأولى التي أقدم فيها ورشة عمل شخصية بدون استضافة أي جهةوتحقق حضور ممتاز. قدمت الورشة على مدى ثلاثة أيام واستعرضت فيها محاور عدة. الحضور الذي قارب الثلاثين كان منعش وممتع. كل مشاركة لها قصة، لها مشروع، ولديها هدف نهائي ترغب بتحقيقه من خلال الورشة. جربت شيء جديد أيضًا، هو الواجبات المنزلية التي تعمل عليها المتدربات، وتساعدنا في فتح نقاشات في اليوم التالي. هذا الحضور والحماس دفعني للتفكير في نسخة لاحقة من الورشة، ربما متخصصة أكثر، أو موجهة لموضوع آخر انتبهت له من خلال الأحاديث.

كانت الورشة خير ختام لفصل طويل من العمل والركض، ومع أن تجهيزها لم يكن مرهق إلا أن فكرة العمل خلال النهار ومن ثم الوقوف لساعات للكلام كانت تمتص طاقتي لآخر قطرة.

ثلث مكتبة

بعد الانتهاء من ورشة العمل قررت بيع مجموعة كتب جردتها خلال عملية الانتقال العظيمة. عرضتها خلال عدة ساعات في يوم واحد وما تبقى ذهب للصديقات.

الجردة أتت على ثلث مكتبتي الحالية، والمجموعة كانت إما كتب انتهيت من قراءتها، أو لم أحبها، أو نسخ مكررة لكتب لدي. احتفظت بالكتب التي أحب إعادة زيارتها، وتلك التي تحمل إهداءات أو ملاحظات خاصة، وطبعًا مجموعة معرض الكتاب الأخير التي لم التهمها بعد. شكل الرفوف الخالية منعش، ولا أنكر أنه كان مغرٍ جدا شراء المزيد. والكتب التي وجدت بيوت جديدة، فكرت فيها قليلًا. مكتبتي الحالية حصيلة جردات متتالية منذ انتقالي للعيش في الرياض. أظنها لعنة المساحات المؤجرة والخيار الذي يلحّ عليك دائمًا: حتى تتسع الحياة للجديد، اطلق سراح القديم. التخفف من الأغراض المتنوعة والملابس والكتب هوّن علي قصة درامية قادمة.

هنري الأمريكي

أكثر أفراد عائلتي معاناة مع دراما السفر: أنا. لا أحد يعلم حقيقة ولا أنا ما السبب؟ هل يعمل عقلي بطريقة مختلفة خلال الرحلات؟ أو أن عواطفي مركزة ومتجهة بالكامل للبهجة والمشي والاكتشاف، وحساسيتي تجاه ما يحدث مضاعفة؟ لا أدري.

مايو الماضي وفي محطة الباص بنيويورك رفضت السائقة حمل حقائبي رفضًا تامًا، قبل حتى وزنها. اختارت أن الباص لا يتسع لي ولها. وبفضل دعائي وبكائي ساعدني مسؤول مصري كان متواجدًا حينها. وسافرت لأخوتي واحتجت لعدة أيام لأنسى الصدمة والهلع. نسيت أن لي في المدينة أصدقاء، وأن حسابي البنكي يمكنني من حجز غرفة فندق وربما تذكرة طائرة لبنسلفانيا. اختار عقلي الدراما أولًا. ومنذ ذلك الحين اعتدت البكاء في الأماكن العامة والانهيارات كلما واجهتني أي مشكلة، وهذا غير مناسب لعمري، وحجمي!

في اكتوبر كانت رحلتي التالية لنيويورك، يوم الوصول خرجت من الطائرة ونسيت هاتفي السعودي ورائي. حسابي البنكي ومراسلات العمل، وذكرياتي فيه. وبعد ساعة كاملة من الوصول للفندق اكتشفت نسيانه وعدت للمطار بعينين متورمة.

وفي ديسمبر وصلت لندن ولم تصل حقائبي وبقيت ورائي في الرياض، وفي يوم عودتي بعد رحلة ممتعة واستلام حقائبي طبعًاتم إلغاء حجزي وحجز أختي. بكاء ودراما وكمان حزين، وتمت معالجة المشكلة وعدنا سالمين.

قبل أسبوعين وصلت لندن وركزت جهدي كله قبل وخلال وبعد الوصول للانتباه لكل شيء. حزمت حقائبي بوزن مناسب يكفي لتسوق العودة والمباهج التي سأحملها معي للبيت. تأكدت من حجز كل شيء، دفعت كل شيء. وأمام الحزام المتحرك انتظرنا أنا وأختي التقاط حقائبنا بخفة. وصلت حقائبها وبقيت انتظر، وصلت حقيبتي الأولى وحملها والتالية كذلك. دفعنا العربات ببهجة ونظرت لمكتب الأمتعة المفقودة، عبست وتمنيت ألا أقف هناك مرة أخرى مع الحرص على أن تكون أمنية مسموعة ورددت أختي: آمين! في الطريق للفندق التقطنا صور اليوم المطير، ضحكنا، نظرت للمدينة بسعادة. وصلنا لفندق اكتشفناه وسيصبح وجهة دائمة المزيد عنه في تدوينة قادمة-. أخبرتنا الموظفة المسؤولة أن الغرفة لن تجهز قبل أربع ساعات كما هو معتاد. وقضينا الظهيرة في شرب القهوة، والعمل، وتناول الغداء. عندما جهزت الغرفة دخلنا واقترحت على موضي أن ننتهي من ترتيب الحقائب وتفريغ الأغراض قبل القيلولة لنبدأ رحلتنا. فتحت الحقيبة لتنتثر محتوياتها أمامي مثل خزانة ألعاب. غضبت، لأنني أذكر جيدًا كيف أقفلت الحقيبة وكيف كانت مرتبة بعناية. في تلك اللحظة بدأت محتويات الحقيبة تتضح، قمصان زرقاء، قمصان مخططة، مربعات صغيرة، وفي يدي حقيبة أدوات حلاقة، ورائحة عطر رجالي رخيص وعرق! موضي كانت تشاهد المنظر لكن الدهشة عقدت لسانها حتى صرخت: هذه ليست حقيبتي! واكتشفت أنّني حملت حقيبة بالخطأ، وقبل أن تستعجلوا للومي: نعم كنت مغيبة ولم اقرأ البطاقة عليها، فقط شددتها نحوي لأنها مطابقة لحقيبتي النادرة ليست نادرة جدًا بعد الآن.

الآن أنا في دوامة من الأنفاس المتسارعة وشلل الحركة من الصدمة. بحثت عن حافة السرير لأجلس قليلًا وأفكر. لمن هذه الحقيبة؟ طبعا ليست لي. قرأت البطاقة تحمل اسم هنري الذي نسيت عائلته الآن. هنري مسافر معي على نفس الرحلة وحقيبته تشبه حقيبة شخص فوضوي أو هارب. اقفلتها بصمت. وبعد اتصالات مع مسؤولي الخطوط، قررت الذهاب بنفسي للمطار وتسليمها عسى أن يكون تنبه للخطأ وأعاد حقيبتي بالمقابل.

في هذه اللحظة كانت الساعة تشير للثالثة عصرًا، لم أنم منذ الليلة الماضية، والرحلة كانت مزعجة. الشيء الوحيد الجيد أني تناولت وجبة الغداء، وضحكت واستقبلت الرحلة بحماس. الشيء الثاني الكلمات التي رددتها موضي على سمعي وهدأت من روعي، إنها مجرد أشياء، ليست ملابسك المفضلة حتى! ويمكنك استبدال كل محتوياتها.

خرجت من الفندق للمطار وبكيت، حاولت التوقف لكن لم استطع. أنا في صراع حقيقي الآن، تقولين لا تهمك المقتنيات المادية كثيرًا لكنك تبكين؟ كيف؟ سائق التاكسي باكستاني تأثر من بكائي ومن قصتي وأصرّ أن الحقيبة ستصل. فقط رددي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وصلت المطار، وسلمت الحقيبة على نفس المكتب الذي دعوت ألا أعود إليه، وانفجرت بالبكاء عندما وقفت هناك من جديد وأخبرني الموظف أن هنري أمريكي، ولا يوجد له بريد إلكتروني أو هاتف ويبدو أنه مسافر على رحلة مواصلة. دراما!

كانت الكلمات تتشابك على الورق، واللغة الإنجليزية التي أجيدها أصبحت مثل رموز مجمعة وغير مفهومة. سألته بلطف: أرجوك أنا أجيد القراءة، لكن الآن لا استطيع. هل يمكنك قراءة المكتوب على مسمعي لأتمكن من ملء الاستمارة؟ ساعدني وانتهيت وبدأ بإلقاء النكات: تخيلي زوجة هنري وهو يفتح الحقيبة لتجد ملابس نسائية بين أغراضه. تجاوزت مرحلة البكاء في تلك اللحظة وقررت البدء برحلتي، سواء عادت الحقيبة أو تخلص منها هنري الغاضب في شارع بعيد. بدأت بفرشاة أسنان وأدوات عناية شخصية وخرجت لمواقف التاكسي. قابلني مايك البشوش ليسألني عن وجهتي وانطلق إليها، اكتشف بعد عدة أمتار أنني لا أحمل حقائب سفر. سألني كيف؟ وبدأت القصة. مايك من جنوب لندن وأصله جامايكي، كان السبب في ضحك متواصل ل٤٥ دقيقة، ومزاج جديد وحماس أكبر للندن.

قلت له أن والدتي وموضي ينصحون بتقسيم الملابس بين الحقائب لتكن مستعدًا لأي شيء، وطبقت النصيحة لذلك لست بحاجة للكثير. وزاد من عنده: اشتري حقيبة لها لون صارخ. مضحكة لا أحد يريد الاقتراب منها أو حملها من الحزام المتحرك. والنصيحة الثانية التي منعتني غفلتي عنها: قراءة البطاقة والاسم ومطابقتها مع التذكرة.

الخبر الجيد، الحقيبة وصلت بعد ٤٨ ساعة تقريبًا، ووصلت لباب الغرفة. ومايك أصبح سائق العودة المعتمد وحصلنا على صفقة توصيل مناسبة لميزانية نهاية الرحلة.

رواية هذه القصة فتح شهيتي لتدوينة قادمة، أحدثكم فيها عن أيامي الملونة في لندن.

.

.

.

معكم من العام ١٩٨٥

هناك نوع من الضيق لا يمكن لأحد اقتسامه معك، يبقى بداخلك حتى تقرّر في لحظةٍ ما القضاء عليه وتفكيكه وتجاوزه. وأحيانًاوهذا كابوسي الحاليتحمله معك لمسافات طويلة. مرت الثلاثة أشهر الماضية وأنا أشعر بثقل مثبت في كاحلي، معنوي وفي أيام كثيرة جسدي. اجلس لدقائق في الصباح في محاولة لإقناع نفسي: هيّا خطوة واحدة إلى الأمام ويمر كلّ شيء. كوني شجاعة!

لكنني أعلم، أن الأمر لا يتطلب شجاعة فقط، أحيانًا تحتاج دفعة لتذكيرك: لماذا أعيش؟ ماذا أفعل هنا؟ وكيف أتقدم للأمام؟

هناك نوع من الضيق لا يمكنك الحديث عنه مع أحد، ولا حتى لوحة المفاتيح.

أكتب هذه الصفحة، ولا أدري هل ستكون تدوينة أم سأضمها للمجلد الإلكتروني الذي امتلأ برسائل افتراضية اكتبها من شهور لشخص واحد، ولا أرسلها. أكتبها إلكترونيًا لأن إمكانية حذفها بالكامل مريحة.

لا أظن بأنه سيقرأها، غير صالحة للقراءة والرؤية، تشبه الأفعوانية التي أمر بها هذه الأيام. فيها نكات سمجة، وقصص مرعبة، واعترافات غريبة في حالة ذعر. مثل غابة أغصان شائكة. وإن وعدتك بالعبور إلى حديقة جميلة، قد تخرج منها بإصابة قاتلة.

قبل أسبوعين كنت في الطائرة عائدة من رحلة جميلة بشكل عام. أطبق عليّ ذلك الضيق الذي لا يمكنني شرحه واجتمع مع تعب السفر، والوقوف والكلام لساعات طويلة، والخوف من المطبات التي لم تحدث بعد. على غلاف مجلة الطائرة قرأت العبارة معكم من العام ١٩٨٥موانهمرت الدموع من عيني بلا توقف، كيف يمكنني شرح ما يحدث لصديقتي التي تحاول تبديد خوفي الجديد من الطائرة بكل ما يمكنها من قوة. تفتح الصور في هاتفها، وتشارك خطط مشاريع مستقبلية ولا اسمع شيء لأن صوت ارتطام أفكاري أعلى.

معكم من العام ١٩٨٥مأفكر في موضي، هذه هي سنة ميلادها، وهي معي من ذلك العام، حاضرة مهما كانت الظروف. تذكرت حلقة من النمر الوردي Pink Panther، وهو يثني شريحة سوداء كبيرة (أظنها حاجز مظلم أو كرتون) ويثنيها حتى تصبح بحجم مربع صغير ويبتلعها ثم تنفجر بداخله وتعود لحجمها الطبيعي. لا أدري لماذا تذكرت هذه الحلقة أو الفاصل وللأسف لم أجد لها نسخة في يوتوب لأشاركها معكم. أعوّل على هذا الاستطراد لشرح فكرتي السابقة. كيف يقتسم إخوتي الضيق معي، يمسكون قلبي ويغسلونه، ينفضونه مثل سجادة ليعود منتعشًا. لكنّ طاقاتهم الجبارة تقف دائما عند حاجز أخير، عند الضيق الذي لا يمكن اقتسامه مع أحد.

* * *

الأسبوع الماضي رافقت موضي إلى عيادة طب العيون لتجري عملية ليزر، كنت أحاول اخفاء توتري وكأنني أنا التي ستجري العملية. حاولت الضحك والمزاح لكن وحش القلق كان أقوى مني. جلسنا سوية في غرفة الانتظار وجاءت الممرضة لتجهزها. بدأت بقطرة التخدير، ثم نظفت المنطقة وألبستها الملابس الخاصة بالعمليات.

موضي ترتدي النظارة من عمر الثامنة إذا لم تخني الذاكرة. فكرة أنها تستيقظ وتبدأ يومها بدون نظارة مستحيلة، فبصرها بدونها مشوش جدًا. ارتديت النظارة في عمر متأخر نسبيًا (٢١ سنة) واليوم تزعجني فكرة ارتداء العدسات مثلا. أذهب لبعض المناسبات ولا ارتديها وألعب لعبة التخمين مع الناس. في مرات اقتربت من فتاة وابتسمت وناديت عليها بصوت عالٍ، لاكتشف لاحقًا بأنها لا تعرفني وأفزعتها.

بانتظار العملية بدأت ملامحي تتداخل أمام بصر موضي المشوش، وصرحت بأنّني أصبحت أشبه سمكة. طلبت منها تحديد أي نوع من السمك، يهمني معرفة ذلك. قالت: سمكة بذقن عريض. مخيفة جدًا الآن ولا يمكنني النظر إليك.

ساعديني! لجأت لمحرك البحث وكتبت Fish with big chin في نفس الوقت طلبت منها مزيد من التوضيحات، لتخبرني بأن هذه السمكة في وقتٍ ما من حياتها تغير جنسها من أنثى إلى ذكر ومع هذا التغيير تتغير ملامحها ويكبر حجم فكها ووجهها. عدت لتحديث جملة البحث: Fish with big chin that changes gender. وظهرت سمكة الكوبوداي Kobudai. الأكيد أنّ ملامحي مفزعة الآن، وطلبت منها أن تغمض عينيها لتستريح.

تقضي موضي أيامها في نظارة شمسية داكنة، وغرفة معتمة تمامًا. أحمل لها الطعام والقهوة ونشاهد التلفزيون بالصوت، لأتركها في نهاية اليوم تستمع لكتاب صوتي حتى تغفو. أحب فكرة إن موضي ستقرأ هذه التدوينة بعنين جديدة إن شاء الله.

اللحظة التي ستترك فيها النظارات إلى الأبد قريبة.

* * *

أشياء جيدة في الأسبوعين الماضية:

.

.