كي لا أصمت طويلاً.

By Moona Al-Qahtani

(أ)

كان يجدر بي الليلة بالذات التخلي عن فكرة كتابة تدوينة، إبهام كفي اليمنى، والسبابة والوسطى كذلك تعاني من حرق بدرجة خفيفة، فقاقيع صغيرة على طرف بصمتي محتها مؤقتاً، والسبب؟ ما يحثني على الصبر في هذه الحالة أنني كنت بصدد تقديم وجبة الغداء لوالدي، ومن حماستي نسيت استخدام المقبض لحمل غطاء القدر الذي غفى لساعة أو تزيد في درجة حرارة ٣٥٠ فهرنهايت. تذكرت حينها قصة حرق أخرى، في شتاء ما، في بيت عمي وبينما كنت التقط الجمر لإشعال البخور وفي حالة سهو امسكت بالملقط من الجهة المعاكسة، ختم قاسي على طرف أصابعي، لمساعدتي هبّت مساعدتهم المنزلية وحملت قبضة كفّ من القهوة المطحونة ووضعتها على اصابعي، قالت هذا سيخفف الألم وسيمنع ظهور انتفاخ مبالغ فيه. وفعلاً نجحت خطتها، واستخدمتها اليوم، بينما كنت اقبض على القهوة بكل قوتي، نظرت صوب والدي الذي هرع للمطبخ، وقاومت البكاء. ضحكت من نفسي لاحقاً، لأن الدموع ملئت عيناي حتى فاضت. رويت له الحكاية وضحك وبينما كان يحاول المساعدة، حرق كفه هو الآخر عندما فتح صينية البايركس وانطلق البخار الساخن منها. وقفنا في زاويتي المطبخ نتأمل الخسائر، وطلبنا المساعدة على أمل أن تنتهي وجبة غداء الجمعة على خير.

(ب)

في الكرسيّ الخلفي صرخت حصة – أختي ذات الـ١١ عاماًبحماس عندما مررت على قناة الراديو التي تبث اغنيتها المفضلة، توقفت والتفتّ باتجاهها، الدهشة والحماسة ومقاومة الغناء بصوت مرتفع معها، ذكرتني بالعالم البعيد الذي كان الناس فيه ينتظرون مفاجأة جميلة، مثل أغنية مفضلة على الراديو، حيث لا مسجلات، ولا مشغلات اقراص، ولا ملفات إم بي ٣ بلا عدد، كل شيء على بعد خطوة حتى فقدنا متعة الترقب والانتظار، كلّ شيء بتخمين مسبق، وسيناريو مكتوب ومحفوظ، حتى المشاعر. رؤيتها متحفزة هكذا وهي التي تمتلك جهازين الكترونيين وخزانة موسيقية على جهاز الكمبيوتر، ما زالت تستطعم المفاجآت، وأرجو أن تبقى كذلك.

ذكرتني بفترة من حياتي، كان الراديو صديقي، وبلا مبالغة، أنا وأخواتي، نستمع لبرامج يومية وأسبوعية، كان نشرة الاخبار والترفية، وكانت الموسيقى خلفية صوتية لمسرحيات مرتجلة وبرامج اهداءات، وكنّا نصرخ ونصفق لتقدم أغنية ما للمركز الأول، ونفرح بأننا نجحنا في التقاط وتسجيل أغنية من الثانية الأولى لأننا ببساطة ضبطنا الموجة وضبطنا الشريط، نصنع الفراغات الصامتة بين كل اغنية وأخرى لتصميم شريطنا الخاصّ، تلك الدهشة والسيناريوهات اللامتوقعة وتذكرها ينبهني للتغير الحاصل في نفسي، وحولي.

متابعة قراءة كي لا أصمت طويلاً.

هل فقدتُ كلمة المرور؟

(أ)

اتساءل مع بداية إجازتي القصيرة، اتساءل هل أضعت الطريق الذي يأخذني إلى الراحة؟ هل سيبقى السيرك داخل رأسي في احتفالية لا تهدأ إلى الأبد؟ إلى الصيف على الاقل؟ شيء يشبه انقطاع الاتصال بين دماغي وبين مركز الترفيه فيه، تتحول هواياتك تدريجياً وكلّ شيء تحبه إلى روتين، أو عمل، أو التزام، يتكرر كلّ أسبوع. ثمّ تفكر من جديد، كيف أرفه عن نفسي عندما اصبحت وسائل الترفيه حياتي؟ حتى مع العمل المستمر خلال الاسبوع والانغماس بشكل كامل في قضايا تعليمية صغيرة وكبيرة، احتفظ لنفسي بمساحة ليلية ما بين القراءة ومشاهدة الافلام أو لضيق الوقت مسلسلات مفضلة. الوقت غير مناسب الآن للبحث عن حلّ لمعضلتي أعلاه، ربما أبحث عن حلول مستقبلية. من جهة أخرى أجد زيارة الصديقات، السهر المفرط، متابعة برامج مختلفة عن تلك التي اعتدتها، كل هذا يشكل ترفيه مثير للاهتمام! الخروج من نفسك والرجوع إليها منعش. هذا ما قد أفعله.

متابعة قراءة هل فقدتُ كلمة المرور؟

ثقيلة بالكلام..كمسدّس محشو.

Girl in a White Blouse – Roderic O’Conor

(أ)

في زاوية الغرفة كومة ملابس، لا يعقل أنها تكومت في ليلة واحدة، أو أنّ يداً سحرية قامت بتكديسها، كومة الملابس في زاوية الغرفة صباح الخميس تذكرني بأنني صنعت الفوضى بنفسي، وأنني من جهة أخرى حصلت على أسبوع مضني، على جميع الاصعدة. أفتح الستائر، أتذكر الليلة الماضية مثل حلم، لجمالها ولأنني كالعادة في مساء الاربعاء بنصف عقل وانتباه، ربّما لو تنبه الآخرون لذلك ستكون ليلة الاعتراف الاسبوعي، وإنهاء أيّ مسائل عالقة واجهتها بالرفض أو العناد. أقترب من كومة الملابس وأبدأ بالتصرف البديهي، أشمّ القطع واحدة بعد أخرى للتحقق من حياتها القصيرة – أو الطويلة – هل تذهب لسلة الغسيل أم تصحبني في الاسبوع القادم مرة أخرى! أعلقها على عجل وأكتشف أنني بدأت بمزج الالوان في خزانتي، فوضى أخرى، وتذكرت هدوء البال والوقت الفارغ قبل عدة أشهر عندما صنفت ملابسي وعلقتها وفقاً لتدرج ألوان الطيف.

انتهي سريعاً وابحث عن القهوة، القهوة أولاً، القهوة دوماً ثمّ نتحدث.

متابعة قراءة ثقيلة بالكلام..كمسدّس محشو.

أن تلتهم البسكويت في الظلام.

(أ)

شمس يوم الخميس على وشك الغروب، أعددت لي فنجان القهوة المعتاد وأخترت أكثر قطع البسكويت اكتظاظاً بالشوكولا المحلاة. إنّه من عجائب الفترة الأخيرة – مدة شهر أو تزيدأن أتمكن من الوقوف لأكثر من عشر دقائق في المطبخ، اتأمل القهوة وهي تقطر على مهل، استنشق رائحتها وهي تعبق في المكان تدريجياً، ثم اختار على مهل أيضاً طعاماً آكله بتلذذ وهدوء. قلت في تعليقي على الصورة أنني أحبّ عائلتي كثيراً، لكنني أيضاً أحبّ العزلة والهدوء. وصمتي، وقهوتي التي لا تلسعني وأنا اشربها وأفكر في ألف موضوع وفكرة تنتظرني على بعد خطوات. ليلة البارحة رأيت بول أوستر في الحلم، تحدثنا قليلاً، فكرت فيه بعمق عندما استيقظت، تذكرت أنّ النية مبيتة منذ شهور لقراءة كتابه اختراع العزلة“. جاءت الحاجة لقراءته مع تلذذي بالكلمة، أرددها بيني وبين نفسي، وأجزم خلال لحظات أن الأمر لن يتحقق بهذه السهولة، في هذه الفترة على الأقل.

أيضاً هذا هو الأسبوع الثاني من بدء المحاضرات الفعلية في الجامعة، سأعترف بأنني أشمّ رائحة إحباط خفيفة، أرجو ألا يستمر الوضع، ربما كانت الطالبات في حالة فوضى، ربما الاجازة القصيرة دمرت حماسهم، ورفعوا أقدامهم عن دواسة السرعة. المادة التي أقوم بتدريسها الآن لها جانبين نظري وعملي، لم نقتحم العملي بعد، لكن الامكانيات المادية قد تقلل أو تجعل التطبيق صعباً، أفكر في عدة حلول أرجو أن تنجح. كتاب أوستر رائع مع أنني لم انتهي منه بعد، قد تثير حماستكم المقالات التي تحدثت عنه هنا، وهنا، وهنا.

المكان غارق في الظلام الآن، واكتشفت أن أكل البسكويت في الظلام ممكن، عليكم التحقق لاحقاً من تناثر القطع على الارض، وإلا سيغزوكم النمل، انظر لمفتاح الاضاءة البعيد وأشعر بالاعياء، إعياء حقيقي، لم أشعر به منذ سنوات، رأسي يضج بالكلمات والخطط، أكتب يوميا في دفتر خصصته للكتاب الذي ولد بصورة مفاجئة بعد انتهائي من كتاب ستيفن كينغ عن الكتابة، لا أريد لهذه الفكرة أن تنضب. أنا متعبة، طبقة من التردد والخوف تغلّف قلبي لكن ثقتي وشجاعتي – التي أحسد نفسي عليهاأرجو من الله ألا تخذلاني.

متابعة قراءة أن تلتهم البسكويت في الظلام.

أنا لستُ أولمبية.

أتمنى منكم ترك أي توقعات مسبقة حول محتوى هذه التدوينة جانباً، هنا حكاية بطولة شخصية .

كان الزمان صيف ١٩٩٤م، في المنتصف تماماً بين برشلونة واتلانتا، وكنت طالبة في المركز الصيفي الذي يبعد عن بيتنا شارعين تقريباً، لماذا اشتركت؟ بسبب فضولي! تلك الهالة التي تصنعها الزميلات بعد كلّ صيف، والرموز والحكايات المشتركة بينهنّ، لماذا لا أكون جزءا من هذه المغامرة إذاً؟ وسجلت بعد صراع مع والدتي التي لا تصدق أنها استراحت من دوام الدراسة الرسميّ، حتى نطالبها بدوام جديد، ومن تمشيط الظفائر العنيدة لاختيار ملابس صالحة للارتداء في رحلتي اليومية، هنا ورطة لمن تمضي جلّ وقتها في ملابس المنزل، ولا تملك سوى مريول المدرسة وشرائطها البيضاء – لم يكن شيء آخر يهم-. في البدء قسّم الثلاثي المكون مني ومن أخواتي على ثلاثة فصول، في كلّ منها تُحشر الفتيات في فئات عمرية مختلفة، الكبير والصغير، المراهقة والطفلة، الأم، المدرسة، الخ . المهمّ هو أننا نجتمع وننهي المدة المطلوبة من الحضور والوصول لحفل الختام، والبوفيه! لم ابرع في شيء، لم اتمكن من حفظ النصوص المقررة من الشعر العربي، ولم احفظ القرآن، ولم احضر حصص الطهي التي تمّ استبعادي منها قسراً بلا سبب. وكلّ يوم تحاول والدتي اقناعي بالعدول عن الذهاب، والبقاء في المنزل ومشاهدة الكرتون، لا حياة لمن تنادي. لكن وفي إحدى الأيام كوفئت على صبري الطويل، وانتظاري لشيء محفز وايجابي أخرج به من المركز واتحدث عنه طويلاً بعد الصيف. لا .. لم اتأهل للحفل الختامي، ببساطة لم أكن امتلك الشخصية اللامعة والتأثير الذي يمنحني الحقّ في الامساك بالميكروفون والغناء – أو الانشاد في هذه الحالة ، ولا الاتزان الكافي لتوزيع المرطبات والحلويات على المدعوات، ولا الطول لحمل العلم أو اللوحات المصاحبة للعرض الحماسي. حدث أن شعرت مسؤولة النشاط في صفنا بالملل، وقررت تجربة شيء جديد، ابلغتنا أنها في الغد ستنظم سباق للعدو، خارج المبنى، حول المبنى بشكل أدقّ، وأننا سنحتاج لارتداء سراويل رياضية إنما تحت الفساتين والتنانير الطويلة التي نأتي بها للمركز، وأي طالبة ستخالف ذلك ستعرض نفسها لعقوبة : البقاء بالعباءة داخل المبنى. بلا تفكير، رفعت يدي عالياً وأعلنت بأنني سأشترك. لم أفكر في سروال الرياضة المطلوب، ولا قدرتي على المباراة، ولا شيء!

عدت للمنزل واخبرت والدتي، التي بالمناسبة تكره المفاجآت، تكره المفاجآت منذ استيقظت يوماً بعد قيلولة متعبة ووجدت بأنني منحت نفسي قصة شعر جديدة. أي مفاجأة اقدمها لها، ستكون من العيار الثقيل. لكنها على عكس ما توقعت قررت حسناً ستشاركين، لكن هيفا لا تملك سروال رياضة، على الاقل بحالة جيدة تسمح لها بالركض به أمام الجمهور. ماذا تفعل والدتي؟ تخيط لي سروالاً، وبسرعة جهزت السروال، الذي بعد ارتداءه تبين لي أنه شروالربما حدث خطأ في القياسات أو القصّ، لكنّ والدتي نادراً ما تخطئ في هذه الأمور، إنه حظي، واعلنت والدتي بأنه من الافضل تغيير رأيي وعدم المشاركة. لا لا لا .. سأشارك.

في الغدّ ارتديت فستان جميل يشبه رقعة الشطرنج خاطته أمي منذ زمن، وحملت شروالي الاسود في كيس، وانطلقت للصف، لم استمع للعظات، ولا نصائح الفتيات الهامة في ذلك اليوم، كنت انتظر متى تعلن خروجنا للباحة الخلفية، وكانت تتلكأ، خشيت أن تعلن فجأة أننا لن نتسابق، ولكن اللحظة حانت وخرجنا. طبعاً أخواتي على علم بالسباق، وكانوا متأهبين مثل بقية الصغيرات الواقفات قرب النوافذ المطلة علينا. اصطففنا وكدت افقد حماسي ووعيي عندما أعلنت الانسة سين والتي بالمناسبة أطول فتاة عرفتها في حياتي، كانت طويلة ونحن اطفال، طويلة في المدرسة، طويلة في الجامعة وربما طويلة في بيت زوجها الآن. اعرف أن خطوة الفتاة الطويلة طويلة ايضاً، وبقية المشاركات كنّ شهيرات بالعدو في وقت الفسحة بينما اصاب بالدوار وارفض تناول طعامي وأنا اتمشى، الآن تظهر الحاجة لجسد دائم الحركة، جسد نشيط، لا يختل توازنه، اتراه مرتبط بالحبو؟ أنا لم أحبو، أنا جلست طويلا، ثم وقفت ومشيت.

اصطففنا، بشكل مائل، شيء يشبه سباق العدو الذي شاهدته في التلفاز مراراً، شددت على أسناني والتفت باتجاه أخواتي الصغيرات لن أخيب ظنكم اليوم“. 1 استعداد، 2 انتباه، 3 انطلاق، وانطلقنا، كل شيء رمادي، توقفت عن الاستماع لشيء آخر سوى انفاسي، وارتطام الحصى الصغير بحذائي الجلدي الذي ارتديته بلا جوارب – يا الهي – . ركضت كأننى طريدة أمام حيوان مفترس. ركضت حتى نسيت التنفس، ركضت حتى بدأ الشروال بالانزلاق، وبدأ كل شيء يتهاوى، التركيز الآن يتشتت، يداي طليقتان، تساعدني في الاسراع، لكن في حالة فكرت الامساك بصديقي الذي ينزلق ستتراجع سرعتي وقد افشل. تجاهلت الموضوع ركضت وركضت، ولم استطع التوقف حتى بعد الوصول لخط النهاية.

بعد هدوء عاصفة الغبار خلفي، وترتيب نفسي، صفقت لنا المسؤولة بحماس، رائع رائع، أحسنتم، والآن توزيع الجوائز. ما زلت ابحث عن رئتي، وصوتي، وعيناي، بعد كل هذا الركض أعلنت النتائج وكنت في المركز الرابع، ضمن سبعة متسابقات، والجائزة علبة بيبسي. . حار.