نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الثانية)

Processed with VSCOcam with p5 preset

تحتفظ أختي بتسجيل صوتي لنا خلال رحلة برية إلى الرياض ونحن نحاول الغناء بجودة صوت إيلا فيتزجيرالد. أذكر الأغنية جيداً ولا أنساها “Take The A Train” الأغنية تتحدث عن أسرع طريق للوصول إلى هارلم. عليك أن تستقل القطار “A” السريع الذي يقطع منهاتن للشمال حيث هارلم، ثم إلى الجنوب وصولاً إلى شرق بروكلين. كنت أحدث نفسي -سرا وعلناً- بأنني في زيارتي لنيويورك سأشاهد هذا القطار وقد أذهب في جولة على متنه. وما حدث أن أكثر رحلاتي في المدينة خلال الأسبوعين التي قضيتها هناك كانت على متن القطار A. وفي كل مرّة أقف فيها بمحاذاة الطلاء الأصفر للرصيف كنت أدندن بيني وبين نفسي لإيلا فيتزجيرالد.

في العام الماضي تحدثت عن تطبيق للهواتف الذكية يخبركم عن القطارات التي تحتاجون ركوبها للوصول لنقطة معينة في المدينة. يحدد Embark NYC على الخريطة ثم يزودكم بالأوقات وأماكن انطلاق القطارات من المحطات الأقرب إليكم. لا تعتمدوا على شبكة الجوال: لن تعمل تحت الأرض. دائما التخطيط المسبق أفضل. لماذا أقول لكم ذلك؟ لأنني تعلمت بالطريقة الصعبة أهم دروس ركوب المترو. بالملاحظة والركض وسؤال الآخرين والرعب. محطات المترو التي تصنّف بالقريبة جداً من فندقي كانت أولاها غرب شارع ٢٣ مع الجادة الثامنة. وهذا يعني المشي شمالاً لشارعين ثم شرقاً لجادتين. المسافات بين الشوارع قصيرة تكاد لا تذكر، العمل الحقيقي يحدث عندما تقرر المشي من جادة لأخرى، ودائما تأكد من خريطة هاتفك مطابقة للاتجاهات في الواقع -العام الماضي كانت مقلوبة ومشيت لمسافات لا يعلمها إلا الله في الاتجاه المعاكس- . مشيت كثيراً واحتجت لفعل ذلك بسرعة. المسافة بين جادة وأخرى بحسب غووغل: ٢٥٠ متر تقريباً. والموضوع الجديد عليّ أن الشوارع والجادات في نيويورك لا تحمل مسافات ثابتة وهناك مواصفات وتغييرات عليها بحسب موقعها في المدينة. بالنسبة للطريق الذي اعتمده للوصول إلى محطة شارع ٢٣ كانت المسافة ٢ كم.

المحطة الأخرى غرب شارع ١٤ تبعد مسافة أقل واكتشفت ذلك في نهاية الرحلة ونفس القطارات تمرّ بها من منهاتن لبروكلين وتذهب شمالاً للأماكن التي احتاج الذهاب إليها كل يوم كانت المسافة إليها: كيلومتر واحد فقط. والمشي لمحطة المترو أفضل كثيراً بالنسبة لي مع أن رحلة سيارة الأجرة ستكون سريعة وبمبلغ قليل لكن كل رحلة مترو تكلف أقلّ من ذلك وأنا كنت مهووسة خلال رحلتي بالتوفير متى ما كان ممكناً.

في محطة المترو وعند السلالم تحديداً لا تفكروا بالتأمل أو التردد أو تغيير الاتجاه، الكلّ يركض ليلحق بقطاره ولا يريد الاصطدام بكم حتماً. كنت أحمل معي بطاقتي من العام الماضي والتي تنتهي في أكتوبر القادم، جربت الدخول بها ولم افلح، طلبت من موظفة الشباك التحقق منها بعد فشلي في شحنها. وقالت إنها جيدة لرحلتين أو ثلاث. وطلبت مني المرور دون الحاجة لتمريرها في القارئ. الحرّ تحت الأرض لا يطاق، خيل لي أن السماء تمطر عرق! وكانت فكرة الملابس الخريفية التي ارتديتها في ذلك اليوم فاشلة جداً. وصل القطار الذي غنّت له إيلا، وكان صوت العجلات يزمجر كما تخيلت. الكلّ يبدو منشغلاً، البعض يضع سماعات الأذن ويستمع للموسيقى بصوت مرتفع وأتساءل أمام المنظر هل هم مجانين؟ لا أتخيل نفسي ولو بعد زيارتي العاشرة لهذه المدينة سأتوقف عن الاستماع لما حولي والملاحظة. تذكرت هذا المشهد من فيلم أحبه “inside llewyn davis”. كنت في كل رحلة في المدينة مثل هذه القطة تماماً، رأس يتحرك بلا هدوء وعينان تسجل كلّ شيء!

nyc1-2

في إحدى الرحلات جلست بصحبة سائحة من أستراليا وصديقتها، واستعرضت معلوماتي عن خطّ سير القطار وهل سيصل إلى وجهتها وكأنني ولدت نيويوركية. أسعدتني ملاحظتها بأنها لم تسأل عن مكان قدومي، بل ما هي طبيعة عملي في المدينة؟ ضحكت منها وأخبرتها بأنني سائحة مثلها لكنني نجحت في تفادي التعثر تحت الأرض باستخدام التطبيق الذي حدثتكم عنه. أخذت اسمه فوراً وسجلته لتحميله لاحقاً -فوق الأرض- ثمّ التقطت صديقتها لها صورة وكنت داخل الاطار ابتسم، أفكر أين سيسافر وجهي؟

لا اغفل عن الأرقام التي تتغير على الجدران أمامي، غفلة سريعة تضيع محطتك الأهمّ وستضطر بعدها لتبديل القطارات للعودة، أو في أسوأ الحالات ركوب سيارة أجرة أو الركض كما حدث معي قبل حضور اطلاق كتاب المصور فريد ستين – في حلقة قادمة التفاصيل- .

يهتز قطار المترو في طريقة بشكل مخيف، هكذا ظننت في المرة الأولى ثمّ وبعد أن اعتدت الأمر أصبحت الاهتزاز أرجوحة ممتعة. فكرة أن هذه الأنفاق بنيت قبل مئة سنة أو أكثر بقليل ترعبني ثمّ تبهجني أحيانا. هل يشعر حوالي ثلاثة ملايين شخص بالرعب مثلي، كل يوم؟

عندما ينطلق القطار يصدر عنه صوت فرقعة عالية وكنت الوحيدة التي تقفز هلعاً مع هذا الصوت وفي كل محطة. ثمّ لاحظت شيئا فشيئا أن القفزة هذه تلاشت مع الوقت. توقعت حدوث الصوت ولم يعد يفزعني، ووصلت مرحلة من الراحة والطمأنينة فبدأت تأمّل الوجوه والأقدام والكتب في الأيادي، وللأسف التقط أنفي روائح غير محببة وتعلمت درس جديد: في الازدحام تنفس مع فمك!

في إحدى الرحلات قفزت فتاة إلى القطار مع باقة ورد، بدت متحفزة ومستعدة لمدها لشخص، كانت ترتدي ملابس رائعة، شعرها مسرح جيداً وتفوح منه رائحة شامپو تفاح لا يخطئ انفي في اكتشافها. تبادلنا الابتسامات ثمّ انطلقت في المحطة التالية من جديد. في يوم آخر سيدة حامل ومنهكة وقفت فجأة في منتصف الرحلة وبدأت تتحدث عن حاجتها لتغذية الجنين، الكل تردد في دفع المال وبينما بحثت بسرعة لبعض الدولارات كانت قد خرجت. ولستُ أدري أكانت فعلا بحاجتها أم كانت ممثلة بارعة. شابّ في يوم دافئ يرتدي بزة من ثلاثة قطع، كنت غارقة في العرق وأتخيل كيف يشعر، لم يبد امتعاضا من التكييف المعطل ولم يكن مشغولاً بالبحث عن هواء كان يقرأ باهتمام كتاب من پنغوين -كما تظهر تفاصيل أغلفتهم الجانبية- ولأنني كابرت ولم ارتد نظارتي الطبية: نعم لم استطع قراءة عنوان الكتاب.

سترون العجائب في رحلات المترو، ولو كان وقتي يسمح بالمزيد لركبت قطار “٧” الشهير الذي يعتبر أفضل جولات المترو النيويوركية بمناظر رائعة لهارلم والبرونكس تصلح للتصوير والتأمل. سأعود للحديث عن المترو في حلقات قادمة إنما في سياق مختلف.

أمطار توراتية

nyc1-4

قرأت هذه العبارة للمرة الأولى في إحدى روايات ماركيز ولم تغادرني. خرجت في إحدى الصباحات لشراء الكتب لأختي الصغرى. كانت الوجهة مكتبة Powerhouse Arena في بروكلين ولكنني للأسف لم أتحقق من الأجواء في الخارج أو مواعيد عمل المكتبة وما إذا كانت تستعد لحدث ما. خرجت مسرعة واستقبلتني الأمطار المجنونة عند باب الفندق، مدّ الموظف المظلة وكنت أمام طريقين: إما الخروج والمغامرة في هذا البحر المقلوب، أو البقاء والانتظار. لكنه سهل علي القرار عندما قال: تقول النشرة أن الأمطار ستستمر حتى الظهيرة. ولكي اسهّل التخيل والوصف عليكم، كانت تشبه الأمطار التي تعلق الدراسة من أجلها. تساءلت حقاً هل كنت في خطر عندما قررت المشي وحمل مظلة؟ ما إن تجاوزت الفندق للشارع الفرعي حتى شاهدت المارّة، سيدات ورجال وأطفال يمشون للمدارس تحت مظلات وقطع بلاستيك ومعاطف ضد المطر. يضحكون يتحدثون، يغنون. بينما تشبثت بمظلتي وثقافتي المحدودة عن كيفية استخدامها.

كان عندي مظلة استخدمتها نادراً أثناء انتظار الباص، وباقي حياتي جربت طرق أخرى للتحصن منه، جريدة، كيس بلاستيكي أسود، والقائمة تطول. لم أمش لساعات تحت المطر بمظلة أو بدونها حتى سافرت للمرة الأولى العام الماضي وهذا العام. مظلة تحمل اسم الفندق لم تكن فكرة صائبة! أينما مشيت أثرت اهتمام المارة لقراءة ما كتب. كان لها مقبض خشبي ضخم يصعب التحكم به. وكنت أحاول النظر والتعلم في نفس الوقت من المارة. إذا تقابل شخصان على الرصيف يرفع أحدهم مظلته عالياً حتى يستطيع الآخر المرور. اذا مررت بمكان ظليل وسأتوقف طويلاً انزل مظلتي ليتمكن المارة من العبور. والأكيد النقطة التي يقفل فيها الشخص مظلته ومحاولته الجاهدة في عدم نشر الماء حوله. مشيت على مهل حتى وصلت لحفرة المترو خاصتي، وأخفضت المظلة بخفة ومهارة كأنني أفعلها كل يوم للابد! هذا حظ المبتدئين الذي لن يتكرر. في رحلة العودة وبعد اكتشاف أن المكتبة مغلقة بسبب احتفال للأطفال، زادت الأمطار وعبرت تحت جسر بروكلين -فكرة غبية جداً- فالمباني تجمع الماء وتسقطه مثل شلال، تأخر الوقت على اكتشاف ذلك. بدأت اشعر بصعوبة في الحركة ومظلتي كانت مجرد إكسسوار أسود قبيح. عدت مجددا لمحطة المترو وفي محاولة لإغلاقها برشاقة قلبت وانتثر الماء منها على الناس من حولي وعلى كلاب صغيرة كانت تحملها إحدى السيدات. لقد كرهتني نيويورك يومها. مؤكد.

بعد انتهاء اليوم الكابوسي قرأت عن إتيكيت المظلات، بحثاً عن فكرة من يرفع مظلته أولا؟ وجدت الكثير من التفاصيل الطريفة عن الخروج في نيويورك في يوم مطير. كيف تحمل مظلتك، كيف تفتحها وتغلقها، ودائما الحرص على حملها عمودية قرب جسدك كي لا تطعن بها أحد.

ليس هناك حد ولا نهاية لما يمكنكم قراءته عن إتيكيت نيويورك، مدينة تولد كل يوم، ويضع قوانينها ملايين البشر.

أردت الحديث في التدوينة عن الأحاديث القصيرة لكن قدرتي على السرد خفتت بوصولي إلى هذا السطر. ربما في الغد : )

نيويورك: شُرفة العالم (الحلقة الأولى)

nyc1-1

اعتدلت في كرسيي بعد مشهد وداع بلاستيكي مع موظفي الفندق الذي سكنته لأسبوعين، كنتُ وأختي حديث الصباح في المقهى وكل مساء عندما نعبر الباب ويُطرح علينا السؤال: كم مدة بقاؤكم معنا؟ وأجيب كل مرة: أسبوعين دون سؤال مقابل، لماذا؟

السيارة كانت فاخرة في نظري لأنها ستعيدني إلى بيتي، ومزعجة وبرودتها غير مضبوطة لأنها ستحملني خارج منهاتن. هذا التناقض الذي تعلمت التعايش معه كلّ يوم وأنا هناك. تغمرني فرحة شديدة لأنني هناك، ثم اشتاق لعائلتي، ثم أفكر في الهرب والبقاء هنا وعلى هذا المنوال، أفكار تسبب المغص والصداع والبهجة.

سائق السيارة لاتيني من ملامحة ومن اختياره الموسيقي كذلك. غيّر الموجة فور انطلاقنا، الرحلة بين مكان السكن والمطار من ٤٥ دقيقة إلى ساعة تقريباً. فرصة سانحة لاستعادة الأحداث وتشغيل شريط المشاهد السينمائي في رأسي. لكن الشوارع الراكضة والمطر على الأرصفة، وفكرة توديع نيويورك منعتني من ذلك. سألته عن طراز سيارته وسنة صنعها ولونها كذلك. أسئلة لا أطرحها في العادة على أخي، ولا تشغلني كثيراً فكرة سنة صنع المركبة بقدر سلامتها، وجودة تكييفها. نعود للصمت من جديد وأفكر في الساعات اللاحقة والرحلة الطويلة ورفيقة كرسيي التي قررت البقاء خلفي. لستُ جيدة مع الصمت، علاقتنا غرائبية، قد أتحدث مع نفسي لتقطيع الرحلة، وأتمنى وأدعو برجاء ألا يجلس إلى جانبي أحد. وفكرت أيضاً في هذه التدوينة -أو التدوينات بالضرورة- التي سأحدثكم فيها عن رحلتي الخاصة هذه المرة وعن التجارب والمذاقات الجديدة التي التقيت بها في نيويورك.

صحيح كانت السيارة كامري وسنة تصنيعها ٢٠١٢م مع نافذة سقف ولون أسود. لا أظنّ أن السائق اهتم كثيراً وجاوب أسئلتي أوتوماتيكياً. كان مشغولاً بالغناء مع الراديو، ولعن الازدحام وإثارة قلقي كل مرة يجتاز نفقاً، أتخيل النهر بكلّ ثقله فوقنا، واستعجل الطريق، أريد إدارة العجلات بسرعة حتى نخرج.

ولكن، هذا ليس مكان الحديث عن عقدي الدفينة!

هذه الرحلة كانت خاصة لأنني شاركت أختي حضور أسبوع الموضة لربيع وصيف ٢٠١٥م. لم اجتز درجات المركز لدخول العروض لكنني انتهزت الفرصة لتصوير المارة المتأنقين والذين يظنون أنهم كذلك. ملابس بكل الألوان وخطوات رشيقة، متثاقلة، متململة وتقفز من حماسها. ثم فكّرت في زاوية خاصة لالتقاط الصور، حيث أنني فشلت كثيراً في التقاط صور للمارة وهم يبتسمون أو ينظرون للعدسة. تحولت فجأة للأقدام، نعم الأقدام. وأصبحت محل تركيزي التامّ، أقف في حذائي المريح في نقطة ضوء مناسبة والتقط خطواتهم واحبسها. لم تعد تهمني الابتسامة، تعلمت يوماً بعد يوم ومع التقاط المزيد من الصور أنني يمكن وببساطة صناعة قصص كاملة من خطوة امرأة -أو رجل- . من مقاس الحذاء والتصاقه بالقدم، من الخدوش الظاهرة على الكاحل، أو الوشوم. من اختيار اللون المكمل للأجواء أو المناقض لها. “أقدام نيويوركية” فكرت هكذا، العام الماضي كانت الأبواب والآن الأحذية والأقدام.

في الرحلة كنت مساعدة خاصة لأختي موضي خلال تغطية أسبوع الموضة عبر مجلتها الإلكترونية، وتقمصت بالتالي لفترة وجيزة دور آن هاثاواي في فيلم “الشيطان يرتدي برادا”، الذين شاهدوا الفيلم سيتذكرون جيداً مهمّات أندي -آن هاثاواي-، تجهيز القهوة صباحاً، كي الملابس والركض الكثير من الركض والتذكير والدعم المعنوي طبعاً. لم أكن افعل ذلك على مضض. كانت تجربة ممتعة تعلمت منها الكثير، وقربتني من أختي، يقولون أنك تعرف الإنسان جيداً في السفر، وأشهد أنني فعلت!

لكن حتى لا استطرد كثيراً، وأنا ملكة الاستطراد ووالدي الملك، قلت بأنني سأهديه كتاباً ذات يوم وسأكتب : إلى ملك الاستطراد، والدي.

الفندق الحلم.

انتظرت سبتمبر طويلاً، ولعدة أسباب كادت هذه الرحلة ألا تكون ولكنها حدثت فالحمد لله. الفندق الذي سكنته كان الوصول إليه بلحظة سحرية، بعد أن انتهيت من حجز آخر قبل الرحلة بخمسة شهور تقريباً. كنت أتصفح حساباتي المفضلة على Instagram لأجد أحدها يعرض صورة لمقهى مميز في مدينة شيكاغو، بحثت أكثر عن المكان وقهوته وتخيلت رائحتها ومذاقها وازداد حماسي ثم بحثت عن فرع للمقهى في نيويورك. الفكرة كانت في زيارة هذا المقهى إن أمكن وشرب القهوة وشراءها كذلك. لكن الفرع الذي وجدته كان يقع بداخل فندق في تشيلسي افتتح في خريف ٢٠١٣م. الفندق له تاريخ طويل بعمر نيويورك القديمة، ومبناه لم يتغير كثيراً. يتكون من خمسة أدوار و٦٠ غرفة فقط، صممت كل منها وجُهزت بأثاث مختلف. المبنى الذي بني في منتصف القرن التاسع عشر كان مدرسة دينية وسكن لطلابها. أما قطعة الأرض التي بني عليها فكانت ضمن مزارع التفاح الشهيرة في القرن الثامن عشر، والتي يعتقد بأنها التي منحت اسم “التفاحة الكبيرة” لنيويورك. يقع الفندق في قلب تشيلسي الفنّي النابض بالناس والحكايات. باحاته على طراز فرنسي عتيق ومدخله وقاعاته كذلك. ستدهشكم مساحة الغرفة مقارنة بالنمط المعتاد في فنادق نيويورك والتي تتبع سلاسل عالمية. بعد جولة لعدة ساعات في الصور وقراءة مراجعات الزوار توكلت على الله وحجزت، مع اختلاف بسيط في السعر مع فندقي السابق -الذي وجدت صور مفزعة لحشرات تجوب غرفة لاحقاً- قررت اعتماد الــHigh Line Hotel مسكناً لرحلة نيويورك وتابعت الاستمتاع بحماس انتظار الوصول. كانت المراجعات تقول أنك ستنام على أكثر سرر العالم راحة وسترغب بشدة ألا تستيقظ! أعرف بأنّ مراتب الفنادق لها سحرها الخاصّ الذي لا يقاوم لكنني شككت قليلاً في المديح المبالغ به. والآن أقول لكم: أنا آسفة، كرهت سريري ومرتبته بعد عودتي. كانت ليلتنا الأولى في نيويورك مثل حلم. وأكثر. وجدنا مطعماً إيطاليا قرب الفندق، وصيدلية وسوبرماركت، صراف آلي، مكتبة 192 المصنفة من أفضل مكتبات نيويورك -خبر جيد وسيء للميزانية في نفس الوقت- هناك محطات مترو قريبة، ومخابز، ومواقع إفطار وغداء، والأكثر من هذا كلّه عروض أزياء تقام في مكان السكن ولا تحتاج موضي إلى أي مواصلات حينها. فقط ترتدي ملابسها وتحضر، كنا نلقي النكات ونقول: يمكن الحضور برداء النوم إن أردت فالمكان قريب.

هل تشمّ ما أشمّه؟

في الحديث عن الفندق نسيت الحديث عن المقهى، أو آثرت الانتظار للحديث هنا. في الصباح الأول خرجت لشراء أكواب القهوة، وما إن فُتح باب المصعد حتى داهمتني الرائحة، شعرت بتسارع في نبضي، وكأنني عدت إلى البيت، أو ذهبت إلى جنة القهوة! هبطت مسرعة، وبدأت حيرتي، وتذكرت بأننا قلنا سنجرب كلّ مشروبات القائمة خلال فترة السكن. لم نشرب ربعها. لكننا شربنا وكانت قهوة Intelligentsia زاد الكافيين اليومي. الندل يتغيرون مع ساعات اليوم لكنني تعرفت عليهم جميعاً، واصبحنا شيئا فشيئا نتبادل الأحاديث عن الأيام والاهتمامات وعن وطني، وخوفي من الكلاب التي وجدت في هذا الفندق منزلاً لها. فالفندق يسمح باستضافة حيوانات ساكنيه الأليفة ويخصص لهم مكانا في الغرف وفي الباحات وماء وطعام وغيره. عبرت عن اندهاشي من رائحة القهوة التي صعدت للطابق الرابع فأجابت إحدى النادلات في صباحي الأول بأنّها لا تشم شيئاً وأنها اعتادت هذه الرائحة حتى لم تعد تؤثر بها. في المقهى يعدون القهوة بالتقطير، والكبس، وقليلا بالماكينة التقليدية، أياديهم خفيفة، وقهوتهم كثيفة وفتاكة.

على جانب آخر من المقهى أطباق مغطاة بالزجاج يعرض فيها كل يوم مخبوزات طازجة من مخابز محلية ومعامل لصنع البسكويت، وكل شيء ينفذ في وقت محدد. اذا تأخرت عن السابعة صباحاً سيفوتك الكروسون المعجون بجبن الماعز والأعشاب وستفوتك دعابات الصباح الباكر من ندل المقهى.

ماء عادي؟ معلّب؟ أم غازي؟

في نيويورك يمكنك شرب الماء بأي كمية تريد: مجاناً. لكن سيتعين عليك تحديد ما إذا كان هذا الماء عادي – من الصنبور- أو معلب أو غازي وهذا سيكلفك مبلغاً لا بأس به. المرة الأولى التي سألني بها أحد الندل -العام الماضي- وقال: Still water؟ ترجمتها حرفياً وتخيلت ماء راكد ملوث وترددت حتى طلبت التوضيح واخبرني بأنّ الماء العادي من الصنبور مجاني، وأي تفضيلات أخرى ستدفعين عنها. في السوبرماركت أيضاً أسعار المياه متفاوتة، علبة المياه المعدنية -قبل الضريبة- وبسعة لتر قيمتها حوالي ٩ ريالات! لكن العطش جبّار. لذلك أصبحنا نشرب الكمية الأكبر من المياه خلال زيارة المقاهي والمطاعم، فكرة ذكية لكن لا تقتل نفسك بالتسمم المائي بحجة الماء المجاني. في المقاهي يقدمون لك الماء مجاناً وحتى في أكثرها جشعاً ستحصل على الماء مع الثلج مجاناً. اذا كان من الصنبور مباشرة. في إحدى السهرات مع الصديقات تكلمن عن قصص المياه في نيويورك وبعض الإشاعات والأساطير حولها. هناك قصص عن ربيان مجهريّ وعن مواد كيميائية. لكنني لا أجد نيويوركياً واحداً توقف عن شرب الماء العادي على الأقل خلال جلوسي في المطاعم ومشاهدة من حولي. وعلى كلّ حال قول: بسم الله. قبل شربها منحني السكينة والراحة.

بقشيش غير الزامي؟ لا اعتقد!

في هذه الرحلة تجاوزت جهلي السابق بعدم حمل دولارات مفرقة لتقديمها كبقشيش لكل من يطلبه -أو لا يحتاج لطلبه- أنت هنا مطالب به بصورة غير رسمية، في التاكسي يحدد لك ثلاث خيارات من البقشيش وتختار إحداها وتدفع مع مبلغ الرحلة. وفي المطعم بعد تقديم الفاتورة تكافئ الموظف ببقشيش جيد تحدده نسب معينه من مبلغ طعامك ككل. منى هذا العام لم تكن معنا خلال رحلتنا وكانت هي المنقذة بحكم دراستها وعيشها في أمريكا. هذه المرة اعتمدت على نفسي من ملء استمارة الوصول في الطائرة إلى استجواب موظف الجوازات وحتى احتساب البقشيش اللازم. لكنّها وبعد زيارة مكوكية قصيرة لنيويورك أعطتني خلاصة التجربة بقولها: ضعي قيمة طبق من أطباق وجبتك كبقشيش وهكذا لن تضطري لاحتساب نسب وجمع وطرح النتائج. هناك من الندل من يجبرك على دفع قيمة طبقين بسبب أدائه الجيد وبشاشته والاحاديث الصغيرة التي يديرها معك بانتظار طعامك. وآخر تود لو تسكب ما تبقى في طبقك على رأسه بسبب امتعاضه وتصرفاته الغير مبررة. عندما وصلت للفندق لم املك مبلغاً مناسباً للبقشيش وانتهى بي الأمر إلى دفع بقشيش كبير نسبياً، اعتقد أن الموظف حدث زملاءه بكنزه الصغير، وأصبحوا يتسابقون على خدمتي حتى نهاية الرحلة.

القادم؟

هذه تدوينة افتتاحية لسلسلة قصيرة أو طويلة بحسب ما تحتاجه المواضيع سأستمر بالكتابة عن ما شاهدته وعايشته خلال ١٤ يوماً. عدت بأقل كمية من المقتنيات المادية، اقتنيت بروحي وعينيّ صور وحكايات، ووعدت نفسي بتغيير شامل، تركت هيفا غريبة هناك على شاطئ المحيط الأطلسي وعدتُ خفيفة ومتجددة.

سأتحدث في الغد عن جغرافيا المترو، والمـظلات انتظروني.

19 رمضان

انسوا أي شيء قلته لكم عن نشاطي المرتفع خلال رمضان، هذه السنة جاءت بشكل مختلف تماماً. معدل تركيزي منخفض بشكل مفزع، انتهي من مهمتين أو ثلاثة على الأكثر يومياً. تواصلي مع العالم خارج المنزل شبه مقطوع. وكان خيار زيارة الأقارب في العاصمة بداية الشهر خيار صائب جداً. لأنني لا اعتقد أنّ طاقتي الحالية كانت ستساعدني في الذهاب أو التواصل والزيارات اليومية. لا استطيع المحافظة على مهمة واحدة لأكثر من ساعة، ولا أدري أين يركض الوقت؟ لدي أعمال مهمة يجب أن انجزها قبل انتهاء الشهر ولكل منها مدة نهائية. ومن جهة أخرى الوقت يقترب من عطلتي السنوية ولم انتهي من تدوين الأفكار المهمة والأماكن التي سأزورها، كل ما اعرفه أن تذكرة السفر لديّ وحجز الفندق جاهز، وهذا الأهم تقريباً. لا أجهد نفسي لفهم هذه الحالة، لكنني سأتركها تعبر، وسأعتبرها مدخل للإجازة السنوية بعد شهور من الركض المتواصل والعمل في أكثر من مجال!

بعد بودكاست كامو بالأمس ذهبت واخترت كتاب من مكتبتي، كتاب عن كامو، من تأليف جرمين بري وترجمة جبرا إبراهيم جبرا. المؤلفة بدأت العمل على الكتاب خلال حياته وانتهت منه قبل وفاته بسنة تقريباً. الترجمة جيدة حتى الآن والتفاصيل ممتعة.

شاهدت اليوم الحلقة الأولى من سلسلة وثائقيات فنيّة من بي بي سي، مختصة بالفنّ الرفيع، وأشهر الفنانين في العالم. الحلقة الأولى عن مونيه. هل تعتقدون أنني اكتفي من مشاهدة هذه السير الذاتية أبداً؟ لا طبعاً. ربما شاهدت حتى الآن من بي بي سي وحدها ستة وثائقيات عن مونيه، وفي كل وثائقي رؤية مختلفة. أي إنتاج من بي بي سي يفتنني بالتأكيد. ويمكنكم الحصول على الحلقة بواسطة التورنت من هذا الرابط.

HemingwayDays1

يوم السبت تزورني صديقتي الأقرب بعد العشاء وافكر في تجربة شيء جديد معها. سأدوّن عن التجربة بعد انتهاءها. وفي كي ويست-فلوريدا يحدث الآن وحتى العشرين من يوليو مهرجان أيام همنغواي، كي ويست مدينته الأثيرة. من الفعاليات المميزة لهذا الاحتفاء مسابقة أشباه همنغواي، قراءات لكتبه وتوقيع روايات ومسابقات صيد بحرية وزيارة معرض لمتعلقاته الخاصة والنادرة.

18 رمضان: ضجر حميد

By Cristina Garcia Rodero
By Cristina Garcia Rodero

(أ)

أعرف عن نفسي بأنني انتبه لتفاصيل حياتي بملاحظة تفاصيل الآخرين. دائما لدي الحاجة لصوت التنبيه الخارجي الذي يذكرني بشيء، يذكرني بالتحرك وتغيير عاداتي، تنبيه صغير وواضح. سأوجز لكم مثالاً كي تتضح الرؤية فالحديث لدي يشبه الدخول في دوامة -مؤخرا-. هل يحتاج الأصدقاء المقربون لمتابعة بعضهم على الشبكات الاجتماعية؟ وأعني بالأصدقاء أولئك الذين تكونت علاقتهم بعيداً عن العالم الافتراضي ودهاليزه، على كرسي الدراسة، أو في العمل، أو خلال اجتماع عائلي! احتجت للحديث مع صديقتي لمعرفة رأيها في الموضوع وكانت فكرتها: لستُ بحاجة لمتابعتك، أنت على بعد مكالمة أو رسالة قصيرة. لكنها العادة التي تدفعنا لجمع كل من يهمنا أمره في مكان واحد. سأعيد ترتيب نفسي وحديثي لأوضح لكم الفكرة أكثر: تخيلوا معي صديقان- أو صديقتان- يتابعان بعضهما على شبكة اجتماعية، كتب أحدهما عن مناسبة عظيمة أو خبر مفرح ونشره لمتابعيه على اختلاف قربهم وانتماءهم لدائرته الاجتماعية. لكن أقرب أصدقاءه -الشخص أعلاه- لم يعرف بالخبر لأنّه ضاع في ازدحام متابعيه، أو لأنه ببساطة لم يطلع على الموقع في ذلك اليوم. الصديق -صاحب الخبر- ينتظر أو يتوقع تهنئة، لكنها لا تصل من الشخص الذي يهمه كثيراً أن تصل منه. تأتي فرصة في أحد الأيام، يكتشف الصديق الخبر، ويسارع بخجل للاتصال بصديقه. يعتذر لكنه لا يقتنع باعتذاره ويطالبه بمتابعة أفضل في المستقبل.

لستُ متأكدة من أن السيناريو أعلاه لم يحدث معي بطريقة ما في زمن ما. لكن، كنت وما زلت واعية لأهمية التواصل مع الأصدقاء بعيداً عن ضجة التقنية. إذا كنت مقبل على خطوة مهمة وبحاجة لدعم، اخرج من غرفتك، تحدث مع عائلتك أولاً، اتصل بصديق للجلوس معه والتحدث بلا تكلف أو عداد أحرف.

في القصة أعلاه أنا منحازة تماماً للصديق الذي تأخر عن إرسال تهنئته خصوصاً إذا كان صديقه الآخر يعده مقربا كفاية ليستمع لأخباره المفرحة قبل الجميع. نحن بحاجة للتركيز على الدوائر الاجتماعية والتفريق بينها، أخيك مثلاً أو أبيك لا يمكن وضعهم في خانة واحدة مع متابعيك في تويتر! إذا أردت إيصال رسالة لهم وجهها مباشرة، إذا شعرت بالضيق منهم لا تعمم وترسل رسائل مشفرة لمن لا يفهمها، اكتب بوضوح -إن كانت الكتابة ملحة- أو وجه حديثك مباشرة بلا حواجز.

إذا تحبّ إنسان وتهتم له أشعره بذلك، بتميّزه عن البقية، بقربك منه، بعيداً عن ازدحام هاتفك بالأيقونات والصور والتعليقات الأوتوماتيكية. لا أحب تقديم النصائح قبل توجيه نفسي للقيام بها، لا أحب ذلك أقول وأجدني أكتب الكثير منها كلّ مرّة : )

(ب)

في بحثي المستمر عن برامج صوتية تمتد بين ٤٥ دقيقة وساعة -الوقت المفضل للمشي- وجدت وثائقيات صوتية من بي بي سي، اليوم استمعت لأحدها عن ألبير كامو، حياته وأعماله الأدبية ولقاءات مع أهل وأصدقاء. وهذا الرابط الخاصّ به. 

(ج)

قرأت اليوم هذا الموضوع الذي يطمئنني بخصوص الضجر، وإنّه محفز جيد للابتكار والتجديد.

16 رمضان: رداء الملك

تخيلوا أنّ ملابس الملك الباهظة تشعل ثورة. ومن جهة ثانية تبسّط ملابس ملك آخر تجعله موضوع الكاريكاتيرات وانتقادات الصحف والناس. الوثائقي أعلاه يتتبع ملابس الملكية البريطانية على مدى عدة قرون. الدكتورة لوسي وورسلي تبحث وتستعرض مع المشاهدين تبدل الملابس الملكية وتأثيرها على حكمهم ونظرة شعوبهم لهم. وكيف مع مرور الوقت استفاد الملوك والملكات على حدّ سواء من تأثير المظهر الخارجي على حجز مكانة خاصة لدى شعبهم.

وثائقي خفيف من بي بي سي سيفتح شهيتكم للبحث والاستطلاع بشكل أكبر في نفس الموضوع.