السبت – ١٣ نوفمبر

وجدت على مكتبي صباح اليوم عدة أوراق من دفتر ملاحظات تحمل عنوان فندق زرته الشهر الماضي. كتبت في رأسها حصيلة أكتوبر كانت لتكون بذرة تدوينة أنشرها قبل أسبوعين ولم يحدث ذلك. حبسة الكتابة -والتعبير- تزورني مجددًا يبدو أنها مثل عدوى سنوية تأتي في موسم ثابت. صديقتي تقول ربما هذه المشاعر التي يسمونها ب birthday blues أو الحزن المصاحب لأعياد الميلاد. لم أشعر أبدا بالحزن في ذكرى يوم ميلادي حتى في تلك المرات التي حلّ فيها وأنا وحيدة وبعيدة.

هناك شعور بالتباطؤ وأنا اتجه لنهاية العام ما الذي يمكنني فعله في الأيام القليلة القادمة قبل أن تبدأ السنة الجديدة؟ إعادة تهيئة؟ كتابة قائمة أهداف مختلفة؟ أو الجلوس والانتظار؟ قدمت طلب إجازة للتخفف من الأيام الكثيرة التي جمعتها خلال عام الجائحة والتي لا يمكنني ترحيلها للمرة الثانية. تزامنت الاجازة مع بدء دورة للكتابة عن الفنّ أقامتها دار سوذبيز للمزادات بالتعاون مع معهد مسك للفنون في الرياض. كانت خمسة أيام منهكة وممتعة في نفس الوقت تعلمت فيها مزيج من المهارات الجديدة والقديمة لكن أكثر ما أسعدني هو التعرف على مجموعة من المتحمسين للكتابة والفنّ معًا. البعض جمعتني بهم منصات التواصل الاجتماعي أو ورش عمل قدمتها سابقا أو علاقات مهنية مشتركة.

انتهت الدورة يوم الخميس الماضي وحملت معي منا قصص جديدة ونظرة مختلفة. أما الكتابة التي خاصمتني لأسابيع تدفقت تحت ضغط التمرين والمشاركة. عرفتُ أنها نافذتي الوحيدة عندما أقفل كل نوافذ التواصل والاكتشاف وستكون دائمًا الهدية التي أشكر الله عليها كلّ حين.

ماذا عن أوراق الملاحظات التي حملتها معي؟ كتبت فيها نقاط سريعة وتأملات أنشرها هنا بلا تنقيح:

  • الجمعة ٨ أكتوبر، الميلاد والحفلة وحضور فيلم جيمس بوند الجديد وطقم الملابس المريح الذي اقتنيته ليذكرني باليوم. طلبت من أخواتي الكعكة التي أريدها بالتحديد: كعكة ميلاد تشبه كعكات السوبرماركت التي كان والديّ يشتريانها في الثمانينات احتفالًا بنا. أردت احتفالية بسيطة وغرقت في باقات الورود والأمنيات الطيبة والهدايا غير المتوقعة!
  • زرت مكة المكرمة وأديت العمرة في الأسبوع الثالث من أكتوبر. كانت هذه الرحلة برفقة والدتي التي شاركتني الانفصال عن كلّ شيء والتوقف وغسل أرواحنا. سأحتفظ بذكرى هذه الليالي حتى أعود إليها مجددًا. ولن أنسى اللحظة التي وضعت فيها جبيني على سجاد المسجد لتغمرني رائحة الورد وتمدني بالسكينة التي احتجتها لسنوات. قرأ الامام في صلاة المغرب حتى وصل «لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها» ووقعت في قلبي تمامًا.
  • نهاية الشهر زرت المنطقة الشرقية لحضور افتتاح موسم تنوين الذي ينظمه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء». وصلتني دعوة الحضور بصفتي مدونة وحضرت مع مجموعة من العاملين في المجال الإعلامي. يمكنني ملاحظة الاختلاف بين المدارس التي ننتمي إليها. أنا جئت من مدرسة التدوين -إذا كان هناك شيء بهذا الاسم- وأشارك تجاربي وقصصي الشخصية في قالب مختلف جدًا عن الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون والراديو. تعرفت على زميلات جدد وتبادلنا الأحاديث الممتعة خلال ساعات تنقلنا وحضورنا المؤتمر. كانت الرحلة هذه فرصة للقاء الأصدقاء بعد غياب امتد لسنة أو أكثر.

قراءات: انهيت قراءة رواية عمر طاهر «كحل وحبهان» ممتعة ولذيذة جدًا! وقرأت كتاب آخر عن أدب الرواية والكتابة غير الواقعية fiction بشكل عام للمؤلفة Alice McDermott بعنوان: What About the Baby? الكتاب يستعرض تقنيات متنوعة ويطرح أمثلة للتأمل والتحليل.

مشاهدات: وثائقي «دماء على نهر السين – بين فرنسا والجزائر» يحكي قصة أحداث مجزرة باريس عام 1961 التي نفذتها الشرطة الفرنسية ضد مئات المدنيين الجزائريين العزل.

.

.

.

الأربعاء – ٦ أكتوبر

على خدّي الأيمن تتسع رقعة ندبة حمراء، تشبه قرصة لكنني لم اكتشف الكائن الذي تركها على وجهي. لا تثير الحكة أو الانزعاج لكنها تظهر في مدى نظري وانعكاسي في المرآة. توقيت ممتاز لهذه القرصة أو الحبة مجهولة المصدر. تتوسط المسرح الرئيسي للاحتفال بميلادي القادم. «أهلا شكرًا لأمنياتكم الطيبة مني وصديقتي الحمراء هنا».

بدأت أسبوعي بحماس لزيارة المعرض مرة ومرتين وانتهي بي الأمر لإلغاء الزيارة والتمدد في فراشي لساعات حتى يعبر هذا الكسل والتعب. وإصابة ركبتي تهمس لي أنا هنا لا تنسيني. وخيارات المشي الطويل مؤجلة لرحلة قريبة وهكذا في غضون عدة أيام توقفت عن المران وأجلت فكرة معرض الكتاب والخروج من المنزل.

يوم الأحد كان لطيف بحضور الحفلة الموسيقية لعمر خيرت، هذه المرة الأولى لحضور حفلة موسيقية في الرياض. كل الحفلات التي رغبت في حضورها خلال السنوات الماضية تتزامن مع رحلة خارج المدينة، أو وعكة مفاجئة. كانت الموسيقى صندوق ذكريات، موسيقى تصويرية لطفولتي وسنوات مراهقتي الأولى. مقدمات موسيقية لمسلسلات، أفلام قديمة، والموسيقى التي تملأ فواصل الراديو في الظهيرة.

قضيت صباح الأمس بالكامل في الفراش وقطتي تحرسني. قرأت رواية قصيرة «المطر الأصفر» لخوليو ياماثاريس وترجمة د. طلعت شاهين. ذكرتني برواية «حياة كاملة» لروبرت زيتالر. هل الرابط ثيم العزلة والثلج والجبال؟ أو أنني أمر بمشاعر مشابهة لتلك الفترة التي قرأتها بها. لا أعلم. الكاتب يروي حكاية احتضار قرية صغيرة في جبال البرانس الاسبانية وبطريقة أخرى يروي احتضاره. أحببت حديث النفس الطويل هذا والمزيج بين الصحو وهذيان الحمّى. كانت مناسبة جدًا للقراءة في جلسة واحدة.

أعادت القراءة شهيتي للعمل بعد الظهيرة والاستعداد لورشة قدمتها مساء عن صناعة المحتوى الشخصي على المنصات الرقمية. كانت ورشة ممتعة سريعة وخفيفة وأحببت تفاعل الحاضرات واسئلتهم المنعشة. هذا التفاعل يخفف من شعوري بالروتين وتكرار المعارف التي أتقنتها منذ سنوات ويدفعني للتركيز على شيء واحد فقط: نقل المعرفة.

بداية الأسبوع قررت وضع مقترح جديد يساعدني وموضي -أختي- على اتخاذ قرار سريع في المشاهدة المسائية المشتركة. نهاية كل يوم بعد العمل والعشاء نجلس لساعة أو أكثر بقليل لمشاهدة مسلسل أو برامج منوّعة قبل أن تختلي كل واحدة منا بنفسها للقراءة أو النوم.

الدقائق المهدرة وأحيانا الساعات التي نقضيها لنتفق على شيء تجهدنا وتقضم الوقت المتبقي من الليلة. قلت لها ضعي جدولا! كل يوم من الأسبوع نحدد شيء لمشاهدته ونعتمد هذا الجدول كي نقتل الحيرة. نقترب الآن من نهاية الأسبوع والنتائج رائعة. لا أدري لماذا لم نفكر في هذا المقترح من قبل؟ يشبه الأمر تحضير جدول الوجبات أو إعداد الطعام وتحضيره لأيام الأسبوع.

أشياء طيبة لهذا اليوم

  • أنهيت عدة مهام عالقة هذا الصباح بسرعة فائقة والكثير من الصبر.
  • أفكر في اصطحاب نفسي للغداء يوم غد، والاحتفال بميلادي باكرًا لكن لن أقرر حتى أعرف قدرتي على ذلك.

Painting by Ramon Casas

.

.

السبت – ٢٥ سبتمبر

استيقظت يوم أمس وقطّتي نائمة على حافة السرير، منكفئة على نفسها وذراعها الصغيرة حول رأسها وعينيها تحديدًا. المنظر أثار حيرتي: من ينام مثل الآخر أنا أم هي؟ كنت في الجهة المعاكسة وذراعي حول رأسي في حركة عفوية أجد نفسي عليها كلما اشتد ضوء الشمس. غرفتي بلا ستارة! وغطاء العينين يشعرني بأنني أغرق. أحد الأشياء التي أجلتها طويلًا تركيب هذه الستارة. في البدء قلت لنفسي: هذا رائع سأصحو مع الشمس. وبحثت لاحقًا لأجد أن الهولنديين مثلا لا يفضلون وجود الستائر إما لرغبتهم في رؤية العالم الخارجي بلا حواجز أو لأنهم لا يخفون شيئا.

أشعر بأن هذه أسطوانة مكررة كتبتها في تدوينة سابقة عن «الحياة بلا ستائر». لكن القصة التي توقفت عندها فعلا هي اللحظة التي تعلمت أن الانسان يمكنه النوم بهذه الطريقة. شاهدت عمتي رحمها الله ذات قيلولة تنام هكذا. والدي أحيانا يفعلها، جدتي، وأمي. كانت ذراعي صغيرة وغير متزنة لم تمكنني من اتقان هذه الغفوة اللذيذة.

حاولت إجبار نفسي على النوم لوقتٍ أطول والاستفادة من نهار الجمعة الطويل لكن التاسعة صباحًا دفعتني لمغادرة فراشي وبدء اليوم. قضيت عدة ساعات في القراءة والاستماع لحلقات البودكاست المؤجلة.

ومن ضمن القائمة وقفت عند مقال ممتع وغنيّ عن «الانتظار الجيّد». يُفتتح المقال بقصة طريفة عن الانتظار. اشتهرت هذه القصة بين المهندسين المعماريين والمصممين الحضريين وكانت تدور حول توقّف الناس عن الشكوى من انتظار المصاعد في ناطحات السحاب النيويوركية. يعود أصل القصة إلى طفرة البناء التي شهدتها المدينة بعد الحرب العالمية الثانية والزيادة الواضحة في عدد ناطحات السحاب.

طلب أحد مدراء المباني مساعدة المهندسين الميكانيكيين وشركات المصاعد لمساعدته في حلّ مشكلة يواجهها الناس يوميًا: بطء المصاعد وطول فترة انتظارهم. بعد دراسة للمشكلة اتضح أنها غير قابلة للحل. وصادف أن أحد العلماء المختصين بعلم النفس كان يعمل في نفس المبنى. وحسب الرواية الواردة عن القصة أنه توصل للحل ليس من خلال تحسين أداء المصعد بل بالتركيز على الأشخاص وغضبهم من فترة انتظار قصيرة نسبيًا.

توصل العالِم أن الغضب ولد من الضجر. وعليه وبعد موافقة مدير المبنى وضع مرايا حول منطقة انتظار المصعد ليتمكن المنتظرون من النظر إلى أنفسهم والآخرين. وهكذا، أصبح الانتظار مثيرًا للاهتمام. وتوقفت الشكوى فورًا وذهب الناس لأبعد من ذلك ليشكروا العاملين في المبنى على تحسين سرعة المصعد.

يشاركنا البروفيسور جايسن فارمان -كاتب المقال- عدة حلول للتعامل مع الانتظار وتسخيره لصالحنا. لقد أحببت بنية المقال إذ بعد تفصيل وتوضيح يعود لجمع النقاط الرئيسية والتي أشارككم هنا ترجمة سريعة بتصرّف:

  • حوّل طاقتك العاطفية خلال الانتظار لمحاولة فهم من يستفيد من هذا الوقت. ومن خلال هذا التفكير ستكتشف أسباب انتظارك وما يمكنك فعله حيالها.
  • يمكن لفترات الانتظار أن ترشدنا إلى آمالنا على الجهة الأخرى من الانتظار. استغل هذا الوقت لتتعلم أكثر عن نفسك وما تأمل أن يجلبه المستقبل.
  • يمكن أن تفهم أوقات الانتظار بأنها نقيض أوقات الإنتاج. ولكن، بدلا من ذلك حاول أن تفهم أن أوقات الانتظار يمكن أن تفتح طرق جديدة للإنتاجية وحل المشكلات بطريقة إبداعية والتي لم تكن ستصل إليها لولا جلوسك منتظرًا.
  • أوقات الانتظار ليست مرحلة بين وقتين، بل لحظات تتيح لنا أن نكون مبدعين لنبتكر مستقبل جديدة.
  • أوقات الانتظار في ظل جائحة مثلا، فرصة للاستثمار في الأشخاص من حولنا ويمكننا أن نبني التعاطف مع الآخرين خلالها.

أكتب هذه التدوينة وأفكر في بريد منتظر فيه كتب وقرطاسية. أفكر في ليلة البارحة الممتعة التي قضيتها مع عائلتي الممتدة. صوت الأطفال وصخبنا المحبب، رأسي ما زال ثقيلا بجرعات الكافيين المتأخرة والبخور والكثير من الرقص!

كيف كانت نهاية أسبوعكم؟

.

.

.اللوحة للرسامة Razumovskaya Julia Vasilievna

الثلاثاء – ٢١ سبتمبر

مددت بساط التمرين على أرضية صالة النادي الخالية وتأملت كيف مزقته مخالب قطتي. لففته لأشهر مضت وأصبح وسادتها وكرة اللعب ودميتها في ذات الوقت. الثقوب التي تعلوه مضحكة وغير مبررة. الصالة تخلو من المتدربات في هذا الوقت من اليوم وإن احتجت في وقتٍ ما لتفسير هذه الثقوب سأفعل بكلّ حبّ. عدت بحماس للتمرن في النادي بعد انقطاع دام ستة أشهر! تعرضت لإصابة بداية السنة لم تحدث في النادي طبعًا لكنها ابعدتني عن كلّ الأنشطة الحركية التي أحبها. حتى المشي الذي أجد فيه السلوى وصفاء التفكير أصبح فقرة مؤلمة يليها ساعات من النقاهة.

خطر ببالي اليوم أن استخدم الكلمة المفتاحية: إصابة للبحث في المدونة وكانت النتائج مضحكة. مرة إصابات أقدام، ومرة أخرى رقبة والأخيرة ركبتي التي منعتني من أي أنشطة بسيطة كصعود الدرج بسرعة أو الصلاة على الأرض.  تعافيت بالتدريج على مدى الأشهر الماضية واختبرت قدرتي على المشي في نيويورك وبنسلفانيا والنتيجة ٢-٠ لصالح المدينة والمزرعة.

عدت للنادي والحمد لله تزامن ذلك مع عرض سخيّ بمناسبة اليوم الوطني سيمنحني ضعف مدة الاشتراك وهذه المرة أنوي الاستفادة منها جيدًا والحذر من الإصابات والمبالغة في إجهاد عضلاتي.

أحبّ كيف تحول كلّ شيء في حياتي للبطء. لم تعد السرعة تغريني في أي شيء. حتى فضولي الذي كان مستعرًا على الدوام هدأ فجأة. لن يفوتك شيء يا هيفا طالما كان مهمًّا وحتى هذه العبارة تحتمل عدة تأويلات تقودني دائما إلى: استمتعي بالبطء.

هذا الصباح أقفلت الصناديق التي ملأتها بالملابس الفائضة عن حاجتي للتبرع بها خلال الأيام الماضية. كانت الملابس في كومة هائلة لففتها بأغطية السرير القطنية حتى لا تتسخ.

اليوم غريب كنت أحدّث نفسي بعد أن جمدت بصري أمام الشاشة في محاولة لإتمام مهام الأسبوع قبل العطلة القصيرة. لم أتمكن من كتابة حرف واحد وعليه قررت أن أعود لقائمة مهامي الشخصية التي تنتظر الإنجاز. تجهيز وصفة للعشاء، جمع الملابس للغسيل، الرد على رسائل الهاتف والتفكير في تمرين الغد. هذا النوع من الانفصال قليلا من المهمة الأكبر يحفزني للتفكير بها بشكل مختلف بعد العودة إليها. فكرة تنجح دائمًا.

نهاية الأسبوع المقبل أكمل شهر تقريبا على اعتماد نظام غذائي ممتع –كتبت عنه هنا – اكتشفت أن الفكرة الأولية لم تكن صعبة كما توقعتها. الغذاء النباتي (مع منتجات الحليب والبيض) أسهل بكثير من التفكير يوميًا في قطعة اللحم أو البروتين الحيواني الذي سأضيفه لوجبتي. وفي نهاية الأسبوع أُشبِع هذا الجوع باختيارات أكثر جودة.

أحبّ تدوين اليوميات العشوائية عن تغيرات الحياة اليومية والعادات التي اتبناها وكيف تؤثر علي، ومنذ اعتماد هذا النظام أجد نفسي أكثر امتلاء ورضا وكلّ وجبة هي فرصة للتلذذ بإضافة جديدة.  

في هذه الأيام لاحظت تحسّن نومي بشكل ملحوظ -ما عدا ليالي اكتمال القمر التي تربكني جدًا – أغفو خلال أيام الأسبوع قبل الحادية عشرة والنصف واستيقظ الفجر بكامل وعيي ودون الحاجة لمنبّه. أقول لوالدي هذه الملاحظة ثمّ يعلق: هذا تأثير أذان المسجد الجديد الأقرب.

كان لدي الكثير من الحماس لتقديم ورشة عمل خلال سبتمبر، لكن عندما نظرت لجدولي وتذكرت كل الأشياء المؤجلة التي أود اكتشافها قررت تأجيل الفكرة قليلًا. أفكر في ورشة عمل مختلفة هذه المرة، ممتعة ومنوّعة وتطبيقية.

التوقيت السنويّ يقول أنّ هذه الأيام أيام الحصاد، وأنا أشعر بها جدًا. الجو اللطيف والمزاج الرائق برغم التساؤلات حول القادم من الأيام. أخطط لأشهر السنة الباقية وتخليت عن فكرة عطلة قصيرة كانت مشوقة ومغرية في البدء لكنها ستثقب ميزانيتي بلا رحمة. ولأجل نفسي أعددت هدية ميلاد مميزة انتظرها بحماس!

الأيام القادمة موجهة للاحتفال مع العائلة ضمن تقليد سنوي نجتمع فيه خلال عطلة اليوم الوطني ولقاء القريبات بعد فاصل اجتماعي ممتد منذ عيد الفطر الماضي.

أحب التخفف المعنوي والفيزيائي، أحبّ أنه يترك لي مكان لعبور الاكسجين والرؤية الواضحة. حاليًا أعيش أيام شعارها: الاستيقاظ من حلم طويل. لا أدري هل كان هذا الحلم كابوس؟ أو خيال تختلط فيه الحكايات الجيدة والمؤلمة؟ لستُ أدري.

الليلة سألتقي بصديقة لطيفة تعرفت عليها في نيويورك قبل عدة سنوات والتقيت بها هناك هذا العام، لم نجد فرصة للقاء في الرياض قبل اليوم واتطلع لذلك. سأعدّ للعشاء هذه البيتزا الشهية التي اتذكرها مع موسم التين دائمًا، وقد اقرأ قليلا لأنهي كتاب ممتع، وسأنام باكرًا لاستقبال آخر يوم عمل في الأسبوع!

.

.

.

اللوحة للرسام Urmanche Baki Idrisovich

الإرشاد بصحبة الخيول

اليوم سأشارككم قصة تجربة ممتعة، وفريدة ومؤثرة. وددت لو حصلت على الوقت المناسب للكتابة عنها وهي طازجة! لكن الحمد لله على تدوين الملاحظات واليوميات والعودة إليها لاحقًا.

كنت قد شاركتكم تفاصيل رحلتي الأخيرة إلى بنسلفانيا الأمريكية والوقت الذي قضيته بين الريف والمدينة. كانت زيارة مزرعة الخيول إحدى أهم وقفات رحلتي. وسعدت بالجلسة الإرشادية التي قدمتها لي مرشدتي إريكا كجزء من سلسلة الجلسات الإرشادية التي بدأتها معها منذ سنة وأكثر.

كما حدثتكم ميزة هذا الإرشاد أو التدريب الميسر مع متخصص أنه لا يتطلب ركوب الخيل وهو شيء لا أجيده -بل أخشاه! فعلاقتي مع الخيول مضطربة منذ سنوات بعيدة وتخللتها محاولات بسيطة لركوبها أو الوقوف بالقرب منها. الأمر لا يقتصر عليها وحسب بل على الكثير من الكائنات الحية التي يفوق حجمها وطولها قياسات جسمي. لديّ هذا الهاجس المرعب أنها ستحطمني بحوافرها أو تنطحني برأسها. إن فكرة التواجد في محيطها الخاصّ تبث الرعب في جسدي ويبدو ذلك واضحًا ومقلقا لمن هم حولي.

قبل سنتين كنت في زيارة للمزرعة واكتفيت بالوقوف حول السياج والنظر للخيول من بعيد. إن رؤية منى أختي على ظهر حصانها المفضل تطلق فراشات رعب صغيرة بداخلي. وفي أحيانٍ أشاهدها وهي تقترب منه وتنظفه أو تطعمه تزيد سرعة نبضاتي، ماذا لو تعرضت للأذى؟ لم أدرك أن كلّ هذا جاء بالتدريب والممارسة. كانت تحمل بداخلها ذات المخاوف لكنها تخلصت منها برفقة الخيل. التي عرفت لاحقا أنها من أكثر الكائنات إحساسا لما يحيط بها، ويمكنها قراءتنا بوضوح حتى وإن لم نلمح ذلك.

لماذا التدريب بصحبة الخيول أو Equine Facilitated Learning؟

حصة التدريب أو الاكتشاف كما أحبّ تسميتها سبقها تعريف بسيط من مرشدتي إريكا وطلبت منها مشاركتي نبذة عن هذا النوع من الجلسات لأذكرها هنا:

  • يربط هذا النوع من الإرشاد بين الانسان والخيل ليتمكنوا من فهم طريقة تحركهم في العالم.
  • يطرح الميسر أو المرشد أسئلة حول ما يلاحظه من تفاعل الأفراد والخيول ويثير وعيهم وينبههم لأفكار معينة.
  • يمكن تسمية هذا التعلم بالتجريبي لأنه يتم بالتدريب العملي مع الخيول، ومن هنا يحصل الأفراد على دروس عميقة ومؤثرة.
  • نجد من الخيول ردات فعل نقية بلا حكم مسبق فهم لا يعلمون من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وماذا نعمل؟ هم فقط يرون طريقة تواصلنا معهم ويقرؤون مشاعرنا.
  • الخيول كائنات حدسية وحساسة جدًا لدرجة تمكنهم من رؤيتنا بوضوح.
  • نادرًا ما نحصل على فرصة التواجد في مساحة لا تُطرح فيها الأحكام علينا، لذلك نجد في صحبة الخيل والتواصل معها فرصة جيدة للتعلم.

زرت المزرعة قبل موعد جلستنا مرتين قضيتها في المشي والتقاط الصور للخيول عن بعد ومحاولة الاقتراب منها بحضور منى وإريكا. شعرت بالأمان حقيقة بسبب وجودهم وكونهم إما يعتنون بها أو يمسكونها بإحكام أو يركبونها وفي كل هذه الحالات لن أخشى هجومها علي. أكتب هذه الكلمات الآن وأنا اضحك من نفسي فما حصل لاحقًا أدهشني.

في يوم الجلسة اقتربت من سياج المرج الذي اجتمعت به الخيول، كانت عددها ١٢ إذا لم تخني الذاكرة. وقفت قرب السياج واخبرتني إريكا أن التدريب يتطلب الدخول هناك والمشي عبر المرج والوصول للخيول وبدء الجلسة.

هذه المرة الأولى التي أعبر السياج وخلال الخطوات التالية التي مشيتها كنت أذكر نفسي: لن يصيبك شيء!

خيول المزرعة

أطلس وسانتانا والبقية

كلّ شخص سيحظى بتجربة مختلفة بالتأكيد، مخاوفنا لا تتشابه وترددنا كذلك. لم يكن لدي أي توقعات مسبقة لما سيحدث. في البدء طلب مني الاقتراب من حصان ضخم وفي مقياسي الشخصي كان حجمه أقرب إلى سيارة نقل منه إلى كائن حيّ. خطوت باتجاهه واقترب فورا ودنا مني برأسه في تصرف يشبه التحية ثم تجاوزني وذهب وتبعه حصان آخر. لم اتحرك للحظات ونظرت باتجاهها لفهم ما مررت به. كانت مشدوهة. هذا الحصان اسمه أطلس وهو كبير الخيول على ما يبدو وآخر شخص توقعت أن يقترب لتحيتي. كان يقول بطريقته أهلا بك.

لا أخفي عنكم غمرتني مشاعر غريبة كان مجملها: أنني مرئية. ويصعب علي شرح هذا دائمًا لأن ما يعبر ذهني في كثير من الأوقات أنني شفافة ولا أحد يلحظ وجودي.

توالت لحظات التحية هذه، وكانت تمشي قربي وتطرح علي الأسئلة التي تدفعني للتفكير بعمق. ما هي مخاوفك؟ جربي لمس الحصان ماذا تشعرين؟ شعرتُ بنبضهم وثقل وجودهم. وفي جهة أخرى خفتهم وظرافتهم. مررت قرب بعض الخيول ولم تحرك ساكنًا وأشعرني ذلك بالإحباط لأعود للتجربة والعمل بنصيحتها والمحاولة مرة واثنتين حتى نجحت. كانت تسألني برأيك متى تنبهت الخيول لوجودك؟ وأخبرها بأن ذلك حدث عندما شددتها نحوي أو لمستها أو اقتربت منها كثيرًا. لكنها صححت هذه الفكرة وأشارت إلى مسافة بعيدة انتبهت الخيول فيها لتقدّمي. هناك إشارات أخرى يظهرونها منها حركة الاذنين أو التفاته سريعة لا تلتقطها عيني من بعيد.

كانت تشرح باستفاضة انعكاس هذه المفاهيم على التواصل بين البشر، وما تعنيه في حياتي الاجتماعية على وجه التحديد. أنتِ مرئية ومؤثرة بقدر ما تنتبهين لذلك.

توقفت كثيرًا على ذلك المرج لأمسح دموع انهمرت من الحماس أو الاكتشاف. واعتذرت لأكثر من مرة عندما فرغت جيوبي من المناديل وانتهى بس الأمر لأغرق قميصي بالبكاء.

صديقي سانتانا

أن نقتل خوفنا معًا

انتهينا من العمل في الخارج وطلبت منّي إريكا اختيار أحد الخيول لاصطحابه للمرحلة التالية من الجلسة، لم أطل التفكير واخترت الحصان سانتانا الذي تواصلت معه على مستوى أعمق.

في الجزء الثاني عملت وهو على مستوى قريب وفي مساحة تدريب أضيق من المرج. كان الهدف هو بناء مهارات التواصل المتنوعة، مرة باللمس، مرة بالتواصل البصري والكلام فقط ومرة باستخدام الرسن والحبل.

كان هذا الحصان مميز لأنه يخاف من نقطة معينة في ساحة التدريب واحتاج لاستخدام القوة لجذبه والمشي حولها. في الحظيرة المجاورة خنزير وهو يخاف منه على ما يبدو. كانت مهمتي تطمينه وأصبحت أفكر في نفسي بداية هذا اليوم وكيف كنت اخطو باتجاهه والرعب يسكنني. والآن أحاول إقناعه أن الخنزير لن يقتله وبإمكانه السير في الجهة الأقصى من الساحة.

كانت إريكا تراقبني بفخر، وفي جهة أخرى من المكان منى تلتقط الصور متأثرة لتقول لي لاحقًا: ما فعلته اليوم احتجت لأسبوعين لأقوم به.

ما يهمني اليوم من تلك التجربة ليس القرب من الخيل وحسب بل ما تعلمته عن نفسي ورغبتي في تحسين مهارات التواصل في حياتي. أن اقترب قليلًا لأشجع الآخرين لأخذ خطوة أو خطوات مماثلة. وانتبه لأثري وأرى وجودي أكثر من كونه شفاف ولا يُرى. واتخفف من مخاوفي والسيناريوهات التي أبنيها لمواقف لن تحدث – وهنا على سبيل المثال قصة الخيول التي ستقتلني. ما تعلمته خلال ساعات مع مرشدتي الماهرة وجّه الضوء لجوانب غفلت عنها في ركضي عبر الحياة. مشاعر وأفكار بديهية لم أجد اللحظة المناسبة لاكتشافها حتى ذلك النهار البعيد من يوليو.

.

.

.