كيف تنجو في بيئة عمل سامّة؟

قبل عدة أيام أعدت الإجابة على استطلاع رأي في جريدة نيويورك تايمز حول بيئات العمل وكانت النتيجة «اعتبري نفسك محظوظة أنتِ من ضمن العاملين في بيئة حضارية.» لقد جربت الإجابة على الاستطلاع قبل عدة سنوات في وظيفة سابقة وكانت النتيجة أنني أعمل في مكانٍ غير حضاري. هذه المرة ظهرت العبارة على الشاشة لتشعرني بالطمأنينة ولم يكن لديّ شك في ظهورها.

تؤثر أماكن العمل علينا بشكل عميق لأننا نقضي فيها جزء كبير من يومنا. قد يكون إجمالي الساعات التي نقضيها مع مدراء في العمل أو زملاء أكثر من تلك التي نقضيها مع أفراد عائلتنا! ومن هنا تولد المشكلات إذا كانت بيئة العمل غير مناسبة حتى وإن كنت تعمل من المنزل وهذا ما اكتشفناه خلال العامين الماضية. ما الذي يجعل بيئة العمل سامة؟ هذا هو السؤال الذي قد يختلف الكثير في إجابته لكن ستجمعهم عناصر محددة ويتفقون عليها.

تأثير البيئة السامة يمتدّ لحياتنا الشخصية وصحتنا الجسدية والنفسية ويمتد لاحترامنا لأنفسنا وكيف نقيّم ذواتنا بشكل عام. بعد فترة من التعرض لهذا الأذى يصل الأفراد إلى حالة من الاحتراق. وخاصة أولئك الذين لا يجدون مخرجًا أو فرصة لتحويل مسارهم المهني وإيجاد الدخل بعيدًا عن بيئة تسيء لهم.

ما هي الإشارات إذًا؟

كما ذكرت أعلاه قد يختلف تصنيف كلّ شخص وفقا لخلفيته والمجال المهني الذي يعمل فيه. لكن الإشارات التي لاحظتها وتتبعتها في قراءاتي هي كالتالي:

تواصل سيء أو ضعيف.

الاتصالات غير الكافية أو المربكة والمتفرقة تأتي في مقدمة مشاكل أماكن العمل ويمكن اكتشاف ذلك بشكل فوري بعد فترة من العمل. تكتشف أنّك خارج دائرة المعلومات المهمّة إذ يفشل الزملاء والمدراء في مشاركتها معك. لا يوجد تدوين لأهم العمليات والخطوات في إدارة المشاريع. يعتمد الغالبية من الموظفين على الاتصالات الهاتفية والرسائل المنقولة شفهيًا ولا شيء يدوّن ليسهل العودة إليه والمطالبة به وهنا تبدأ المشاكل. رسائل البريد التي تبعثها تصبح رسائل في زجاجة ضائعة في المحيط! لا تجد رد أو توجيه في الوقت المناسب ولكن عندما يحدث خطأ أو مشكلة يُنسب التقصير إليك وما من وسيلة لتثبت مشاركة الآخرين. ويندرج تحت ذلك أيضًا التواصل خارج ساعات العمل وفي الإجازات الرسمية.

الثرثرة والنميمة ونقل الشائعات.

أقول دائمًا أن المنظمات والموظفين المنشغلين بالعمل الجادّ لا يجدون الوقت للثرثرة ونقل القصص عن بعضهم والتحريض. تذكرت وأنا أكتب هذه الجملة إحدى فترات عملي السابقة حيث قاومت بشدة الانخراط في هذه الجلسات التي قد تمتص حماسي ورؤيتي الجيدة للعمل. لم تكن تلك البيئة مثالية لكن لو استسلمت لتلك الجلسات لما عرفت طريق العودة أبدًا. يمكنكم رؤية هذا السلوك بوضوح في جلسات الاستراحة الطويلة التي تمتدّ بعد الوقت المخصص لتناول الطعام أو الصلاة. يبحث بعض الزملاء عن وقت لفعل أيّ شيء إلا العمل. حتى لو شعرت بالإقصاء عن هذه المجموعة لا تشك بنفسك ولو للحظة، وقد تكتشف أيضًا بعد حين أن ابتعادك عن هذه الجلسات تنعكس على طريقة عملهم معك وهذه إشارة أخرى على السمية.

قيادة سيئة.

هذه مشكلة حقيقية.

تركت أكثر من وظيفة بسبب مدير أو مديرة سيئة، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل في أحيانٍ أخرى تكون القيادة منخورة بالكامل. أحيانًا القيادة السيئة سلسلة تبدأ من أعلى الهرم وتصل إليك. قد يكون مديرك شخص يشكك في قدراتك باستمرار ولا يعطيك فرصة للتقدم أو العمل بشكل جيد. يربكك بالمقاطعة والفوضى وقلة التواصل وينتقل كلّ هذا لما تفعله. نوع آخر من المدراء الذين عملت معهم يحبّ توجيه اللوم والاتهامات باستمرار كلما فشل مشروع أو تأخر إنجاز مهمّة، ومن جهة أخرى ينسب العمل الناجح لنفسه وتوجيهاته دون التفكير في الموظف الذي قضى الساعات الطويلة لإتمام العمل. باختصار شديد: القيادة السيئة هي واحدة من أهم مؤشرات بيئة العمل السامة.

غياب التحفيز.

لا أقصد بذلك وجود فرقة موسيقية تعزف لك الموسيقى الاحتفالية كلّ يوم!

هناك قدر مطلوب من التحفيز يظهر بلفتات بسيطة أو كبيرة. عندما تجد من يشجعك للتجربة والاكتشاف والخطأ في مساحة آمنة هذا تحفيز. عندما تجد من يشكرك عند اجتياز منعطفات صعبة في مشروع معين ومساهمتك في نجاح جماعي للفريق هذا تحفيز. وعندما يتوقف كلّ هذا ستراه في نفسك وفي زملائك. يسود شعور من الثقل -وجرّ القدمين- للعمل كل يوم عندما يتوقف الحافز. وعندما يكون تحفيزك الداخلي حيًّا؟ سيفتقر الباقون لذلك وستجد نفسك تدفع بكل قوتك لتحريك هذه السفينة حتى تصل لمرحلة الانهاك. للأسف ليس ذنبنا أنّ بعض زملائنا يفتقرون للتحفيز هذا جزء من تخطيط المنظمة والمشاريع وحتى فكرة توظيفهم في مكانٍ ما. أنت بخير إذا لم يكن قائدك مفتقر للتحفيز ويمكنك التعامل مع الزملاء والظروف بشكل جيد لتجاوز هذا المؤشر.

انعدام النّمو.

عندما تجد صعوبة في التقدم والتطور في عملك هذه إحدى مؤشرات توقف النمو. تمر عدة أشهر على آخر مرة تغيرت فيها مهامّك أو تعلمت مهارة جديدة؟ لا يتم ارشادك من الرؤساء أو توجيهك لتحسين شيء ما في عملك؟ يرفضون التحاقك ببرامج للتدريب أو التعلّم مع تقديم حجج واهية؟ كثير من هذه المؤشرات مربكة إذا كنت تعمل باجتهاد ولديك رغبة حقيقية في تطوير ما تفعله.

من المهمّ أيضا معرفة أن رؤسائك أو حتى الجهة التي تعمل بها ليسوا مسؤولين دائما عن تطوير مهاراتك، عندما يكون الحلّ في يدك أقدم عليه. حسن من الطريقة التي تدير بها المشاريع أو تكتب أو تدرّس أو حتى تعالج مرضاك. التحرك للأمام في المساحة المتاحة لك أفضل بكثير من الجلوس والانتظار.

هذا المؤشر لا ينطبق عليك بالضرورة إذا كنت تحبّ العمل المكرر والتحوّل إلى آلة تقطع البسكويت بشكل واحد لسنوات لذلك اقترح تجاهله في حالتك.

معدّل استقالات مرتفع.

أشعر في بعض اللحظات بالندم عندما استعيد تجربة عمل في بيئة مسمومة تجاهلت فيها هذا المؤشر. في أول عدة أسابيع من عملي لاحظت استقالات متعددة في أكثر من إدارة مع تكتّم شديد حول سبب خروج الموظفين. لم يبق السبب سرًا لوقت طويل فقد اكتشفته بنفسي!

أفكّر في كل موظف يترك العمل، ليست الفرص الأفضل دائما هي السبب ووددت لو كان لدي وقت أطول للبحث في دراسات متعمقة في الاستقالات التي تأتي بسبب فرص أفضل. صعوبة الخروج من مكان يوفّر لك مصدر الرزق وتعتمد عليه جوانب كثيرة من حياتك يقابلها صعوبة ما تمرّ به في هذا المكان وضرورة النجاة. ماذا لو كانت الجهة هي من تستغني عن الموظفين بشكل مستمر؟ هذه إشارة أخرى لكن لم اتعمق في فهمها فقد تكون مشكلة توظيف لكوادر أكبر من الاحتياج، أو سوء في التقدير والتحقق من ملاءمة الموظف ومن ثمّ التخلص منه بشكل مفاجئ، أو وهذا أيضًا وارد سوء تأهيله وعدم رغبته بالعمل أو تحسين جودة عمله.

ما يمكنني مشاركته كنصيحة ضرورية هنا: إذا كانت لديك شكوك في ارتفاع عدد الاستقالات حاول التحدث في الموضوع مع شخص تثق به -مع إنها فكرة صعبة لمن دخل منظمة حديثًا-، وحاول من جهة أخرى التواصل مع من تركوا الجهة. لماذا استقلت؟ ما هي أسبابك وكيف يمكنني تفادي الوصول لهذا المكان؟

مؤشرات إضافية

في استطلاع رأي أجري على أكثر من ٦٠٠ شخص في ١٧ مجال مهنيّ ونشرت نتائجه جريدة نيويورك تايمز عام ٢٠١٥ ساهمت هذه السلوكيات السلبية الصادرة من المدراء في تحويل بيئة العمل إلى سامة مع الوقت:

  • مقاطعة الآخرين عند الحديث.
  • الحكم على من يختلف عنهم
  • يولون القليل من الاهتمام لآراء الآخرين.
  • يحتكرون أفضل المهام لأنفسهم.
  • يفشلون في تمرير المعلومات الضرورية لفريق العمل.
  • يتجاهلون الشكر وتقديم الأوامر بلطف.
  • يحقرون الآخرين ويتحدثون إليهم بلا تهذيب.
  • ينسبون الفضل لأنفسهم دون وجه حقّ.
  • يطلقون الشتائم والبذاءات.

وفي نفس الاستطلاع أجاب الأفراد المشاركين وصرحوا بالسلوكيات السلبية التي وجدوها في أنفسهم:

  • يتجاهلون دعوات الاجتماعات الموجهة إليهم.
  • يستخدمون مصطلحات لا يفهمها الجميع حتى مع معرفتهم بذلك.
  • يحتكرون المهام السهلة لأنفسهم بينما يتركون الصعبة للآخرين.
  • لا يستمعون.
  • لا يهتمون بالآخرين.
  • يستخدمون هواتفهم والرسائل الإلكترونية أثناء الاجتماعات.
  • لا يظهرون الامتنان لمساهمة الآخرين في العمل ويجدونها أمر مفروغ منه.
  • يحقرون من الآخرين بصورة غير لفظية.
  • يتجاهلون الشكر وتقديم الأوامر بلطف.

ما يمكنني اكتشافه من هذه المجموعة من السلوكيات هي أننا أحيانا وحتى دون انتباه منّا نفعل ما نجده مؤذيًا من الآخرين. العجلة والضغوط والرغبة بالظهور بأفضل صورة ممكنة قد تشوش التفكير وتدفع الأفراد لتجاهل الآخرين والصعود عليهم. سيكون مكان العمل أكثر صحة وفاعلية لو ركّزنا في المهام بين أيدينا وتجاوزنا رغباتنا الشخصية وأحكامنا.

كيف تنجو في بيئات العمل السامة؟

في أكتوبر الماضي شاركت استطلاع رأي جمعت فيه أسئلة عامّة بإجابات مفتوحة. فكرت في مشاركة هذه الأسئلة بعد تجارب شخصية عبرتها بصعوبة واتخذت بعدها قرارات أثرت على مساري المهني. كانت قراراتي تلك الأفضل على الاطلاق مع أنني في تلك اللحظة شعرت بالخوف والتردد والرغبة في ترك كلّ شيء والبقاء ساكنة. كنت على وشك الاستسلام لحقيقة أن بيئات العمل كلها هكذا، وأن هناك مشكلة بداخلي وعليّ التعود والصّبر والسكوت.

تجربتي الشخصية ليست مقياس شامل لكن الإجابات التي وصلتني على استطلاع الرأي الذي نشرته آلمتني كثيرًا وشعرت بالرغبة في مساعدة كل شخص كتب تعليق أو شارك تجربته الصعبة. لكن لمجهولية النموذج لم أتمكن من معرفة الوجهة التي انطلق إليها للمساعدة. هذه التدوينة خطوة باتجاه تقديم أفكار أو توجيهات قد تساعد وتدعم من يعانون من بيئة عمل سامّة. تساعدهم في اكتشاف وجهتهم التالية، أو صناعة التغيير في أنفسهم ومكان عملهم، أو لتربت على أكتافهم وتقول لهم: نعم أعرف وأصدّق.

بعد اكتشاف المشكلة والتحقّق من أنّ ما تراه ليست مرحلة عابرة أو سلوك فردي بل ثقافة منظمة وشاملة. هذه عدة نصائح مجربة:

  • لا تسمح للسلبية بالانتصار عليك. البقاء في حالة غامرة من اليأس سيمنعك من رؤية الحلول الممكنة.
  • امتنع عن المشاركة في الدراما، ولا تحشد الحلفاء والمتعاطفين لمجرد أنكم تتشاركون النميمة أو الاستياء من موظف أو من البيئة بأكملها. الثرثرة مدمرة في كل الأحوال.
  • تجنب مسببات الانزعاج قدر الإمكان مثل التحقق من بريدك الالكتروني أو الرد على مكالمات العمل بعد انتهاء ساعاته أو خلال عطلة نهاية الأسبوع.
  • دافع عن نفسك وفكر دائما في طرق مبتكرة لتغيير البيئة من حولك.
  • لا تنسى توثيق كل شيء! وثق المراسلات ومهام العمل وأي شيء قد تحتاجه مستقبلًا في دعم مسيرتك المهنية وتفادي المشكلات.
  • ابحث عن متنفس شخصي لتشعر بالإنجاز والأهمية بعيدًا عن وظيفتك، ما هي الهوايات التي تحبّها؟ ما الذي يمكنك الانخراط فيه اليوم ويحسّن من جودة حياتك بشكل ملحوظ؟
  • استخدم الوقت للبحث واكتشاف فرص مهنية أخرى ولا تتردد في طلب الاستشارة ممن تثق به.
  • تعلّم مهارات الحوار والاقناع والحزم لتدعم نفسك في المواقف الصعبة.
  • اصنع مساحة عمل إيجابية حتى لو كان الأمر صعب في البداية، حاول وابدأ بالتخيل حتى تصل لمرحلة تهدأ بها نفسك وترضى.
  • ابحث عن الدعم في دائرتك المقربة مع التفكير جديًا في العمل مع مدرب أو مرشد مهنيّ يساعدك في تجاوز هذا الوقت.
  • استعد لوظيفة أفضل بتقييم مهاراتك وإعداد سيرتك ومشاركتها مع المهتمين.
  • انتبه لرسائلك الداخلية. ماذا تقول لنفسك عن نفسك؟ نحن نميل إلى القسوة على أنفسنا أحيانًا ولكن توجيه الرسائل وإعادة صياغتها لتحمل نبرة الدعم والاهتمام له أثر لا يُصدّق.
  • وأخيرا، وهذا الأهم في نظري: أنتَ لستَ وظيفتك! فكّر في الحياة بمفهومها الواسع. كيف تريد أن تعيش؟ ما هي قيمك؟ ما هي طموحاتك؟ ماذا سيحدث بعد سنوات من الآن بعد أن تترك الوظيفة وتنتقل لأخرى؟ هذه الأسئلة مهمة.

حاولت في هذه التدوينة الدمج بين المعلومات التي جمعتها من القراءة والاطلاع على المصادر في الموضوع، بالإضافة إلى تجاربكم، وتجربتي الشخصية. ما زلنا بحاجة لمزيد من العمل والتوعية لصناعة تغيير ملموس وهذا ما سنصله بالمزيد من القصص والتوجيهات. وسأكون سعيدة بمشاركتكم في التعليقات.

.

.

.Photo via Shorpy

السبت – ٢٠ نوفمبر

خلال الأسبوع الماضي مررت بقراءات مختلفة ويبدو أن الثيمة العامة لها: كيف أعود للتدوين بنفس الحماس ويكون المحتوى متدفقًا وممتعًا لي وللقارئ. لم أتعمد البحث بهذه العبارة لكنها أصبحت الحبل السرّي الذي جمع بين كل المقتطفات.

دفتر كلّ شيء

إذا كانت لدي عادة لم أتركها طوال السنوات التي قضيتها في التدوين وما قبله ستكون: دفتر كلّ شيء! هذا الدفتر الذي أحمل نسخه المتعددة أينما ذهبت:

  • في حقيبة العمل مذكرة بغلاف مقوى وقلم مشدود إليها.
  • على مكتبي مذكرة جلدية قابلة لإعادة الاستخدام والتعبئة بكراسات صفحاتها منقطة. أحب الكتابة وتدوين الملاحظات فيها لكن الكتابة تتحول فجأة لرسم المكعبات وتوصيل النقاط.
  • في حقيبة كلّ يوم دفتر ملاحظات حصلت على نسختين منه في فندق بنيويورك. صفحاته لا تكفي لتسجيل كل أفكاري لكن ارتباطه بذكرى رحلتي يبقيه قريبًا.

في نهاية كلّ شهر أو عدة أسابيع أعود لهذه الدفاتر واتصفحها والتقط ما أجده مهمًا فيها. أحيانا تبدو الأفكار سخيفة أو متقطعة أو غير ناضجة فاتركها ورائي. وأحيان أخرى تصبح هذه الأفكار بذرة لتدوينة أو مقال أو ورشة عمل! بدأت الأسبوع بورشة عمل خاصة حول البدء بالتدوين واستخدام منصة LinkedIn لم يسبق وأن قدمت ورشة على إطار ضيق كهذا لذلك كانت التجربة مختلفة. حددت المحاور والمحتوى على أساس احتياج الحاضرات واختصرت قدر الإمكان لتقديم كلّ ما أعرفه حول الموضوع خلال ثلاث ساعات.

كلّ مرة أقدم ورشة عن التدوين والمدونات يغمرني شعور الحماس والاستعداد للانطلاق والكتابة عن كلّ شيء. صادف اليوم نفسه إتمام مدونتي ١٤ عامًا منذ نشرت التدوينة الأولى فيها. أعدت التدوينة تلك من الأرشيف وما حدث أن مشتركي المدونة تلقوا رسالة بريدية بنشر تدوينة جديدة. بعد قراءتها وقراءة تاريخ النشر الأصلي والأسلوب فيها تأكدوا أنها ليست جديدة تمامًا.

العودة للتدوين

عندما استخدم عبارة البحث «العودة للتدوين» في مدونتي يظهر لي صفحتين من النتائج المتنوعة. القاسم المشترك بينها أنّ الحماس يأتي على شكل مدّ وجزر. أعود وأكتب باتباع أسلوب مختلف لتعزيز قدرتي واستمراري في الكتابة. غالبا هذا ما ينجح معي:

  • العمل على البحث وإعداد المحتوى لفترات ممتدة وترك مرحلة الكتابة الفعلية لوقت متأخر وخلال ذلك أعمل على فرز الأفكار والمحاور لاحتفظ بأهمها.
  • تحديد أهداف نشر أسبوعية (في فترات أفكر في تدوينتين أسبوعيا كرقم قياسي أطمح له).
  • تجهيز المسودات نهاية الأسبوع وترك النشر خلال أيام الأسبوع اللاحقة (تحرير، نشر، متابعة).
  • تخصيص نهاية الأسبوع للكتابة العميقة بلا انقطاع فلا مواعيد اجتماعات مفاجئة أو مهامّ تشتتني خلال يوم السبت مثلا (تقريبا ٧ ساعات من وقت الاستيقاظ لمساء السبت).
  • التحرر من فكرة التدوينة المثالية، لن تحصد كل التدوينات قراءات وتعليقات مثل غيرها. كل فترة هناك تدوينة مميزة وتصل لجمهورها المستهدف. شخصيا في هذه الفترة الهدف من التدوين هو الاستمرار والكتابة كطريقة لمشاركة التجارب والتخفف.
  • مصادر أخرى للبحث عن أفكار أعجبتني: مفضلة يوتوب، دفتر كلّ شيء، الصور المحفوظة في انستقرام، تغريدات بها أسئلة أو تفاعلت مع فكرة نشرتها.
  • الانطلاق في الكتابة عن أي شيء من تجربة شخصية، ومن ثمّ ملء الفراغ بالبحث والاطلاع على وجهات النظر والمصادر الأخرى.
  • اتخيل نفسي أسرد قصة على مستمع. يساعدني ذلك في تنظيم تسلسل الأفكار وبناء الانتقالات السلسة بينها.
  • اكتب بلا تنقيح في مسودة طويلة (أعود إليها أحيانًا للاختصار والتعديل – ليس دائمًا لأني أحب منظر الحشائش البرية غير المقلمة في مدونتي).
  • عندما تتوقف خبرتي في نقطة معيّنة أرشد القارئ بروابط خارجية.

الكتابة عن هذا الموضوع ذكرني بتدوينة جميلة نشرتها الصديقة مها البشر في مدونتها عصرونية، يمكنكم التعرف من خلالها على الكتب التي ساعدتها في إنشاء مدونة والاستمرار بالكتابة فيها. قد تبدو الأفكار أعلاه جيدة وفكرة الالتزام بها كبرنامج إبداعي مفيدة لي كمدونة، لكن ماذا لو لم يكن لدي الوقت أو المزاج أو الأفكار الصالحة؟ تذكرت هنري ميلر ووصاياه الإبداعية عندما أكّد على تجاهل البرنامج إذا شعرت برغبة في ذلك، ولكنه أوصى بالعودة إليه في اليوم التالي: ركّز، اختزل، واستبعد.

photo by David Seymour

.

.

.

السبت – ١٣ نوفمبر

وجدت على مكتبي صباح اليوم عدة أوراق من دفتر ملاحظات تحمل عنوان فندق زرته الشهر الماضي. كتبت في رأسها حصيلة أكتوبر كانت لتكون بذرة تدوينة أنشرها قبل أسبوعين ولم يحدث ذلك. حبسة الكتابة -والتعبير- تزورني مجددًا يبدو أنها مثل عدوى سنوية تأتي في موسم ثابت. صديقتي تقول ربما هذه المشاعر التي يسمونها ب birthday blues أو الحزن المصاحب لأعياد الميلاد. لم أشعر أبدا بالحزن في ذكرى يوم ميلادي حتى في تلك المرات التي حلّ فيها وأنا وحيدة وبعيدة.

هناك شعور بالتباطؤ وأنا اتجه لنهاية العام ما الذي يمكنني فعله في الأيام القليلة القادمة قبل أن تبدأ السنة الجديدة؟ إعادة تهيئة؟ كتابة قائمة أهداف مختلفة؟ أو الجلوس والانتظار؟ قدمت طلب إجازة للتخفف من الأيام الكثيرة التي جمعتها خلال عام الجائحة والتي لا يمكنني ترحيلها للمرة الثانية. تزامنت الاجازة مع بدء دورة للكتابة عن الفنّ أقامتها دار سوذبيز للمزادات بالتعاون مع معهد مسك للفنون في الرياض. كانت خمسة أيام منهكة وممتعة في نفس الوقت تعلمت فيها مزيج من المهارات الجديدة والقديمة لكن أكثر ما أسعدني هو التعرف على مجموعة من المتحمسين للكتابة والفنّ معًا. البعض جمعتني بهم منصات التواصل الاجتماعي أو ورش عمل قدمتها سابقا أو علاقات مهنية مشتركة.

انتهت الدورة يوم الخميس الماضي وحملت معي منا قصص جديدة ونظرة مختلفة. أما الكتابة التي خاصمتني لأسابيع تدفقت تحت ضغط التمرين والمشاركة. عرفتُ أنها نافذتي الوحيدة عندما أقفل كل نوافذ التواصل والاكتشاف وستكون دائمًا الهدية التي أشكر الله عليها كلّ حين.

ماذا عن أوراق الملاحظات التي حملتها معي؟ كتبت فيها نقاط سريعة وتأملات أنشرها هنا بلا تنقيح:

  • الجمعة ٨ أكتوبر، الميلاد والحفلة وحضور فيلم جيمس بوند الجديد وطقم الملابس المريح الذي اقتنيته ليذكرني باليوم. طلبت من أخواتي الكعكة التي أريدها بالتحديد: كعكة ميلاد تشبه كعكات السوبرماركت التي كان والديّ يشتريانها في الثمانينات احتفالًا بنا. أردت احتفالية بسيطة وغرقت في باقات الورود والأمنيات الطيبة والهدايا غير المتوقعة!
  • زرت مكة المكرمة وأديت العمرة في الأسبوع الثالث من أكتوبر. كانت هذه الرحلة برفقة والدتي التي شاركتني الانفصال عن كلّ شيء والتوقف وغسل أرواحنا. سأحتفظ بذكرى هذه الليالي حتى أعود إليها مجددًا. ولن أنسى اللحظة التي وضعت فيها جبيني على سجاد المسجد لتغمرني رائحة الورد وتمدني بالسكينة التي احتجتها لسنوات. قرأ الامام في صلاة المغرب حتى وصل «لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها» ووقعت في قلبي تمامًا.
  • نهاية الشهر زرت المنطقة الشرقية لحضور افتتاح موسم تنوين الذي ينظمه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء». وصلتني دعوة الحضور بصفتي مدونة وحضرت مع مجموعة من العاملين في المجال الإعلامي. يمكنني ملاحظة الاختلاف بين المدارس التي ننتمي إليها. أنا جئت من مدرسة التدوين -إذا كان هناك شيء بهذا الاسم- وأشارك تجاربي وقصصي الشخصية في قالب مختلف جدًا عن الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون والراديو. تعرفت على زميلات جدد وتبادلنا الأحاديث الممتعة خلال ساعات تنقلنا وحضورنا المؤتمر. كانت الرحلة هذه فرصة للقاء الأصدقاء بعد غياب امتد لسنة أو أكثر.

قراءات: انهيت قراءة رواية عمر طاهر «كحل وحبهان» ممتعة ولذيذة جدًا! وقرأت كتاب آخر عن أدب الرواية والكتابة غير الواقعية fiction بشكل عام للمؤلفة Alice McDermott بعنوان: What About the Baby? الكتاب يستعرض تقنيات متنوعة ويطرح أمثلة للتأمل والتحليل.

مشاهدات: وثائقي «دماء على نهر السين – بين فرنسا والجزائر» يحكي قصة أحداث مجزرة باريس عام 1961 التي نفذتها الشرطة الفرنسية ضد مئات المدنيين الجزائريين العزل.

.

.

.

الأربعاء – ٦ أكتوبر

على خدّي الأيمن تتسع رقعة ندبة حمراء، تشبه قرصة لكنني لم اكتشف الكائن الذي تركها على وجهي. لا تثير الحكة أو الانزعاج لكنها تظهر في مدى نظري وانعكاسي في المرآة. توقيت ممتاز لهذه القرصة أو الحبة مجهولة المصدر. تتوسط المسرح الرئيسي للاحتفال بميلادي القادم. «أهلا شكرًا لأمنياتكم الطيبة مني وصديقتي الحمراء هنا».

بدأت أسبوعي بحماس لزيارة المعرض مرة ومرتين وانتهي بي الأمر لإلغاء الزيارة والتمدد في فراشي لساعات حتى يعبر هذا الكسل والتعب. وإصابة ركبتي تهمس لي أنا هنا لا تنسيني. وخيارات المشي الطويل مؤجلة لرحلة قريبة وهكذا في غضون عدة أيام توقفت عن المران وأجلت فكرة معرض الكتاب والخروج من المنزل.

يوم الأحد كان لطيف بحضور الحفلة الموسيقية لعمر خيرت، هذه المرة الأولى لحضور حفلة موسيقية في الرياض. كل الحفلات التي رغبت في حضورها خلال السنوات الماضية تتزامن مع رحلة خارج المدينة، أو وعكة مفاجئة. كانت الموسيقى صندوق ذكريات، موسيقى تصويرية لطفولتي وسنوات مراهقتي الأولى. مقدمات موسيقية لمسلسلات، أفلام قديمة، والموسيقى التي تملأ فواصل الراديو في الظهيرة.

قضيت صباح الأمس بالكامل في الفراش وقطتي تحرسني. قرأت رواية قصيرة «المطر الأصفر» لخوليو ياماثاريس وترجمة د. طلعت شاهين. ذكرتني برواية «حياة كاملة» لروبرت زيتالر. هل الرابط ثيم العزلة والثلج والجبال؟ أو أنني أمر بمشاعر مشابهة لتلك الفترة التي قرأتها بها. لا أعلم. الكاتب يروي حكاية احتضار قرية صغيرة في جبال البرانس الاسبانية وبطريقة أخرى يروي احتضاره. أحببت حديث النفس الطويل هذا والمزيج بين الصحو وهذيان الحمّى. كانت مناسبة جدًا للقراءة في جلسة واحدة.

أعادت القراءة شهيتي للعمل بعد الظهيرة والاستعداد لورشة قدمتها مساء عن صناعة المحتوى الشخصي على المنصات الرقمية. كانت ورشة ممتعة سريعة وخفيفة وأحببت تفاعل الحاضرات واسئلتهم المنعشة. هذا التفاعل يخفف من شعوري بالروتين وتكرار المعارف التي أتقنتها منذ سنوات ويدفعني للتركيز على شيء واحد فقط: نقل المعرفة.

بداية الأسبوع قررت وضع مقترح جديد يساعدني وموضي -أختي- على اتخاذ قرار سريع في المشاهدة المسائية المشتركة. نهاية كل يوم بعد العمل والعشاء نجلس لساعة أو أكثر بقليل لمشاهدة مسلسل أو برامج منوّعة قبل أن تختلي كل واحدة منا بنفسها للقراءة أو النوم.

الدقائق المهدرة وأحيانا الساعات التي نقضيها لنتفق على شيء تجهدنا وتقضم الوقت المتبقي من الليلة. قلت لها ضعي جدولا! كل يوم من الأسبوع نحدد شيء لمشاهدته ونعتمد هذا الجدول كي نقتل الحيرة. نقترب الآن من نهاية الأسبوع والنتائج رائعة. لا أدري لماذا لم نفكر في هذا المقترح من قبل؟ يشبه الأمر تحضير جدول الوجبات أو إعداد الطعام وتحضيره لأيام الأسبوع.

أشياء طيبة لهذا اليوم

  • أنهيت عدة مهام عالقة هذا الصباح بسرعة فائقة والكثير من الصبر.
  • أفكر في اصطحاب نفسي للغداء يوم غد، والاحتفال بميلادي باكرًا لكن لن أقرر حتى أعرف قدرتي على ذلك.

Painting by Ramon Casas

.

.

السبت – ٢٥ سبتمبر

استيقظت يوم أمس وقطّتي نائمة على حافة السرير، منكفئة على نفسها وذراعها الصغيرة حول رأسها وعينيها تحديدًا. المنظر أثار حيرتي: من ينام مثل الآخر أنا أم هي؟ كنت في الجهة المعاكسة وذراعي حول رأسي في حركة عفوية أجد نفسي عليها كلما اشتد ضوء الشمس. غرفتي بلا ستارة! وغطاء العينين يشعرني بأنني أغرق. أحد الأشياء التي أجلتها طويلًا تركيب هذه الستارة. في البدء قلت لنفسي: هذا رائع سأصحو مع الشمس. وبحثت لاحقًا لأجد أن الهولنديين مثلا لا يفضلون وجود الستائر إما لرغبتهم في رؤية العالم الخارجي بلا حواجز أو لأنهم لا يخفون شيئا.

أشعر بأن هذه أسطوانة مكررة كتبتها في تدوينة سابقة عن «الحياة بلا ستائر». لكن القصة التي توقفت عندها فعلا هي اللحظة التي تعلمت أن الانسان يمكنه النوم بهذه الطريقة. شاهدت عمتي رحمها الله ذات قيلولة تنام هكذا. والدي أحيانا يفعلها، جدتي، وأمي. كانت ذراعي صغيرة وغير متزنة لم تمكنني من اتقان هذه الغفوة اللذيذة.

حاولت إجبار نفسي على النوم لوقتٍ أطول والاستفادة من نهار الجمعة الطويل لكن التاسعة صباحًا دفعتني لمغادرة فراشي وبدء اليوم. قضيت عدة ساعات في القراءة والاستماع لحلقات البودكاست المؤجلة.

ومن ضمن القائمة وقفت عند مقال ممتع وغنيّ عن «الانتظار الجيّد». يُفتتح المقال بقصة طريفة عن الانتظار. اشتهرت هذه القصة بين المهندسين المعماريين والمصممين الحضريين وكانت تدور حول توقّف الناس عن الشكوى من انتظار المصاعد في ناطحات السحاب النيويوركية. يعود أصل القصة إلى طفرة البناء التي شهدتها المدينة بعد الحرب العالمية الثانية والزيادة الواضحة في عدد ناطحات السحاب.

طلب أحد مدراء المباني مساعدة المهندسين الميكانيكيين وشركات المصاعد لمساعدته في حلّ مشكلة يواجهها الناس يوميًا: بطء المصاعد وطول فترة انتظارهم. بعد دراسة للمشكلة اتضح أنها غير قابلة للحل. وصادف أن أحد العلماء المختصين بعلم النفس كان يعمل في نفس المبنى. وحسب الرواية الواردة عن القصة أنه توصل للحل ليس من خلال تحسين أداء المصعد بل بالتركيز على الأشخاص وغضبهم من فترة انتظار قصيرة نسبيًا.

توصل العالِم أن الغضب ولد من الضجر. وعليه وبعد موافقة مدير المبنى وضع مرايا حول منطقة انتظار المصعد ليتمكن المنتظرون من النظر إلى أنفسهم والآخرين. وهكذا، أصبح الانتظار مثيرًا للاهتمام. وتوقفت الشكوى فورًا وذهب الناس لأبعد من ذلك ليشكروا العاملين في المبنى على تحسين سرعة المصعد.

يشاركنا البروفيسور جايسن فارمان -كاتب المقال- عدة حلول للتعامل مع الانتظار وتسخيره لصالحنا. لقد أحببت بنية المقال إذ بعد تفصيل وتوضيح يعود لجمع النقاط الرئيسية والتي أشارككم هنا ترجمة سريعة بتصرّف:

  • حوّل طاقتك العاطفية خلال الانتظار لمحاولة فهم من يستفيد من هذا الوقت. ومن خلال هذا التفكير ستكتشف أسباب انتظارك وما يمكنك فعله حيالها.
  • يمكن لفترات الانتظار أن ترشدنا إلى آمالنا على الجهة الأخرى من الانتظار. استغل هذا الوقت لتتعلم أكثر عن نفسك وما تأمل أن يجلبه المستقبل.
  • يمكن أن تفهم أوقات الانتظار بأنها نقيض أوقات الإنتاج. ولكن، بدلا من ذلك حاول أن تفهم أن أوقات الانتظار يمكن أن تفتح طرق جديدة للإنتاجية وحل المشكلات بطريقة إبداعية والتي لم تكن ستصل إليها لولا جلوسك منتظرًا.
  • أوقات الانتظار ليست مرحلة بين وقتين، بل لحظات تتيح لنا أن نكون مبدعين لنبتكر مستقبل جديدة.
  • أوقات الانتظار في ظل جائحة مثلا، فرصة للاستثمار في الأشخاص من حولنا ويمكننا أن نبني التعاطف مع الآخرين خلالها.

أكتب هذه التدوينة وأفكر في بريد منتظر فيه كتب وقرطاسية. أفكر في ليلة البارحة الممتعة التي قضيتها مع عائلتي الممتدة. صوت الأطفال وصخبنا المحبب، رأسي ما زال ثقيلا بجرعات الكافيين المتأخرة والبخور والكثير من الرقص!

كيف كانت نهاية أسبوعكم؟

.

.

.اللوحة للرسامة Razumovskaya Julia Vasilievna