٦ | أن تحمل بيتك معك

سكنت ثمانية بيوت قبل أن أبلغ العشرين من العمر. تغيب هذه الفكرة عن ذهني كثيرًا لأعود واستعيدها كلّما وجدت نفسي اقترب من منعطف تغيير أو أيّ موقف آخر يتطلّب مرونة مضاعفة – حتى لو كان تعلّم مهارة جديدة أو الاستيقاظ مبكرة عدة ساعات! كان كلّ انتقال في صغري بمثابة مغامرة جديدة، تبدأ من زيارة المنزل الجديد لأول مرّة والركض بين غرفه واختيار غرفتي الجديدة. شعور السجاد المغسول حديثًا وطراوته، رائحة الجِدّة في المكان: هذه لوحتك الخالية من أي خطوط والآن عليكِ رسمها. هذا التحول كان تحديًا يتطلب التأقلم السريع. وهكذا طوّرت عادة صغيرة لكّنها ثمينة: فور وصولي لمسكني الجديد، أبدأ بصناعة مساحتي الشخصية المحببة والدافئة. كتبي وملابسي وأقلامي ودفاتري. وفي الحديقة اختار شجرة مفضلة وربّما ابحث عن التفاصيل الخفية في المكان كأخطاء الطّلاء أو تفاوت ارتفاع مقابس الكهرباء. كلما امتدّت قائمتي بعناصرها كلما هدأت نفسي وشعرت بأني الآن في بيتي. لم يقتصر الانتقال على المنازل، بل شمل المدارس والصديقات. في كلّ مرة، كنت أجد نفسي أمام ضرورة ملحّة لزراعة جذوري من جديد، ابحث عن مكاني في الصفّ، وساحة المدرسة، واستكشف زميلات الدراسة وأنسج لهنّ قصصًا في رأسي لأحدد أيهنّ أصلح للصداقة. هنا أيضا طوّرت مهارة ثمينة: القدرة على التأقلم السريع وبناء العلاقات، حتى وإن كانت البداية مبهمة أو مقلقة.

مع تقدّمي في العمر، تحوّل الأمر لشيءٍ أكثر تعقيدًا. لم يعد مرتبطا فقط بالبيوت أو المدارس، بل طال أماكن العمل والعلاقات. أصبحت أعي أن الوصول لمكان جديد لا يعني الانتظار ليصبح مألوفًا، ولم تعد خطوات ترتيب المكتب أو إضافة الأغراض والاكسسوارات تساعدني في الاندماج. احتجت لإيجاد شكلٍ آخر من بناء «المساحة الدافئة» وهذه المرّة في عالم الكبار. كانت مرّة إيجاد الاهتمامات المشتركة مع زملائي الجدد، أو البحث داخل الجهات عن هوايات جديدة، أو الاستفادة من خبراتي الطويلة بنقل المعرفة للزملاء الأصغر سنًا.

مع كلّ ذلك، لا يمكنني إنكار هذا الجهد المضني. أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا دون أن تحصل على نتيجة مرضية في بعض الأحيان. مهما حاولت تكون التربة ميتة مسبقًا، لا يمكن مدّ الجذور فيها أو النمو. هذا محبط. وأبدأ بالتساؤل: أين يكمن الخلل؟ هل هو في طريقة اقترابي من الأشياء؟ والناس؟ أم أن هناك أماكنًا وأناسًا لا يمكن التكيّف معهم مهما حاولنا؟ هذه التساؤلات قد لا تجد إجابة سريعة، لكنّها جزء من الاكتشاف.

كتبت ذات مرة عن البيت الذي «نحمله بداخلنا». تلك المرساة الداخلية التي تضمن لنا التوازن حتى في أكثر الأماكن غرابة ووحشة. هذا المفهوم يمنحني عزاءً كبيرًا، لأنه يعني أنني لن أحتاج دائمًا لمكان ثابت كي أشعر بالسكينة والانتماء. يمكنني خلق هذا الإحساس أينما كنت. عندما ينبع الأمان والطمأنينة من الداخل، يصبح الانتقال إلى أماكن جديدة أو خوض تجارب مختلفة أقلّ إرهاقًا وأكثر متعة. حالة من الاتزان والثقة تجعل أي مكان جديد فرصة للنمو والاكتشاف بدلاً من كونه مصدرًا للقلق أو التحدي.

مع هذا المِران، أصبحت اتعرف بسهولة على الأشخاص الذين يعانون في فترات التغيير والانتقال. أستطيع تحديدهم بسهولة في غرفة ملأى بالناس. أراها في طريقة حديثهم، في ترددهم قبل التفاعل مع الأحداث الجديدة، وفي محاولاتهم المستمرّة للإمساك باللحظات الماضية، وانغماسهم في المقارنة والتحليل. أفهمهم جيدًا لأنني في صراعهم ذاته، أنا واحدة منهم، أبحث عن طريقة مثالية لأجد بيتي في كلّ مكان، لأحمل بيتي معي.

.

.

.

Painting by Amanda Blake

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.