روما: الغرق في الفنّ والجمال

بدأت كتابة التدوينة والمنزل يجفّف نفسه من الماء.

أودّ تقديم التفاصيل حول الموضوع: استيقظنا فجر يوم الرابع من نوفمبر والدور الأرضي يغرق في بوصات من الماء. يبدو أن أنبوبًا رئيسيا فُتح في سقف المطبخ وتدفقت المياه لساعات أو أقلّ، لا يمكننا الجزم عمومًا. أنا وحبّي الشديد للرمزيات، شعرت أن تدفق الماء مصاحب لتدفق الكلمات في رأسي وأنّ الوقت حان لكتابة الجزء التالي لتدوينة روما. هذه المرّة عن الجولات الفنيّة الساحرة! عن المشاعر الغامرة التي أحاطت بي في كلّ زيارة لمعرض أو متحف. وكل ما أفكر فيه: الجودة والاتقان والحبّ الشديد لما صنعه الحرفيّ والفنان.   

الحديث عن الجولات الفنيّة في روما والتي اخترتها بعشوائية يشبه محاولة استعادة حلم. في هاتفي المئات من الصور، لوحات ومنحوتات ونقوش والتقاطات للأرضيات! كلّ شيء كان في عيني لوحة جميلة. ولكن ولأجل ترتيب هذه الذاكرة وتنظيمها في تدوينة سأحكي عن كلّ زيارة في فقرة مختلفة.

.

 

في ضيافة دوريا بامفيلي

 

في خطة ذهنية لزيارة روما تصوّرت أن يكون اليوم الأول لفيلا بورغيزي مثلا، أو متاحف الفاتيكان. لكنّ هذا القصر التاريخي الذي تحوّل لاحقًا إلى معرض فنّي كان زاويتي الهادئة التي بدأت بها جولاتي. وكان هادئًا بالفعل في الصباح الباكر فقد وصلت ووالدتي مع المجموعات الصغيرة الأولى للمكان.

يقع معرض دوريا بامفيلي في قلب روما ويروي قصص الفنّ والصمود والإرث الذي امتلكته أسرة بامفيلي إحدى الأسر الأكثر نفوذًا في روما. أما المجموعة الفنية التي يحتضنها القصر فقد بدأت الأسرة في جمعها في القرن السابع عشر الميلادي. وهذا القصر يعود إلى أواخر عصر النهضة، واحتفظ ببهائه على ما يبدو حتى اليوم.

أحببت تداخل تاريخ المجموعة الفنية مع تاريخ الأسرة وانعكاس نفوذها وثروتها على كلّ ركن من أركان القصر. لا أدري من أين أبدأ هنا؟ هل هو المعمار “الأعجوبة” أو السقوف المزينة بإتقان أو المرايا واللوحات التي جسدت البذخ الفنّي. وأثناء التجوّل حول المكان يدرك الزائر أنه يتجول في منزل عائلي ضخم لم يصمم ليكون معرضًا فنيا. وهذه هي المشاعر التي تنتابني دومًا عند زيارة المنازل أو القصور التاريخية. لم أشعر بأني في جولة فنيّة أو فرجة. هناك حميمية دافئة لتخيّل أسرة ارستقراطية تعيش مع كنوزها.

تضم المجموعة أهم الأعمال الفنيّة من عصري النهضة والباروك. هنا فيلاسكيز، وكارفاجيو -سيكون تتبع أعماله شريطًا رقيقًا يجمع أجزاء جولتي الأوروبية. ورافاييل وتينتوريتو وبيرنيني. روعة ممتدة تعكس تطوّر الفنّ الإيطالي والأوروبي بشكل عام.

 لا يمكن النظر لهذه المجموعة الفنيّة وتجاهل الدور الذي لعبته الأسرة وتفانيها في المحافظة على الثقافة الإيطالية. كل لوحة ومنحوتة لها قصة اقتناء وعناية، كل منها تركت بصمة على الحياة الاجتماعية والسياسية في روما. وعلى مرّ القرون حافظت الأسرة على القصر والمعروضات سليمة، وسمحت لنا برعايتها هذه بالاستمتاع بها للأبد. والمعلومة المثيرة للاهتمام أنّ الأسرة ما زالت تملك المعرض، ويشارك أحفادها في صيانته والعناية به مما يضمن استمرارية هذا الجسر بين ماضي روما وحاضرها للأجيال القادمة. هذا التاريخ الحيّ الذي لمسته بنفسي، كان أجمل بداية لرحلتي في روما.

تركنا القصر وتجولنا قليلًا في المنطقة لتستوقفني لوحات الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو على لافتات في الشارع. تبعت اللوحات لأصل إلى قصر بونابرت (سميّ القصر على والدة الامبراطور الفرنسي) والذي أصبح معرضًا فنيًا. يبدو أننا وجدنا الكنز! وأشارت والدتي علي لندخل، لكن التذاكر بيعت بالكامل لهذا اليوم وطابور ممتد حول المباني ينتظر الدخول. ما وجدناه في تلك اللحظة كان المعرض الأكبر لفرناندو بوتيرو في روما. اشتريت التذكرة عبر الموقع وامتلأت حماسًا لزيارته في الغدّ.

استعادة بوتيرو

تعرفت على فرناندو بوتيرو قبل حوالي ١٥ سنة. كانت إحدى لوحاته غلافًا لمجموعة القصص القصيرة الكاملة لغابرييل غارسيا ماركيز. اختارت دار المدى لوحة «بورتريه رسمي للمجلس العسكري- Official Portrait of the Military Junta» لتكون غلافًا للمجموعة. ومنها بدأت البحث والتعرّف على الفنان الكولومبي. يمكن التعرف بسهولة على أعمال بوتيرو لأنه اختار تصوير البشر بأجساد ممتلئة بالألوان والحياة. لوحاته ومنحوتاته لها هذا الطابع الخاصّ الذي أطلق عليه مسمّى «البوتيريه أو Boterismo» والذي ركز فيه على تصوير الأجساد بشكل مبالغ فيه. تصوّر بوتيرو الشكل البشري بما يتناقض مع معايير الجمال المعاصرة. وهو لم يفعل ذلك مع البشر وحسب، حتى الحيوانات في عالمه ضخمة ومستديرة.

ارتديت ذلك النهار فستانًا برتقاليًا فاقعًا احتفالا بالفنان الكولومبي وبدأت جولة ساحرة مع والدتي تعرفنا فيها عن قرب على أكثر من ١٢٠ عملٍ فنيّ. تنوعت اللوحات بين الألوان المائية ورسومات الفحم والمنحوتات التي استعرضت مسيرة الفنان ومساهمته في الفنّ المعاصر. بالإضافة لأعماله الشهيرة، ضم المعرض أعماله الأخيرة التي نفذها قبل وفاته في سبتمبر ٢٠٢٣، وأعمالًا أخرى لم تُعرض من قبل.

مررت بعبارة أتفق معها كثيرًا: كان بوتيرو رسال حبّ إلى أمريكا اللاتينية. بوتيرو شاعر بصريّ بامتياز، اقتبس عن قارّته الأمّ ألوانها ومشاهد الحياة فيها. مزيج من التناقضات والتناغم هذا ما تفكر به عندما تمر على أعماله الفنية.

استوقفتني والدتي في إحدى زوايا المعرض لتلتقط صورة للذكرى. كانت الخلفية لوحة ضخمة لمشهد صامت: برتقال وليمون، كان اختيار لون فستان اليوم مثالي!

شخصيات بوتيرو تذكرك بالاحتفال بالحياة. ممتلئة جريئة لا تشتكي من تردد أو خجل من أشكالها، وتدعونا للتفكير بطريقة غير تقليدية. تنظر إليّ، تلهمني وتعيد ثقتي في صورتي المنعكسة أمامي.

استخدام بوتيرو للألوان، وخاصة في لوحاته، أمرٌ يستحق التأمل. درجات الألوان العميقة والغنية تضفي على كل قطعة دفئًا ومرحًا. الأحمر الدافئ، الأزرق العميق، والأخضر الزاهي تخلق مشهدًا يُحس، وليس فقط يُشاهد. وعلى هذا المشهد علّقت والدتي بأن نظرتها لاختيار الألوان في أعمالها وتوليفها مع بعض ستتغير بعد بوتيرو، والتقطت الكثير من الصور لأعماله.

ذكّرني معرض بوتيرو بأن الفن ليس دائمًا بحاجة إلى الجدية والواقعية ليحمل عمقًا. ففنّه، رغم طابعه المرح والمبتهج أحيانًا، يلامس جوانب أساسية من الحياة — الفرح، الحزن، الحب، وتقبّل الذات. مع التأمل في فنه، شعرت بتقدير عميق لرسالته: أنّ الجمال لا يعني بالضرورة التكيف مع تعريفات ضيقة، بل يرتبط باحتضان الحياة بكل تنوّعها.

كيف تحتفل بميلادك في يوم مطير؟

استيقظت صباح الثامن من أكتوبر بلا خطّة أو وجهة معينة. تناولت الإفطار مع والدتي في الفندق واقترحت أن نخرج للمشي حول منطقتنا ونستكشف المحلات ونتسوق قليلًا. كانت النشرة الجوية حذرت من عاصفة ممطرة حول منتصف اليوم. لكن الجوّ في الخارج مشمس والسماء ترتدي زُرقة مميزة.

خلال عدة ساعات علقنا في المطر وركضنا بمظلة شبه مكسورة لنعود للفندق. جلست متململة. أفكر في الساعات المهدورة الآن وكيف سأذكرها في المنزل بعد أسبوعين أو ثلاثة من الآن؟ بحثت سريعًا في قائمة مفضلات روما التي جمعتها منذ سنوات ووجدت قصر باربيريني أحدها. معرض فنّي وتحفة معمارية أخرى تنتظر الاكتشاف. اشتريت تذكرة لفترة ما بعد العصر وأعلنت لوالدتي: فتاة الميلاد ستخرج في موعد مع نفسها!

يقع قصر باربيريني في قلب روما، وهو أحد القصور الباروكية البارزة في المدينة. بدأ بناء القصر بطلب من أسرة باربيريني عام 1625 واستمر العمل عليه حتى 1633. والأسرة من الأسر ذات النفوذ الكبير في روما خلال القرن السابع عشر. كان الراعي الأساسي للمشروع هو الكاردينال ماتيو باربيريني، الذي أصبح لاحقًا البابا أوربان الثامن، وهو أحد الشخصيات المحورية في تاريخ الفاتيكان.

 شارك في تصميم القصر ثلاثة من أشهر المهندسين المعماريين في تلك الحقبة. أولهم كارلو ماديرنو الذي وضع الأساس الأولي للتصميم، واعتمد على الطراز الباروكي الذي يجمع بين المساحات الواسعة والتفاصيل الزخرفية. والثاني فرانشيسكو بوروميني الذي أكمل العديد من أجزاء القصر بما فيها الدرج الحلزوني المميز الذي يعدّ تحفة فنية قائمة بذاتها. والثالث والأخير والمفضل لديّ جيان لورينزو برنيني الفنّان الشامل الذي أنهى العمل على تصميم واجهة القصر.

كان قصر باربيريني في البداية مقرًا لإقامة الأسرة. وبعد قرون، تحوّل القصر إلى معرض الفن الوطني القديم (Galleria Nazionale d’Arte Antica) في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح مقرًا لمجموعة رائعة من اللوحات والمنحوتات.

عبرت حديقة القصر لأصل إلى المدخل الرئيسي مرورًا بالمتجر الظريف. تركت مظلتي في خزانة صغيرة وانطلقت باتجاه الصالة الأولى. في القاعات الأولى للقصر تكتشف لمَ تخصص بالفن القديم. لم تكن لوحات القرن الثالث عشر والرابع عشر وجهتي وهذا يتضح من سرعة خطواتي بين القاعات. أفكر في المزيد من لوحات كارفاجيو، ولوحة بورتريه هنري الثامن لهولباين وسقف القاعة الكبرى لبيترو دا كورتونا. تناهى لسمعي صوت مجموعة من الطلاب في زيارة للمكان مع أستاذهم. حينها قررت التعجّل في الصعود لقاعة اللوحات الرئيسية لاستمتع برؤيتها قبل وصولهم. في كلّ قاعة دخلتها كان بصري يتنقل بحماس بين الأرضيات واللوحات والسقوف، لا يوجد مساحة خالية تمامًا من الفنّ. كل التفاتة لبصرك ستنقلك لبعد مختلف.

كان هناك شيء مسلٍّ في تسارع خطواتي وأنا انتقل من غرفة لأخرى، بينما أودع مكانًا يدخل الطلاب إليه بعدي وهكذا. سباق لطيف من أجل لحظة عزلة في حضرة كنوز عصر النهضة. وبعض الزوايا التي غفلت عنها أعينهم كنت أقضي فيها وقتًا مطولا للقراءة والتصوير والتذكر. لكننا التقينا أخيرًا في القاعة الرئيسية الكبرى حيث طلب منهم أستاذهم الجلوس على الأرض وتأمل السقف المذهل برموزه الفنيّة والسياسية. يصادفكم في القصر رمز النحلة، في النقوش والزخارف وعلى السقوف وفي المنتجات التذكارية المباعة في المتجر.

انقشعت الغيوم والجوّ القاتم تدريجيًا وفي نفس الوقت شارفت جولتي على الانتهاء. مررت بالمتجر وكما فعلت في كلّ الزيارات ابتعت كتابًا يلخص المعروضات وتفاصيل البناء والمعمار وحقيبة قماشية لحمل كل هذا. كان القصر ملاذًا مؤقتًا بعيدًا عن الشوارع الغارقة في المطر، وشعرت بسعادةٍ غامرة لاختياري هذا المكان وعفوية الخطة التي أضافت بعدًا جديدًا لرحلتي.

إذا كان لهذه الرحلة من سِمة أساسية ستكون أنا، أتبع كارفاجيو وضوءه وظلاله، ومنحوتات بيرنيني، وتاريخ عصر النهضة بين شوارع روما وأروقة متاحِفها.

في الحلقة القادمة من السلسلة سأشارككم رحلتي لفيلا بورغيزي ووداع روما وقائمة مفضلّات الرحلة.  

تعليق واحد على “روما: الغرق في الفنّ والجمال”

  1. لا أرتوي من قراءة تدويناتك هيفاء الجميلة, أسلوبك المتبع في السفر و التلذذ بكل بلد بطريقة خاصة يجعلني أرغب في زيارة كل مكان تحدثت عنه.
    شكرا مجددا و دائما على مشاركتنا هذا الجمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.