على كفي الأيمن أثر يتلاشى لتحليل دمّ. في كلّ مرة أزور المستشفى لفحص طبّي أو مراجعة وتحتاج مني دمّ أدخل في نقاش سريع مع الممرضات: لن تجدي مكانًا على ذراعي، وتصرّ وتؤكد بأنها أفضل من الممرضة التي سبقتها. وأقول لها هنا على ظاهر كفي الأيمن أفضل مكان. تستغرب وتقول بأنه مؤلم وصعب. وأعيد من جديد قبل أن تبدأ بثقب ذراعيّ والضغط بحماس. تتأفف بعد عدة دقائق وترضخ أخيرًا، وتعدّ كفي لسحب الدمّ. ننتهي سريعًا وأخرج. على ظاهر كفي الأيمن أثر تحاليل دمّ متباعدة أصبح مثل شامة بلون فاتح. “هذا هو التحليل الطبي الوظيفي الأخير.” صرّحت لعائلتي. هذه المرّة ستكون وظيفة لوقتٍ طويل. سأحارب كل شياطيني وأتمسك بها لأنّ الأوضاع حولي غير مستقرة، ولأن الوقت قد حان لأجدها.
نهاية العام الماضي شهدت زلازل عنيفة على المستوى الشخصي، الكثير من الخطط والآمال تهاوت وأنا أنظر لها بهدوء وإيمان مستقر وغريب. لم أخطط لأيّ من هذا. وأشعر في لحظات كثيرة بأنني استيقظت في جسدٍ آخر، وقصة أخرى. لكنني ملزمة بتعلم أبجديات هذه الحياة من جديد. كل ما تعودته وحرصت على التمسك به أثبت في مواضع عدة هشاشته. وأنا أريد الوقوف على أرضٍ صلبة.
على كفّي الأيمن أثر خفيف لتحليل الدمّ الذي أجريته في فبراير قبل الانطلاق في وظيفة جديدة. تركتُ ورائي ست سنوات من العمل في صناعة المحتوى والتسويق. هذه الخبرة والمعارف التي التهمتها بنهم خبت شمعتها تدريجيًا بداخلي. وبدأت أبحث عن نافذة جديدة. شيء يمكنني العمل عليه بخبرتي هذه، بالأدوات التي أملكها، والآن أنا في مجال البحث وجمع المعلومات. أكتب وأقرأ واترجم، وأقضي ساعات طويلة من يومي في قراءة مئات السطور. اتحقق من معلومة ما، وأبني ملفات عن شخصيات وأماكن وأشخاص. لقد كانت هذه مهارتي الأولى، وسلواي، ومدخل للصداقات والعلاقات والتأثير.
اكتب هذه التدوينة لأخفف عن نفسي الغثيان الذي يلازمني منذ أيام، أجاهد نفسي بالكتابة وأدون أحداث الحياة حولي. أخفف عن قلبي القلق والتفكير بإخوتي خلف المحيط، أركز على ضوء غرفتي الرمادي والنهار الذي يبتعد تدريجيًا. رائحة شمعة البرتقال والعنبر.وذاكرة صيفيات بعيدة تزورني.
هذا العزل أو الحجر المنزلي الاختياري كان حياتي قبل سنوات. أشعر الآن بالهلع لأنني لن أخرج للعمل، أو التقي بصديقتي كل يومين في مقهانا المفضل لنثرثر ونكتب. لن أخرج للقاء أقاربي الذين لا تفصلني عنهم سوى عدّة أحياء. ولن أتمتع بحريّة الخروج لتأمل المدينة التي أحبّ.
كانت هذه حياتي قبل سنوات، تمر الصيفيات بلا سفر، ولا لقاء للأقارب إلا نادرًا، وإذا لم أخرج من المنزل للسوبرماركت أو الطبيب، كنت أحطم الأرقام القياسية ضاحكة “مضى شهر على آخر مرة خرجت.” كانت هذه حياتي قبل عمل مستقر واستقلال مالي عن الأسرة، وأوضاع أفضل وتوفر للمواصلات. كيف كانت كلّ هذه الساعات تمرّ؟ ربما لأنني لم اكتشف رفاهية الخروج بلا هدف. ساعات محددة كل عدة أسابيع لاقتناء الضروريات والعودة من جديد للعزلة الاجبارية. أعود لتلك الأيام وأتذكر الصديقات في منزلنا، ساعات الظهيرة الكسولة والقراءة والأحاديث الطويلة وتجربة الوصفات، والتأمل، الكثير من التأمل.
انتقد نفسي وأذكّرها بتلك الأيام، واستشعر نعمة الانطلاق في الحياة وحرية الاختيار في البقاء والعزلة. وأتمنى أن تمرّ هذه الأيام سريعًا، وأن يهدأ قلبي، ونخرج من هذه الأزمة سالمين وأحبّتنا.
.
.
.
“وأشعر في لحظات كثيرة بأنني استيقظت في جسدٍ آخر، وقصة أخرى. لكنني ملزمة بتعلم أبجديات هذه الحياة من جديد. كل ما تعودته وحرصت على التمسك به أثبت في مواضع عدة هشاشته. وأنا أريد الوقوف على أرضٍ صلبة.”
يا الله !
كلماتك دايماً تدخل البهجة علي، أتمنى ان تمر هذه الايام ونخرج منها والجميع بخير.
لم أعتقد أن البحث مرهق قبل أن أبدأ وظيفتي الحالية وأشعر بخيبة إذا رجعت لمديري وأخبرته لم أجد من الدراسات أو المعلومات ما نثق به أو نعتمد عليه، أحيانًا أشعر أنه خطائي ، أني لم أبحث بشكل جيد ، وبما أنك هيفاء يبدو أن مجالك قريب من هذا فأطمع بكرمك بموضوع عن البحث.
أبقي ملهمة لنا 🤍
جميلٌ ما كتبتي وكم هي رائعةٌ حروفك
افكر كثيرا في هذه الفترة انني ربما لن اجد عمل بسبب الذي يحدث ولا اعرف متى تنتهي هذه المرحلة اصلا! لكن في كل فكرة محبطة استبدلها انه من الممكن ان اخرج من هذة المرحلة الى مرحلة مشرقة ورائعة لما كل هذا الحزن والقلق؟
اتمنى ان يزول قلقنا قريبا
أنا أنتِ اللتي تستذكرينها. أنت تنظرين إلي وأنا أنظر إليك عسى الله يعدي هالأيام وأنظم إليك في النظر إلى كم قطعنا
بعيدا عن كونه حجرًا ، ما زالت هذه حقيقة حياتي
ولكن و مع أنّي لا أفعل شيئا حين خروجي من المنزل، إلا أني أفتقد تلك الحرية.