“القطّ، الرفيق الطبيعي للمفكّرين، المراقب الصامت للأحلام، للإلهام، والبحث الصّبور”.
– د. فيرناند ميري “بيطري فرنسي”
هذا المساء كنت أقرأ عن عيب خلقي يصيب القطط، ليصبح عدد أصابعها أكثر من المألوف. فالقط الطبيعي يملك 18 اصبع، عشرة منها في قوائمه الأمامية وثمانية في الخلفية. الطفرة الجينية التي تصيب القطط تمنحهم الاسم “Polydactyl” أو متعدد الأصابع. هذه القطط تنتشر في الساحل الشرقي من أمريكا الشمالية، والجنوب الغربي من إنجلترا وويلز. وهذه المعلومة بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل، فكما تعلمون غرب إنجلترا وويلز لو قمنا بلصقها في القارة الأمريكية ستلتصق في الجانب الشرقي، هل وجود هذه القطط كان قبل انفصال اليابسة، أم أنّ ذلك تولد من الرحلات البحرية وانتقال أهل إنجلترا لأمريكا! وكي لا ابحر بعيداً عن الموضوع الذي دفعني لكتابة هذه التدوينة أعود للقطط. من بين التسميات الشعبية لهذا النوع من القطط “قطط همنغواي“. والاسم قادني لهمنغواي – إرنست طبعاً- وقصص قططه، والمنزل الذي تركه لها.
في موقع يوتوب ولو بحثتم بالكلمات المفتاحية “Hemingway’s Cats” ستجدون بعض مقاطع الفيديو التي قام السياح بتصويرها خلال زيارتهم لمنزله في كي-ويست، في المنزل تستقبلكم القطط التي يبلغ عددها حوالي 47 قطة-نصفها تقريبا متعدد الأصابع-. تنوعت فصائلها وأسماءها لكنها تحتفظ بجينة القطّ الأول “كرة الثلج” الذي أهداه أحد البحارة لإرنست، كان البحارة يعتبرون “كرة الثلج” جالباً للحظ بأصابع قوائمه الأمامية الستة، وعاش مع همنغواي لسبعة عشر عاماً. يزور القطط في المنزل بيطري أسبوعياً وتلقى رعاية خاصة من التغذية للتعقيم والإجراءات الصحية. لا يتم تعقيم القطط كلها، يتمّ الحفاظ على النوع من خلال تكاثر بعضها. المفاجأة التي لم أكن أعرفها من قبل، أنّ 40% من زوار منزل همنغواي –المتحف- يأتون لرؤية القطط، تتجول في المكان، تتكئ على الأثاث العتيق، وتدلل على الزوار وتبدي اهتمامها لمن يستحقه!
عدد القطط التي تعيش في المنزل سبب مشكلات مع السلطات، وفي العام 2006م أُسقطت دعوى رفعت ضد القائمين على المكان، بعد أن هددت جهات حكومية بمحاصرة القطط ونقلها، فتدخل الكثير من السكان المحليين، وأعضاء من الكونغرس لإيقاف ذلك.
نأتي للجانب الأهم في الحكاية، والذي استحوذ على فضولي-وطاقة بحثي- ألا وهو كتاب كارلين برينين الذي يستعرض قطط همنغواي كسيرة ذاتية مصورة ومخصصة. يقع الكتاب في 32 فصل، تتحدث عن مراحل حياة همنغواي المختلفة والحيوانات التي صحبته فيها ،والقطط على وجه التحديد. مع صور تُعرض لأول مرّه. في هذا الكتاب يظهر الوجه اللطيف للشخصية التي يعرفها العالم عن همنغواي، الجانب الحنون الذي تصوره حياته مع القطط واهتمامه بها وكيف كانوا ملوكاً وملكات في بيته.
الكتاب كما توضح الكاتبة لم يوضع كسيرة ذاتية عميقة لهمنغواي، إذ يركّز على حياته مع الحيوانات الأليفة من حوله، وكيف وجدت طريقها في عمله، وحياته الخاصة وتقلباتها.
في الثاني والعشرين من فبراير 1953م تعرض أحد قطط همنغواي والمسمى بــ العم ويلي لحادثة دهس، بعد الحادث بعث همنغواي لصديقه المقرب جيانفرانكو ايفانسيتش بهذه الرسالة التي حاولت ترجمتها باختصار:
“ما إن انتهيت من كتابة رسالتي وبينما كنت أضعها في الظرف، جاءت ماري لتخبرني أنّ شيئا فظيعاً حدث للعم ويلي. خرجت لأجد ويلي بقائمتيه اليمنى مكسورة، واحدة عند الحوض والأخرى اسفل الركبة. يبدو أن سيارة دهسته، أو أنّ أحداً ضربه بعصا الغولف. لقد مشى كل هذه المسافة حتى وصل المنزل بقائمتين فقط. كسور مضاعفة وجروح ملوثة. لكنه كان يخرخر، متأكد بأنني سأتمكن من إصلاح ذلك. طلبت من رينيه إحضار إناء به بعض الحليب وبينما كان يشرب الحليب أطلقت النار على رأسه، كانت الأعصاب في قدميه قد تضررت كلياً لذلك لم يشعر بالألم فيهما، لقد عرضوا علي أن يقتلوه لي، لكنني رفضت. لم أرد أن يشعر بأن أحداً سيقتله.
لقد اضطررت لإطلاق النار على البشر، لكن لم اطلق النار على أحد عرفته وأحببته لأحد عشر عاماً ، ولا أحد يخرخر بقائمتين مكسورتين.”
في الصفحات الأخيرة من رواية “كائن لا تحتمل خفته” لكونديرا كانت تيريزا إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية تتأمل علاقتها بكلبتها “كاريننا”. استوقفني هذا المقطع:
“الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كلّ نقائها وحريتها إلا حيال هؤلاء الذين لا يمثلون أية قوة. فالامتحان الأخلاقي للإنسانية هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات. وهنا تحديداً يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى.”
احترم الآراء التي ترى رواية كائن لا تحتمل خفته رواية جميلة. أفضل عليها الخلود. ومع ذلك لا يمكن أن أنسى عبقرية كونديرا في الفصل الأخير بعنوان كارينينا. جميل ومبهر.
بإنتظار مدونتك وأرشيفك. مجرد التفكير بأنه اختفى وكان على وشك الرحيل أمر مرعب لا أتمناه لأحد.
مرحبا،
الخلود كانت مدخلي لكونديرا، وما زلت اراها أجمل كتبه، لدرجة أعود فيها بعض الأوقات واقرأ الاقتباسات التي فضلتها بين صفحاتها.
ان شاء الله سأستعيد المحتوى والحقه بالمدونة الحالية : )
عناوينك الملهمة كحكاية صغيرة محبوكة بقوة وإحكام، ألعبُ أنا وإياها لعبة التخمين .. أقرأ عنوان التدوينة وأخمنُ ما خلفها، في التدوينة الأولى في قصاصات كانت اللعبة سهلة، في هذه التدوينة خمنتُ ما يختص بالجزء الأول : تسعة أرواح : إنها تدوينة تختص بالقطط، وستة أصابع : خمنت أن فداحة خسارة مدونتك الأولى خلقت لك ردة فعل تتمثل في إصبع سادس يساعدك على التدوين المكثف لملئ البيت الجديد !
إنها تدوينة رائعة، غنية و مثرية بمعلومات جديدة.. شدني إقتباس كونديرا، في الحقيقة لستُ أحب وجود الحيوانات في حياتي .. مرة إضطُررت لتربية سلحفاة في البيت، ولن أنساها وهي تشرئب بعنقها الأخضر خارج حوضها حين أناديها .. ذلك دليلٌ على المودة حتماً، وخصوصاً حين كبرت وإستطاعت الهروب خارج حوضها لتستقر في خفي المنزلي.. أتمنى فعلاً أن أقرأ عن السلاحف لأعرف سر إختبائها في حذائي أكثر من مرة !
شكراً يا هيفاء ..
مرحبا،
أكثر شيء يتعبني هو اختيار العنوان للتدوينة، ما يحدث هو كتابة التدوينة أولا ثم اختيار عنوانها، احيانا افكر في ترك المساحة خالية، لكن كما حدث معك، كان العنوان حماسي للقراءة!
تربية الحيوانات ليست من هواياتي المفضلة، لكنني حالياً وبسبب ظروف اضطرارية وجدت نفسي في قصة جميلة مع هرة، لا استطيع انكار التغييرات “العظيمة” التي تركتها في حياتي، وقد ادون عنها يوماً ما : )
سأخبرك بأمر .. كلما وجدت موضوعا جديدا في مدونتك ابتسمت
فـ شكرا هيفاء ~ موضوع جميل أعجبني
..
شكرا لك يا ساره،
ابتساماتك تطبع على القلب.. دائماً
شكرا جزيلا على المادة المكتوبة عن قطط همنغواي، أدهشني الجمع الجميل والعمل الدؤوب من أجل عرض نصوص ومواد تستحق المتابعة.
دمت بخير 🙂