الموتى لا يستأذنونك للغياب. أدرك ذلك جيدًا اليوم.
في ديسمبر ١٩٩٨ رحل أخي محمد بعمر التاسعة، خرج للعب مساء مع عائلتي ولم يعد، أذكر أنني شاهدته للمرة الأخيرة وأنا نصف نائمة وهو يشير لواجب الرياضيات ومحور التناظر الذي رسمه باهتمام “هل حللته بشكل جيّد يا هيفا؟“. لا أنكر أنني كرهت حصة الرياضيات لفترة ليست باليسيرة.
لكنّ الحديث اليوم ليس عنّي ولا عن أخي ومحور التناظر.
عندما رحل محمد انطفأت شعلة الفرح في منزلنا، خفتت أصواتنا بضعة ديسبيلات*. كلّ منا تأقلم مع الوضع تدريجيًا، شُغلت بالدراسة والصديقات، وأخي الأصغر شُغل بتركيب السيارات الصغيرة وتفكيكها.
أتذكر الآن بوضوح اللحظة التي عادت فيها والدتي للتطريز، زارت متجرها المفضل واشترت عدة أمتار من قماش الإيتاميل والخيوط الفرنسية الملونة. لم تكن هناك خطّة –الآن أعرف– لم يكن هناك مشروع معيّن أو منتج تودّ بيعه أو تسليمه لزبون. كان الهدف الرئيسي من رحلة التسوق والبدء: الاستشفاء.
رسمت والدتي حدائق سرّية، آبار، غرفًا ومكائن وقططًا وحيوانات أليفة. كانت زاوية غرفة العائلة بقعتها المقدسة، قصاصات الخيوط حولها وورقة التصميم متآكلة تنظر لها من حين لآخر. هذا الصبر والتنقل من سنتيمتر مربع لآخر. كانت تُشفى من فقد ابنها، بهدوء وعلى مهل. وكنّا بطريقتنا نعود للحياة ولا نلحظ ذلك.
اليوم تعرض والدتي القطع التي طرّزتها تلك السنوات على حائط محترفها، وتروي للزوار كيف تخطت حزنها وفوضى روحها غرزة بعد غرزة.
لقد كبُرت في كنف أسرة تقدر الفنّ والإبداع، لكنني لم أشعر بعظمة تأثيرهما على الفرد كما أشعر اليوم، في هذه اللحظة ووالدتي تتذكّر شفاءها. تتذكر أنها تبدع لتعيش.
يمكنني تلخيص الدروس التي استفدتها في عدة نقاط، سأبشّر بها أينما حللت وأذكّر كل من يمرّ بمطب حياتيّ بتجربتها أو التداوي بها.
– ابحثوا عن حرفة يدوية أو موهبة إبداعية كامنة بداخلكم. شغفكم سيبقيكم مهتمين، وكلما تكررت ممارستكم لهذه الحرفة وثبت استمتاعكم سيستفيد العقل والروح معًا.
– اصنعوا وقتكم اليومي الخاصّ. إن الإبداع والعمل الفنّي أصبح بمثابة العلاج أو الحاجة الصحيّة ويجب أن يكون له مكان. أذكر أنّ والدتي كانت تنهي أعمالها المنزلية، تتحقق من دروسنا، وتنزوي في مكانها لتبدأ التطريز بهدوء.
– اصنعوا مساحة إبداع تلجؤون إليها لتصفية ذهنكم وروحكم. كان لدى والدتي غرفة مخصصة للخياطة والأشغال، صغيرة جدًا لا تتعدى مساحتها ستة أمتار مربعة، لكنّها كانت توازي العالم بأكمله. الاختلاء بنفسك للعمل والإبداع يعني التأمل والراحة، مثل علاج لا تتوقف عن تعاطيه فتنتكس.
– تعلّموا أكثر.. ابحثوا عن دروس احترافية ومجموعات للحرف تتبادلون مع أفرادها القصص والتفاصيل الصغيرة والاختصارات. الحديث عن الفنّ والكتابة والموسيقى يصرف أذهانكم عن الحزن، عن الاشياء التي تهربون منها.
– ركزوا على الطريق، لا نقطة الوصول. لم تكن والدتي تهتم لإنتاج القطعة المثالية، مع أنها كانت في منافسة دائمة مع نفسها. استمتعوا بالعمل على القطع ونفّسوا عن الطاقة السلبية التي تسكنكم بغض النظر عن النتيجة النهائية، والأهم من ذلك ابتعدوا كل البعد عن البحث عن المثالية واعطوا أنفسكم الحرية في المحاولة والخطأ.
كلّ مرّة يشكك أحد في قوة الإبداع وقدرته على العلاج والمداواة وتعليم الصّبر استحضر هذه الحكاية، وأذكر نفسي بها.
جرّبت قبل عدة سنوات خياطة لحاف من الصفر، واخترت أكثر التقنيات عشوائية كي أساعد نفسي ولا ألتزم بقوانين صارمة كي لا أملّ من أول محاولة. قصصت عدة أمتار من الاقمشة الملونة وجلست لتركيبها وترقيعها بماكينة الخياطة. صحيح أنني لم أنتهِ من العمل بسبب انتقالي لمدينة أخرى للدراسة، لكنّ عدة ساعات من التركيز والغرق مع الأقمشة صنعت الفرق، ما زلت أحتفظ بكيس ضخم فيه بقايا الأقمشة والخيوط كي أعود إليها عند الحاجة. لكنني أقول إن الكتابة تصنع ذات التأثير في نفسي، وقد يصنعه التلوين أو الرسم أو صنع المربى.
أنتم بحاجة للإبداع في أي صورة كان وفي أي وقت تجدونه.
ـــــــــــــــــــــــ
* ديسيبلات: جمع ديسيبيل، وهي وحدة قياس شدة الصوت.
* إيتاميل: نوع قماش للتطريز يأتي مخرمًا بمسافات متساوية.
.
.
.
.
حبيت التدوينة وفكرة الانشغال بشيء نبدع فيه للاستشفاء من الحزن
احتاج الى هذه التدوينة جدا شكررا لك
مرحبًا هيفا ()
في سبتمبر ٢٠١٠ رحل أخي بعمر السابعة عشر و كنت في العشرينات من العمر و أعيش حالة من التوهان والتشتت و الصمت. و بعد الوفاة لم تستطع العائلة معالجة حالة الفقد و الحزن! فكان كل واحد منها يبحث عن شيء يساعده للتصالح مع غيابه، فالبعض انغمس بالدراسة و الآخر بالعمل أو بالاعتزال و الوحدة أما والدتي فانشغلت بتربية الأحفاد لفترة ثم قررت العودة للتعلم و مقاعد الدراسة.
أما أنا فوجدت نفسي غارقه بتعلم التصميم الرقمي من خلال الفوتوشوب و فكان لكل يوم تصميم و أحيانًا لكل أسبوع حسب المزاج لفترة امتدت ثلاث سنوات ثم خفت انتاجتي لانشغالي بأمور آخرى لكن مازلت أحاول المحافظة على نظام معين لاستعادة التوازن لحياتي و التغلب على الصعاب التي واجهتني خلال التسع السنوات الماضية قبل و بعد الوفاة التي كنت سأفقد معها ذاتي!
عدت للقراءة من جديد بعد فترة تقطع مستمرة لسنوات بالتزام و خطة واضحة المعالم ، و كذلك لممارسة الرسم و لو كان بخطوات بسيطة و رؤية ضبابية و تعلم بعض التقنيات. كذلك الحرص على المشي ففي كل خطوة اتخلص من بعض التوتر و الأفكار و المزاجات السيئة.
أما الكتابة فمنذُ المراهقة علاقتنا ليست بجيدة، فكثيرًا هو التسويف و التأجيل لها فالأفكار تتبعثر و لم أجد حلاً لها بعد !!
الآن استطيع أن أقول كوب من القهوة مع قطعة شوكولا للاسترخاء و مقطوعات موسيقية و دقائق من المشي مع كتاب للنسيان و الهروب، كما لا انسى الطبخ ففيه اتخلص من التشتت و المزاج العكر.
و بالتأكيد قراءة المدونات الملهمة كهذه القُصاصات و غيرها.
و في الأخير أمنية اتمنى أن تستمري بالتدوين، و اعلمي أنني احرص على قراءة كل حرف يكتب هنا، و لكنني للأسف كم ذكرت سابقًا فأنا كثيرة التسويف و التأجيل لكتابه التعليق مع أنه بالبال!
من الضروري أن نتداوى من الحُزن بأي شكل، إن بقاء الحُزن مكدساً في الروح يعني شيخوختها ومن ثم موتها … عندي أختٌ وحيدة أصغر مني عرضتها الحياة لموقف أكبر من طفولة عينيها التي أراها كلما تقابلنا، فجأة إكتشفت عالم الكروشية ووضعت فيه من دمها وعصبها ووقتها ما أستطاعت … كانت مثل أمك تحيك الألحفة والمفارش وقطع الإكسسوارت الصغيرة بغرض الحياكة ليس إلا .. عملها إتسع، لقد أصبحت الكروشيه حياتها ومصدر دخلٍ لها، وبالرغم من ظرفها الدائم الصعب إلا أن إبرة الكروشية كانت دواءاً ناجعاً للقلب … الحزن مؤذٍ لذا إستعاذ منه الرسول صلي الله عليه وسلم ” اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ” .
كعادتك تدوينة مميزة
لطالما رغبت باستخدام يدي بكل الطرق الممكنه
اريد ان ارسم واكتب واطرز واقصّ الورق والقماش
واحيان أود أن أقوم بلكم اكياس الاسفنج التي يتدرب عليها الملاكمين.
تدوينة ملهمه.
تدوينة ملهمة ..أتذكر أيضا حين توفي أخي الأصغر . يبدوا أن الناس يتشابهون في طرق العزاء وتسلية النفس أيضا !
انغمست والدتي في عمل المنزل .. وتجهيزنا للمدرسة كنت في الثانية عشر . أظن وقتها أن أمي اهتمت بكل جزء من البيت
كانت طريقتها الوحيدة في تمضية الوقت بعد أخي .
الآن ومع مرور السنوات نتجمع ونذكره ونترحم عليه , الوقت أيضا يشفي ولو كان قليلا .
تدوينتك أعادتني لتأمل ماكانت تقوم به أمي في أوقاتها الصعبة . أيضا جربت الإنشغال في شيء الى آخر قوة مني
النتيجة مدهشة ! مع أني قرأت الكثير من الدراسات والمقالات إلى أن تجريب ذلك بنفسي كان أمرا مختلفا .
شكرا هيفاء ❤️ رحم الله موتانا وموتى المسلمين .
والله ان مدونتك بحد ذاتها شفاء من الاحزان والوحدة
من أجمل الصدف عندما عرفت هذا المكان
استمري ياهيفاء
احسنت هيفاء في اختيار التدوينه ولفت نظر القراء الى هذه الزاويه المهمه للهروب من احزان ، او لقتل الوقت قبل ان تقتله الهموم او الافكار السلبيه
تحياتي لكل الامهات الملهمات
تحياتي لك
تدوينه عميقه جداً وصلت لقلبي ياريت لو ارفقتي صوره المفرش الي طرزته امك ❤️
أنا الأن بحالة فقد
ليس شخصًا بل حلمًا تلاشى من مستقبلي.
لجأت للأخصائيه لتساعدني للخروج من هذه المحنة فقالت لي (أوجدي عملٌ تعمله يدالك وعقلك جميعًا هذا هو منقذك)
جربت الخياطة والرسم لكنِ بنهاية وجدت أن المسائل الرياضية هي الجرعات التي تخرجني من فقدِ وتجدد همتي.