٩ | هيفا خلف المقود

علّمني والدي تشغيل السيارة قبل ثلاثين سنة تقريبا. كنت في المرحلة المتوسطة وكان نشاطًا صباحيًا محبّبًا. يكمل والدي إفطاره وأخرج وأخواتي الصغار للسيارة ننتظر. أشغل المحرك وأتخيل أنني أقود السيارة للمدرسة حتى يخرج. نستمع للراديو وأفكر في غيرة أبناء الجيران. وبين تلك السنة وإعلان السماح بقيادة المرأة لم تتطور علاقتي بالمقود ولم أتقن شيئًا غير تشغيل التكييف، وضبط موجات الراديو. لكنّي للأمانة كنت دائمًا الراكب الذي لا يستريح ويقود المركبة مع قائدها ويراقب المرايا والطريق وكلّ شيء.

لم تكن قيادة السيارة مهارة تحفزت لإتقانها، مرت السنوات الأولى بعد السماح بالقيادة وأنا أبارك لرفيقاتي وقريباتي حصولهنّ على الرخصة واقتحام الطرقات. وفي نفس الوقت كنت أفكّر سيأتي توقيت مناسب، لا أعلم متى هو لكنّه سيأتي.

كانت محاولتي الأولى في ٢٠٢٠ قبل حجر كورونا بعدة أيام، وجدت مدربة سياقة متمكنة-أو هذا ما سمعته ممن وصّوا بها. كانت الدروس سريعة ومختصرة، وخطرة! فقد دفعتني المدربة في وقت قصير إلى الخروج للطريق العام في ساعة ذروة ومنطقة مزدحمة بكلّ أنواع المركبات. بالإضافة لكوابيسي بأن ينتهي بي الأمر تحت إحدى الشاحنات الضخمة كان صراخ المدربة يرنّ في أذني. وتصرفاتها العشوائية في الإمساك بالمقود فجأة أو الصراخ العشوائي بسبب سيارة تقترب من بعيد. أُعلن الحجر بعد انتهائي من حصص التدريب العشوائية تلك وحمّلت نفسي مسؤولية الأمر فلمَ أردت الاختصار والتدرب معها؟ كان من الأفضل اختيار الطريق الطويل الآمن بالتدريب داخل المدرسة حتى وإن انتظرت دوري طويلًا.

أجّلت على إثر ذلك اختبار الرخصة أو التقييم. ومرت سنة كاملة لأستعيد قدرتي على التدرب وحجزت موعدًا في المدرسة وبدأت دروسي النظرية. بعد الانتهاء من الدروس حددت موعد الاختبار النظري الذي يتمّ على الكمبيوتر خلال وقتٍ قصير. أصبت بوعكة صحية مفاجئة أبقتني في المنزل ولم أحضر الاختبار وأخذت هذه الوعكة كعلامة لتأجيل الأمر من جديد. احتفظت المدرسة بسجلي والمدفوعات التي دفعتها لبرنامج كامل. مرّت الأيام وقررت استقدام سائق ونسيت فكرة القيادة تمامًا. وكلما تحدث شخص في الموضوع أخبره بأني اختار معاركي بعناية، ومعركة الشارع ليست أولوية.

ومع مرور الأيام كانت إشارات التحفيز والإلهام تظهر لي، وفي نفس الوقت بعض رسائل الإحباط والتردد. هناك قسم من معارفي يستغرب أني لم أقد سيارتي بعد ففي نظرهم أنا سباقة دائما لتبنّي أي جديد. ومن جهة أخرى يعلق البعض أنّني شخص قلق ومتوتر ومتهور أحيانًا ولذلك لن تكون القيادة فكرة صائبة.

اتجاهل الفكرة وتزورني في كل مرة يتصرف السائق بطريقة متهورة أو غير لائقة. في كلّ مرة أجد نفسي محاصرة بحاجتي لوجوده واعتماديتي الكاملة عليه. في كلّ مرة أودّ فيها الاختلاء بنفسي أو التحرك حسب ما يقتضيه جدولي الخاص دون الحاجة لجدولة كلّ شيء مع السائق ومن يشاركني خدماته.

بدأت السنة الجديدة بفكرة وحيدة: إنهاء المشاريع المؤجلة. بدأت باستعادة فصول كتابي التي أنجزتها ومواصلة الكتابة استعدادًا لنشره قريبًا. أقفلت ملفات خاصة، وفي لحظة إلهام من ابنة عمّي التي تكبرني في العمر استعدت رغبتي في تعلم القيادة. زرت المدرسة وأكملت إجراءات التسجيل ونفض الغبار عن ملفي المنسي. تغيرت المدرسة تمامًا وكذلك مدرباتها ودروسها. وفي الأيام التي تزامنت مع زيارتي للمكان كنت أبحث عن عقبة أو إشارة لأعود أدراجي. لكن ما حصل كان عكس ذلك، ففي اليوم الأول لحضوري للمدرسة وخلال دقائق الانتظار شاهدت سيدة سبعينية تسجّل بياناتها لتعلم القيادة، وعلى مكتب آخر فتاة تشرح لرفيقتها بلغة الإشارة إجراءات الدفع والتسجيل. كلّ شيء يقوم: أقدمي!

بدأت التدريبات العملية وتمددت الأيام على ثلاث أسابيع، جرّبت نفسي في كل المهارات، ولكنها كانت بيئة محميّة داخل ميدان مغلق. لم أهدأ حتى شاهدت نفسي في شارع عام خارج المدرسة، اختبرت ملاحظتي وقدرتي على التحكم بالمركبة وتخففت من كوابيسي وقيودي الشخصية. لقد حظيت بمدربة رائعة هذه المرة. هادئة ذكية ومطلعة ومطمئنة وهذا أكثر محفز لمواصلة التدريب. في يوم الدروس الأوّل تعرفت عليها وأخبرتني بفرحة عارمة أنّها اختيرت مدربة مثالية هذا الشهر. وبينما كانت تتحدث بفخر غرقت في فكرتي: هذه إشارة طيبة.

كنت أقول بأني لن أقود السيارة حتى أحصل على رخصتي، ولكني استيقظت صباح الأمس بشعور غامر: أريد الذهاب للسوبرماركت وشراء احتياجاتي بنفسي والعودة مجددًا للبيت. خرجت بهدوء دون أن أخبر أحدًا وكان الطّريق للسوبرماركت قصيرًا جدًا. حدّثت نفسي بصوت مسموع: يمكنك فعلها.

وصلت إلى المواقف وكانت شبه فارغة، اخترت موقفًا بعيدًا عن المدخل والازدحام وبدأت رحلة تسوقي. في الممرات عشرات الأطفال الذين جاؤوا للتعرف على الخضروات والفواكه والخبز واللحوم. فكّرت في الحبل السري الذي يربط بيني وبين جموع الأطفال في السوبرماركت. كلنا نحتفل بفضول ومرح وحماس. تعلّمنا مهارات متنوعة واليوم كان يوم التطبيق. كلما دخلت ممرًا وصادفتهم فيه ابتسمت في سرّي. هذه ليست المرة الأولى التي أتسوق فيها هنا، أو أطلب من أفراد عائلتي قائمة طلباتهم. هذه المرة خاصة ومميزة في قلبي. علبة الفراولة والتوت ومعجون الأسنان الحسّاسة وكيس الخبز العربي وجبنة الشيدر المدخنة كلها مشتريات مختلفة لأنني حملتها للسيارة ووضعتها في المقعد الخلفي وجلست في المقدمة وعدت للمنزل بنفسي.

قد تبدو هذه لحظة اعتياديه لشخصٍ آخر، ولكنّها مختلفة بالنسبة لي. تعني انتصاري على مخاوفي وترددي وتأجيلي. فقد بدأت دروس القيادة أوّل مرّة في مارس ٢٠٢٠، وانهيتها بعد خمس سنوات بالضبط. لقد نبهتني مرشدتي: تأملي كيف ستتغير حياتك بعد تغلبك على هذه العقبة. واليوم بعد شهرٍ كامل من حماسي وذهابي للمدرسة للتسجيل وبدء التعلّم حصلت على رخصة السياقة واجتزت الاختبار. خميس مختلف لسيدة تجاوزت الأربعين وقررت تعلّم مهارة حياتية ضرورية حتى وإن لم تستمر بتوظيفها.

اليوم أفكر في المقاهي التي تنتظر زيارتي، والمكتبات، ورحلات التسوق، والزيارات العائلية، وطريقي اليومي لعملي. أفكر في كل الذين سيصحبونني في الكرسي الأمامي وحكاياتنا معًا.

أنا سعيدة وفخورة بنفسي جدًا! وأعلم أنّ هيفا الصغيرة التي كانت تستمتع بتشغيل المحرك والجلوس للحظات قبل خروج والدها ستفخر بي أيضًا وتقفز بحماس. هذه التدوينة لتسجيل لحظة فارقة في حياتي، ولتكون رسالة أو إشارة لمن يؤجل أمرًا نافعًا في حياته، أو مشروعًا متعثرًا بحاجة لإنعاش. انطلقوا اليوم وأقدموا.

.

.

.

 

 

 

 

3 تعليقات على “٩ | هيفا خلف المقود”

  1. أنا ممتنة للصدفة التي جمعتني بمدونتك عزيزتي، زادك الله فرحاً وتخطياً للعقبات، ومبارك رحلاتك التي لم تبدأ بعد.

  2. ما شاء الله..
    مبارك الرخصة يا هيفاء 🤍
    ربي يعطيك خيرها ويكفيك شرها..

    قصتي قصة كفاح مضحكة..
    تدربت على يد أختي التي تصغرني بسنة، ثم مدربة خاصة لمدة ٣ أيام..
    بعدها ذهبت للتقييم، ولم أجتز، وأخذت ١٢ ساعة..
    نظري وعملي
    حضرت دروس النظري، واختبرت واجتزت ولله الحمد.
    ثم العملي ولكني لم أجتز، وأخذت ٦ ساعات.
    التحقت بالدروس العملية بعد الحجز، لمدة ٣ أيام، ثم الاختبار، ولم أجتز، وأخذت ٤ ساعات.
    دفعت، على أساس إني راح أرجع لهم بعد كم يوم.
    لكن في قرارة نفسي لا أريد أن أعود، تحطمت وأحسست أن القيادة ليست مهمتي، ولماذا أحمل نفسي فوق طاقتها.
    مشكلتي كانت وقت الاختبار أو الفحص، أرتبك ولا أجتاز.
    وفعلاً لم أعود لهم إلا بعد ٣ سنوات 😂
    تغير كل شيء، أقصد طريقة الحجز، ومكان الاختبار.
    ولم أخبر أحداً أني سأذهب للمدرسة🤭 إن رسبت سكت، وإن نجحت قلت 😅
    تدربت يومين ثم اختبرت واجتزت ولله الحمد ✌️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.