٤ | أن ترى الجمال في كلّ شيء

فكرة التدوينة ولدت منذ فترة وترددت في كتابتها وكلما طال الوقت كلما اقتربت من حذفها وحذف تفاصيلها. لكنّ صوتًا صغيرًا داخلي يقول: هنا جزء من التصالح مع المشكلة، أو كما تقول صديقتي القريبة: التعافي الأنيق!  قبل عدة أشهر كنت أبحث عن صورة لي في فستان أحبّه، ولم أجدها. وأدركت بعد لحظات أن السرّ في غياب هذه الصورة هو حالة أمرّ بها وامتنع معها عن التقاط أيّ صور لي. هاتفي يمتلئ بصور الآخرين، بالأماكن، بالأشياء، ولكن لا شيء يدلّ على وجودي. عندما أمر بهذه الحالة يكون الشعور الطاغي هو: لستِ جميلة كفاية لتخليد هذه اللحظة. هناك شيء ما ينقص من جمال الصورة، ربما شعرك هنا، أو طريقة وقوفك، أو اللون الذي ترتدينه. وكلما أراد الآخرون التقاط صورة لي اعتذر بشدة وأرفض. ذات مرّة شرحت بعينين دامعتين لصديقتي أني لا أحب شكلي في الصور هذه الفترة، ولذلك أريد أن أوضح لها أن رفضي لالتقاطها صوري نابع من هذا الشعور الطاغي.

لكنّ هذه قصة مؤقتة، تغيب وتعود للظهور. وهذه التدوينة هي محاولة لأضع يدي على السرّ ولأتحدث بنبرة سعيدة أني وجدت الحلّ تدريجيًا. وما زلت أحاول.

إذا كنت سأصف نفسي في كلمات: شخص يبحث عن الجمال في كلّ شيء حولي. في أعين الناس، في الصور التي تملأ الشاشات، في الفنّ، في الطبيعة، وفي التفاصيل اليومية. هذا البحث النهم دائم، لا نهاية له ولا قاع أصله فاكتفي. كنت في سباق بلا فائزين! وفي كلّ رحلاتي كان نظري مخطوف باتجاه الخارج، لم أكن أعلم أن ما ابحث عنه يسكنني.

في هذا البحث الدائم أيضًا وقعت في فخ الانفصال التامّ عن انعكاسي في المرآة، كنت انظر، لكن لم أره. شيء ما مفقود، فجوة بين ما أنا عليه وما أريد أن أكونه. كانت المشكلة في الطريقة التي أنظر بها إلى نفسي. لا تحتفي بهذه السمات أو هذه الملامح التي ورثتها عن والديك وأجدادك، ما زال هناك عيوب خفية لا ترينها. تريدين المزيد من التحسين أو الاستسلام لفكرة: انعدام الجمال في نفسك. الآن انطلقي للبحث عنه هناك.

قرأت كلّ عبارات التحفيز ورددتها بيني وبين نفسي: حاربي المعايير المهزوزة والمتغيرة عن الجمال التي نشأتِ عليها أو شاعت بين الناس. لا تقبلي بأن تكوني مقيّدة بهذه المعايير التي وضعها الآخرين. أكداس من صور نمطية أجمعها في صناديق وأحملها معي عبر السنوات.

أما أيامي الجيدة فهي التي تبدأ بوقفة طويلة أمام انعكاسي فأنا أحبّ عيناي ولونها المتغير مع الأجواء في السماء، أحب ابتسامتي وأسناني غير المثالية، العلامات الفارقة، والشبه الذي اشترك فيه مع أخوتي. الطريقة التي أرتدي بها ملابسي، الألوان التي أحبها، كيف أسرح شعري وما هي الاكسسوارات التي ارتديها كل يوم؟ كل هذه التفاصيل في عيني جميلة -قبل أن يتسلل الشكّ طبعًا.

أما أكثر ما يربكني ويوقظ الأسئلة داخلي: الإطراء والمديح! كلّما سمعتها من الآخرين استبعدها وأرى فيها مجاملة لا أكثر. جزء من أجزاء الحديث المطلوبة لتحقيق اللياقة الاجتماعية. أهزّ كتفي معها وأضحك واسخر من نفسي سريعًا لتتحقق شكوكي. لم يكن من السهل علي تصديق أن الآخرين يرون فيّ جمالًا لا أراه. لم يكن التصديق المباشر متاحًا ولن يشفع لأيّ شخص قربه أو وضوح نيّته. كل المدائح زائفة عندما تستيقظ شكوكي.

جمال العقل أولًا

لفترة طويلة، كنت أعتقد أن الذكاء ورجاحة العقل هما كل ما أحتاجه للعيش والتفوق في الحياة. كان تركيزي منصبًّا على توسيع مداركي، صقل مهاراتي، والانغماس في التعلّم والتطور. كنت أرى القوة في بناء عقل متقد، قادر على التحليل، ممتلئ بالمعرفة، وكنت أشعر بفرح عارم وأنا أحقق أهدافي وأثبت لنفسي أنني أستطيع تعلّم مهارة أو كتابة نصّ مبهر! لم ينته الأمر مع مغادرة مقاعد الدراسة، بل امتد لسنوات بعد تخرجي وانطلاقي في الحياة المهنية. وفي ذات الوقت بدأت ملاحظة انفصالي عن جزء مهمّ في ذاتي: عنايتي بمظهري! كان الاهتمام بالجمال والمحافظة عليه تفصيل ثانوي تجاهلته عمدًا. لم تكن قيمتي الحقيقية هنا، ووقعت في فخّ التطرف. كان عقلي قويًا جميلًا ومغريًا، لكن الثمن المقابل انفصالي عن جسدي وصورتي. لا أعلم ما هي الشرارة التي أعادتني لنفسي، ربما انتقالي لمدينة أخرى؟ أو صديقاتي الجدد اللاتي أحطت نفسي بهنّ؟ أصبحت ألاحظ وأراقب وأتعلم. كيف تبدو حقيقتي؟ كان الانسجام بين العقل والجسد والروح هو ما يمنحني حقيقتي الكاملة.  وهكذا، بدأت رحلة استعادة ذاتي. ليس بإنكار ما بنيته، ولكن بإضافة ما أهملته. لم تكن العودة سهلة، لكنها كانت ممتعة. لحظات صغيرة صنعت الفارق: اختيار لون أحمر شفاه يبهجني، تخصيص وقت لنفسي بعيدًا عن القراءة والعمل، العودة لعادات قديمة كنت أحبها. واكتشفت أن الجمال لا يتعارض مع الذكاء، بل يكمله. التحدي الأكبر هو إيجاد جسر يعبر بين جمالية العقل والشكل، لن أقول التوازن التامّ فالأمر بالنسبة لي أرجوحة تحكم حركتها الظروف التي تحيط بي، التعليقات التي أسمعها، وما سيضغط أزراري في ذلك اليوم!

رويت لمرشدتي قصة الصور المفقودة من عطلتي الطويلة والمبهجة، وأعطتني تعليقًا سيعيش معي طويلا: كيف يمكنك رؤية الجمال في كلّ شيء حولك ولا ترينه في نفسك؟ عشرات، بل مئات الصور التي التقطتها للأعمال الفنيّة في روما، والأشجار الخريفية في باريس، ومئات الصور لغروب وشروق الشمس في مكانٍ ما. حتى أحبتك من حولك تحتفظين لهم دائمًا الكثير من الصور، فلمَ لا تفعلينها مع نفسك؟ لتكن البداية من هنا. هذا الجمال الذي أبدعه الخالق من حولك أنتِ جزء منه، أديري العدسة باتجاهك والتقطي صورة.

كان حديثها معي ملهمًا، ومن يومها وأنا أتعلم كطفلٍ يخطو، التقاط الصور العفوية، والسماح للآخرين بذلك، وقبول الإطراء -مع صراعاتي الداخلية- ابتسم وأشكرهم وأقبل الهدية لأحملها في قلبي. في كل مرة كنت أقاوم، أذكّر نفسي بابتسامتي التي أحبّ، بنجاحاتي الصغيرة التي حققتها بصورتي وعقلي معًا.

هذا الصّباح وبينما كنت استعد للخروج للعمل، أنظر لنفسي في المرآة وأرى امرأة بصورتها الكاملة، عقلها قويّ وروحها مشعة وأنوثتها لا تقلّ حضورًا عن ذكائها. وهذا كلّه يعني لي الكثير.

.

.

.

Painting by Alfredo Protti

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.