روما: وداع المدينة الخالدة

أين توقفت حكايتنا المرة الماضية؟ تشجعت هذا المساء لإنهاء التدوينة الأخيرة من السلسلة قبل أن تتبخر الحكايات تدريجيًا من رأسي. هذا الأسبوع أعادني لروما أكثر من مرّة، بدأ الأمر خلال زيارة بنات خالي لبيتنا وحديثهم عن رحلتهم الإيطالية الملوّنة. زاروا فيها الشمال الإيطالي وانتهت بروما. لكلّ منا حكاياته الخاصة عن المدينة، تبادلنا التجارب والملاحظات وتحققت من جديد أن لكل مدينته التي تحتضنه. ابنة خالي أحبّت فلورنسا كثيرًا ولم ترق لها روما بنفس الدرجة. قلت لها أنّي قاومت البكاء بعينين دامعتين وأنا ارتفع بعيدًا عن روما وهذا يحدث للمرة الأولى في حياة أسفاري.  

والمرة الثانية كانت وأنا أقاوم الأرق بتقليب صور الهاتف، وتوقفت مطولًا عند صورة لي ولوالدتي في نهار مثالي من أكتوبر. كنا نرتدي الأزرق في اتفاق سبق زيارتنا لمعرض بورغيزي. أجّلت زيارة المكان لنهاية رحلتي تقريبًا كمن يؤجل التحلية لنهاية الوجبة. متأهبة وصلت باكرًا وانتظرت ووالدتي في الحديقة تحت الشمس الساطعة والحنونة في ذات الوقت. كل شيء حولنا مثل مشهد مجتزأ من لوحة كبيرة سبحان خالقها. الأشجار والزرقة والغيوم التي نودّ لو نقبض عليها. التقينا بمرشدتنا عند مدخل المعرض ومع مجموعة صغيرة بدأنا الجولة. خيار الجولات الجماعية لم يكن خياري المفضل في السابق، لكن روما كانت مدينة المرات الأولى بامتياز. مرشدتنا طالبة فنون جميلة متحمسة تضع يدها بلطف على بطنها وانتبهت لحملها الثمين! هذا الصغير أو الصغيرة برفقة أمها كل يوم في جولاتها تستمع للحكايات وأسئلتنا الفضولية.  

يحتضن القصر كنوزًا عدة من الفنّ الأوروبي، وكغيره من المعارض التي زرناها يجمع اللوحات والمنحوتات. قصة هذا المعرض بدأها سكيبيوني بورغيزي الكاردينال وجامع المقتنيات الفنيّة. الذي عُرف بكونه راعي للفنون والفنانين ومنهم جان لورينزو بيرنيني وكارفاجيو. في كلّ زيارة لمعرض فنّي يكون لدي هدف أساسي وآخر ثانوي وقد تتعدد الأهداف وأحبّ كثيرًا المفاجآت. الهدف الأساسي هو رؤية مجموعة منحوتات جان لورينزو بيرنيني. وأهمّها “اختطاف بروسربينا”، القطعة الأهم في المجموعة وتفاصيلها الواقعية التي تحبس الأنفاس. يمكنكم رؤية الدقة والاحترافية والجنون في الفنّ! هذا النحات الذي يعمل مع الحجر وكأنه يفصل قطعة من حرير. يمكنكم رؤية المفاصل والعضلات والاجساد في حركة مستمرة. درت حول المنحوتة عدة مرات وفي كل خطوة أقف للحظات مذهولة. قطعة الرخام الهائلة تتوهج وكأنها جسد حيّ. أصابع بلوتو المغروسة بعنف في جسد بروسربينا وألمها ورهبتها التي كان بيرنيني قادرًا على حبسها في قطعة من الحجر، وتحويلها إلى مشهد ينبض بالحياة. وإذا التفت حولك سترى نظرات الانزعاج من المشهد المزعج وفي لحظة أخرى الإعجاب الشديد بصنعة بيرنيني وحرفيته العالية.  

وددت لو قضينا النهار بطوله في هذه الغرفة لكنّ مرشدتنا انتقلت لقاعة أخرى وحاولت التأخر قليلًا قبل اللحاق بها وبالمجموعة. في قاعة ثانية استقبلنا عمل آخر من أعمال بيرنيني “أبولو ودافني”، هذه المنحوتة التي تجسد لحظة تحول دافني إلى شجرة هربًا من أبولو. الحركة من جديد، الحركة والرخام الصامت كيف لهذين النقيضين أن يجتمعا؟ الحركة المتدفقة في المنحوتة تقبض على انتباهنا. فالأوراق في كفي دافني تنبثق من يدها في لحظة تحوّل أبدي. التوتر بين المطاردة والهرب، والحياة والتحول.  

عبرنا صالة ضخمة زينت جدرانها وسقوفها بالنقوش والتقطت عيني في زاوية بعيدة غرفة روائع كارفاجيو. رقصة الظل والضوء التي تميّز لوحاته وتمكننا من التعرف عليها بين مئات الأعمال الأخرى. لوحة “داوود يحمل رأس جالوت” واحدة من الأعمال التي تذهلني حدّ الرعب. واقعية رسم الملامح والموقف. تعكس اللوحة صراع الفنان الداخلي بين الضوء والظلام الذي يعيشهما، وهذا ما أشارت إليه بعض الكتابات فوجه جالوت هنا رُسم انعكاسًا لوجه كارفاجيو.  

مضت الساعات الثلاث التي قضيناها في القصر وزواياه الفنيّة بسرعة عبور الغيم في الخارج. لم أتمكن من زيارة الحدائق بالكامل لكن اقتنيت كتابًا من المكتبة لتعليم رسم النباتات والأزهار مستوحى من الحديقة وجمالها. عدنا للفندق أطراف هذا اليوم الجميل وقد غمرت المدينة إضاءة ذهبية دافئة. نسيم هادئ وجموع الناس تتجه لوسط المدينة حيث يبدأ صخب الليل. أقفلت أمنية أخرى وملأت خزانة الذاكرة بالصور.  

في وداع مدينة واستقبال أخرى 

نهاري الأخير في روما كان مليئًا بالعشوائيات. أردت السير بلا خطة حول المنطقة، وتناول العشاء في مطعمنا المفضل القريب. ثم تذكرت زيارة قائمتي القديمة المنسية ووجدت فيها مكانًا جيدًا لرؤية المدينة من منطقة مرتفعة. السلالم الاسبانية لم تف بالغرض والمطاعم حولها أقفلت حجوزاتها باكرًا. اخترت زيارة فيلا ميديتشي. وفيلا مديتشي يا أصدقاء هي مركز ثقافي فرنسي في قلب روما. مرتفعة على تلة بينتشو هذه القلعة كانت وما زالت مركزًا للفنّ والثقافة منذ القرن السادس عشر. تجمع الفيلا بين العمارة الإيطالية الكلاسيكية والفنّ المعاصر في بعض معروضاتها. مبنى تاريخي منعزل وهادئ وجسر بين حضارتين. أودع روما اليوم لأذهب لباريس غدًا وأين أذهب؟ الاكاديمية الفرنسية.  

بنيت الفيلا في ١٥٤٠م من قبل الكاردينال جيوفاني ريتشي وانتقلت لاحقًا إلى ملكية أسرة مديتشي. وبفضل ثروة الأسرة وثقافتها تحولت الفيلا إلى واحة فنيّة جمع فيها الكاردينال فرناندو دي مديتشي مجموعته الضخم من التحف والآثار الرومانية. أما الحدائق المذهلة -حتى ذلك اليوم- فقد ضمت نوافير وتماثيل أثريه وما زالت من أجمل الحدائق في روما بإطلالتها التي لا تُنافس.  

وفي ١٨٠٣م حوّل نابليون بونابرت الفيلا إلى مقر للاكاديمية الفرنسية في روما، وهي مؤسسة أطلقها لدعم الفنانين والمبدعين الفرنسيين. وكان شروط الانضمام إليها كما أخبرتنا مرشدتنا في الجولة أن تكون رجلا فرنسيا عازبًا وأن تقضي إقامتك الفنية في روما وتتلمذ على يدي أشهر الفنانين والحرفيين. كانت مجالات الدراسة محصورة في الفنون الجميلة: كالرسم والنحت. واليوم تغيرت الشروط وأصبحت الأكاديمية تستقبل الطلبة من كل أنحاء العالم بلا استثناء، وتحتضن الفنانين وأسرهم ليقيموا في الفيلا وحدائقها الملهمة. واليوم يمتد عمل الاكاديمية ليشمل مجالات مختلفة من الفنون: كالرسم والنحت والموسيقى والأدب والسينما وغيرها من الفنون المعاصرة.  

لم تكن المعروضات الفنيّة وفيرة كما توقعت، وصعدت الكثير من السلالم وشعرت برغبة شديدة في التوقف والنزول ولكن كل هذا النشاط البدني أثمر. فما إن خرجت باتجاه الحدائق وتمهلت في التنزه بين أشجار السرو الإيطالية، وسمعت الصوت المحبب لأوراق الخريف تحت قدمي واتجهت إلى جانب المبنى المفتوح على المدى، حتى استقبلني منظر من الأحلام. ولم أدر حينها هل التقط صورًا بهاتفي أم بكاميرا الفيلم؟ وقررت أن ألتقط كل الصور الممكنة فهذا المنظر يستحق التذكر والمشاركة.  

قائمة مفضلات قصيرة 

جولات التسوق السريعة هي سمة مغادرة المدن دائمًا. لم يكن لديّ قائمة أو أماكن مفضلة أبحث عنها. بعض الأماكن ظهرت في طريقي مصادفة وأخرى بعد بحث واستكشاف. زرت مكتبة في مكان غريب تهبط السلم إليها مثل محطة مترو وكانت الكتب فيها على الأغلب إيطالية مع مجموعة محدودة من كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية. لعبت مع نفسي لعبة ممتعة هناك. كنت أمر بين الرفوف والطاولات وأقرأ عناوين الكتب وأحاول أن أحزر عنوانها العربي خاصة مع ظهور اسم المؤلف أو الغلاف الشهير لرواية أو سيرة أو مجموعة قصص.  

وفي يومٍ آخر اكتشفت محلّ عطور إيطالي عطوره كلها بأساس زيتي ولا يمكن استخدامها على الملابس أو الاقمشة. استخدامها يعني رشها مباشرة على الجلد. واخترت عبوات صغيرة من العطور التي وقع عليها الاختيار لتجربتها وربما العودة إلى المحل من جديد.  

أما الجلود والحقائب فاخترت مكانين فقط وحرصت أن يكون المتجر إيطالي وأن يصعب علي إيجاده في مكان آخر. هذا هو محكّ التجربة الكاملة في زيارة مدينة جديدة.  

أما مكاني المفضل رقم واحد فكان Antica Libreria Cascianelli لستُ أدري إن كان متجرًا للعاديات أو مكتبة أو صالة فنيّة أو منزل زوجين ظريفين لديهما الكثير للحديث عنه! قضيت وقتًا لا بأس فيه بعد رحلة غداء. اكتشفت ووالدتي صناديق امتلأت بصور لغرباء من كل مكان. صور من عشرينيات القرن الماضي بل أقدم من ذلك، والاربعينيات والخمسينيات. صور لأطفال صور لاحتفال زوجين، وأخرى لأمهات وأطفالهنّ. التقطت عشرات منها وفكرت سأكتب قصة لكل صورة وسيكون تمرين كتابي رائع.  

ومكاني المفضل رقم ٢، متجر القرطاسية والجلود فابريانو، تعرفت عليه أول مرّة في مارليبون في لندن قبل عدة سنوات. وأصبح على قائمتي الايطالية المنتظرة. قرب السلالم الاسبانية متجرهم الرئيسي الضخم وإذا فاتكم زيارته في المدينة ستجدون معروضاته في متجر جيّد في مطار روما لهدايا اللحظة الأخيرة قبل الانطلاق.  

وأنا أكتب الجملة السابقة أدركت أن سلسلة روما انتهت هنا، لديّ الكثير من القصص والتأملات التي قد تستيقظ فجأة في مساءات لاحقة. هناك الكثير من الصور على حسابي في انستقرام وقائمة محفوظة يمكنكم الاطلاع عليها والتعرف على القصص المصورة وراء الكلمات هنا.  

شكرًا لكم!  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.