الحياة السريّة للبراكين

استخدمت الفنانة الأمريكية بيتي مارتن العبارة هذه لتصف لوحة استوحتها من صورة فضائية لحرّة خيبر قرب المدينة المنورة. عندما قرأت العبارة استقرت في ذهني: أريد كتابة تدوينة لها هذا العنوان! لم أجد شيئًا يصف ما أمرّ وأشعر به مثل هذا. براكين تثور وتهدأ لمئات السنين دون حركة. لا أحد يتوقع متى تثور مجددًا ولا أحد يتوقع ما الأثر الذي سيتركه هذا الثوران المفاجئ. كنت اتحضّر هذا الأسبوع للحديث عن رحلتي الأخيرة إلى باريس. زيارة لمكان محبوب ودهشة متجددة. ومنها أكمل سلسلة تدوينات رحلة أكتوبر. لكن التفكر في نفسي طغى على كلّ المشاريع الكتابية. أريد تدوينة عشوائية تصف ما أمرّ به هذه الأيام.

أكتب هذه التدوينة في قهوة صغيرة في حيّ لا أذكر اسمه في مدينة الخبر. هذه المدينة التي تبخّرت مشاعري وذكرياتي نحوها على امتداد السنوات العشر الماضية. أزور المنطقة الشرقية لحضور مؤتمر الفنّ الإسلامي في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء». عنوان هذه الدورة: «في مديح الفنّان الحرفي». لا يمكنني إخفاء رغبتي العظيمة في البحث عن إلهام أو إشارة تعيدني لكلّ الأشياء التي أحبّها. قبل أكتوبر كتبت تدوينة عن العشر سنوات الماضية، وهذه الرحلة تأتي تحديدًا في الذكرى العاشرة لمغادرتي المنطقة الشرقية. وصلت للمطار ونظرت لرقم البوابة وابتسمت: نفس البوابة التي سافرت منها للرياض! نفس صالة الوصول لكن منطقة المبيعات أكبر. في الخارج الجوّ لطيف مع إننا في منتصف اليوم، لم تكن الشمس حامية، والطريق إلى الخبر قصير جدًا بشكل مضحك! أو أنّ ازدحام الرياض روّضني لتصبح رحلات السيارة فوق أربعين دقيقة مجرد فسحة قصيرة في اليوم.

تابعت قراءة كتاب بدأته قبل سفري الماضي: كتاب من المكتبة العامّة لسوزان أورلين وتوقّفت عند اقتباسات كثيرة منه. لكنّ أهمّها كان التالي:

«في السنغال، التعبير المهذب لقول إن شخصًا ما قد توفي هو قول إن مكتبته أو مكتبتها قد احترقت. وعندما سمعت تلك العبارة للمرة الأولى، لم أفهمها، ولكن مع مرور الوقت أدركت أنها تعبير مثالي. إن عقولنا وأرواحنا تضمّ مجلدات خطتها تجاربنا وانفعالاتنا؛ ووعي كل فرد هو مجموعة من الذكريات صنّفناها وخزّناها داخلنا، لتكون مكتبة خاصّة لحياة عيشت.»

قرأت الاقتباس قبل وصولي للخُبر، ومنذ ساعات الصباح الأولى في اليوم التالي بدأت بتأمل الاقتباس من زاوية مختلفة. لقد احترقت مكتبة الخبر في قلبي! لم يعد هناك أي مشاعر ارتباط أو فرح غامر بالوصول، وهذه المدينة بالتحديد كانت المتنفس الذي نهرب إليه في نهاية الأسبوع لكنّها كانت مدينة أخرى وكنّا زوّارًا مختلفين. الواجهة البحرية لم تعد تلك التي ألفتها، الكثير من الحواجز الخشبية ولا يمكنني رؤية البحر بالمرور في الشارع الرئيسي. أنا بحاجة للوصول من الداخل لرؤيته. بعض المحلات والمجمعات التجارية الصغيرة ما زالت في مكانها. أفكّر في زيارة مجمع الراشد حيث كنا نقضي جلّ رحلتنا الأسبوعية. تسوّق وتناول لوجبة سريعة أو قهوة ومن ثمّ العودة. حتى الطرق داخل المدينة وتحويلاتها تغيرت. أحاول التقاط الصور الذهنية لأعرف أين يتجه سائق أوبر لكن المعالم تغيرت وذاكرتي: احترقت.

طريق الإخلاء

كان الهدف الثانوي من زيارة المنطقة الشرقية هذا الأسبوع (بعد زيارة مؤتمر الفنّ الإسلامي) زيارة الجبيل الصناعية. أردت إقفال ملفات مفتوحة في رأسي منذ عشر سنوات. فهذا الأسبوع يعلن الذكرى العاشرة لصباح بارد ملأت فيه حقائبي وانطلقت إلى المطار. غادرت منزلنا مع الفجر، حجزت رحلة مبكرة لألحق بساعات العمل يوم الأحد. عدت للمنزل بعد أن تأكدت بأن عائلتي ستنتقل إلى الرياض بشكل كامل. وجد والدي وظيفة استشارية مناسبة لتقاعده، ووجدنا الفيلا المناسبة للسكن وأخرى مجاورة لمركز والدتي وأعمالها. أذكر تسللي من الغرفة كي لا أزعج نوم جدّتي. لا أذكر سبب تواجدها هنا في ذلك اليوم؟ هل كان للدعم النفسي؟ أو أنها تحبّ اللحظات العاطفية المؤثرة. تريد أن ترتجل أبيات من قصيدة مؤثرة وتبكي قليلًا وتبكينا. بعد انتقالنا لسنوات وفي كلّ مرة تزور أخوالي هناك تمرّ بالبيت وتتذكر. أذكّرها أنّه لم يعد لنا وهؤلاء الناس الذي يسكنونه ينشدون الهدوء. ما حصل خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه أنني أقلقت هدوءهم بالتجول حول المداخل والتقاط الصور والذكريات. فعلتها مع بيوتنا التي سكناها في المدينة. ومع مدرستي الابتدائية وزوايا أخرى أردت وضعها في صندوق وإطلاقها في الحياة.

اختيار وقت النهار لزيارة المدينة كان لرسم ذاكرة جديدة غير تلك التي تركتها ورائي. انتبهت لشيء وحيد افتقده في مدينتي الحالية: الكثير من الأشجار والخضرة. ممرات المشي بين الاحياء والهدوء المطبق الذي وجدت في الحارات عند الساعة الواحدة ظهرًا. كأنني باغتت حلم أحدهم، حلمي ربّما؟ أقول لصديقتي عندما توقفنا أمام بيت مختلف جذريًا لا أذكر منه إلا أشجار الشارع حوله: كنا هنا وكان البيت بدورٍ واحد، له مدخل من هنا وما إن التففت حول الشارع حتى رأيت المنـظر الجديد. بيت بدورين، لونه أبيض وزخارف جصّية حول نوافذه. الباب الرئيسي ملغي ونُقل لجهة الشمال حيث كنا نقف بانتظار الباص وتطلّ والدتي من السور لتتأكد من مغادرتنا بأمان. أذكر الممر طويلًا وموحشًا في صباحات الشتاء، تغيرت أحجامنا وصار رصيفًا ضيقًا يسهل عبوره في عدة خطوات.

على هذا المنوال انتقلنا من بيت لآخر، وتوقفنا لاستراحة في مقهىً جديد نسبيًا. طلاب الكلية والتخصصات التقنية والموظفين وطالبات الكلية القريبة وفتيات المدارس كلنا في فترة استراحة من شيءٍ ما، القهوة كانت لذيذة وباردة ومنعشة. تركتُ بيتنا الأخير للوقفة الأخيرة. تفحّصته غير مصدقة لما آل إليه. حزين جدًا ومهمل بشكل ملحوظ. الألوان الجديدة والتفاصيل التجميلية منحته مظهرًا فوضويًا. ما زال الحديد المزيّن على النوافذ نفسه لكنّه متناقض بشكل صارخ مع ألوان المنزل الحالية. وقفت قبالة نافذتي الأخيرة -تنقلت في البيت ثلاث مرات وكان لي ثلاث نوافذ تطلّ على منظر مختلف.

غادرت الجبيل بعد أن أقفلت الفصل المتبقي من القصة تمامًا. كانت السماء غائمة والمطر ينهمر خفيفًا. هذه الصورة الرومانسية لمنظر معتاد وهو في هذه الحالة الخروج من المدينة إلى الفضاء الرحب. في كل مرة كنت أسافر عنها لا انتبه للوحة صغيرة على الطريق تشير إلى «طريق الإخلاء» المحاذي للمنطقة الصناعية. عشت لثلاثين سنة في مدينة صناعية مجهزّة لإخلاء سكّانها في حال الطوارئ. لم انتبه للوحة قبل اليوم وشعرت بأنّ هناك رسالة خفيّة وراء ذلك. انطلاقنا على الطريق مبتعدين، باسمين، متحفزين لأيامنا القادمة.

الجزء المفقود من الأحجية

خلال السنوات الماضية كنت استكشف سبل عيش حياتي بكلّ الطرق. أهداف متحركة ومتغيرة، أهواء وهوايات وعلاقات. تدور الدوائر وتنفتح وتنغلق وأنا ما زلت في حالة تجريب مستمّرة. لكنّ الشعور الغامر الدائم كان: أين أنا الآن؟ وما الذي أريده حقًا؟

التقيت خلال رحلتي القصيرة بثلاث سيّدات لطيفات، عرفتهن في فترات مختلفة من حياتي. كنتُ في كلّ مرة شخصًا مختلف لكن الجوهر موجود. دوائرنا متشابكة بشكل عجيب وغير متوقّع. تحدثنا في كل شيء تقريبًا. حدثتهم عن رحلتي هذه وعن تساؤلاتي وبحثي عن الجزء المتبقي من الأحجية الكبيرة: كيف مضت هذه السنوات وكيف أقبض على ما أحببته من النسخ الماضية لهيفا؟ أحببت نظرتهم المتعمقة ورؤيتهم المحفزة حول الموضوع. وجدت إجابات منعشة ستقودني إلى فصل جديد.

أحبّ الكتابة هنا جدًا، وفي الفترات التي أضعت طريقي باتجاه فكرة قديمة أو شعور مفقود، يكفي أن انقر على مساحة البحث وأجد ما أريده ماثلًا أمامي. قصاصات صندوق مجوهرات نفيسة لا يمكنني إبداله أو التخلي عنه.

.

.

.

*الصورة في التدوينة لنافذتي الأخيرة في الجبيل

.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.