ما الذي يمكن حدوثه في عشر سنوات؟

هذه التدوينة ولدت في المسودة قبل عدة أسابيع، وكلما مرّ أسبوع جديد غيرت عنوانها بتاريخ الأسبوع التالي وهكذا. صراع طويل مع الوقت ومع التركيز ومع رغبتي بالكلام وانعدامها. الفرصة سانحة هذا الأسبوع لأنه الأخير قبل عطلة قصيرة. شحنت حماسي هذا الصباح لأنتهي من كتابتها ونشرها. في رأسي تدوينات مستقبلية ستولد في العطلة بإذن الله، ولأفسح لها المجال ينبغي أولًا الانتهاء من هذه.

أحببت وصفًا سمعته لمدونة تتحدث عن الخريف وما يعني لها، هنا لا نرى تبدل الفصول كثيرًا لكننا نشعر بها. في الرياض مثلا تصبح ساعات منتصف اليوم أكثر احتمالا في الظل. وأفكر في الصباح هل حلّ وقت سخان الماء بعد؟ أو يمكنني احتمال لسعة البرودة في الماء؟ الأطعمة تتغير في السوبرماركت وفواكه الصيف اللذيذة تودعنا تدريجيًا.

“الخريف هو بداية السنة” قالت بحماس! وفكرت في وصفها. يرتبط الخريف بعودتها للمدرسة وشراء القرطاسية والملابس والأحذية الجديدة ورؤية الأصدقاء. وبالنسبة لي هو كذلك. بالإضافة إلى اقتراب شهر ميلادي والشهر الذي قررت فيه قبل عقد من اليوم الانتقال إلى مدينة جديدة.

قبل عشر سنوات بالضبط كنت في الجبيل، بعد رحلة طويلة إلى نيويورك بصحبة موضي أختي. كانت هناك لحضور أسبوع الموضة وكنت رفيقتها في الاكتشاف والتجول. عدت وبدأت فورًا تحديث سيرتي الذاتية، وانطلقت للبحث عن وظيفة في الرياض. العروض الوظيفية لم تكن مغرية في البدء، وقضيت شهري أكتوبر ونوفمبر في التردد بين المدينتين لإجراء المقابلات والاستعداد.

في مرة ذهبت لمقابلة وظيفية وقدمي مصابة. الليلة السابقة للمقابلة وقفت على زجاج مهشم ونزفت قليلا لكن الوقت لم يسمح بزيارة الطبيب. لففتها وذهبت بخطوة مائلة. وحصلت على الوظيفة.

لم أفاجأ بسرعة القرار، هذه هي طريقتي في كثير من المواقف: الهروب إلى الأمام!

٢٠١٤ كانت سنة جميلة وممتعة ومفصلية. نُشرت في بدايتها ترجمتي الأولى. ولاحقًا كتاب ساهمت في ترجمته برفقة مجموعة من المترجمين العرب.

قرأت كثيرًا.

شعرت بالفوضى والقنوط.

وتبدّلت كما تبدّلت الفصول.

في اللحظة التي أغلقت حقائبي ومضيت عرفت يقينًا أن الحياة لن تعود إلى ما اعتدته. واليوم من هذا المكان أكتب وابتسم لكلّ الذكريات العجيبة والمحزنة والمبهجة التي غمرتني في مسكني الجديد.

كلما حاولت تذكر الأيام التي سبقت انتقالي للرياض أفشل في ذلك. الأمر المؤكد الوحيد هو الكلمات التي دوّنتها. أذكر فقط ما كتبته. كلّ شيء تبخر وتخففت تدريجيًا من كل الأشياء التي ارتبطت بتلك الحقبة. آخرها مفتاح غرفتي الذي حملته بين الصناديق وأظنّ الباب نفسه لم يعد موجودًا.

أغمض عينيّ أحيانًا واتذكر يومي من الصباح للمساء، كيف مشيت في الممرات وحيدة، كيف كانت وجبة الإفطار؟ ما الكتاب الذي قرأته؟ تساعدني كتاباتي القديمة ويومياتي، وذكريات انستقرام في النظر لتلك الأيام وتذكرها بحبّ. اتجاهل الألم والفوضى وانعدام الاستقرار الداخلي.

إننا نحقق أماننا عندما نستقر.

عندما نشعر بوجودنا بكثافتنا وبثقلنا على الأرض.

وهذا كله كان مفقود في الشهور الأخيرة قبل انتقالي للرياض. صديقات الطفولة تبدّلن في لحظة وحملت نفسي مسؤولية الانغلاق على الذات والاكتفاء بصديقتين لأكثر من عشرين عامًا!

ما إن انتقلت للرياض حتى فتحت المدينة ذراعيها. ولا أقصد مجازيًا فأهلها وكرمهم وحبّهم احتضنوني في أصعب مراحل الانتقال: الانفصال التامّ عن حياتي السابقة والانخراط في المجهول.

عندما يسألني أحد اليوم ما هي أفضل علاقاتك الاجتماعية؟ أو ما هي أجمل أيامك؟ عدا سنوات الطفولة الأولى. أجزم أنها العشرة الأخيرة منذ انتقالي للرياض.

تنتابني الكثير من المشاعر هذه الأيام وأنا أتذكر أيامي الماضية، وما حققته، وهذا الحلم الطويل الذي انتظرته ومع الركض أنسى أحيانًا أن أقف واتأمل. الحمد لله على ما مضى وما سيأتي.

تغيّرت أشياء كثيرة فيّ. حتى طريقة تفكيري وتفاعلي مع الأمور-للأفضل طبعًا. ومع تغير أماكن العمل والأشخاص الذين مررت بهم ومرّوا بي اكتسبت الكثير وخسرت الكثير بالمقابل. ولكن، لم يتغير الكثير. هواياتي الأصيلة ما زالت منتعشة وصامدة، وفضولي، وحبّي للتعلم، والتحسين.

لا شيء قاطع ونهائي أبدًا!

هذه الحقيقة تبهجني.

انتظر بحماس السنوات القادمة، ميلادي الثاني والأربعين، عطلتي القصيرة المنتظرة، واستعادة الذكريات وتسجيل أخرى.

.

تعليق واحد على “ما الذي يمكن حدوثه في عشر سنوات؟”

  1. عرفت معنى التوثيق وأهميته من صور أو يوميات أنها سبب ف استرجاع الذكريات اللي أهملتها الذاكرة

    مدونه جميله خفيفة كعادتك هيفاء ❤️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.