بعد نشر تدوينة الأسبوع الماضي (أن نكون مرئيين) وصلتني رسائل متنوعة بالإضافة للتعليقات هنا في المدونة وعلى انستقرام شجعتني على الحديث أكثر حول الموضوع. صادف أيضًا خلال الأسبوع أن مررت بتعليق على الانترنت بصياغة تشبه التالي: «أكثر ما يخيفني وآمل في تحقيقه: أن أكون مرئيًا» تذكرت فورًا حديثي عن الأمر وكيف نتأرجح بين هاتين الرغبتين. أريد أن امتلك المرونة في الظهور والاختباء متى ما أردت. ولكن حتى يتحقق لنا ذلك يجب علينا العبور خارج قوقعتنا والتعرف على العالم بعيدًا عن حمايتها، والعودة إليها لإعادة شحن الطاقة والاختلاء بالنفس.
بالنسبة للكثيرين، تبدو فكرة الخروج من القوقعة إلى حياة اجتماعية صاخبة مغامرة مخيفة. بالإضافة لذلك هناك عوامل أخرى تساهم في شدة الأمر منها: أن تكون شخصيتك ذات طبيعة انطوائية تنتعش في الهدوء ومساحات الراحة، أو تعاني قلق ورهاب اجتماعي أو شعور شديد بالخجل. كل هذه العقبات تزيد من حاجتنا للشجاعة والتي تبنى تدريجيًا بالمران والممارسة.
سأحاول في الأفكار أو الاستراتيجيات التالية تضمين تجارب وقصص شخصية مررت بها في طريقي وأتمنى أن تساعدكم في التغلب على مخاوفكم والوصول إلى حياة مشبعة على الصعيد الشخصي والاجتماعي والمهني.
فهم المخاوف والمعتقدات المقيّدة
أولى خطوات بناء الشجاعة والتعامل مع الأمر هي تحديد وفهم المخاوف والمعتقدات المقيّدة لك في الوقت الحالي. أحبّ دائما استخدام الأسئلة في الوصول لحقيقة شعوري تجاه الأشياء أو اكتشاف الأسباب الحقيقية وراءها. ما الذي يخفيني من التواجد في أوساط اجتماعية مختلفة؟ هل الخوف مرتبط بالرفض أو التصرف بشكل غير مقبول؟ هل هو الخوف من المجهول والبدايات؟ كلما طرحت المزيد من الأسئلة كلما فهمت نفسي أكثر.
إحدى مخاوفي السابقة كانت الخروج لأماكن جديدة أو خوض التجارب وحيدة والسبب في اعتقادي هو أنني كبرت بصحبة أخواتي وقضينا جزء كبير من حياتنا ملتصقين ببعض. الذهاب للمدرسة، والعطلات، وحتى العلاقات الاجتماعية بيننا كانت مشتركة. هكذا عشت العقدين الأولى من حياتي في دائرة اجتماعية ضيقة ولم أفكر أبدًا في الخروج منها. كانت الدراسة الجامعية هي أول مرحلة للخروج من القوقعة والهاجس الذي تملكني حينها: هل سأنجو؟ كلما تذكرت تلك الفترة أشعر بالعجب من النفس البشرية وكيف تطوعها التجارب وتساعد في نموّها. تجربة الدراسة تبعها الانتقال لمدينة أخرى، والعمل في مجالات مختلفة. وكلما ابتعدت أكثر عن دائرتي الضيقة تصبح مرساة أكثر من كونها قوقعة حاضنة.
التعاطف مع الذات
قد نجنح قليلًا إلى القسوة على أنفسنا خلال مرحلة التعلم والاكتشاف، ربما لأننا نحاول اختصار المراحل والابتعاد عما نظنه نقيصة في شخصياتنا. لكنّ التعاطف مع الذات واحترام التقدم الذي نحرزه وإن كان صغيرًا ضروري لمواصلة العمل.
عندما نرتبك ونتراجع عما تعلّمناه لا يعني ذلك نهاية الطريق فقد يكون مؤشرًا لشيء مختلف. ربما تحتاج مزيد من التروي أو تجربة التواصل مع دائرة أكثر دعمًا. هذا التعاطف يساعدك في بناء المرونة والمحافظة على نظرة إيجابية تجاه كلّ ما تفعله.
البدء بالتدريج
في اللحظات الحماسية التي نقدم أو نقرر فيها الاقدام على أمرٍ ما نبدأ بالتخطيط لانطلاقه كبيرة! لكن ما إن نفكر قليلًا في الموضوع حتى نكتشف بأننا غير قادرين على ذلك. وقد تكون هذه أول خطوات الفشل للأسف. بناء الشجاعة للخروج من القوقعة لا يعني تنظيم حفل ضخم ودعوة آلاف الأشخاص واستقبالهم عند البوابة وتقديم عرض مسرحي حيّ ببطلٍ واحد. مجرد التفكير في هذا السيناريو يرعبني. البدء بالتدريج هو السرّ وقد كنت محظوظة بأن هناك الكثير من الأشخاص الذين أمسكوا بيدي بينما شققت طريقي باتجاه مساحة الضوء.
كانت هناك مبادرات شخصية بالتعرف على الآخرين مثل تنظيم تجمعات صغيرة، أو الانضمام لنادٍ هوايات مصغر، أو حتى إجابة دعوات الصديقات والمعارف للانضمام لدوائرهم.
الرابط بين هذه المحاولات هو الأشخاص الذين أشعر بالراحة حولهم وصحبتهم تقلل من توتري. وفي مرات أخرى كانت مرشدتي تدلني على تمارين شهرية / أو أسبوعية كأن أجيب بنعم على كل الدعوات الاجتماعية ولا اتملص منها. وأجيب بنعم على مشاريع ومهام العمل التي تخرجني من روتيني اليومي. هذا النهج ساعدني في بناء الثقة وتقليل القلق المصاحب بمرور الوقت.
مواجهة الأفكار السلبية
تولّد المواقف الاجتماعية المختلفة في عقولنا الكثير من الأفكار السلبية التي قد تزعزع ثقتنا بأنفسنا. التملص من هذا الأمر يبدو مستحيلًا في الكثير من الأحيان خاصة إذا كان لدينا الاستعداد لها بسبب داخلي أو خارجي. لكن تحدّي هذه الأفكار بالأسئلة والتحقق يساعدنا على تجاوزها. أمر آخر أحبّ تأمله: الجميع يشعر بالتوتر ولو بنسبة ضئيلة وأسباب مختلفة.
تحديد أهداف واقعية
أشعر بأن هذه الفكرة مرتبطة بالبدء بالتدريج. التفكير في تغيير طريقة تفاعلي مع العالم الخارجي وتجربة سيناريوهات اجتماعية جديدة كان مرتبط بقصتي الشخصية. ما هي الأشياء التي يمكنني فعلها براحة؟ إلى أي مدى يمكنني المجازفة؟ ما هي المواقف التي ستضعني في مساحة جديدة ولن تصطدم بثقتي أو قدراتي؟
وضع الأهداف الواقعية يشبه زيادة تكرار التمرين كل مرة أو زيادة الوزن الذي يمكن تحمّله، اليوم ٣ كيلو وبعد عدة أشهر ١٠ وهكذا. إذا حملت ثقل أكبر دفعة واحدة ستعرض نفسك للإصابة!
حدد أهدافًا اجتماعية قابلة للتحقيق لنفسك. يمكن أن يشمل ذلك بدء محادثات مع أشخاص جدد، أو حضور المناسبات الاجتماعية، أو التطوع في أنشطة جماعية. عندما تحقق كل هدف، سوف تكتسب إحساسًا بالإنجاز وتعزز ثقتك بنفسك.
بعد الانتقال إلى مدينة أخرى بعيدًا عن عائلتي بدأت اتقان الخروج وحيدة في بعض المرات، وتعرفت على دوائر اجتماعية جديدة. بعد أن حققت هذا الهدف كنت أفكر في السفر وحيدة كيف سيبدو ذلك وكيف سيثري محاولاتي في الخروج من القوقعة؟
خططت لرحلات مستقلة لكنها كانت على بعد ساعات من مسكن إخوتي. البداية كانت مع نيويورك الصاخبة، واستعنت في أيامي تلك بجولات مع سكان المدينة أو من عرفتهم من الأصدقاء. أحب استخدام التشبيهات كثيرًا وتلك الفترة كانت مثل قيادة دراجة بثلاث عجلات، أزلت إحداها في رحلاتي اللاحقة.
السفر وحيدة دفعني لتحقيق هدف تلو الآخر. على سبيل المثال التحدث عن نفسي في مجموعة غريبة عني أو إدارة محادثة سريعة مع الغرباء بعد أن كانت مصدر امتعاض وهلع!
أفكار إضافية
- احتضان التحديات والعقبات والنظر إليها كفرص للتعلم والنمو. عندما نتعامل مع الحياة بهذه الطريقة نصبح أكثر استعدادًا لتحمل الصعوبات والانتقال بينها بسهولة ومرونة.
- التفاعل مع الآخرين طريق باتجاهين، عندما نكون مستعدين للحديث يجب أن نتحلى بمهارات الاستماع الجيدة كذلك. مهارة الاستماع تهدينا فرص عديدة للتعلم من الآخرين ومراقبة سلوكهم. الاستماع الجيّد أيضًا يقلل حاجتنا للحديث في كلّ الأوقات ومع هذا الصمت يقل توترنا تجاه البحث عما نقوله.
- الانضمام للمجموعات وأندية الهوايات التي تتوافق مع اهتماماتنا فرصة للانطلاق من مساحة مريحة لنا ونحبها. دائما أجد سهولة في الحديث عن الكتابة والسفر أو الفنون لذلك تكون هذه المواضيع نقطة انطلاق في الحديث مع أشخاص جدد. المشاركة هنا أقل رهبة بسبب وجود القاسم المشترك ابتداءً ومن ثمّ تتطور المعرفة والتفاعل مع الآخرين مع الوقت.
- استعن بالأصدقاء أو الأقارب الذين يتمتعون بشخصيات اجتماعية نشطة وحيّة، أفعل ذلك عندما أكون في مناسبة عائلية ضخمة وأرغب بالتعرف على الأقارب أو التواصل معهم بعد غياب طويل. ميزة هذا الشخص أنه سيكون همزة وصل لكسر جمود وتوتر اللقاءات الأولى وسيكون الحديث بصحبته مثل عبور الجسر إليهم.
- في السياق المهني ابحث عن الأنشطة التي تقيمها إدارة الفعاليات في جهة العمل مثل الاحتفالات بالأعياد أو المناسبات المحلية وورش التدريب والهوايات. كلها تمثل فرص جيدة للقاء بزملاء عمل جدد والتواصل مع قطاعات أخرى.
- استخدم التخيّل (أو بناء التصورات) إحدى الأساليب الممتعة لبناء الشجاعة وتجاوز الخوف قبل أي حدث اجتماعي. بدلًا من تخيل سيناريو كارثي أو سلبي يهز ثقتي بنفسي، ابدأ بتخيل الأحاديث التي سأتبادلها مع الآخرين، وكيف سيكون هذا الحدث ممتعًا ومثريًا لي ولهم. لأنني في المقابل إذا استسلمت للتصورات السلبية سأشعر بالتردد وقد امتنع عن الخروج بشكل كامل وهذا يحدث في بعض الأحيان.
- للابتسامة قوة سحرية في تمهيد التواصل مع الآخرين. اقترح تجربة تبادل الابتسامة مع الغرباء في الأماكن التي تتواجدون فيها وسترون كيف تتطور إلى تحية أو تواصل إنساني عميق.
- إذا كان القلق أو الرهاب الاجتماعي يمثل تحديًا كبيرًا لك، اقترح طلب المساعدة والدعم من المتخصصين مثل المعالجين النفسيين أو المرشدين أو حتى الأشخاص الأكثر حكمة وتجربة حولك. يمكن أن تفيدك المشورة والمساعدة باستراتيجيات وأساليب للتغلب على مخاوفك وتجاوزها.
خاتمة
يتطلب الخروج من القوقعة والاندماج في حياة اجتماعية غنية ونشطة صبرًا ووقتًا وجهدًا ليس باليسير. وخلال هذه الرحلة لا بأس أن نشعر بالتوتر أو الخجل والتردد أحيانًا ونتذكر أن الكمال مستحيل في أوقات كثيرة وأن الأشخاص حولنا يشعرون بالضعف والنقص كذلك.
حاولت في هذه التدوينة جمع الأفكار التي تعرفت على فائدتها سواء بالاطلاع أو التجربة، والآن بعد أن كتبت ما سبق شعرت أنني بحاجة لمزيد من الكتابة والحديث عن زوايا أخرى في نفس الموضوع. وإذا أردتم الاستماع إلى المزيد حول تجربتي الشخصية مع القلق الاجتماعي استمعوا لحلقة أرجوحة القلق من بودكاست قصاصات. أتمنى أن تفيدكم وتترك أثرًا طيبا على حياتكم الاجتماعية وازدهارها.
.
.
.
التدوينة في وقتها تمامًا.. بعض السطور خلتني أدمع =”)
شكرًا هيفا على تدوينة كانت أشبه بحضن لطيف وهمس مرشد 💕💕💕
احيانا مجرد نية تفتح لك بوابات وتجيك اجوبة وخيارات ماكنت تتوقعها .
هيفاء انا افتح اللابتوب كل ماابغى اطلع اتقهوى اذا انت كاتبة شي اخذه معاي واقرأ لك .. لاتطولين =>