إذا كنت سأتحدث عن نفسي وخياراتي في العطلات، لم تكن لندن واحدة من الوجهات التي أردت زيارتها أو رؤيتها-على الأقل لم تكن ضمن الوجهات الأولى. علاقتي مع المدينة رسمتها من قصص الأقارب الذين يزورونها لعقود مضت. بالإضافة لتجربة والدي. والمرة الأولى التي عرفت فيها لندن وأبنيتها القديمة: في فيلم بيتر بان من ديزني! كل إجازة أو فرصة متاحة كانت تحملني إلى نيويورك. ولكن، كنت أسمع تعليق من صديقاتي وقريباتي: لكن لندن تستحق الاكتشاف، وهي تشبه كثيرًا الأحياء التي تفضلينها في نيويورك. سوهو وتشيلسي وويست فيلج كلها كانت نسخ ممتدة عن النموذج الأصل شرق المحيط.
جاء صيف ٢٠١٧م وكنت بدأت حينها وظيفة براتب جيد وإجازات حكومية طويلة. أخواتي كنّ في بنسلفانيا وقتها، وقضيت صيفًا طويلا وحدي. بحثت عن فكرة لإجازة فردية لطيفة وظهرت اسكتلندا الخضراء بين عيني. لقد جاءت اللحظة المناسبة لرؤيتها. تسهلت أمور الفيزا وحجزت تذكرة الطائرة للوصول إلى لندن ومن ثم السفر بالقطار لبدء رحلتي الإسكتلندية من أدنبره.
كانت صيفية موفقة! عندما وصلت إلى لندن كنت بلا خطة واضحة، فقط حجز فندق لثلاث ليالي، ومجموعة متحمسة من القريبات اللاتي يقضين كلّ صيف في المدينة منذ سنوات. تعلمت حينها فضيلة ترك القيادة للآخرين. كانت المرة الأولى في لندن ولم تكن الأخيرة. زرنا عدة مناطق في المدينة سوية. تناولت الطعام في قهوة اخترنها وفي مطعم آخر، وتركنا المدينة لمزرعة في الريف عدة ساعات في اليوم الثالث.
ذاكرتي غائمة إذا استعدت أغسطس ٢٠١٧ في لندن. اسكتلندا جوهرة رحلتي وبقيت تزورني في الأحلام حتى أعود لها في المستقبل.
إذا نجحت تلك الرحلة في شيء سيكون زراعة حالة من الفضول ستعيدني إلى العاصمة البريطانية مرة تلو الأخرى حتى ربيع هذا العام. أصبحت خيار إضافي لعطلة كسولة لا أركض فيها ولا أجهد نفسي بالتحديات أو الجداول المزدحمة. أذكر أنني تجرأت على العمل عن بعد في لندن. كتبت وبحثت وقرأت خلال ساعات الصباح الأولى بانتظار استيقاظ الجميع.
لم اكتشف ربع المدينة حتى الآن، ولا أنوي ذلك بسرعة. في كل زيارة أعود لنفس الأماكن والشوارع واكتشف بعض الزوايا الجديدة. نقطة الانطلاق دائمًا فندقي الذي أسكنه ولو أمكنني تصوير خطواتي من الفضاء ستمتد كشعاع نجمي حول المكان.
أذكر أن سيدة انجليزية حدثتني عن غموض مدينتها «دائما أوصي قريباتي عند زيارتهنّ للندن: تنبهوا للشوارع التي تمشون بها. قد ينتهي بك الطريق من شارع مضاء وحيّ إلى زقاق مخيف. تكونين في المكان الخطأ في الوقت الخطأ». لم تكن نصيحة ولكن ملاحظة ابطأت من اكتشافي للمدينة. أركض طوال النهار لرؤية كل شيء في وقت واحد، واستسلم في المساء لرحلات قصيرة بالسيارة إلى مطاعم قرأت قائمة اطعمتها في غرفتي في الرياض قبل أشهر وفككت مكوناتها استعدادا للقضمة الأولى!
لم اعتمد على أي قائمة توصيات -وهذا مضحك ففي نهاية هذه التدوينة سأشارككم مفضلاتي. وأحب تسميتها مفضلات لأنها تعفيني من الإصرار على الزائر وتحديد ما عليه اكتشافه وتجربته. إذا أردت يمكنك الذهاب هنا أو هنا، أو هناك.
ما من خطّ محدد لاكتشاف لندن. يمكنك البدء من حيث تشاء.
في مايو الماضي، بدأت من المعرض الوطني لأن أختي الصغرى تزور المدينة للمرة الأولى وكان على بعد شارع من فندقنا. هيا نتناول الفطور وكتمرين صباحي لنزر معرضًا لرفائيل!
هذه الحياة التي أحلم بعيشها ولو على شكل عطلة.
كيف يبدو يومي المثالي في العطلة؟
طبعا هذا السيناريو المثالي، إذا لم يكن هناك ضيق في الوقت أو المادة. وإذا لم تكن الرحلة إلى نيويورك التي أقضي أيامي فيها بلا نوم كافي لأنها تضحية إلزامية لتغطية كل شيء.
عرفت أيام العطلة المثالية لأن أختي ورفيقتي في السفر تستمتع بها وتقدرها وتعطيها حقها من التخطيط. تعمل بجدّ طوال السنة وتأخذ لنفسها عدة أيام هناك للنوم في سرير وثير، والأكل، والكثير من التسوق. لم تكن هذه المعادلة تغريني لأنني كما يصفني البعض «أحبّ الشقاء» أعمل حتى آخر ساعة قبل الرحلة. وأعمل خلالها، وأجبر نفسي على المشي آلاف الخطوات وآكل بميزانية منخفضة وجبة واحدة مشبعة أو اثنتين إذا كنت ذكية ومستعدة.
في لندن يبدأ اليوم متأخرًا قليلا، وأقول متأخرًا لأنني لا أبقى في الفراش حتى العاشرة إلا هناك. كثير من مطاعم الإفطار في المدينة لا تستقبلك قبل التاسعة. ونجحت في إيجاد بعض الأماكن اللندنية التي تقدم المخبوزات والقهوة في هذا وقت أبكر.
بعد تناول الفطور أقضي من ساعتين إلى ثلاث ساعات في متحف أو معرض فنّي. ابتعد بنفسي من الشمس أو المطر الغزير. وبعد الظهر إما أن أعود لقيلولة سريعة وفترة راحة، أو أتابع الاكتشاف.
تعودت على اختيار وجبتين في اليوم إما غداء أو عشاء على حسب الحجوزات المتوفرة لنا. وهذه فكرة ضرورية: لا تلم نفسك أو المكان إذا وقفت على الباب واعتذروا منك. كل شيء هنا يحتاج إلى حجز. خصوصًا ونحن جميعا منطلقون بعد سنة حجر ونريد تعويض كل شيء في لحظة واحدة.
إذا كانت الرحلة شتوية تغيب الشمس باكرًا وتظهر المدينة وجهها الغامض، الوجه الذي لا يمكن تبيّنه إذا كنت في منطقة معزولة. أما شوارعها الحية فهي كذلك حتى ساعات الصباح الأولى. والعكس في الصيف لتتركنا المدينة حائرين بعد أن تقفل الأماكن أبوابها وساعاتنا البيولوجية ما زالت تركض.
في الأيام التي نترك الفندق باكرًا ونعود في العاشرة أو الحادية عشرة مساء تدهشني ذات الوقفات في الطريق بشكلها الجديد. هذا الشارع الضخم الذي يقطعه الآلاف يمينا ويسارًا أصبح الآن خاليا تماما. يمكنك رؤية كل الإشارات والمنعطفات وقد تضيع قليلا إذا كانت ذاكرتك صورية مثلي.
وفي المساء بالإضافة لتناول الطعام وإذا تزامنت رحلتنا مع عروض مسرحية أو موسيقية مميزة نقتطع عدة ساعات لحضورها. وعندما لا تكون لدينا خطة نتمدد في سرير الفندق ونتناول العشاء من مطعم للسندويتشات أو البرغر ونسهر في متابعة برامج بريطانية.
كتبت في ٢٠١٩ هذا الاقتباس عن علاقتي بالمدينة:
«علاقتي بهذه المدينة غير واضحة حتى اللحظة، أحب واجهتها العمرانية، مبانيها القديمة، وأناقتها، لكنني لا أحبّها في العمق. أقول لكل من يسألني: لا أحب المدن التي أحذر فيها كثيرًا، أو اضطر للركض والاختفاء ما إن تظلم الشوارع.»
تغيرت مشاعري كثيرًا ربما لأن بناء الذكريات والروابط مع الأماكن يساعدنا على الوصول إلى عمقها. لم أزر شرق لندن، شورديتش منطقة منتظرة الآن، ولم اكتشف منطقة جنوب النهر. لا أحب المنطقة الغربية منها وقد حاولت في زيارتي الأولى والثانية والثالثة، بلا جدوى. أحبّ وسط لندن، أحب سوهو وكوفنت قاردن وبلغرافيا وفيتزروفيا ومارليبون. أصبح لديّ أماكن مفضلة، وأصبحت نوعًا ما ذلك الشخص الذي يتذكر لندن خلال العام أكثر من مرة وينتظر زيارتها.
قبل رحلتي الأخيرة قضيت عدة ساعات من اليوم في مشاهدة مقاطع فيديو لجولات مشي حول المدينة. كلما مرت الكاميرا على مكان أعرفه أصرخ بأعلى صوتي وأردد ذكرياتي فيه. وتعلق أختي الصغرى التي لم تزر المدينة حينها: تمالكي أعصابك. عدت الآن للمنزل وأتوقع مرور عدة أشهر قبل عودتي لمشاهدة مقاطع الفيديو تلك. أزور لندن كل مرة وأعود وقد شحنت طاقتي وابطأت كثيرًا من حركتي واتخذت قرارًا مؤجلًا. قرأت كتابا كاملا، ومشيت في حديقة، وابتعت عطرًا جديدًا وأقراط لؤلؤ وفستان مورّد-بهذا الترتيب وبلا ملل.
هذه التدوينة ليست دليل عطلات تقليدي.
ربما قصة قصيرة لأخبركم أنّ هذه المدينة تستحق الاكتشاف.
وهذه الخارطة هديّة مني وتستطيعون إضافتها للمفضلة بمجرد فتحها في نافذة المتصفح لتظهر لكم في خرائط غوغل. سأعمل على تحديثها في حال اكتشفت شيء جديد لكن في الوقت الحالي هذه هي خريطة مفضلاتي اللندنية.
.
.
.