هناك نوع من الضيق لا يمكن لأحد اقتسامه معك، يبقى بداخلك حتى تقرّر في لحظةٍ ما القضاء عليه وتفكيكه وتجاوزه. وأحيانًا–وهذا كابوسي الحالي– تحمله معك لمسافات طويلة. مرت الثلاثة أشهر الماضية وأنا أشعر بثقل مثبت في كاحلي، معنوي وفي أيام كثيرة جسدي. اجلس لدقائق في الصباح في محاولة لإقناع نفسي: هيّا خطوة واحدة إلى الأمام ويمر كلّ شيء. كوني شجاعة!
لكنني أعلم، أن الأمر لا يتطلب شجاعة فقط، أحيانًا تحتاج دفعة لتذكيرك: لماذا أعيش؟ ماذا أفعل هنا؟ وكيف أتقدم للأمام؟
هناك نوع من الضيق لا يمكنك الحديث عنه مع أحد، ولا حتى لوحة المفاتيح.
أكتب هذه الصفحة، ولا أدري هل ستكون تدوينة أم سأضمها للمجلد الإلكتروني الذي امتلأ برسائل افتراضية اكتبها من شهور لشخص واحد، ولا أرسلها. أكتبها إلكترونيًا لأن إمكانية حذفها بالكامل مريحة.
لا أظن بأنه سيقرأها، غير صالحة للقراءة والرؤية، تشبه الأفعوانية التي أمر بها هذه الأيام. فيها نكات سمجة، وقصص مرعبة، واعترافات غريبة في حالة ذعر. مثل غابة أغصان شائكة. وإن وعدتك بالعبور إلى حديقة جميلة، قد تخرج منها بإصابة قاتلة.
قبل أسبوعين كنت في الطائرة عائدة من رحلة جميلة بشكل عام. أطبق عليّ ذلك الضيق الذي لا يمكنني شرحه واجتمع مع تعب السفر، والوقوف والكلام لساعات طويلة، والخوف من المطبات التي لم تحدث بعد. على غلاف مجلة الطائرة قرأت العبارة “معكم من العام ١٩٨٥م” وانهمرت الدموع من عيني بلا توقف، كيف يمكنني شرح ما يحدث لصديقتي التي تحاول تبديد خوفي الجديد من الطائرة بكل ما يمكنها من قوة. تفتح الصور في هاتفها، وتشارك خطط مشاريع مستقبلية ولا اسمع شيء لأن صوت ارتطام أفكاري أعلى.
“معكم من العام ١٩٨٥م” أفكر في موضي، هذه هي سنة ميلادها، وهي معي من ذلك العام، حاضرة مهما كانت الظروف. تذكرت حلقة من النمر الوردي Pink Panther، وهو يثني شريحة سوداء كبيرة (أظنها حاجز مظلم أو كرتون) ويثنيها حتى تصبح بحجم مربع صغير ويبتلعها ثم تنفجر بداخله وتعود لحجمها الطبيعي. لا أدري لماذا تذكرت هذه الحلقة أو الفاصل وللأسف لم أجد لها نسخة في يوتوب لأشاركها معكم. أعوّل على هذا الاستطراد لشرح فكرتي السابقة. كيف يقتسم إخوتي الضيق معي، يمسكون قلبي ويغسلونه، ينفضونه مثل سجادة ليعود منتعشًا. لكنّ طاقاتهم الجبارة تقف دائما عند حاجز أخير، عند الضيق الذي لا يمكن اقتسامه مع أحد.
* * *
الأسبوع الماضي رافقت موضي إلى عيادة طب العيون لتجري عملية ليزر، كنت أحاول اخفاء توتري وكأنني أنا التي ستجري العملية. حاولت الضحك والمزاح لكن وحش القلق كان أقوى مني. جلسنا سوية في غرفة الانتظار وجاءت الممرضة لتجهزها. بدأت بقطرة التخدير، ثم نظفت المنطقة وألبستها الملابس الخاصة بالعمليات.
موضي ترتدي النظارة من عمر الثامنة إذا لم تخني الذاكرة. فكرة أنها تستيقظ وتبدأ يومها بدون نظارة مستحيلة، فبصرها بدونها مشوش جدًا. ارتديت النظارة في عمر متأخر نسبيًا (٢١ سنة) واليوم تزعجني فكرة ارتداء العدسات مثلا. أذهب لبعض المناسبات ولا ارتديها وألعب لعبة التخمين مع الناس. في مرات اقتربت من فتاة وابتسمت وناديت عليها بصوت عالٍ، لاكتشف لاحقًا بأنها لا تعرفني وأفزعتها.
بانتظار العملية بدأت ملامحي تتداخل أمام بصر موضي المشوش، وصرحت بأنّني أصبحت أشبه سمكة. طلبت منها تحديد أي نوع من السمك، يهمني معرفة ذلك. قالت: سمكة بذقن عريض. مخيفة جدًا الآن ولا يمكنني النظر إليك.
ساعديني! لجأت لمحرك البحث وكتبت Fish with big chin في نفس الوقت طلبت منها مزيد من التوضيحات، لتخبرني بأن هذه السمكة في وقتٍ ما من حياتها تغير جنسها من أنثى إلى ذكر ومع هذا التغيير تتغير ملامحها ويكبر حجم فكها ووجهها. عدت لتحديث جملة البحث: Fish with big chin that changes gender. وظهرت سمكة الكوبوداي Kobudai. الأكيد أنّ ملامحي مفزعة الآن، وطلبت منها أن تغمض عينيها لتستريح.
تقضي موضي أيامها في نظارة شمسية داكنة، وغرفة معتمة تمامًا. أحمل لها الطعام والقهوة ونشاهد التلفزيون بالصوت، لأتركها في نهاية اليوم تستمع لكتاب صوتي حتى تغفو. أحب فكرة إن موضي ستقرأ هذه التدوينة بعنين جديدة إن شاء الله.
اللحظة التي ستترك فيها النظارات إلى الأبد قريبة.
* * *
أشياء جيدة في الأسبوعين الماضية:
- يمكنكم مشاهدة المزيد عن سمكة الكوبوداي في وثائقي Blue Planet II – حلقة One Ocean
- قدمت ورشة حول السرد القصصي الرقمي.
- سلسلة وثائقية مكسيكية عن التاكو – على نتفليكس
- إعادة مشاهدة مسلسل The Sopranos – موضي تعرف الشخصيات بالصوت فلا حاجة للمشاهدة.
- مطعم مستكة – أحببت خيارات الطعام واهتمامهم بالتفاصيل.
- العشاء في فندق الكوت التراثي – بيت أحسائي قديم تحول لفندق ومطعم يقدم أكلات شعبية تعدها سيدات من الأحساء.
- مغارات جبل القارة – تصلح للتأمل الطويل ومواجهة المخاوف.
- عصيرات منعشة بنكهة اللومي الحساوي.
- لاتيه الرطب من مقهى وكف – يزورني في أحلامي.
- تجربة السفر بالقطار بعد انقطاع ٢٠ سنة.
- صداقات جديدة منعشة.
.
.
إشعار البريد الالكتروني!
“معكم منذ ١٩٨٥”
وفي بداية التدوينة الظاهرة في إشعارات الشاشة بشكل خاطف
“هناك نوع من الضيق لا يمكن لأحد اقتسامه معك”
نقرت على البريد مباشرة حتى أستقر هنا
أقرأ بجوع غريب لوصف هذا الضيق الغريب،
هذا الضيق الذي ربما كان وهمًا.. ولا هو ببعيد عن أن يكون حقيقة أسلوبها معوج معتدي.
إنه مثلي .. مثل خوفي، مثل هذه الغيمة الصفراء في سمائي!
وأنا في طريق العودة للمنزل من الدوام، تصفحت الرياض بغبش شارد،
بأفكار منخفضة الطاقة، مع الخوف الغبي لو صح التعبير
بعدم الكفاية والملائمة والنقص والعُجب الخاوي!
لماذا ندكّ أنفسنا بمثل هذه الأسئلة العشوائية؟
أعرف أن ماهية الضيق لديك ليست على هذا النحو أو غيره لأنني لا أعرف بالتأكيد،
لكنني أعرف أن هذا الخوف الذي لدي ليس على هذا النحو الذي شرحته أعلاه
لكنه يظهر على شكل هذا “الاستفراغ” المهيب في وجه أفكاري وضحكتي.
هل أقول لا تتضايقي؟
هل تكون المواساة العامة ذات جدوى؟
لا أعرف.
سأجرب وقولي لي الجواب!
لا تتضايقي..
بالمناسبة، من المصادفات اللطيفة هذا اليوم، أنني في ساعات الدوام الأولى
كنت أحتاج للخروج من الواقع حولي وفيني إلى عالم أكثر شبهًا بي، بحثت وقرأت تدوينات منوعة من ضمنها تدوينة “حلم ليلة صيف”، وشعرت بالرغبة في تحقيق هذا السطر:
“في هذه الرحلة لم أشتري كتب، ولم أزر متاحف –باستثناء المركز الدولي للتصوير الفوتوغرافي-. كانت الرحلة للمشي، للأحاديث الطويلة، واكتشاف أبعاد جديدة في نفسي، وأكثر.”
لست قارئة نهمة تتعقب التدوينات والمقالات بحرص كل يوم، لكنني أحب الدخول هنا، وقراءة التفاصيل الغريبة والرائعة التي تقولينها في تدوينات “عليها الكلام”.
لا أحبذ الإطراء بشكل التملّق صراحة، لكننا هنا لا نتملق وإنما نتبادل ضيقنا بطريقة الكتابة كما يفعل أي كاتب أو كويتب.
ليلة مطمئنة هيفا، وأيامًا طيبة.