قبل بداية العام الجديد ملأت قارئي الإلكتروني بمجموعة كبيرة –كبيرة جداً- من الكتب الإلكترونية، ابتعت بعضها والبعض الآخر حمّلته من مدونات وبواسطة التورنت، والمجال لا يتسع للحديث عن رأيي في الحصول على الكتب المقرصنة على الإنترنت، لكنني سأفعل على الأقل في هذه التدوينة. تحدثت قبل عدة أشهر مع مكتباتيّ نيويوركي عظيم وأسعدني أننا نلتقي على أرضية مشتركة في هذا الموضوع، ليس لأنني لا أملك رأياً، بل لكي أشعر براحة وتأييد. الفكرة تقول: بأنني صرفت خلال حياتي القرائية ما يكفي لتغطية جشع دور النشر في العالم، وأن حصولي على الكتب بطريقة مجانية لا يعني بأنني توقفت عن دفع المال لشراء الكتب. وهذا ينطبق بالتأكيد على الموسيقى والأفلام والبرامج الوثائقية التي نسلك كل الطرق الملتوية للوصول إليها. هل كان ذنبي بأنني ولدت في هذا النصف من الكرة الأرضية؟ وأن رفاقي في النصف الآخر سيتمكنون من مشاهدة وقراءة الكتب بدفع مبالغ رمزية لا تُذكر بينما أحرم من ذلك بسبب الامتناع عن الهدايا المجانية في الإنترنت؟ إنّها هداياهم لنا، يسجلون ويعيدون النسخ ويرسلون إلينا وردّ الهدايا يزعجني كثيراً.
أعود للكتب التي ملأت بها جهازي وكان من بينها كتاب “قصص ضائعة” لغابرييل غارسيا ماركيز، كتاب خفيف يقع في مئة صفحة تقريباً، كُتب على غلافه الخلفي:
“لستُ أدري إذا كانت توجد. ولا بد من وجودها، كتب تجمع مثل هذه القصص التي تتكرر في جميع أنحاء العالم، والتي يؤكد رواتها أنهم كانوا شهود عيان على وقائعها. وهذا يعني: إما أن الرواة يكذبون، وهو أمر محتمل، وإما أن تلك القصص تحدث فعلاً بشكل متشابه في أوساط ثقافية متباينة، وأزمنة مختلفة”
القصص التي يعنيها ماركيز ويبدأ بها كتابه الممتع جداً، هي الأساطير المحلية والقصص التي يرويها الناس والأصدقاء في مناسبات عدة وينسبونها لأشخاص مختلفين في دول مختلفة. ولكن، لا أحد يعرف أين بدأت بالفعل. قصص مثل سيدة تركب السيارة بصحبة مجموعة من الأشخاص، وبعد قطع مسافة من الطريق تختفي بعد تحذيرهم من منعطف خطر. قصة أخرى عن سيدة لا تتناول الطعام الكافي في منزلها وتثير ريبة زوجها الذي يكتشف بأنها تخرج لتناول الطعام في المقابر وتعيش على جثث الموتى. يروي ماركيز قصة غرائبية حدثت معه على الطريق من برشلونة إلى بيربينيان ومعه زوجته مرسيدس وطفلاه. كان يسير بسرعة مئة كيلومتر في الساعة حين راوده فجأة إلهام لا تفسير له يدعوه لتخفيف السرعة قبل أن يصل إلى المنعطف. وتجاوزته السيارات التي كانت وراءه ولا يمكنه نسيانها: شاحنة صغيرة بيضاء، وفولكس واجن حمراء، وفيات زرقاء. ما زال يذكر الشعر المجعد الأشقر للهولندية التي كانت تقود الشاحنة الصغيرة. وبعد أن تجاوزتهم السيارات الثلاث في نظام كامل، اختفت عن أعينهم في المنعطف، لكن ما لبثوا أن التقوا بها بعد لحظة، وقد اختلطت ببعضها في ركام من الخردة المدخنة مصطدمة بشاحنة ضخمة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس.
ماركيز حكّاء مدهش، وكلما سنحت لي الفرصة أعلن بثقة أنني أحبّ أعماله الواقعية –مقالات وسيرة وخطابات- أكثر من رواياته وقصصه، وأعود لأفكر: إنّه يبني الكثير من قصصه على حياته الواقعية وربما كان هذا المكوّن السحري السرّ في تعلق محبيه به.
يتحدث في قصصه الضائعة عن أمور شتّى ويستطرد – وأنا أحب الاستطراد- للتحدث عن التاريخ ومؤلفات وكتاب وسياسيين. أيضاً وردت تفاصيل مهمّة عن تبّني روايته “مئة عام من العزلة” سينمائياً وستجدون ذلك تحت العنوان “إحدى حماقات أنطوني كوين”. ويتحدث عن جائزة نوبل ونظرياته الشخصية حولها وحول ارتباطها بوفاة من يحصل عليها –طبعاً هنا يورد أسطورة شهيرة قد لا يؤمن بها بالضرورة-، لفت انتباهي هذا الجزء وكنت أفكر فيه وهل كان يتوقع حصوله عليها قبل كتابته؟
في عدة ساعات سيحملكم ماركيز على بساط الريح –أو الكونكورد- متنقلاً من قصة لأخرى، من الشيخوخة لهفوات البرامج التعليمية، لأخطار التدخين ويختم الكتاب بعنوان مدهش وقصة لافتة “الزوجات السعيدات ينتحرن في السادسة”. إنه رجل بألف وجه، وألف ذاكرة. القراءة له تنعش شهّيتي وتعيد ألوان الحياة ودفئها في روحي، صدقاً لم أجد كاتب يوازي مكانته في نفسي، مع أنني أبحث وافتح ذهني واستعدّ.
من جهة أخرى، شاهدت بالأمس وثائقي سيعجبكم –على افتراض إن كل توصياتي الوثائقية تعجبكم- وثائقي عن طريق القهوة. ولكن هذه المرّة يعرض الوثائقي قصة القهوة الفيتنامية بالتحديد. كنت دائما أفكر في أمريكا الجنوبية، أفريقيا، واليمن وإندونيسيا عندما أفكّر في القهوة. لكن فيتنام، لا. في الوثائقي يذهب سيمون ريف إلى فيتنام لتتبع القهوة من الشجرة إلى الكوب. يريد سيمون إيجاد أصل 500 مليون كوب قهوة أسبوعي في إنجلترا! في الوثائقي إحصائيات ومقابلات وحقائق جميلة ومحزنة.
مخرج ماركيزي
“أحبّ الحديث عن ابنيّ، لأنهما مثل أمهما: واثقان من نفسيهما وذكيان وجديان. وأحب الحديث عن قرحتي الاثني عشرية، التي لا تستكين إلا عندما أكتب، لأن الأصدقاء لم يوجدوا لمشاركة أحدنا حياته الطيبة فقط، وإنما للتخوزق معه كذلك”
تحبين ماركيز جدا هيفاء <3
بالرغم من كوني لم اقرأ له من قبل ، ولكنني أحب هذا النوع من القصص
بحثت عن الكتاب ووجدته بنسخه جيدة
اسعد جدا عندما ارى تدوينة جديدة 🙂
جدا جدا يا ريم!
اتمنى لك قراءة ممتعة.
و انا ايضا اسعد كثيرا عندما اجد لهيفا تدوينة جديدة..
شكرا وجدان، اسعدتيني.
الحمدلله وجدت الكتاب وان شاءالله ابدأ بقراءته