في العام ١٩٩٦م تلقّى جون رونسون اتصالا هاتفياً من شخص يدعى توني، واخبره بأنه يتصل موظف لدى ستانلي كوبرك، يطلب في اتصاله هذا ارسال تسجيل لبرنامج إذاعي قدمه جون عن اوشفيتز، كان الاتصال بمثابة مفاجأة ضخمة، ففي ذلك الوقت كان قد أصبح شخصية اسطورية مختفية عن الانظار في بيت ريفي انجليزيّ. ومضى حوالي ١٦ عاماً على آخر صورة نُشرت له. بعد تاريخ سينمائي حافل بدأ في الخمسينات والستينات، فكان يصدر فيلماً كلّ عدة سنوات، لنعدد منها على سبيل المثال لا الحصر : “Loita” “Clokwork Orange” “2001: A Space Odyssey “.
اختفى تماماً عن أعين الجميع، لكنّ جون رونسون حينها كان متأكداً من شيء وحيد، إنه يستمع لبرنامجه! بعد ذلك الاتصال وبعد ارساله الشريط على العنوان الذي حُددّ له لم يتكرر الاتصال به ولا التعليق على موضوعه. نسي ذلك تماماً حتى استجدّ شيء آخر، في العام ١٩٩٩م وبعد انتهاء كوبرك من تحرير الفيلم Eyes Wide Shut، توفي. وبعد ذلك بعامين تقريباً تلقى جون اتصالا جديداً ودعوة لمنزل آل كوبرك، من توني فريوين مساعد كوبرك لـ ٣١ عاماً. في الاتصال دعاه توني للمنزل للاطلاع على كنز عظيم لم يطلع عليه سوى أفراد عائلته، ومساعديه المقربين، كان جون رونسون أول الاشخاص المطلعين على حوالي أكثر من ألف صندوق، ملأت نصف المنزل الكبير. بعضها لم يفتح لعقود واحتوت على ارشيف المخرج العبقريّ.
ومن هذه الدعوة وهذا الاتصال يبدأ جون رونسون تصوير الوثائقي الشهير “صناديق ستانلي كوبرك“. شاهدت الفيلم وأصبت بالذهول والاعجاب من التفاصيل التي حملتها الصناديق، ووجدت أن كتابة تعليقاتي حول الوثائقي على شكل تويتات في تويتر، ستقتل التسلسل، وجدت أن تدوينة مع روابط مفيدة ستكون فكرة جيدة!
على ماذا تحتوي الصناديق؟
يبدأ الوثائقي بعرض مجموعة من الصناديق التي كانت ارشيفاً لآلاف الصور، التقطها ستانلي أو مساعدوه لمشاهد من الحياة اليومية، الشوارع، المنازل، بوابات المنازل، مقاهي،محلات الالعاب، محلات خياطة ملابس، وحتى الطاولات الجانبية للاسرّة وما تحمل من اشياء تنتمي ولا تنتمي!
كل ذلك قام به لكل فيلم من أفلامه من باب البحث والاستطلاع، هذه الصور كانت تساعده في صنع الاحداث ووضع الخلفيات السينمائية المناسبة للحكاية. مذهل، جداً مذهل. والسبب؟ لأنه كان يطلع عليها، هذه الصور بالآلاف. تتحدث زوجته كريستينا وابنته آنيا –التي توفيت في العام ٢٠٠٩م بالسرطان– عن تركيزه العالي واهتمامه، كان رجلاً لا يتحلى بالكثير من الصبر، إلا مع عمله. كانت لديه هبة عظيمة، ألا وهي القدرة على العودة لتركيزه التام والاستغراق في العمل حتى وإن تمّ تشتيت انتباهه أو قطعه مما كان يعمله. في الصناديق أيضاً بطاقات ملاحظات ورسائل داخلية، لمساعديه وعائلته، مليئة بالغرائب والطلبات.
أيضاً في الصناديق تمت أرشفة رسائل المعجبين – والناقمين– في نظام رائع. يبدأ بالجهة التي أرسلت منها. وحتى وإن لم يكن يردّ عليها، كان يصنفها إلى ثلاثة تصنيفات: ويترك ملاحظة على كل رسالة لتشير إليها، في الرسائل الايجابية كانت هناك FP ، وللسلبية اختار FN وللمجنونة CRANK. واحتفاظه بهذه الرسائل كما يقترح توني كان لاحتمالية تهجم أحد عليه، أو ايذائه وهكذا سيكون لدى الشرطة أدلة تشير إليهم.
كان ستانلي مولعاً بالتفاصيل، أدقّ التفاصيل وأهمها، حتى أن أحد مساعديه يحكي عن اهتمامه بحجم الاعلانات التي تطرح في الصحف ووسائل الاعلام المطبوعة، كان يقيس الاعلان المنشور بالضبط ليتحقق من أنّه عُرض بالطريقة التي أرادها، أو بكلمات أخرى يتحقق من أن الصحيفة لم تسرق منه ماله مقابل إعلان صغير. وكانت له بعض المضبوطات في هذا المجال.
في أحدى مجموعات الصور وجد جون مجموعة تخصّ فيلم Clockwork Orange في هذه الصور يحاول التوصل للقبعة الأكثر ملاءمة لأليكس، من يهتمّ لهذه التفاصيل؟ بعد مشاهدتنا للكثير من الأفلام، وعندما نصبح عشاقاً حقيقيين للسينما سنكتشف أنّ تفاصيل مثل هذه لا يغفلها المخرج المختلف، ولا المشاهد كذلك.
حكاية طريفة أيضاً يمرّ بها جون في الملاحظات المكتوبة ويعلق عليها مساعد ستانلي، عن القطط التي يملكها، وكيف أنّه طالبه ذات مرّة بالبحث عن طوق لرقابها ينقطع في حالة علقت على غصن شجرة وهي تطارد عصفوراً فلا يشنقها. لذلك ابتكر توني والمساعدين الآخرين طوقاً مستحدثاً عبارة عن طوقين متصلة من الجلد وبينهما قماش قطني سهل القطع.
في الوثائقي المزيد من التفاصيل عن عمله على الافلام وكيف استعداده لها، والبحث عن نصوص ملاءمة للتصوير. لكنّ لا يتسع المجال لذكرها ولا أريد تدمير متعة مشاهدتها عليكم.
هناك تفصيل محببّ مررت به في الوثائقي هو هوس كوبرك بالقرطاسية واقتناء كميات وكميات من الدفاتر والاحبار والاقلام، والتي تكدست لاحقاً في صناديقه الألف. حتى عندما كان يزور المتجر المتخصص Ryman كان يحرص على الشراء نقداً، كي لا يدفع بالبطاقة الائتمانية وكشف هويته المختبئة. وكان يمازح توني أحيانا، بأنه يرغب في فتح متجر قرطاسية نوستالجيّ، يعرض فيه مجموعاته الهائلة منها.
الصناديق لم تعش في عزلتها طويلاً، ففي العام ٢٠٠٧م تمّ نقلها لجامعة لندن للفنون، هناك وُضعت في ارشيف مضبوط الحرارة والتهوية، وأصبحت متاحة للطلاب والمحللين ولكل من يريد دراستها، ارشيف ضخم تجدون رابطه هنا.
في نهاية الوثائقي تعبّر كريستيان كوبرك عن الحزن الشديد المرتبط بالاطلاع على مقتنيات زوجها، شيء يذكرني بمقولة لبول أوستر “لا يوجد ما هو أفظع من مواجهة متعلقات رجل ميت. لها حياة ومعنى بحياته، وعندما تنتهي حياة الإنسان تتغير طبيعة أشياءه للأبد.” ، وكريستيان تقول: ما إن تصفرّ هذه الاوراق في الصناديق حتى تدرك أنّ الشخص ميّت تماماً، ومنذ وقت طويل.
روابط مهمة:
أتعلمين يا هيفاء؟. هذه التفاصيل المجنونه، و القدرة على التوثيق و الإحتفاظ بمقتنيات قديمة بنفس الحماس و دون أن يفتر عشق الإنسان لها .. هو بحد ذاته شيء عجيب ♡’
شكراً هيفاء.. حقاً أتمنى ان يهديني أحد صتاديق تحتوي تفاصيل حياته!
أهلا سارة ،
اوحى لي بفكرة لتصنيف ذكرياتي بدلا من بعثرتها بلا تصنيف : )
مذهل ..
جداً!
أهلا بك فراس : )
موضوع رائع هيفاء
شكرا لك