أتجاهل وجبة الفطور مؤخراً وبلا سبب، نومي فوضى عارمة، عملي كذلك، وقراءاتي، أسرق ساعتين اسبوعياً للاستغراق في قراءة كتاب هي الطريق الذي يأخذني من وإلى مدينة قريبة، أشرف خلال زيارتي لها على طالبات يتدربّن قبل التخرج على التدريس. الاسبوع الماضي تغيب السائق الذي يعرف طريق المدارس التي أشرف فيها أنا ودكتورة زميلة من الجامعة. الجو ماطر والضباب كثيف، يأتي سائق جديد، يحاول بدء الحديث بمديح الجوّ، لا يجد تجاوباً من كلينا، ويعود للصمت، يبحث في قنوات الراديو ولا يجد قناته المفضلة ببثّ واضح نظرا للأحوال الجوية، يتململ قليلاً في كرسيه، وبعد مضي منتصف الطريق يلقي بقنبلته: أنا لا أعرف الطريق! هذه المرة الأولى التي أزور فيها المدينة. زميلتي الراكبة دكتورة جديدة من مصر، هذه هي المرة الأولى لها في السعودية، وأنا في نظرها الآن سوبروومن يفترض أن أعرف مداخل المدن ومخارجها والطريق إليها على الأقل في مسافة ١٥٠ كم حول مدينتي. حسناً نفس عميق ونظرة اهتمام خارج النافذة الغارقة، انعطف يميناً، الانعطاف يميناً مخرج جيد لكل المشاكل، ومن هناك بدأ حنقي يتصاعد. في الصباح تستيقظ وتفكر ما أسوأ ما يمكن حدوثه؟، يوم شعر سيء؟ نسيان وثائق مهمة؟ أوه صحيح سائق جديد في مدينة غريبة وجوّ ماطر! وصلنا للمدينة وحاولت استرجاع ذاكرتي الصورية، لا شيء يبرز فيها بوضوح سوى إشارة ضوئية متعطلة وحرف الـ M الاصفر الذي شدّ انتباهي ذات جوع، وجامع صحيح كان هناك جامع أنيق وملفت للانتباه. وبعد انعطافات متكررة، وشتائم مكبوتة، وصلنا للطريق، وفعلاً لم يكن جوعي سيئاً إذ كان كلّ شيء يبدأ من هناك. تذكرت نصيحة والدتي الابدية، في كلّ مرة تخرجين من المنزل لزيارة أماكن جديدة تحاشي أمرين: الانشغال بشيء بعيدا عن النافذة، والكلام مع الركاب. الأمر الأول سيعطل ذاكرتي الصورية للطريق، والأمر الثاني سيشغل السائق ليلتقط أطراف أحاديثنا.
يوم الأحد يوم طويل ومرهق، أكرر محاضرتي ثلاث مرات، لثلاث شعب مختلفة، وكلّ مرّة أقول لنفسي هذا ليس ديجافو، يمكنك الوقوف في جهة معاكسة من قاعة المحاضرة، أو استخدام يدك اليسرى في الشرح أكثر من اليمنى، تغيير مفرق الشعر أيضاً يساعد، وشرب أكواب القهوة الكثير منها! لكنني نسيت تناول الفطور في ذلك اليوم بالذات، وما إن دخلت لغرفة الاستاذات باكراً حتى كانت إحدى الزميلات تعدّ لنفسها شطيرة جبنة شهية، أقول شهية لأنني شاهدت كيف انثنت شرائح الخبز الابيض في الكيس بينما ضغطتها قليلاً لتخرج شريحتين لنفسها، فتحت بعد ذلك علبة الجبنة الكريمية، ومررت الملعقة بينما حاولت التقاط اسم الشركة المصنّعة، لم تكن “المراعي” يمكنك تخمين أنّ هذه الاستاذة مقاطعة للشركة، وستدعم أي مشاريع مماثلة، لديها حماسة كبيرة لحماية حقوق المستهلك، وحماسة كبيرة لانقاذي من صفرة الوجه ودهشة الصباح. عرضت عليّ صنع شطيرة أخرى لي، ووافقت، وبينما سكبت لنفسي القهوة من الترموس الصغير الذي احمله واتذكر حافظة طعام جدي الحديدية، وحافظة والدي، وأخوالي وكلّ عمال العائلة قبل عشرات السنين، يغمرني شعور بالفخر لانتمائي للكادحين، على الرغم من كراهيتي للروتين وقتله للابتكار، أحبّ أنني أحمل معي هذه العبوة المنقذة واقطر محتواها كلما مرت ساعتان في كوب، القهوة .. المشروب السحريّ لصنع المزاج، للأبد. انتظر تغير درجة حرارته قليلاً لارشف منه، وتمدّ لي زميلتي الشطيرة، التهمها على مهل على الرغم من جوعي الشديد، تخيلت ألف ألف وحش في معدتي، أن تنام في ليلة طويلة بلا عشاء أشبه بطقس لإيقاظ الكوابيس، والحزن! لم أذق في حياتي ألذّ من هذه الشطيرة الاعتيادية، ولا أدري هل كان ذلك الجوع سبباً أم أن الخباز قضى وقتاً أطول في خبز الرغيف، حتى قطع الشرائح كان مثالياً، لم تكن رقيقة لترشح منها الجبنة إلى يديّ ولم تكن كثيفة فتتعب فكي بالمضغ. كانت مثالية!
بالأمس قرأت عن قصة مشابهة في كتاب بول أوستر “الدفتر الأحمر” مجموعة مقالات له وقصص واقعية، سرد حميمي وأليف، وجه هذا الرجل يُطبع في رأسي تدريجياً، ويخشى والداي أن يُطبع في قلبي. خصوصاً بعد أن أعلنت بأنني سأزور منزله، وأقضي عدة أيام في تأمل حياته – إن سمح لي– وسأحتسي القهوة معه والشاي، وأدردش مع زوجته المذهلة عندما أزور بروكلين–نيويورك. سأخبره عن هوسي به، وأنني لا أتوقف عن ترديد اقتباساته والتبشير بكتبه أينما حللت. أتذكر المرة الأولى التي اقتنيت فيها كتاباً لبول أوستر، وأتذكر أن قارئة نهمة أخبرتني أنّ كل قراء أوستر يصلونه مصادفة، أو بطريقة عجائبية. كنت أبحث عن سيرة نيرودا في دار النشر ولم يجدها البائع، أصابني احباط خفيف، وبينما كنت على وشك مغادرة المكان حتى استوقفني كتاب “في بلاد الأشياء الأخيرة” صورة الغلاف، والعنوان، كانت كافية، وبعد التقاطي له، حملت معي “ثلاثية نيويورك” قرأت الكتاب الأول فور اشتريته أو بعد ذلك بفترة قصيرة، وانتظرت لثلاث سنوات حتى قرأت الثاني، واقتنيت المزيد من كتبه، ثمّ بدأت حالة الهوس خلال الاشهر الماضية، لدرجة بدأت فيها بأحلام اليقظة وفكرة كتابة كتاب عن تجربتي وعن بول أوستر، لكن لكي لا أطيل عليكم سأخبركم عن أوستر وعن طبق لم ينس طعمه أبداً، ففي صيف ١٩٧٣م عُرضت عليه وظيفة السكن في بيت بجنوب فرنسا، بيت لزوجين أمريكيين يعيشان في باريس، وأرادا أن يبقى أوستر فيه يحافظ على محتوياته، ويُطعم كلبيهما، على أن يُدفع له ٥٠ دولار شهرياً وعلاوة للبنزين، وهذا بالطبع كان لأوستر وصديقته بمثابة الكنز، فلا ايجار للدفع، ومكان رائع للكتابة والترجمة. ولكن لم يكن كلّ شيء رائعاً للأبد، ففي نهاية الشتاء ومطلع الربيع، تأخرت الشيكات في الوصول، سُرِق كلب من الثنائي، وانتهت الاغذية المخزونة شيئاً فشيئاً. لم يعد هناك ما يؤكل سوى: كيس بصل، زجاجة زيت طبخ، وقاعدة فطائر لم تُخبز بعد. ونظراً لشدة الجوع وندرة الإمكانيات لم يكن أمام أوستر وصديقته سوى فكرة واحدة “فطيرة بصل“. وهكذا بدأ العمل الحثيث على طهو الوجبة الأخيرة، الساعة الثانية والنصف ظهراً. لم ينتظر أوستر كثيراً ولا صديقته، أخرجا الفطيرة التي بدت مثالية، لكن وبينما كانا يحفران في البصل اكتشفا أن الفطيرة لم تُخبز بالكامل وأن منتصفها البارد لم يكن قابلاً للابتلاع، لذلك قررا إعادتها للفرن، والانتظار لعشرة دقائق أو ربع ساعة أخرى، خلال ذلك خرجا للمشي حول المنزل وبعد عودتهم التي قد تكون متأخرة إذ انزلق الوقت بهما في الحديث عن شؤون كثيرة. كان المطبخ غارقاً في الدخان، والفطيرة التي بدت شهية منذ قليل، أصبحت كتلة من الفحم.
تخيل أوستر أن نهاية العالم قريبة، وبينما التهمهما الذهول، جاءت من بعيد البشائر، كانت السيارة الزرقاء للسيّد شوغر، المنقذ، تقترب، والذي تبين لاحقاً أنه صديق للزوجين وفي رحلة تصوير مع مجلة ناشيونال جيوغرافيك، ويحتاج لمكان للمبيت، وبدلاً من البقاء في فندق، سيبقى مع أوستر ورفيقته، على أن يدفع لهما ما اجماليه ٥٠ فرنكاً في الليلة، وهكذا في كل مرة كان يأتي كانا يتناولان العشاء أو الغداء في مكان راقي معه، أو يصرفان ما يتركه من مال على إشباع جوعهما. واليوم يتذكر أوستر طعم فطيرة البصل كما لو كانت ألذّ فطيرة تناولها في حياته!
برغم السفر والدراسة يا هيفاء لازالت مدوّنتكِ جزء من حياتي. بعضٌ من البهجة والإكتشاف والإنصات لحديثكِ عن كل ما أحبّ -أتخيّلك دائمًا تتحدثين ببهجة وأنا أقرأ تدويناتِك برغم أننّي أظنّ أن محترفي الحكاية يجيدون كتابتها أكثر من إلقاءها-.
وبعد عراك سنوات طويلة أنتِ أكثر من أقنعني بأنّ كتابة اليوميّات أحد تفاصيل الحياة المُبهجة، وها أنا ذا أحاول .
منذُ تحدثتِ عن أوستر أوّل مرة وأنا أضمر نيّة البحث عن كتبه حالما يسمح وقتي بهذا، أظنّ أنكما تتشابهان كثيرًا في طريقة كتابتكما، صحيح ؟ 🙂
حيا الله رحاب ♥
ما زلت انتظر اليوم الي نلتقي فيه فعلياً، بعيدا عن البايتات والكيبورد والصور.
ويا ليت كتابتي تكون زي أوستر، بتخليني امشي على غيمات عشان هذا التشبيه =)
ياه ،.، شطيرة مثالية جدا ع ما يبدو ..
تثيرينني للكتابة دوما ، و القراءة لا شك .. والمزيد المزيد من القهوة “)