عندما سكنا بيتنا الحالي كانت الغرفة الأكبر غرفة البطات الثلاث –أنا وأخواتي– ، لا يمكن أن تكون تلك الأيام قد مضت بلا فائدة تذكر. تعلمت فيها الكثير، ضبط جدول النوم مثلاً، التعامل مع المساحات الضيقة، والمزاجات الضيقة إذا تطلب الأمر ذلك. وكانت الفترة التي اكتشفن فيها كوابيسي وهلعي من الفقد. الشيء الوحيد الذي لم نتمكن من تجاوزه أو التفاهم معه، اختلاف اذواقنا الموسيقية. العلامة الفارقة الأولى في منزلنا والتي لم تنجح ضربات الطلاء الثلاث في اخفاءها هي قطرات البيبسي التي التصقت بالسقف عندما ألقيت العلبة المعدنية – في صيف ١٩٩٦م تحديداً– باتجاه أختي عندما رفضت إغلاق الراديو وواصلت الاستماع لأغنية ” Faith ” لجورج مايكل، ذات الاغنية بعد تلك الحادثة أصبحت ما نسميه بـ أغنيتنا ! تم طلاء الجدران ثلاث مرات خلال السنوات التي مضت، ولم يفكر أحدٌ في طلاء السقف الذي كان لونه المبهم متناسقاً مع كل طبقة. وكلما نظرت لزاوية الغرفة أذكر ذلك اليوم وعلبة البيبسي التي أخطأت رأسها وأصابت رأس الغرفة. في كلّ بيت علامات فارقة، مثل الوشم، مثل الجرح الغائر، لا يمكن أن يطالها التغيير، بل إنّ ساكنيه يكبرون ويتغير كلّ شيء في حياتهم وتبقى تلك العلامة شاهدة. في الصورة أعلاه، جدار المطبخ، الذي يشكّل خلفية لماكينة القهوة التي تدور حولها أحاديث الصباح، والعصر، وما بينهما، في كلّ مرة يقف أحدنا ليعدّ لنفسه القهوة سينظر لهذه الخطوط الخضراء ويتذكر، كانت هنا قطعة خشبية تعلّق ويعلق عليها ورق القصدير، وورق التغليف البلاستيكي، ثبتتها والدتي بالغراء الساخن، وثبتت طويلاً، حتى جاء يوم حار في أغسطس وتهاوت، لم يبقَ من تلك المنصة إلا هذه البقع الخضراء، وبقايا الغراء الذي لا يفكر أحد في إزالته، حيث أنّ ذلك ممكن، أفكر هل هو الانشغال، أم أنّ البقع نجحت أخيراً في تسجيل نفسها ضمن العلامات الفارقة للمنزل. في استراحة الدرج المؤدي للدور العلوي، ستجدون ثلمة واضحة في أسفل الجدار، في قطعة الرخام التي تربطه بالدرجات، وسببها كان عندما كانت العاملة المنزلية ومعها أخي ينقلون سريراً مفككاً إلى قطع خشبية للدور السفلي انزلقت منهم القطعة الخشبية الاثقل وهوت باتجاه الجدار، وكُسرت قطعة الرخام، في كل مرة نقترب من الانحناءة السريعة ننظر للشق ونتخيل أنّه يسرب حكاياتنا للخارج كلّ مساء ! في صغرنا أيضاً كنّا نخترع اللعب، أعتقد أنّ اللعبة التي سأحدثكم عنها الآن والتي تركت علامة هي الأخرى ليست من اختراعنا تماماً، اختراع الفضول، اللحظة تلك ربما، كنا نبلل مناديل الورق ونرمي بها لأعلى نقطة في المنزل، الصالة الرئيسية في الدور السفلي تفتح على مدى ارتفاع البيت، وتمتد للدور العلوي، كانت المناديل تصل لأبعد نقطة ، ينزلق بعضها ويسقط سريعاً، البعض الآخر يصمد ليوم أو يومين ثم يجف بفعل هواء المكيف، ويقع أخيراً. وهناك القطع العجائبية التي صمدت لأكثر من عشرة أعوام ، وهذا هو الجزء المخيف من القصة، أذكر أنّ والديّ امتعضا بسبب الفوضى والهمجية في تلك اللعبة، لكن لاحقاً وفي كل مرة يرتفع فيها نظرنا للجدار الأعلى نجد المناديل صامدة، كل يوم ننتظر وقوعها، ومرت الأيام، والسنوات كذلك ! وما زالت في مكانها ، وأزيلت بأداة كشط عندما صبغنا الجدران مؤخراً. كان يمكننا توديعها في طقس مهيب، كنا كمن أزال شامة جميلة من وجهه للأبد . من العلامات الأخرى، المسامير التي حفرت بشكل خاطئ، اللوحات المائلة للأبد، الإنارة المعطوبة الغير قابلة للإزالة، أخطاء البناء الخارجي التي احتاجت لعين ثاقبة لتستدل عليها، الخربشات الصغيرة على جدران الأماكن التي لا يرتادها الضيوف، متعة العثور على هذه العلامات وتسجيلها للتاريخ أحببت الحديث عنها في هذه التدوينة، وهي فرصة كذلك لاستدراجكم لمشاركتي بما وجدتموه في بيوتكم .
في صيف ما قبل سبع سنين أو أكثر بقليل، أُصبنا بحمى تسجيل الذكريات، حتى تجاوزنا الورق إلى الجدران! فأصبحنا نسجّل مناسبة الذكرى وتاريخها في كل مرة نفترض أنها مناسبة تستحقّ المغامرة بالتعرّض لجدران البيت الجديد والخربشة عليها. هل بقيت جميعها؟ لا، نجى منها من اختبأ خلف الأثاث، والذي يعصر قلوبنا كلما قرّرنا تنظيفه فتكفّ الأيدي عنه.
أحد العلامات الفارقة التي لا نهاية لها لبيتنا الـ “ما أطوله صبره” D:
أنا مع بداية ٢٠١٢ جربت الفكرة في زاوية من غرفتي وبقلم الرصاص، غالبا آخر الليل اكتب شعوري والساعة، بعد كم يوم رجعت اقرأ وانتقدت الفكرة وبطلت، للآن ما مسحتها ، يمكن اتركها واضحك عليها من وقت لوقت .
: )
بيتكم ياهيفاء بيت سعيد، انا بعد لي ذكريات متواضعة فيه. يارب أزوركم قريب
يا رب 🙁
وحشتوني ، صرت اشوفكم في احلامي وهذا مؤشر شدة الشوق وقوته .
تجون ونجتمع بالسلامة يا بعدي .
بيتنا الحالي يبدو خالياً من العلامات الفارقه ” بلا شامة ” رتيب .
سأتحدث عن بيتا القديم و الذي لا تكاد تخلوا فيه غرفة من خربشة ، كانت هناك غرفه هي الأكثر تشويهاً فيه غرفتنا نحن البنات ، جدار بأكمله مخطوط بالعبارات و الرسومات و الكلام العابر و كل اسماءنا دونة فوقه ، هذا الجدار كان اكبر علامة فارقه في بيتنا ، لم يكن جدارنا فقط بل لكل العائلة بصمة فوقه ، المضحك في الامر ان اخي الاكبر نفذ صبره و حذرنا من الكتابه عليه مجدداً ثم اخذ يقوم بتفتيش الجدار بين الحين و الاخر إذا ما كان هناك اي ” خربشه ” جديدة ام لا ، ايضاً باب المنزل خَط عليه احد ابناء عمومتي القابنا المضحك كانت اشبه بأسماء مشعوذات ، لو تحدثة عن العلامات الفارقه فيه ما انتهيت لكن و أخيراً انتقلنا من هذا البيت و سلمنا المفتاح لعريس جديد في العائله و الذي قام بدوره بطمس كل ذاك العُمر الجميل المخطوط فيه .
يالله يا هيفاء رجعتيني لأيام حلوه ( =
بداية اعتذر منك يا سارة ،تعليقك رايح للسبام ما اعرف ليش !
أما وقد انقذناه أهلا وسهلا بك : )
الجدار الذي تتحدثين عنه يشبه جدار لكن في سطح بيت جدي الكبير، كانت سهرات الصيف عليه مخطوطة بالفحم، و بقيت لسنوات حتى تحول البيت لمدرسة، ولأهداف تربوية بحتة احتاجوا لطمس كلّ شيء !
قرأت هذه التدوينة وأنا أرتدي “سويتر” والدتي ذي العشرين عاماً تقريباً، وكأنه اليوم يوم حميمي دافيء يشي بالكثير من ذكريات أو لربما استعداداً مني لكي أتصفح هذه التدوينة وأعيش معكم الاجواء. ضحكت كثيراً على لعبة المناديل المبللة! يا إلهي هيفا هذه اللعبة لعبها إخوتي الأصغر مني .. وكنت أنا التي تصرخ بأن يتوقفوا عن هذا التدمير .. ههههه أعتقد بأنني كنت أمارس الترتيب والنظام في كل مكان سوى في رأسي وغرفتي! التي تمردت فيها آلاف المرات، فمرة أفرغتها من كل الأثاث في غياب والدتي، وعشت على شنطة وصندوق يحملان أغراضي وعلاقة للثياب، وكنت أنام على الأرض! تخيلي فجأة تقشفت لا أعرف السبب ولكني استمتعت بهذه التجربة حتى ليلة الرعب التي استيقظت فيها وأنا أصرخ، ولسبب خواء الغرفة ارتد الصدى وملأ أذني رعباً ومن شدة الخوف لم استطع الحراك حتى أشرقت الشمس من نوافذي المشرعة بكيت عند أمي بأن نذهب الآن لشراء أثاث جديد ههههه ..
أما عن الوشوم في المنزل بشكل عام فهي كثيرة! حتى أني أفكر في تصويرها لتوثيقها قبل أن يمر الكثير من وقت ولا نعرف متى سيطال التغيير الجذري هذا المنزل العتيق .. أتصدقين بأن لدينا قطع رخام كبيرة في الطابق العلوي تحوي على نقش أخي الكبير بالمطرقة والمسمار! وهناك رسم جرافيتي باسم العائلة وإخوتي على غرفة الاسنسير فوق السطوح! وهناك طبعة قدم أخي صالح على الاسمنت بجانب السور عند المطبخ الخارجي! أعتقد بأن إخوتي الأولاد هم من وثق حياتهم ووجودهم في منزلنا! بالمسامير والدق والحفر! ههههه أما أخواتي فهن يحتلن السقف كله! فأطرافه تحمل مسامير صغيرة هي التي عُلقت عليها أنوار أعراسهن الجميلة .. والقصص تطول وتتكاثر وأخجل أن املأ هذه الصفحة ولكن الإلهام مستمر .. لربما يوماً ما أصور آثارهم المجيدة هههه .. أسعدتني هذه التدوينة بشكل كبير.. يسعد صباحك
صباحاتك سعادة : *
ذكرتيني بالتقشف ! ، انتقلت وأنا في العاشرة من غرفتي التي جمعتني بأخواتي لغرفة مجاورة. كانت غرفة اللعب لدينا، حملت فراشي وأبجورة، ونمت على الأرض، ما حصل لاحقاً أنني أصبت بالهلع بسبب الوحدة وارتداد صوتي وهواجسي، واحبطت المخطط بنفسي وعدت لأخواتي. لم أطالب بغرفة خاصة إلا بعد تلك الليلة بسنوات .
كُنتُ قد كتبتُ بحماس عن العلامة القاتلة التي كان يحملها بيتنا بسببي، وعنّ أقراص المناديل المبللة التي بقيت تُصامد حتى قررت أمي بأن دهان المنزل عتيقٌ حقاً، كان أخي الأصغر وقتها يسأل عن الأجسام العشوائية الملتصقة بالسقف لأجيبه واقول : ” كُنا نلعب بالمناديل والموية ” لمّ يصدق انني في وقتٍ ماضٍ كُنتُ شقية لهذه الدرجة .. ليلمزني بتشفي ويقول ” شفتي يمه انا اعقل منهم !” ، تساءلتُ وقتها في داخلي : ” ماذا لوعلمت يا عبد الحكيم بما فعلته بباب غرفتنا ذات عصرية حارّة ” ..
إنها العلامة الفارقة، علامة ضخمة .. كُل مرة تقترب من حجرتنا فلابدُ أن تتساءل ماذا حصل ؟ مالذي جعل الباب بهذا الشكل ؟ .. كُنتُ ذات يومٍ دراسي مثقلةً بالنعاس وهم واجبات الصف الخامس او السادس .. حصل شيءُ ما بيني و أبي لستُ أذكرُ تحديداُ ماهو ربما عنفني بشدة، أو منعني من شيءٍ ما، كنتُ حينئذٍ الفتاة الكبرى المدللة الطافحة بمحاولات إثبات النفس والوجود وعلى إثرها امتلكتُ قلباً هشاً ودموعاً سريعة النزول، حدث ما حدث .. دخلتُ الحجرة أغلقت الباب بالمفتاح ودفنت وجهي في الوسادة، لمّ أشعر بعدها سوى بطرقِ قوي ولغطٍ حاد وصراخ والغرفةُ ظلماء تماماً .. بعدها أضاء النورُ بقوة ورأيتُ أمي تضحك وتقول ” استيقظي وانظري ماذا فعل ابوكِ لأجلك ”
لوهلة ظننتُ أنني في حلم، السؤال كيف فُتح الباب ؟ اقتربتُ من الباب البنيّ المسكين ادخلتُ قبضتي من خلاله ،عبر فتحةٍ مثلثة مشرشرة ببقايا خشب .. كسر ابي الباب ! أحضر منشاراً وكسر الباب ليفتحه .. ضحى بالباب لأجلي ، خاف علي واستبد به القلق حين ملوا الطرق والصراخ فكسر الباب !
كُلُ هذه الثرثرة لأجيبك عن علامةِ بيتنا :
فتحة مثلثة مائلة نحو مقبض باب غرفتي ونحو قلبي، لإنها تلكزُ ذاكرتي كلما دخلتُ وخرجت : ابي كسر باباً لأجلي .. افتقدتها كثيراً حين استبدلوا الباب 🙂
كتبتُ قبلاً ثم محوت، وها أنا اعيدُ الرد
شكرا لاعادة الكتابة : )
عندنا باب مكسور ، ولكن لقصة أخرى أخجل من تذكرها. ويبدو لي الآن أننا جميعاً لعبنا لعبة المناديل المبللة ! لا أنكر بأنها لعبة ذات حسّ فني واضح .
يا للتفاصيل.. والنوستالجيا.. 🙂
تفاصيل الشوق.. وشوق التفاصيل..
كان والدي يردد بيت المتنبي بشكل دائم..
“خلقت ألوفا لو رجعت الى صبا.. لفارقت شيبي موجع القلب باكيا”..
تفاصيل شققنا القديمة لا زلت أذكرها.. حتى أنني أحلم بها في شوق كبير.. حيث مساحات الصبا والشقاوة.. وذكريات الجد الراحل.. ومن مر واستظل ببيتنا ثم رحل وكأنه ظل شجرة..
تدوينة جميلة هيفاء.. 🙂
أهلا عقبة : )
حكايات المنازل لا تنتهي معي ، خصوصاً وأنني تنقلت في طفولتي بين ثمانية منازل مؤجرة حتى استقرت اسرتي في بيتنا الحالي، شعور التأهب هذا غريب ! حتى الذكريات متأهبة للانتقال معنا، لم يكن في منازلنا تلك أي علامة فارقة ! على العكس هي التي تركت علاماتها في ذاكرتنا .