انتهيت من تحميل الوثائقي –ثلاثي الأجزاء– بلا أية توقعات مسبقة، الإسم محفز لأنني أحبّ مشاهدة برامج الانتيك، هناك برنامج يعرض على بي بي سي اسمه “Antiques Roadshow” يعرض مزادات مفتوحة للانتيكات في بريطانيا والأفراد يجنون كنوزهم منها، ثم يعرضونها على متخصصين لتحديد ما إذا كان ما عثروا عليه كنزاً فعلاً أم لا. البرنامج روعته تكمن في الدهشة التي تظهر على وجوه الناس وهم يحملون قطع صغيرة تعود لمئات السنين، ولها قيمة هائلة ولكن يحصلون عليها بضربة حظّ! هذا البرنامج على أية حال ليس البرنامج محط الحديث في هذه التدوينة، بل BBC Antiques Uncovered الاسم يعلن بأنّ عالم الانتيكات سيكشف وستظهر الأسرار وراءها، هذا صحيح إلى حدّ كبير، لكن الفكرة الرائعة في الموضوع أنّ سيعود بنا إلى عصر صناعة هذه التحف الفاخرة، لقد كانت في وقت ما أدوات رفاهية، أو هدايا للتاريخ، أو كنوز صنعت لتعيش لأطول وقت ممكن. مقدمي البرنامج هما الدكتورة لوسي ورسلي مؤرخة ومتخصصة، وخبير الانتيكات مارك هيل، وهذا ما أحبّه في وثائقيات بي بي سي، يقدّم البرامج متخصص ليعرف ما الذي يتحدث عنه، ويبهرك بالتفاصيل والمعلومات التي يضيفها على كلّ شيء. الجزء الأول من الوثائقي يتحدث عن الترفية، ويُقدم من ووبورن آبي قصر دوق بيدفورد، والسبب في اختياره كونه ولقرون مركز للترفيه واستضافة ارستقراطيي انجلترا. وهناك كان يعرض آخر ما توصلت إليه البشرية من اختراعات في مجال الضيافة. والبدء كان مع الشاي ! ففي نهاية القرن السابع عشر تعرف الانجليز على البورسلان “الخزف الصيني” وسمّوه حينها الذهب الأبيض، ومنذ ذلك الوقت بدأ الهوس باقتناءه وحاول صنّاع الخزف الانجليزيين انتاجه محلياً ونجحوا في ذلك، وأشهر هؤلاء كان بنجامين لند الذي اكتشف المكون السحري (بودرة التالك) صنعت الفناجين التي قاومت الكسر بسبب الصدمة الحرارية، وهنا بالتحديد عرفت معلومة مثيرة للاهتمام، في انجلترا طريقة صبّ الشاي اختلفت بين طبقات المجتمع، فالفقراء يسكبون الحليب أولاً والأقل حرارة قبل سكب الشاي، بينما الأغنياء الذين تمكنوا من شراء البورسلان الفاخر يسكبون الشاي الساخن بلا خوف! لاحقاً ظهرت أنواع من البورسلان تمكن أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم من اقتنائها بسبب سعرها المناسب. لم يستورد الانجليز رفاهيتهم من الصين فقط، في الوثائقي نتعرف على الصوفا، والمفاجأة أنّ الكلمة الانجليزية Sofa وقطعة الأثاث أيضاً جاءت من العالم العربي، والأصل “صفا” ، لا أعلم هل كان القصد من هذا المصطلح الوقت الذي يجعل الانسان يجلس على الصوفا، الصفاء، التأمل، خصوصاً وإنها عندما وصلت لانجلترا كانت مخصصة للقيلولات قبل أن تقتحم غرف الجلوس وتغير حتى طريقة الجلوس والاسترخاء حول العالم. بعد الحديث عن الصوفا والأثاث يستعرض البرنامج تاريخ توماس تشيب آند دايل، صاحب أول كتالوج للأثاث في التاريخ ، شيء يشبه كتالوج آيكيا الذي نقتنيه اليوم وصدر في العام ١٧٥٤م ، قطع الأثاث التي صنعها تقدر قيمتها اليوم بالملايين، وما زالت طرقه التقليدية تستخدم في مدرسته لصنع الأثاث خارج ادنبره الاسكتلندية. ومن الأثاث إلى الإضاءة، والثريات الكريستالية التي قطّعت اجزاءها لتنشر الضوء في الغرف. إذ كانت الشموع باهضة الثمن آنذاك وبعدد قليل منها كانت الثريات تعلق على ارتفاع منخفض أو تزاد فيها القطع الكريستالية لاستثمار الضوء القليل، وهناك قصص من البلاط الفرنسي تحكي عن احتراق الشعر المستعار للسيدات عند مرورهن من تحت الثريا المنخفضة. في انجلترا اليوم محلات معدودة تصنع الثريات الكريستالية بالطرق القديمة، وتعيد ترميم القطع الاثرية، هناك يأتي الزبون ليعلق إضاءة فيكتورية في منزله، ليس للضوء بحدّ ذاته بل لاستعراض الثراء والمركز الاجتماعي. من الاضاءة للطعام، قبل القرن التاسع عشر كان الطعام يوضع كله تقريباً على الطاولة ويمدّ الآكلون ايديهم باتجاهه ويلتقطون ما يحبون، ولكن مع دخول القرن التاسع عشر أصبح الطعام يقدم على شكل كورسات أو مراحل، لذلك مع تعدد وسائل التقديم ازدهرت صناعة أدوات التقديم والتقطيع والملاعق وبقية أدوات الأكل، وأصبحت الأسر الارستقراطية تضع شعار الأسرة محفوراً على ملاعق الفضة.
في الجزء الثاني ينتقل الوثائقي للسفر، والحديث عن متعلقات المسافرين، ووسائل النقل، والترفيه فيها. وفي البدء، لكي تسافر تحتاج لمعرفة وجهتك، لذلك يستعرض الوثائقي صناعة الكرات الأرضية وتزيينها، وتاريخ النماذج الأولى، ويقابل مارك هيل جيمس بيسل توماس، في متجره الذي ما زال يصنع الكرات الأرضية يدوياً وبالطريقة التقليدية. ومن الكرات المزخرفة إلى القطارات، وعدد السفر المتاحة عليها، الأواني المختومة بأسماء الشركات، علب الكبريت، مراوح يدوية، ولأنها كانت قطع خفيفة وسهلة الحمل، كانت سهلة السرقة، تدسّ في الجيوب والمعاطف ، وهكذا احتفظ بها التاريخ! أي أن السرقة ساهمت بطريقة غير مباشرة في حفظ التراث. ومن القطارات للبواخر، وأي باخرة أشهر من تايتانك، التي ازدهرت القطع الناجية منها بعد عرض فيلم جيمس كاميرون في العام ١٩٩٨م، ومن مزاد لآخر يجمع المهووسون بها التذكارات، من مفاتيح الموظفين، لقوائم الطعام للوجبة الأخيرة، للمخطات الهندسية للسفينة. وبأسعار تصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات إذا لم يكن أكثر.
في السفر أيضاً يحتاج الركّاب أمتعة، وهنا القصة الممتعة! في العصر الفيكتوري أصبح الإهتمام بالنظافة والمظهر أكبر من قبل، لذلك ستجد في أمتعة الرجل النبيل صندوق جلدي يحتوي على أدوات الحلاقة، مرآة قابلة للطيّ، فرش للشعر والأسنان ولنشر صابون الحلاقة، وهذا فقط أصغر قطعة في المتاع. لكي يحمل المسافر كل ما يحتاجه سيتجه لأشهر صانعي الأمتعة في العصر الفيكتوري، نعم لوي فيتون ! الاسم الشهير الذي ما زال الهوس به قائما حتى اليوم، وقصة ال ختم الذي نراه اليوم على كل الحقائب، جاء بسبب رفضه لتقليد حقائبه، ختمها بشعاره المكون من حرفي اسمه الأولين، لكن طريق صناعة الحقائب لم يكن ممهداً، في البدء كانت سطوح الحقائب محدبة مما صعّب صفها بترتيب، لكنّ التصميم الجديد سطّح السقف وأصبح صفها أسهل، ويعتبر لوي فيتون أول من نشر هذا التصميم. من أين جاءت موهبته وابداعه؟ كان لوي نفسه رجل توظيب أمتعة، مهارته جاءت من تجربة شخصية، كيف تحزم الحقائب بالملابس والأغراض وتصل لجهة السفر بلا تدمير. لذلك صممّ أجمل حقائب السفر وأكثرها عملية، حتى أنه صممّ سرير متنقل داخل حقيبة، لهواة السفاري، وزيارة المناطق الاستوائية، مع ناموسية وفراش. من حقائب لوي فيتون إلى صناديق الكتابة أو المكتب المتنقل، وهي المكافئ للكمبيوتر المحمول اليوم، مع ادراج صغيرة للاحبار، ومنصة للشموع للاضاءة، وأماكن للاقلام والأوراق، ومساحة للكتابة أكيد وأدراج سريّة.
في العصر الفيكتوري وبينما كان الارستقراطيين يسافرون على البواخر الفخمة، ومقصورات القطارات الخاصة، ظهرت الحاجة لثورة سياحية للطبقة الكادحة، وهنا ظهرت الرحلات المعدة مسبقاً والمعروفة بالـPackage Trips، مصطلح نعرفه اليوم وما زال مستمراً لكنّه بدأ في انجلترا وبدأه تحديداً توماس كوك وبدأ شركة للرحلات من هذا النوع ما زالت قائمة. لم تكن الرحلات عشوائية، يوفّر الطعام والنقل، والوجهة، على أن يلتزم المسافرون بالمواعيد بدقة أو تضيع الفرصة. مع رحلات كوك صدرت كتب من تأليفه عن وصف الرحلات والمناطق وتنوعت بحسب الوجهات، شيء يشبه الأدلة السياحية التي نقتنيها من المكتبات، هذه الأدلة من القطع النادرة، وإن حصلت عليها فأنت تقتني تحفة وبسعر يزداد سنة بعد سنة.
عندما وصل المسافرون لوجهاتهم كانوا يبعثون لأسرهم بالتذكارات، وأي تذكار سريع الارسال أكثر من بطاقة بريدية؟ وأفكّر أنها النظير للصور الرقمية التي نلتقطها ونعرضها في حساباتنا على الشبكات الاجتماعية لنشارك بها الآخرين، بصور لا تنسى من وجهات السفر، أشهر رسامي البطاقات البريدية آنذاك كان دونالد مكغيل، الذي بيعت الملايين من بطاقاته وجابت العالم. ويمكن اليوم الحصول عليها بأسعار خيالية أو متوسطة بحسب القيمة التاريخية للبطاقة.
في الجزء الثالث من الوثائقي يتطرق المقدمان للاحتفالات، الاحتفالات على أنواعها، وطريقة الانجليز في تخليدها، من الولادة للزواج للموت للالعاب الأولومبية، هذا الجزء من الوثائقي لن يكفي كتابة ملاحظاتي عنه في هذه التدوينة بل أدعوكم بحماسة لمشاهدته وختم الثلاثية الرائعة به. أكثر ما شدّني في الحلقة فكرة فستان الزواج الأبيض أو بالمعنى الدقيق تفصيل فستان خاصّ بالزواج، هذا التقليد لم يوجد قبل القرن التاسع عشر، العصر الفيكتوري تحديداً عندما ارتدت الملكة فيكتوريا فستان زواجها الأبيض لتبدأ تقليداً امتدّ ليومنا هذا وتبعناه ! ومن فساتين الزواج إلى احتفالات التتويج الملكية التي تسجّل وتحفظ في قطع تذكارية من الاطباق والفناجين، حتى الميداليات والصور المطبوعة على بطاقات البريد، بعد كل مناسبة ملكية، والحكاية الطريفة أنه وعندما توج الملك ادوارد الثامن بيعت قطع تتويجه وانتجت بكثافة لتباع على مدى فترة الحكم في محلات انجلترا المتخصصة، إلا أنه اضطر للتنازل عن العرش بعد عدة أشهر فقط، ووقع المنتجون في ورطة تمكنوا من حلها ببساطة بإضافة تلميح اسفل الصورة بدلاً من ذكرى التتويج، أصبحت العبارة “تنازل عن العرش” على كل القطع، وبيعت بلا مشاكل! ومن الاحتفال للعزاء والحداد، فالسيدات الفيكتوريات كنّ يتشحن بالسواد لسنتين كاملتين، حداداً على أزواجهن، ولكن بعد انتهاء هذه المدة لا ينتهي ارتداء السواد بألوان الفرح، على العكس، تبدأ بالانتقال تدريجياً لألوان داكنة مقاربة كالرمادي والبنفسجي، لمدة ستة أشهر، ثمّ تعود لحياتها وملابسها الاعتيادية، والقدوة في هذه الحالة كانت الملكة فيكتوريا نفسها، إذ ارتدت السواد حداداً على البرت واعتزلت الجماهير حتى وفاتها.
في النهاية..
لقد تجاهلت عمداً الكثير من المحتويات التي عرضت في البرنامج لكي أثير فضولكم لرؤية المزيد، فأنا على أية حال لا أحبّ تدمير التفاصيل والحكايات بسردها كاملة، فما الذي يبقى لدهشتكم؟ لذلك يمكنكم تحميل الأجزاء الثلاثة من الروابط التالية : ١، ٢ ، ٣ . واستمتعوا بالروابط التي اضفتها في نصّ التدوينة، لرؤية المزيد عن المواضيع.
Thanks Haifa for sharing , this documentary movie sounds intresting to me . Defiantly I will try to watch it soon, by the way I love documntary movies .
You are welcome dear .
I love documentaries so much, its like reading a book, but lighter , also with sounds and pictures !
hope you get to watch it too ..
have a great day : )