“.. منسّقو صفحات الكتب – المتحدرون من صفّافي ومنضدي الحروف في المطابع القديمة – كانوا يرتعبون حيال بقاء سطر وحيد في الصفحة، أو بكلمة أصحّ شبه سطر. أقل من نصف سطر. وكانوا يطلقون على هذه الذيول اسم “أرامل” . قد تكون هناك صفحة – في نهاية أحد الفصول مثلاً – يكون النص الوحيد فيها هو سطر أرمل. في هذه الحلة يفعلون كل ما هو ممكن، لأسباب طباعية جمالية – وكذلك لأسباب اقتصادية كما سترون للانزياح نحو الأمام، أي لإحضار سطر أو سطرين، وربما ثلاثة سطور في بعض الأحيان، من الصفحة السابقة. وبهذا لا يبقى الأرمل أرمل ويطمئن الجميع. الجميع بالطبع، باستثناء المؤلف. لأن نقل هذه السطور يعني بقاء مكانها أبيض في الصفحة السابقة، ولكي لا يبدو هذا الفراغ ملحوظاً، يعمد منسق الصفحات إلى توزيع الفراغ ما بين فقرة وأخرى. لست أدري إذا ما كان القارئ ينتبه لذلك أم لا، لكنني اكتشف هذا الأمر على الفور؛ فحيث تركت فراغاً أجد الآن فراغاً أكبر. وهذا مرعب، لأن الفراغات بالنسبة إلى أحدنا تمثل استجابة لمنهج سرّي له علاقة بالزمن القصصي: فوجود فراغ طباعي أكبر يعني أن وقتاً أطول قد انقضى. ويجري ضبط هذا الزمن على الدوام بواسطة النقطة؛ فنقطة ومواصلة الكلام يعني أن الوقت قصير. أما النقطة والبدء بفقرة جديدة فيعني أنّ الزمن أطول. فإذا ما أضيف إلى الفراغ العادي الفاصل بين الفقرتين فراغان أو ثلاثة فراغات أخرى بيضاء – أو فراغ واحد أكبر من المطلوب – فكم سيكون قد مضى من الزمن؟ وإذا ما جاء هذا الفراغ وسط مقطع حواري، فسوف يكون مرعباً، لأنه سيعطي الانطباع بأن سنة قد انقضت ما بين السؤال والجواب. وهذه ليست مسألة نظرية، لأن الفراغات مسألة يمكن الإحساس بها. القارئ يحس بها. ويمكن –كما قلت لكم– أن يحدث العكس، فمن أجل توفير صفحة .. من أجل أن ينقص حجم الكتاب صفحة، تجري محاولة إزاحة “الأرمل” أو سطر كامل، وضمه إلى الصفحة السابقة. وهذا يستدعي تقريب السطور أو – وهذا هو الأسوأ – تحويل فقرتين إلى فقرة واحدة . هل تظنون أن الطابع لن يوفر شيئاً بهذا؟ ربما يكون التوفير ضئيلاً إذا كانت الطبعة من ثلاثة آلاف نسخة، أما إذا كانت من ثلاثمائة ألف، أو مليون نسخة، فإن هذه الصفحة ستتحول إلى أطنان من الورق. ولكي يوفر الناشر هذه الكمية ويتمكن من جعل الكلفة أقل، يحبذ هذه الأعمال التي تتحول إلى كارثة حقيقية بالنسبة للمؤلف. أنا لا أسمح بذلك بأي حال من الأحوال. فإذا كان الناشر سيطبع مليون نسخة، فهذا يعني أنه سيربح مبلغا ضخما من المال يستدعي منه أن يعوض ذلك على الأقل بأن يحترم نبضات النص الداخلية. .”
غابرييل غارسيا ماركيز (ورشة سيناريو غابرييل غارسيا ماركيز)
لستُ أدري كيف يكون شعورُ الكاتب وهو يعلم أنّ كتابه سَيطبعُ مليون نسخة او أكثر، كيف سيتقبلُ الموضوع بكلِ بساطة بعيدة تماماً عنَ أي غرور، أحبُ هذا الشعور الذي سربه لي ماركيز في هذا الحديث .. البساطة، الواقعية، والتقبل .
قرأتُ قبل عدة أيام خبراً عنه في جريدة إيلاف بعنوان ” هل إنطفأت ذاكرة غابو ؟ ” وفيه خبرٌ عن أن هذا الثمانيني أصبح واهن الذاكرة، وفيه قال صديقة صاحب رائحة الجوافة : ” غابو لمّ يعد غابو ” .. . وخفت أنّ يختفي من عالمنا هذا العجوز، خفت أن يموت دون أن يكمل روايته التي يعيشها .
ممنونة لحكاية السطر الأرمل هيفا ..
اتوقع قرأتِ سيرته “عشت لأروي” والأخرى التي وضعها جيرالد مارتن . لو لم تفعلي ذلك بعد، انصحك بالانطلاق !
عندما قرأت سيرة ماركيز وجدت ذلك الحسّ الرائع في تبسيط الأمور، لم يحاول أن يصنع لنفسه فقاعة وهمية – وهو الحائز على نوبل في الآداب- تقرأين له فتجدينه بدلاً من أن يحبطك يقول : حتى انتم تستطيعون فعلها.
ومنه تنتقل عدوى القصّ المباركة .
بالنسبة لخبر ذاكرته ، وجدت بعض التويتات التي تتحدث عنه، وحاولت عامدة تجاهل الموضوع ! بحثت لاحقا في مصادر اجنبية ولم اجد شيئاً، وانتظر الآن انهاء روايته التي تحدث عن كتابتها قبل سنتين تقريباً . أيّ أعجوبة يعدّ لنا ؟
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..
اقف معكِ في ذلك , و أتفق بأنه سيوفر بعض الدولارات بعد القيام بحل الفقرات الارملة أو السطر الارمل و الانتهاء من غزو الصفحات بحثاً عن كيفية انقاذ ذلك السطر ..
أحيانا تكون عملية الانقاذ هذه ناجحة على صعيد التوفير و على الصعيد الجمالي .. فبعض الكتب ألاحظ بها خلاً و تواجد سطرٍ هنا و هناك و بعثرة عشوائية فأعلم بأن هناك خطب من المطبعة .. و هناك كتب تحمر هي نفسها خجلا من جمالها و يعجَبُ القارئ ان علم بأنه حدثت فيها عملية إغاثة لتواجدِ أرمل كان فيها !
انا لست ضد ذلك .. و لكن يجب أن لا يؤثر على نبض القصة و حتواها و فواصلها لزمنية و ترتيب الاحداث و التنسيق الجمالي للقصة . =)
تدوينتكِ جميلة جداً ^^ .. عذرا ان اسهبت ^^” ..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته : )
اتفق معك ، التغيير الذي يطرأ على المحتوى بسبب التنسيق مشوش احيانا .