في كلّ رحلة إلى وجهة جديدة أحمل معي توقعات مسبقة واستعد بصورة ذهنية حالمة أحيانًا ومتوجسة أحيانًا أخرى. تسمّي مرشدتي هذا الشعور: بالتفاؤل الحذر! رحلة القاهرة هذه كانت مختلفة فلم يكن هناك توقعات أو بحث أو تخطيط فقد وضعت ثقتي في أخواتي وحماسهنّ للسفر. لم تكن أيضا ضمن خطط رحلات العام، وبدأن بالحجز والترتيب لها وأنا أنظر لهنّ بحماس واشجعهن فقد كانت وجهة منتظرة لسنوات طويلة وحان الوقت لاكتشافها. وعندما اقترب رمضان نجحن في إقناعي، وقررت الانضمام للرحلة. لقد تيسرت الخطة بأجمل صورة وكانت إجازة العيد كافية للانطلاق ولم نحتج لأيام إضافية نقتنصها من العمل. القاهرة عرفتها من القصص والكتب، من الأفلام القديمة والأغنيات التي أحبّ. لكنها كانت ماثلة أمامي، مدينة تتنفس وتتلون وتهمس لي: هنا الحياة كاملة!
سكنٌ على أطراف الضوء
اخترنا في هذه الرحلة السكن بعيدًا عن قلب المدينة وقريبًا من منظر الأهرامات الساحر. منطقة تبدو عليها الجدّة والهدوء والبطء تقع على بعد دقائق من مدينة الشيخ زايد، والمتحف المصري الكبير والأهرامات. هذا ما كنّا نبحث عنه. الأمر السلبي الوحيد في الموضوع هو حاجتنا لقطع مسافة طويلة ووقت للوصول إلى قلب المدينة وأكثر وجهاتنا. لكنّ الطريق كان فرصة للضحك والاكتشاف وتأمل مشاهد الحياة حول القاهرة. لا تسمع هنا أصوات سيارات مسرعة أو منبّهات عالية، فطور هادئ وقهوة ثمّ الانطلاق ليوم حافل.
أمسية وصولنا الأولى قضيناها في القاهرة الجديدة، تحديدًا مجمع Garden 8. تجولنا في المتاجر المتنوعة وأحببت على وجه التحديد متجر Maison 69 متعدد المقتنيات. يضم المتجر مجموعة كبيرة من المنتجات المنزلية والملابس والأثاث والاكسسوارات وغيرها. قضينا وقتًا أطول مما توقعنا هناك وخرج الجميع بمشتريات مختلفة. ذهبنا في رحلتنا لاحقًا لفرع آخر للمتجر في منطقة الزمالك لكنني شخصيًا فضلت الفرع الأوّل.
خيارات القهوة والمطاعم في Garden 8 كثيرة لكن مع ازدحام أول أيام العيد كانت فكرة جيدة حجز العشاء قبل عدة أيام. فكل زاوية في المكان ممتلئة بالزوار والمتسوقين. كان عشاء لذيذ متنوع ومشبع وبه ختمنا ليلة وصولنا للقاهرة.
النهار الأول
صباح اليوم التالي بدأناه بزيارة للمتحف المصري الكبير -وهو كبير فعلاً بمساحة مذهلة! علمنا قبل زيارتنا أنّ الكثير من الأجزاء لم تفتتح رسميًا بعد. لكن هذا لم يقلل من حجم المجموعة الموجودة حاليًا واستمتاعنا بها. المبنى فسيح بنوافذ ضخمة تضيء الزوايا وسقوف مرتفعة -نقطة مفضلة في المتاحف-.
استقبلنا تمثال رمسيس الثاني في البهو الكبير. نظراته الثابتة كأن الزمن توقف ولم يتغير. لدى أخواتي الكثير من المعلومات عن تاريخ مصر القديم والآثار وكل المتاحف والمجموعات التي سنطلع عليها اليوم. أصغي لهنّ والتقط القصص بينما أدور حول التمثال وأفكر في نحته وبنائه ونقله. في زيارتي للمتحف المصري الكبير شهدت جانبًا مختلفًا من شخصيتي: زيارة المتاحف والاطلاع على مجموعات لا أعرف عنها شيئًا.
في كلّ رحلة أو زيارة لوجهة أتطلع لزيارة المتاحف أو المعارض الفنية لرؤية عملٍ بعينه، أو الاطلاع على تاريخ حضارة قرأت عنها كثيرًا وعرفت عنها أكثر. هذه المرة اعتمدت تمامًا على المحتوى المقدم من المتحف لزائريه، على الخرائط واللوحات الإرشادية. ولفتني جدًا جمال توزيع المقتنيات وطريقة كتابة المحتوى. والاستعانة بالتقنيات الحديثة كالضوء والصور المعكوسة عند غياب المحسوسات. كلّ شيء متناغم بين المكتوب والمسموع والمعروض. وبين كل زاوية وأخرى تسمع مرشدًا مصريًا يتحدث للزوار بلغة مختلفة، أعرف أنه مصري لأنّ لهجته تتضح في الاسبانية والإيطالية والفرنسية. لفتني أيضًا طرق العرض والاضاءة التي تعزز من ظهور المقتنيات. ففي مرة كنت أنظر لتابوت خشبي ملون وضع في صندوقه الزجاجي مرآة لنرى الجانب الآخر من التابوت. وهكذا يمكن للزائر وهو يقف في مكانه رؤية كلّ التفاصيل. ربما انتبهت لكثير من هذه الجزئيات لارتباطها بمجال عملي وربما ببساطة لأنّي أرى في كل شيء قصة وكانت قصة المقتنيات تروى بشكل مثالي.
تضمّ مساحة المتحف الكبير عدة متاجر للتذكارات والهدايا بالإضافة للمقاهي والمطاعم مما جعله مكان مثالي لقضاء نصف نهار قبل التوجّه للفندق للاستراحة الأولى قبل المساء.
في المساء كنّا على موعد مع تجربة ممتعة واختبار حقيقي لشخص عالي الحساسية للأصوات والأضواء والسلع المعروضة. نعم، كانت الوجهة خان الخليلي! والطريف في الأمر أنا اختر أكثر الأيام ازدحامًا. عيد واحتفالات وأهل الضواحي والقرى توافدوا إلى المدينة كما يحدث في كلّ المدن الرئيسية. كانت نزهة ممتعة غارقة في العجب والضحك. خرجت منها بشال كشمير مطرّز سيرافقني في عطلتي القادمة. بينما احتضنت أخواتي مقتنياتهم الأثيرة من التحف الصغيرة والحلي الجميلة والملبوسات. في زاوية من المكان التقطت أذني العزف والغناء من قهوة أم كلثوم. ازدحمت الطاولات بالزوار والقهوة والتصفيق. في خان الخليلي، لا تشتري شيئًا بقدر ما تشتري لحظة، لحظة تعلق في الذاكرة، مثل ضوء ذهبيٍ صغير لا ينطفئ. تلاشت الأصوات تدريجيًا وانسحبت حينما غادرنا المكان. لاحقًا، التقطنا أنفاسنا واستعدنا العاصفة الممتعة التي كنّا فيها وتناولنا العشاء في مطعم ياباني واستسلمنا للنعاس باكرًا.
موعد مع أبو الهول
لو كان هناك مقياس للحماس خلال الرحلة سيرتفع إلى حدّه الأقصى هذا اليوم. رفقة الرحلة كلّها متأهبة للانطلاق نحو الأهرامات التي نظرنا إليها بخجل خلال اليومين الماضية.
لم أحمل معي توقعات مسبقة أو قصص أو مشاعر، كانت معي كاميرا فيلم أبيض وأسود لالتقاط المشاهد وسعدت كثيرًا بالأجواء المشمسة كي لا أعتمد على الفلاش. لم تكن الزيارة من ترتيبي لكنّ أختي اختارت شركة Orascom Pyramids Entertainment لتنظيم جولتنا الخاصة. بدأنا من مركز للزوار مع مقدمة تاريخية ووقفة مرطبات ووجبة خفيفة. حظينا برعاية ملكيّة في الجولة!
دخلنا بعض المدافن الخاصة، واقتربنا من الأهرامات واختصرنا الكثير من الوقت بالتنقل بسيارة الجولف. لم يخفف ذلك من ازدحام المكان أو شدة حرارة الشمس! خفت أن اتعرض لحالة إغماء من شدة الاجهاد الحراري لكن الوقفات القصيرة التي ندخل فيها إلى ظلمة مدفن ما والبرودة فيه كانت تعيد لنا الانتعاش. لم تكن ضخامة حجارة الأهرامات هي ما اذهلني، رغم أنها تثير الذهول بحجمها ودقتها، إنما ذلك الصمت العميق والكثيف الذي يجردني من ضجيجي الداخلي لأتفكر فيما يحيط بي. مفهوم مرور الوقت والتاريخ وقوة الانسان عندما يصمّم على تنفيذ أمر ما كلها كانت أفكار تدور في ذهني. ولم أنكر ولم أخف حماسي الصاخب عندما حانت لحظة الوقوف أمام أبو الهول، فهو النجم المنتظر من هذه الزيارة. أنظر إليه وأفكر في لولو وهي تجلس بوداعة في بيتنا البعيد.
كلما جلست بهدوء وضمت إليها ذيلها باستدارة ناعمة تذكرت أبو الهول. التقطنا الكثير من الصور التذكارية – صور سياح كما أحب تسميتها. وانطلقنا إلى محطتنا الأخيرة في الزيارة بغداء مشبع ومرطبات تروي الروح قبل الجسد في مطعم خوفو. كانت تجربة من تجارب العمر التي ستبقى حيّة في ذاكرتنا وستثبتها الصور بالتأكيد، صممت الجولة بحبّ واهتمام وحظينا بمرشدين يحبون الحديث عن التاريخ وتفاصيله.
جمهور المومياوات!
كان هذا اليوم تجربة مختلفة لشخص لا يهتمّ كثيرًا برؤية المومياوات. على العكس من ذلك، سببت لي هذه الجولة فوضى في مشاعري وخوف من الكوابيس اللاحقة. زرنا هذا اليوم المتحف القومي للحضارة المصرية. الإضاءة خافتة وطريق دخولك مستمر وإجباري حتى تنتهي من زيارة الملوك والملكات. وجوههم ما زالت تنبض بالحياة بشكل غريب! ليس رعبًا خالصا ما شعرت به، بل دهشة من ينظر لجسد غادرته الروح منذ آلاف السنين. عضلات الجسد الضامرة والشعر الذي بقيت بعض ملامحه البعيدة وألوانه الباهتة. كان أكثر ما أزعجني في هذه الجولة أن الكثير من الزوّار لم يلتزموا بالهدوء كما أشارت اللوحات الإرشادية، وارتفعت أصواتهم فوق المعقول!
في نفس اليوم اخترنا زيارة متحف الفنّ الإسلامي وكان إحدى اختياراتي المحددة للزيارة في هذه الرحلة. كان توقيت الزيارة مثالي فالمكان لا يعجّ بالزوار. ربما مصادفة رحلتنا وإجازة العيد خففت من ازدحام بعض الأماكن. رُتّبت المجموعات حول المكان على نحو مريح للتجول والاستكشاف. ينتقل الزائر في المكان عابرًا العصور والدول الإسلامية وتقابله أبواب خشبية، وخزف ومخطوطات ومصاحف. قضينا في المكان حوالي الساعة أو تزيد قليلًا وكان لكلّ منّا زاويته المفضلة. بقية نهار هذا اليوم قضيناه في جولة متنوعة في حي الزمالك، وختمنا المساء في أركان بلازا بعشاء مبكّر شهي.
في وداع القاهرة
يومنا الأخير في المدينة قضيناه بالتنقل حولها. زرنا أولًا المتحف المصري بالتحرير. والذي تشير المعلومات إلى أنّه أقدم متحف أثري في الشرق الأوسط، وأول مبنى ينشأ في العالم ليكون متحفاً. بدأت فكرة إنشائه عام 1895، حين فاز المعماري الفرنسي مارسيل دورنيو بالمسابقة الدولية التي تم إقامتها لتصميم مبنى المتحف، وافتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1902م. حجم المتحف وحجم المقتنيات التي يضّمها لم يتناسب مع الوقت الذي قررت منحه إيّاه. كان الازدحام ملحوظ والكلّ يبحث عن القناع الذهبي لتوت عنخ آمون.
وتظهر أيضا استعدادات نقل المقتنيات والتطوير المنتظر. يبدو المكان كمتحف وورشة عمل ضخمة في نفس الوقت. بعض القطع كانت على ألواح خشبية، وأخرى في صناديق، والحركة والمسارات عشوائية فكلّ منا يبحث عن شيء مختلف! يشبه فتح صندوق ذكريات ضخم وكل زاوية فيه تسرق انتباهك. لا تنظيم صارم، ولا تسلسل واضح لكن الخرائط وسؤال الزوار أو الموظفين كان أفضل مرشد. أحببته حقيقة مع أن التجول فيه وحرارة الجو حينها أتعبني. كان حقيقي لا يحاول التجمل أو الإبهار، متحف واثق من حصيلته! قضينا المساء في شارع المعز مع جولة جديدة بين المحالّ الصغيرة والاستعراضات الظريفة ومظاهر بهجة العيد الممتدة.
انتهت رحلتنا في القاهرة سريعًا، وكنا نعرف ذلك مسبقًا فخمسة أيام غير كافية. وبينما اقتربت الطائرة من مطار الرياض كنا نخطط فعليًا لرحلة قادمة نستكمل فيها حديثنا مع صديقتنا الجديدة. وددت لو شاركت كل التفاصيل والقصص لكن كلما طالت التدوينة كلما ترددت في كتابتها أكثر. وعندما شاهدت تاريخ اليوم أدركت أن الشهر مرّ ولم أشارك القصة بعد.
.
.
.
Tapestry in image: The Ramses Wissa Wassef Art Center
.
.