11 | القاهرة أخيرًا!

في كلّ رحلة إلى وجهة جديدة أحمل معي توقعات مسبقة واستعد بصورة ذهنية حالمة أحيانًا ومتوجسة أحيانًا أخرى. تسمّي مرشدتي هذا الشعور: بالتفاؤل الحذر! رحلة القاهرة هذه كانت مختلفة فلم يكن هناك توقعات أو بحث أو تخطيط فقد وضعت ثقتي في أخواتي وحماسهنّ للسفر. لم تكن أيضا ضمن خطط رحلات العام، وبدأن بالحجز والترتيب لها وأنا أنظر لهنّ بحماس واشجعهن فقد كانت وجهة منتظرة لسنوات طويلة وحان الوقت لاكتشافها. وعندما اقترب رمضان نجحن في إقناعي، وقررت الانضمام للرحلة. لقد تيسرت الخطة بأجمل صورة وكانت إجازة العيد كافية للانطلاق ولم نحتج لأيام إضافية نقتنصها من العمل. القاهرة عرفتها من القصص والكتب، من الأفلام القديمة والأغنيات التي أحبّ. لكنها كانت ماثلة أمامي، مدينة تتنفس وتتلون وتهمس لي: هنا الحياة كاملة!

سكنٌ على أطراف الضوء

اخترنا في هذه الرحلة السكن بعيدًا عن قلب المدينة وقريبًا من منظر الأهرامات الساحر. منطقة تبدو عليها الجدّة والهدوء والبطء تقع على بعد دقائق من مدينة الشيخ زايد، والمتحف المصري الكبير والأهرامات. هذا ما كنّا نبحث عنه. الأمر السلبي الوحيد في الموضوع هو حاجتنا لقطع مسافة طويلة ووقت للوصول إلى قلب المدينة وأكثر وجهاتنا. لكنّ الطريق كان فرصة للضحك والاكتشاف وتأمل مشاهد الحياة حول القاهرة. لا تسمع هنا أصوات سيارات مسرعة أو منبّهات عالية، فطور هادئ وقهوة ثمّ الانطلاق ليوم حافل.

أمسية وصولنا الأولى قضيناها في القاهرة الجديدة، تحديدًا مجمع Garden 8. تجولنا في المتاجر المتنوعة وأحببت على وجه التحديد متجر Maison 69 متعدد المقتنيات. يضم المتجر مجموعة كبيرة من المنتجات المنزلية والملابس والأثاث والاكسسوارات وغيرها. قضينا وقتًا أطول مما توقعنا هناك وخرج الجميع بمشتريات مختلفة. ذهبنا في رحلتنا لاحقًا لفرع آخر للمتجر في منطقة الزمالك لكنني شخصيًا فضلت الفرع الأوّل.

خيارات القهوة والمطاعم في Garden 8 كثيرة لكن مع ازدحام أول أيام العيد كانت فكرة جيدة حجز العشاء قبل عدة أيام. فكل زاوية في المكان ممتلئة بالزوار والمتسوقين. كان عشاء لذيذ متنوع ومشبع وبه ختمنا ليلة وصولنا للقاهرة.

النهار الأول

صباح اليوم التالي بدأناه بزيارة للمتحف المصري الكبير -وهو كبير فعلاً بمساحة مذهلة! علمنا قبل زيارتنا أنّ الكثير من الأجزاء لم تفتتح رسميًا بعد. لكن هذا لم يقلل من حجم المجموعة الموجودة حاليًا واستمتاعنا بها. المبنى فسيح بنوافذ ضخمة تضيء الزوايا وسقوف مرتفعة -نقطة مفضلة في المتاحف-.

استقبلنا تمثال رمسيس الثاني في البهو الكبير. نظراته الثابتة كأن الزمن توقف ولم يتغير. لدى أخواتي الكثير من المعلومات عن تاريخ مصر القديم والآثار وكل المتاحف والمجموعات التي سنطلع عليها اليوم. أصغي لهنّ والتقط القصص بينما أدور حول التمثال وأفكر في نحته وبنائه ونقله. في زيارتي للمتحف المصري الكبير شهدت جانبًا مختلفًا من شخصيتي: زيارة المتاحف والاطلاع على مجموعات لا أعرف عنها شيئًا.

في كلّ رحلة أو زيارة لوجهة أتطلع لزيارة المتاحف أو المعارض الفنية لرؤية عملٍ بعينه، أو الاطلاع على تاريخ حضارة قرأت عنها كثيرًا وعرفت عنها أكثر. هذه المرة اعتمدت تمامًا على المحتوى المقدم من المتحف لزائريه، على الخرائط واللوحات الإرشادية. ولفتني جدًا جمال توزيع المقتنيات وطريقة كتابة المحتوى. والاستعانة بالتقنيات الحديثة كالضوء والصور المعكوسة عند غياب المحسوسات. كلّ شيء متناغم بين المكتوب والمسموع والمعروض. وبين كل زاوية وأخرى تسمع مرشدًا مصريًا يتحدث للزوار بلغة مختلفة، أعرف أنه مصري لأنّ لهجته تتضح في الاسبانية والإيطالية والفرنسية. لفتني أيضًا طرق العرض والاضاءة التي تعزز من ظهور المقتنيات. ففي مرة كنت أنظر لتابوت خشبي ملون وضع في صندوقه الزجاجي مرآة لنرى الجانب الآخر من التابوت. وهكذا يمكن للزائر وهو يقف في مكانه رؤية كلّ التفاصيل. ربما انتبهت لكثير من هذه الجزئيات لارتباطها بمجال عملي وربما ببساطة لأنّي أرى في كل شيء قصة وكانت قصة المقتنيات تروى بشكل مثالي.

تضمّ مساحة المتحف الكبير عدة متاجر للتذكارات والهدايا بالإضافة للمقاهي والمطاعم مما جعله مكان مثالي لقضاء نصف نهار قبل التوجّه للفندق للاستراحة الأولى قبل المساء.

في المساء كنّا على موعد مع تجربة ممتعة واختبار حقيقي لشخص عالي الحساسية للأصوات والأضواء والسلع المعروضة. نعم، كانت الوجهة خان الخليلي! والطريف في الأمر أنا اختر أكثر الأيام ازدحامًا. عيد واحتفالات وأهل الضواحي والقرى توافدوا إلى المدينة كما يحدث في كلّ المدن الرئيسية. كانت نزهة ممتعة غارقة في العجب والضحك. خرجت منها بشال كشمير مطرّز سيرافقني في عطلتي القادمة. بينما احتضنت أخواتي مقتنياتهم الأثيرة من التحف الصغيرة والحلي الجميلة والملبوسات. في زاوية من المكان التقطت أذني العزف والغناء من قهوة أم كلثوم. ازدحمت الطاولات بالزوار والقهوة والتصفيق. في خان الخليلي، لا تشتري شيئًا بقدر ما تشتري لحظة، لحظة تعلق في الذاكرة، مثل ضوء ذهبيٍ صغير لا ينطفئ. تلاشت الأصوات تدريجيًا وانسحبت حينما غادرنا المكان. لاحقًا، التقطنا أنفاسنا واستعدنا العاصفة الممتعة التي كنّا فيها وتناولنا العشاء في مطعم ياباني واستسلمنا للنعاس باكرًا.

موعد مع أبو الهول

لو كان هناك مقياس للحماس خلال الرحلة سيرتفع إلى حدّه الأقصى هذا اليوم. رفقة الرحلة كلّها متأهبة للانطلاق نحو الأهرامات التي نظرنا إليها بخجل خلال اليومين الماضية.

لم أحمل معي توقعات مسبقة أو قصص أو مشاعر، كانت معي كاميرا فيلم أبيض وأسود لالتقاط المشاهد وسعدت كثيرًا بالأجواء المشمسة كي لا أعتمد على الفلاش. لم تكن الزيارة من ترتيبي لكنّ أختي اختارت شركة Orascom Pyramids Entertainment  لتنظيم جولتنا الخاصة. بدأنا من مركز للزوار مع مقدمة تاريخية ووقفة مرطبات ووجبة خفيفة. حظينا برعاية ملكيّة في الجولة!

دخلنا بعض المدافن الخاصة، واقتربنا من الأهرامات واختصرنا الكثير من الوقت بالتنقل بسيارة الجولف. لم يخفف ذلك من ازدحام المكان أو شدة حرارة الشمس! خفت أن اتعرض لحالة إغماء من شدة الاجهاد الحراري لكن الوقفات القصيرة التي ندخل فيها إلى ظلمة مدفن ما والبرودة فيه كانت تعيد لنا الانتعاش. لم تكن ضخامة حجارة الأهرامات هي ما اذهلني، رغم أنها تثير الذهول بحجمها ودقتها، إنما ذلك الصمت العميق والكثيف الذي يجردني من ضجيجي الداخلي لأتفكر فيما يحيط بي. مفهوم مرور الوقت والتاريخ وقوة الانسان عندما يصمّم على تنفيذ أمر ما كلها كانت أفكار تدور في ذهني. ولم أنكر ولم أخف حماسي الصاخب عندما حانت لحظة الوقوف أمام أبو الهول، فهو النجم المنتظر من هذه الزيارة. أنظر إليه وأفكر في لولو وهي تجلس بوداعة في بيتنا البعيد.

كلما جلست بهدوء وضمت إليها ذيلها باستدارة ناعمة تذكرت أبو الهول. التقطنا الكثير من الصور التذكارية – صور سياح كما أحب تسميتها. وانطلقنا إلى محطتنا الأخيرة في الزيارة بغداء مشبع ومرطبات تروي الروح قبل الجسد في مطعم خوفو. كانت تجربة من تجارب العمر التي ستبقى حيّة في ذاكرتنا وستثبتها الصور بالتأكيد، صممت الجولة بحبّ واهتمام وحظينا بمرشدين يحبون الحديث عن التاريخ وتفاصيله.

جمهور المومياوات!

كان هذا اليوم تجربة مختلفة لشخص لا يهتمّ كثيرًا برؤية المومياوات. على العكس من ذلك، سببت لي هذه الجولة فوضى في مشاعري وخوف من الكوابيس اللاحقة. زرنا هذا اليوم المتحف القومي للحضارة المصرية. الإضاءة خافتة وطريق دخولك مستمر وإجباري حتى تنتهي من زيارة الملوك والملكات. وجوههم ما زالت تنبض بالحياة بشكل غريب! ليس رعبًا خالصا ما شعرت به، بل دهشة من ينظر لجسد غادرته الروح منذ آلاف السنين. عضلات الجسد الضامرة والشعر الذي بقيت بعض ملامحه البعيدة وألوانه الباهتة. كان أكثر ما أزعجني في هذه الجولة أن الكثير من الزوّار لم يلتزموا بالهدوء كما أشارت اللوحات الإرشادية، وارتفعت أصواتهم فوق المعقول!

في نفس اليوم اخترنا زيارة متحف الفنّ الإسلامي وكان إحدى اختياراتي المحددة للزيارة في هذه الرحلة. كان توقيت الزيارة مثالي فالمكان لا يعجّ بالزوار. ربما مصادفة رحلتنا وإجازة العيد خففت من ازدحام بعض الأماكن. رُتّبت المجموعات حول المكان على نحو مريح للتجول والاستكشاف. ينتقل الزائر في المكان عابرًا العصور والدول الإسلامية وتقابله أبواب خشبية، وخزف ومخطوطات ومصاحف. قضينا في المكان حوالي الساعة أو تزيد قليلًا وكان لكلّ منّا زاويته المفضلة. بقية نهار هذا اليوم قضيناه في جولة متنوعة في حي الزمالك، وختمنا المساء في أركان بلازا بعشاء مبكّر شهي.

في وداع القاهرة

يومنا الأخير في المدينة قضيناه بالتنقل حولها. زرنا أولًا المتحف المصري بالتحرير. والذي تشير المعلومات إلى أنّه أقدم متحف أثري في الشرق الأوسط، وأول مبنى ينشأ في العالم ليكون متحفاً. بدأت فكرة إنشائه عام 1895، حين فاز المعماري الفرنسي مارسيل دورنيو بالمسابقة الدولية التي تم إقامتها لتصميم مبنى المتحف، وافتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1902م. حجم المتحف وحجم المقتنيات التي يضّمها لم يتناسب مع الوقت الذي قررت منحه إيّاه. كان الازدحام ملحوظ والكلّ يبحث عن القناع الذهبي لتوت عنخ آمون.

وتظهر أيضا استعدادات نقل المقتنيات والتطوير المنتظر. يبدو المكان كمتحف وورشة عمل ضخمة في نفس الوقت. بعض القطع كانت على ألواح خشبية، وأخرى في صناديق، والحركة والمسارات عشوائية فكلّ منا يبحث عن شيء مختلف! يشبه فتح صندوق ذكريات ضخم وكل زاوية فيه تسرق انتباهك. لا تنظيم صارم، ولا تسلسل واضح لكن الخرائط وسؤال الزوار أو الموظفين كان أفضل مرشد. أحببته حقيقة مع أن التجول فيه وحرارة الجو حينها أتعبني. كان حقيقي لا يحاول التجمل أو الإبهار، متحف واثق من حصيلته! قضينا المساء في شارع المعز مع جولة جديدة بين المحالّ الصغيرة والاستعراضات الظريفة ومظاهر بهجة العيد الممتدة.

انتهت رحلتنا في القاهرة سريعًا، وكنا نعرف ذلك مسبقًا فخمسة أيام غير كافية. وبينما اقتربت الطائرة من مطار الرياض كنا نخطط فعليًا لرحلة قادمة نستكمل فيها حديثنا مع صديقتنا الجديدة. وددت لو شاركت كل التفاصيل والقصص لكن كلما طالت التدوينة كلما ترددت في كتابتها أكثر. وعندما شاهدت تاريخ اليوم أدركت أن الشهر مرّ ولم أشارك القصة بعد.

.

.

.

 

Tapestry in image: The Ramses Wissa Wassef Art Center

.

.

١٠ | خطوة واحدة إلى الأمام

تعيش بعض المشاريع في رأسي لسنوات. اكتفي منها بفكرة أو صورة عابرة شبه مكتملة أو ناقصة أحيانًا. في محاولة جادة لفهم ما أمرّ به فكرت في الأسباب التي أوصلتني هنا. وحتى أكون شفافة وصادقة معكم، الأمر بدأ يتطور ويمتد لكلّ جوانب حياتي. لن أفكر في المشاريع الإبداعية أو المهنيّة التي بدأت وقتلت منها الكثير! لكن الأمر اشتدّ علي عندما أحاط بي في حياتي الشخصية. لا أعلم هل هذا تسويف وحسب؟ أو يأس؟ كسل؟ فوضى؟ – مع إن الفوضى بالنسبة لي رفيقة محببة! كتبت هذه التدوينة في ثلاثة أجزاء رئيسية: تأمل شخصي، ثم حلول لطيفة مجرّبة، وأخيرًا مشاركة لمقتطفات من تدوينة جميلة قرأتها في نفس السياق للمدون ليو بابوتا.

عندما تأملت أسبابي خلصت إلى خارطة معقّدة من المشاعر والتفاصيل والعقبات غير المرئية. وأجملتها في التالي:

الخوف والتردد: كلّ جديد يشعرني بإنزعاج غريب، حتّى الأشياء التي أحبها. يزعجني التغيير المفاجئ والخطوات السريعة التي لا أعرف نتائجها.

توقع الفشل قبل البدء: أحيانًا أضع سيناريو نهائي مخيّب للآمال وإن لم يحدث فعلا. أرى فكرة تتلاشى، أو ردود فعل باردة تجاه تواصل دافئ، حماسي ينطفئ بعد الرفض. الفكرة هنا أني أوفر على نفسي ألم التجربة. يحدث هذا في المشاريع الإبداعية أكثر من أي شيء آخر ربّما لأن قدرتي في تصوّر الشكل النهائي لها محدودة بتقدمي الفعلي في العمل. ربما لهذا السبب بقي كتابي حبيس المستندات لأكثر من ست سنوات، وأيّ صراع أمرّ به حاليًا لأفي بوعدي لنفسي بإطلاقه قبل نهاية العام الحالي.

اعتياد منطقة الراحة: روتيني مألوف ومتكرر وواضح، والخروج منه يحتاج طاقّة هائلة. كل مشروع جديد يعني التزام وقلق وأشياء كثيرة قد لا احتملها كلّ مرة.

الغرق في البحث والاستطلاع: أقرأ عن المواضيع المختلفة، كيف تفعل كذا وكذا؟ كيف تجرب؟ أين تتجه؟ كيف يمكنني تقديم شيء مختلف هذه المرّة؟ يفقد الأمر بريقه تدريجيًا بكثرة التحليل والإعداد وهذا ظلم لنفسي ولما أنوي فعله.

يسهل عليّ تجاهل أمر لم أبدأه: الموضوع سهل إذا لم يكن هناك من خطوات فعلية، لا شيء يطالبني بالمتابعة. لا خيبة وخذلان! يمكنني دفن الفكرة بهدوء في زاوية مظلمة من ذهني، أكتب الأفكار، وأحفظها وأغلق الملف وكأنّ وجودها في مستند الملاحظات يكفي.

الانشغال بالتفاصيل ونسيان الصورة الكاملة: يشبه ذلك محاولة بناء بيت لكنني لا أبدأ لأنني مشغولة باختيار ألوان الستائر قبل وضع الأساسات.

قائمة الأولويات: طالما لم يكن المشروع أو الفكرة حاجة ملحة فالبداية لن تلوح في الأفق. حتى في غمرة حماسي يتلاشى الاهتمام أمام الأولويات الأخرى التي تملأ جدولي.

الاحتراق: أمر بفترات احتراق تطول وتقصر بحسب مسبباتها. في هذه الفترة بالذات رأسي مزدحم وقلبي متعب، لا أبحث عن التزام جديد حتى وإن كان في ظاهره جميلًا وممتعًا.  

نوع التحفيز: عندما تعرف نفسك بشكل أفضل تتعرف أيضًا على طرق تحفيزك ودوافعك. ومع الوقت عرفت أنّ محفزي داخلي. لا يحركني تشجيع الآخرين بسهولة ولا الحماس الجماعي. أحيانًا أعجب بفكرة أو مشروع، لكن لا أشعر بأي غيرة إيجابية أو دافع للمنافسة. لا أخاف فوات الفرص وأنتظر دائمًا صوتي الداخلي وإن تأخر.

أحببت تأمل أسبابي والوقت الذي قضيته في اكتشافها. هكذا قطعت شوطًا في تصحيح وجهتي والوصول الثابت والمتزن.

والسؤال الآن: كيف أحيي مشروعًا أو فكرة ميّتة؟

يجب أن أشير لأمر مهمّ هنا، بعد معرفتي لأسبابي وتحديد أسلحة التسويف التي يهاجمني بها كلّ مرة لا يعني ذلك أنّ كلها تتلاشى وأنّ الحلول تنبثق بلا صعوبة. لا استيقظ يومًا بلا مخاوف أو ترددّ. يمتلئ قلبي بالحماسة تدريجيًا وتعلّمت مع الوقت لا يحتاج إلى قفزة خطيرة. خطوة واحدة تكفي لتغيير مشاعري تجاه فكرة ولتقريب الحلم قليلًا.

ما الذي أفعله؟

لا أبدأ بل أحضّر للبداية. أجهز الملف، أنشئ مجلد، اختار وجهة، اكتب ملاحظة، اشتري معدّات بسيطة. كل هذه الأشياء تحوّل المشروع من حيز الخيال إلى الحقيقة.

أضع الفكرة في مدى النظر. أترك ملاحظة أمام عيني، أو صورة ملهمة على خلفية هاتفي، وتذكيرات المنبهات الأسبوعية واليومية لتنفيذ خطوة صغيرة تجعلني لا أنسى أو أدفن الفكرة باكرًا. هذه المرحلة مهمّة جدًا لاكتشاف مشاعري الحقيقية تجاه المشروع، أعطيه هذه المرحلة التي تشبه تبرعم البذور.

احتفل بالنيّة لا النتيجة. أذكّر نفسي أن تأثير النيّة عظيم، وأنها تكفيني كبداية وتخفف من توتري وبناء السيناريوهات المربكة في رأسي. كل ما يأتي لاحقًا يبنى عليها وتصبح بوصلتي المفضلة.

اختار الوقت الأفضل. لا أبدأ مشروعًا جديدًا في فترة مرض أو إرهاق ولا في لحظة فورة مشاعر طاغية. تعلمت أن أكون حنونة مع نفسي متفهمة اختار لحظات الصفاء والرؤية الواضحة.

التخلّي في الوقت المناسب. حتى وإن نجحت في البدء ورأيت التوقف حلا، أفعلها. بلا توبيخ أو قسوة فالتوقف جزء من الرحلة وقد تكون العودة بعد التوقف أجمل وأكمل.

أعد نفسي بالشعور، لا بالإنجاز. لا أحدث نفسي بالإنجاز النهائي، بل أقول سأمنح نفسي مشاعر مختلفة وجديدة. هذا التفكير يسمح لي بالحضور والتركيز في كلّ لحظة دون أن أفسدها بالنظر للمستقبل وتوقعه.

هذه مجموعة من الخطوات التي كنت أختارها لمعالجة التسويف والتردد خصوصًا في المشاريع الشخصية. وبينما كنت اقرأ وأبحث عن حلّ لهذه المشكلة مررت بتدوينة غنيّة في مدونة Zen Habits  للكاتب ليو بابوتا. أحببت تحديدًا جزئية التمرين على البقاء مع مهمّة واحدة/ مشروع واحد والتركيز عليه.

يقول ليو أنّ المطلوب هنا ليس أن «تقهر نفسك» بل أن تدرّبها بلطف. وطريقته في ذلك:

تخصيص وقت كلّ يوم للعمل على مهمة واحدة. وقت قصير جدًا حتى دقائق معدودة ستكون كافية. مهمة واحدة بلا تشتت أو وعود بالإتمام، فقط التواجد معها.

  • اختر مهمة كنت تؤجلها واضبط مؤقتًا لخمس دقائق فقط.
  • امنع نفسك من العمل على أيّ شيء آخر.
  • لاحظ شعورك ورغبتك بالهروب من اللحظة الحالية.
  • أشعر بها وتعرف عليها: هل هذا ملل؟ أو توتر؟ أو إحساس بعدم الكفاءة؟ راقب بفضول بلا قسوة.
  • عد للمهّمة بلا إجبار.

مع التكرار، ستغير علاقتك بالتسويف، ويصبح لديك مهارة جديدة: أن تبقى في مهمّة رغم رغبتك في الهروب. وهذا إنجاز كبير! هذه مهارة واحدة ضمن المئات وربما الآلاف من المهارات التي لا تكتسب دفعة واحدة. نتمرن ونجرب ونعود ونتحرر من شكوكنا ومخاوفنا. نحتفل بالإبداع ونجد المعنى الحقيقي وراء رغبتنا في الأشياء وفعلها من الأساس.

ما أعرفه عن نفسي أنني لن أتمكن من تنفيذ كلّ مشروع رغبت به أو فكرت فيه. ولن أتجاوز كل العوائق في لحظة. ما أتمناه فعلا أن أكون قادرة على أخذ خطوة إلى الأمام والباقي سيأتي لاحقًا كما تأتي كلّ الأشياء الجميلة ببطء وصدق.

.

.

 

٩ | هيفا خلف المقود

علّمني والدي تشغيل السيارة قبل ثلاثين سنة تقريبا. كنت في المرحلة المتوسطة وكان نشاطًا صباحيًا محبّبًا. يكمل والدي إفطاره وأخرج وأخواتي الصغار للسيارة ننتظر. أشغل المحرك وأتخيل أنني أقود السيارة للمدرسة حتى يخرج. نستمع للراديو وأفكر في غيرة أبناء الجيران. وبين تلك السنة وإعلان السماح بقيادة المرأة لم تتطور علاقتي بالمقود ولم أتقن شيئًا غير تشغيل التكييف، وضبط موجات الراديو. لكنّي للأمانة كنت دائمًا الراكب الذي لا يستريح ويقود المركبة مع قائدها ويراقب المرايا والطريق وكلّ شيء.

لم تكن قيادة السيارة مهارة تحفزت لإتقانها، مرت السنوات الأولى بعد السماح بالقيادة وأنا أبارك لرفيقاتي وقريباتي حصولهنّ على الرخصة واقتحام الطرقات. وفي نفس الوقت كنت أفكّر سيأتي توقيت مناسب، لا أعلم متى هو لكنّه سيأتي.

كانت محاولتي الأولى في ٢٠٢٠ قبل حجر كورونا بعدة أيام، وجدت مدربة سياقة متمكنة-أو هذا ما سمعته ممن وصّوا بها. كانت الدروس سريعة ومختصرة، وخطرة! فقد دفعتني المدربة في وقت قصير إلى الخروج للطريق العام في ساعة ذروة ومنطقة مزدحمة بكلّ أنواع المركبات. بالإضافة لكوابيسي بأن ينتهي بي الأمر تحت إحدى الشاحنات الضخمة كان صراخ المدربة يرنّ في أذني. وتصرفاتها العشوائية في الإمساك بالمقود فجأة أو الصراخ العشوائي بسبب سيارة تقترب من بعيد. أُعلن الحجر بعد انتهائي من حصص التدريب العشوائية تلك وحمّلت نفسي مسؤولية الأمر فلمَ أردت الاختصار والتدرب معها؟ كان من الأفضل اختيار الطريق الطويل الآمن بالتدريب داخل المدرسة حتى وإن انتظرت دوري طويلًا.

أجّلت على إثر ذلك اختبار الرخصة أو التقييم. ومرت سنة كاملة لأستعيد قدرتي على التدرب وحجزت موعدًا في المدرسة وبدأت دروسي النظرية. بعد الانتهاء من الدروس حددت موعد الاختبار النظري الذي يتمّ على الكمبيوتر خلال وقتٍ قصير. أصبت بوعكة صحية مفاجئة أبقتني في المنزل ولم أحضر الاختبار وأخذت هذه الوعكة كعلامة لتأجيل الأمر من جديد. احتفظت المدرسة بسجلي والمدفوعات التي دفعتها لبرنامج كامل. مرّت الأيام وقررت استقدام سائق ونسيت فكرة القيادة تمامًا. وكلما تحدث شخص في الموضوع أخبره بأني اختار معاركي بعناية، ومعركة الشارع ليست أولوية.

ومع مرور الأيام كانت إشارات التحفيز والإلهام تظهر لي، وفي نفس الوقت بعض رسائل الإحباط والتردد. هناك قسم من معارفي يستغرب أني لم أقد سيارتي بعد ففي نظرهم أنا سباقة دائما لتبنّي أي جديد. ومن جهة أخرى يعلق البعض أنّني شخص قلق ومتوتر ومتهور أحيانًا ولذلك لن تكون القيادة فكرة صائبة.

اتجاهل الفكرة وتزورني في كل مرة يتصرف السائق بطريقة متهورة أو غير لائقة. في كلّ مرة أجد نفسي محاصرة بحاجتي لوجوده واعتماديتي الكاملة عليه. في كلّ مرة أودّ فيها الاختلاء بنفسي أو التحرك حسب ما يقتضيه جدولي الخاص دون الحاجة لجدولة كلّ شيء مع السائق ومن يشاركني خدماته.

بدأت السنة الجديدة بفكرة وحيدة: إنهاء المشاريع المؤجلة. بدأت باستعادة فصول كتابي التي أنجزتها ومواصلة الكتابة استعدادًا لنشره قريبًا. أقفلت ملفات خاصة، وفي لحظة إلهام من ابنة عمّي التي تكبرني في العمر استعدت رغبتي في تعلم القيادة. زرت المدرسة وأكملت إجراءات التسجيل ونفض الغبار عن ملفي المنسي. تغيرت المدرسة تمامًا وكذلك مدرباتها ودروسها. وفي الأيام التي تزامنت مع زيارتي للمكان كنت أبحث عن عقبة أو إشارة لأعود أدراجي. لكن ما حصل كان عكس ذلك، ففي اليوم الأول لحضوري للمدرسة وخلال دقائق الانتظار شاهدت سيدة سبعينية تسجّل بياناتها لتعلم القيادة، وعلى مكتب آخر فتاة تشرح لرفيقتها بلغة الإشارة إجراءات الدفع والتسجيل. كلّ شيء يقوم: أقدمي!

بدأت التدريبات العملية وتمددت الأيام على ثلاث أسابيع، جرّبت نفسي في كل المهارات، ولكنها كانت بيئة محميّة داخل ميدان مغلق. لم أهدأ حتى شاهدت نفسي في شارع عام خارج المدرسة، اختبرت ملاحظتي وقدرتي على التحكم بالمركبة وتخففت من كوابيسي وقيودي الشخصية. لقد حظيت بمدربة رائعة هذه المرة. هادئة ذكية ومطلعة ومطمئنة وهذا أكثر محفز لمواصلة التدريب. في يوم الدروس الأوّل تعرفت عليها وأخبرتني بفرحة عارمة أنّها اختيرت مدربة مثالية هذا الشهر. وبينما كانت تتحدث بفخر غرقت في فكرتي: هذه إشارة طيبة.

كنت أقول بأني لن أقود السيارة حتى أحصل على رخصتي، ولكني استيقظت صباح الأمس بشعور غامر: أريد الذهاب للسوبرماركت وشراء احتياجاتي بنفسي والعودة مجددًا للبيت. خرجت بهدوء دون أن أخبر أحدًا وكان الطّريق للسوبرماركت قصيرًا جدًا. حدّثت نفسي بصوت مسموع: يمكنك فعلها.

وصلت إلى المواقف وكانت شبه فارغة، اخترت موقفًا بعيدًا عن المدخل والازدحام وبدأت رحلة تسوقي. في الممرات عشرات الأطفال الذين جاؤوا للتعرف على الخضروات والفواكه والخبز واللحوم. فكّرت في الحبل السري الذي يربط بيني وبين جموع الأطفال في السوبرماركت. كلنا نحتفل بفضول ومرح وحماس. تعلّمنا مهارات متنوعة واليوم كان يوم التطبيق. كلما دخلت ممرًا وصادفتهم فيه ابتسمت في سرّي. هذه ليست المرة الأولى التي أتسوق فيها هنا، أو أطلب من أفراد عائلتي قائمة طلباتهم. هذه المرة خاصة ومميزة في قلبي. علبة الفراولة والتوت ومعجون الأسنان الحسّاسة وكيس الخبز العربي وجبنة الشيدر المدخنة كلها مشتريات مختلفة لأنني حملتها للسيارة ووضعتها في المقعد الخلفي وجلست في المقدمة وعدت للمنزل بنفسي.

قد تبدو هذه لحظة اعتياديه لشخصٍ آخر، ولكنّها مختلفة بالنسبة لي. تعني انتصاري على مخاوفي وترددي وتأجيلي. فقد بدأت دروس القيادة أوّل مرّة في مارس ٢٠٢٠، وانهيتها بعد خمس سنوات بالضبط. لقد نبهتني مرشدتي: تأملي كيف ستتغير حياتك بعد تغلبك على هذه العقبة. واليوم بعد شهرٍ كامل من حماسي وذهابي للمدرسة للتسجيل وبدء التعلّم حصلت على رخصة السياقة واجتزت الاختبار. خميس مختلف لسيدة تجاوزت الأربعين وقررت تعلّم مهارة حياتية ضرورية حتى وإن لم تستمر بتوظيفها.

اليوم أفكر في المقاهي التي تنتظر زيارتي، والمكتبات، ورحلات التسوق، والزيارات العائلية، وطريقي اليومي لعملي. أفكر في كل الذين سيصحبونني في الكرسي الأمامي وحكاياتنا معًا.

أنا سعيدة وفخورة بنفسي جدًا! وأعلم أنّ هيفا الصغيرة التي كانت تستمتع بتشغيل المحرك والجلوس للحظات قبل خروج والدها ستفخر بي أيضًا وتقفز بحماس. هذه التدوينة لتسجيل لحظة فارقة في حياتي، ولتكون رسالة أو إشارة لمن يؤجل أمرًا نافعًا في حياته، أو مشروعًا متعثرًا بحاجة لإنعاش. انطلقوا اليوم وأقدموا.

.

.

.

 

 

 

 

٨ | رمضان هادئ

أدركت قبل عدّة أسابيع أن اختيار يوم الخميس في بداية العام لنشر تدوينة أسبوعية كان خيار غير صائب! حتى وإن كنت بدأت كتابتها خلال الأسبوع أو اخترت عنوانها فإن تيسّر مراجعتها ونشرها يوم الخميس لن يكون بذات السهولة. لذلك رأيت تعديل الموعد للسبت أو الجمعة أو نشرها متى ما تيسّر ذلك. الكتابة الأسبوعية جزء من هدف لاستعادة نشاط المدونة بعد اطلاعي على معدلات النشر في سنواتٍ ماضية. في إحداها نشرت حوالي ٦٥ تدوينة في سنة واحدة. تنوّعت مواضيعها وأساليب الكتابة فيها. أريد سنة غنية بالكتابة وأريد نشاطًا منفصلًا عن كتابة فصول كتابي الذي سيرى النور هذه السنة بإذن الله. نشاط كتابي أجمع فيه شتات الأسبوع واللحظات الجميلة والمختلفة التي قبضت عليها.

بدأت الشهر الكريم بوعكة صحية غريبة والمتهم الوحيد فيها البرد الشديد الذي تعرضت له قبل أسبوعين تقريبا. كانت موجة برد شديدة على الرياض، وتساهلت كثيرًا معها بالخروج بملابس أخفّ من المعتاد. حبس جسدي البرودة عدة أيام، وبينما شاهدت أفراد أسرتي يتململون من ارتفاع درجة الحرارة التدريجي كنت التحف كنزة صوفية طويلة وارتجف. استيقظت في يوم رمضان الرابع منتعشة حيّة من جديد! عدت لصخبي المعتاد على الفطور واستعدت شهيتي للطعام والعمل. ما احتجته في الحقيقة كان ليلتين من الدفء والنوم العميق وتأجيل كلّ شيء! فالحمد لله على الصحة والعافية.

أقضي مساءات الشهر في الراحة والهدوء والاستمتاع بالقراءة المطولة، لدي الكثير من المقالات المحفوظة والنشرات البريدية بالإضافة لقراءة سيرة نابليون لإميل لودفيغ وسلسلة «الإحاطة في أخبار غرناطة» للسان الدين بن الخطيب. اقرأ للمتعة البحتة بلا مشروع أو وجهة.

أتعلم أيضًا مهارة حياتية جديدة، وقد أحدثكم عن التجربة في التدوينة القادمة بإذن الله. وكما كتبت في التدوينة السابقة رمضان وقت مناسب لتبنّي العادات وتجربتها بهدوء وتروّي. سواء كان هدفك الاهتمام بصحتك الجسدية أو النفسية، أو تعلّم شيء جديد، أو إتمام مشروع معلق.

أدرك جيدًا أن الوقت محدود خلال ساعات اليوم خاصة إذا كنت تعمل في جزء كبير منها، ولكن اختيار ما تودّ التركيز عليه بوضوح ومنحه أولوية سيصمد أمام مغريات الشهر الكثيرة: الخروج وتناول الطعام والكثير من المشاهدات.

للأيام المتبقية من الشهر سأستعيد متعة قديمة كتبت عنها ذات مرة هنا في تدوينة #وثائقي_ومشي. لأن المشي اليومي يجد ممانعة في نفسي واحتاجه بشدة لذلك اختار ربطه بشيء ممتع. سواء كانت وثائقيات أو حلقات بودكاست طويلة يمكن متابعتها كسلسلة خلال عدة أيام. وبذكر الوثائقيات أقضي نهاية الأسبوع غالبًا وجهاز التلفزيون مفتوح على الجزيرة الوثائقية. هناك سلاسل جديدة ممتعة تعرض حاليًا مثل مسلمو العصر الفيكتوري. 

وبما أننا نعيش أيّام مطيرة وأجواء دافئة تعلن وصول الرّبيع تذكرت تدوينة «خفف السرعة منعًا للإنزلاق» التي نشرتها قبل عامين في رمضان أيضًا وفيها أفكار مشابهة للتي تدور في ذهني حاليًا.

.

.

.

٧ | التفكير الاستراتيجي وإعادة تصميم حياتك

قرأت قبل فترة مقالة في مجلة هارفرد بزنس ريفيو. بحثت عن ترجمتها العربية لمشاركتها ولم أجدها. ومع أني أقاوم بشدّة نشر المقالات المترجمة خاصة في الفترة القريبة الماضية إلا أنّ موضوعها المهمّ والمغري للتطبيق حقيقة، دفعني لبدء العمل وتقديم صياغة مختصرة لها. يمكنكم أيضًا قراءتها على الرابط، أو مشاهدة الفيديو هنا لموجز مرئي من الكاتب.

قدّم المقال منهجية لبناء استراتيجية حياتك. وهذه المنهجية مستوحاة من استراتيجيات الشركات في أساسها. كيف يمكن لنا كأفراد الاستفادة من هذه المنهجية لإعادة تصميم حياتنا؟ تتكون المنهجية من سبع خطوات رئيسية لتحديد الأهداف، وتقييم حياتك اليوم، ومن ثمّ اتخاذ قرارات واعية لحياة أكثر توازن ورضا.

يمكن لكلّ منا رسم استراتيجية حياته في أي وقت، لكن بما أني تقاعست عن نقل المقال قبل بدء العام الجديد، وجدت أنّ شهر رمضان نقطة مناسبة لإعادة التنظيم والتأمل والترتيب. هناك لحظات فارقة في حياتك تدفعك لاتخاذ قرار التغيير وإعادة البناء، وقد تكون هذه لحظة مناسبة في حياتك. ومن المهمّ معرفة أن وجود هذا المخطط أو الاستراتيجية لا يعني التحكم المطلق في كلّ شيء، ولكنّه يعطينا بوصلة داخلية تساعدنا على التعامل مع التحولات، وتعزيز المرونة وإيجاد مساحات جديدة من الفرح والرضا وتقليل الضغوط التي تثقل كاهلنا.

وهكذا وبلا إطالة سأشارك العناصر أو الخطوات التي ذكرتها المقالة مع توضيح مختصر لكلّ منها.

حدد معنى “الحياة العظيمة” بالنسبة لك

استخدم نموذج بيرما PERMA للرفاهية النفسية الذي طوّره مارتن سليجمان مؤسس علم النفس الإيجابي. وقد طوره باحثون آخرون لاحقًا إلى PERMA-V، والذي يرمز إلى المشاعر الإيجابية (مشاعر متكررة من المتعة والرضا)، والمشاركة (الانغماس، وفقدان الإحساس بالوقت)، والعلاقات (المشاعر المتبادلة من الرعاية والدعم والحب)، والمعنى (المساهمة في جعل العالم مكانًا أفضل)، والإنجاز (السعي إلى النجاح أو الإتقان، والوصول إلى الأهداف)، والحيوية (أن تكون بصحة جيدة وحيوية). للتعرف على حياتك الآن في هذه المجالات تحديدًا.

لتحديد ما يجعل حياتك رائعة، ابدأ بكل عنصر في PERMA-V، أو حتى أضف الفئات والعناصر الخاصة بك. ثم قيّم أهمية كل عنصر بالنسبة لك على مقياس من 0 (غير مهم) إلى 10 (مهم جدًا). ​​حاول تذكر فترات الرضا العميق في ماضيك وفكر في الأسباب التي أدت إلى حدوثها.

حدد هدف حياتك

ضع تعريفًا واضحًا لما يحفزك وما يمكنك تقديمه للعالم. يمكنك ذلك من خلال الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة الأساسية:

  • ما الذي أتميز به؟ (الإبداع؟ القيادة؟)
  • ما هي قيمي الأساسية؟ (مثل الإحسان والنزاهة والعدل)
  • ما الذي يشعرني بالحماس؟ (التعلّم أو السفر؟)
  • ما الصعوبات التي يمكنني المساهمة في حلها في هذا العالم؟ (الاستدامة أو التعليم؟)

استخدم هذه الإجابات لإنشاء رسالتك الشخصية في الحياة واطلب ملاحظات من الآخرين لتحسينها والإضافة إليها.

ضع رؤية لحياتك

تخيل مستقبلك وحدد تطلعاتك طويلة المدى.

  • أين تريد أن تكون خلال 5-10 سنوات القادمة؟
  • جرّب تمرين لوحة الصور Mood Board
  • اسأل نفسك:
    • ما الذي سأفعله لو لم يكن المال عائقًا؟
    • ما الأمور التي لا أرغب بتفويتها والندم عليها لاحقًا؟
    • ما الإرث الذي أرغب في تركه بعدي؟

قيّم حياتك اليوم

الأمر أشبه بجردة شاملة لحياتك اليوم واستكشاف ما تقضي أغلب وقتك وطاقتك فيه وتأثير كلّ هذا على النتائج التي تعيشها. هل أنت راضٍ؟ هل هناك مساحة للتحسين؟  استخدم الصورة التالية لتقييم حياتك. يمكنك التفصيل والاسهاب لتعكس حياتك ومجالاتها الفعلية. قد يستغرق اكتشاف هذه الخطوة فترة من الزمن والكثير من التذكر والتفكير، نصيحتي المجرّبة لا تتجاهلها!

استراتيجية الحياة

تعلّم من النماذج الناجحة والأبحاث العلمية

كما ترى في استراتيجيات الشركات هناك مرحلة المقارنة المعيارية أو Benchmarking . تُدرس الشركات المشابهة والتجارب السابقة والدراسات لنستقي أفضل الممارسات منها. وفي حالة الحياة الشخصية يمكنني التفكير في النظر لمن تقتدي بهم، أو الذين ترى ارتباطًا وتشابها بين حياتك وحياتهم ويحققون الرضا والنجاح الذي تنشده. الأمر يتطلب البحث والاكتشاف وربما خوض الحوارات معهم لتحديد الممارسات التي ترغب في تبنيها أو تجربتها.  أحبّ أيضا إضافة تفصيل ينعشني دائمًا: قراءة السير الذاتية! لشخصيات مختلفة حتى أولئك الذين يعملون في مجالات تختلف عني.

 

اتخذ قرارات استراتيجية لحياتك

بعدما تأخذ وقتك في اكتشاف الخطوتين السابقة ستصل إلى مجموعة من القرارات أو التغييرات التي تودّ إضافتها لحياتك. قد لا تكون بالضرورة خطوات عظيمة وصارمة، فالتغييرات المستمرة جزء من الاكتشاف وإعادة التصميم. يمكن أن تكون التغييرات في جانب العلاقات، فتعود للتواصل مع صديق قديم أو تبذل جهد أكبر في التعرف على مزيد من الأصدقاء الجدد. وفي مجال العمل والدخل قد تحسن من جودة أدائك عبر حضور دورات تدريبية أو تعلم مهارة جديدة، وهكذا. انطلق من التحليل السابق لكل عنصر من حياتك وأوجد تغييرات صغيرة يمكنك اعتمادها وتجربتها.

هذه المرحلة مناسبة أيضًا لإعادة تحديد الأولويات.

 

ضمان استدامة التغيير في حياتك

كيف يمكننا المحافظة على استدامة كلّ ما فعلناه سابقًا؟ عبر وضع خطة تنفيذ ومتابعة وتقييم مستمر. وهناك طريقتين يمكن اعتمادها هنا: عبر وضع الأهداف الذكية القابلة للقياس وتقسيمها لخطوات، ومن خلال استخدام تقنيات الالتزام كأن تشارك خطتك مع شخص يراقب تقدمك ويعمل معك على نفس الهدف.

وأخيرًا.. لخّص كل شيء في صفحة واحدة

يشارك كاتب المقال في متنه نموذج يجمع كل الخطوات في صفحة واحدة ويتيح لك ملأها والتعديل عليها رقميًا. وأنا أقترح تحويل الاستراتيجية للوحة متابعة مشروع، نعم أنت المشروع! يمكن وضعها في جدول اكسل أو برنامج لمتابعة الأعمال مثل تريلو أو استخدام تطبيقات الملاحظات مثل نوشن. أيًا كان الوسيط الذي تستخدمه لتدوين الأفكار ومتابعتها ضع كل خطوات الاستراتيجية فيه وحدد التقدم الذي تريده. ستكون هذه الصفحة الشاملة بمثابة خارطة طريق شخصية تراجعها باستمرار لضمان البقاء على مسارك الصحيح.

.

.

.

Photo by WSJ