روما: وداع المدينة الخالدة

أين توقفت حكايتنا المرة الماضية؟ تشجعت هذا المساء لإنهاء التدوينة الأخيرة من السلسلة قبل أن تتبخر الحكايات تدريجيًا من رأسي. هذا الأسبوع أعادني لروما أكثر من مرّة، بدأ الأمر خلال زيارة بنات خالي لبيتنا وحديثهم عن رحلتهم الإيطالية الملوّنة. زاروا فيها الشمال الإيطالي وانتهت بروما. لكلّ منا حكاياته الخاصة عن المدينة، تبادلنا التجارب والملاحظات وتحققت من جديد أن لكل مدينته التي تحتضنه. ابنة خالي أحبّت فلورنسا كثيرًا ولم ترق لها روما بنفس الدرجة. قلت لها أنّي قاومت البكاء بعينين دامعتين وأنا ارتفع بعيدًا عن روما وهذا يحدث للمرة الأولى في حياة أسفاري.  

 

والمرة الثانية كانت وأنا أقاوم الأرق بتقليب صور الهاتف، وتوقفت مطولًا عند صورة لي ولوالدتي في نهار مثالي من أكتوبر. كنا نرتدي الأزرق في اتفاق سبق زيارتنا لمعرض بورغيزي. أجّلت زيارة المكان لنهاية رحلتي تقريبًا كمن يؤجل التحلية لنهاية الوجبة. متأهبة وصلت باكرًا وانتظرت ووالدتي في الحديقة تحت الشمس الساطعة والحنونة في ذات الوقت. كل شيء حولنا مثل مشهد مجتزأ من لوحة كبيرة سبحان خالقها. الأشجار والزرقة والغيوم التي نودّ لو نقبض عليها. التقينا بمرشدتنا عند مدخل المعرض ومع مجموعة صغيرة بدأنا الجولة. خيار الجولات الجماعية لم يكن خياري المفضل في السابق، لكن روما كانت مدينة المرات الأولى بامتياز. مرشدتنا طالبة فنون جميلة متحمسة تضع يدها بلطف على بطنها وانتبهت لحملها الثمين! هذا الصغير أو الصغيرة برفقة أمها كل يوم في جولاتها تستمع للحكايات وأسئلتنا الفضولية.  

يحتضن القصر كنوزًا عدة من الفنّ الأوروبي، وكغيره من المعارض التي زرناها يجمع اللوحات والمنحوتات. قصة هذا المعرض بدأها سكيبيوني بورغيزي الكاردينال وجامع المقتنيات الفنيّة. الذي عُرف بكونه راعي للفنون والفنانين ومنهم جان لورينزو بيرنيني وكارفاجيو. في كلّ زيارة لمعرض فنّي يكون لدي هدف أساسي وآخر ثانوي وقد تتعدد الأهداف وأحبّ كثيرًا المفاجآت. الهدف الأساسي هو رؤية مجموعة منحوتات جان لورينزو بيرنيني. وأهمّها “اختطاف بروسربينا”، القطعة الأهم في المجموعة وتفاصيلها الواقعية التي تحبس الأنفاس. يمكنكم رؤية الدقة والاحترافية والجنون في الفنّ! هذا النحات الذي يعمل مع الحجر وكأنه يفصل قطعة من حرير. يمكنكم رؤية المفاصل والعضلات والاجساد في حركة مستمرة. درت حول المنحوتة عدة مرات وفي كل خطوة أقف للحظات مذهولة. قطعة الرخام الهائلة تتوهج وكأنها جسد حيّ. أصابع بلوتو المغروسة بعنف في جسد بروسربينا وألمها ورهبتها التي كان بيرنيني قادرًا على حبسها في قطعة من الحجر، وتحويلها إلى مشهد ينبض بالحياة. وإذا التفت حولك سترى نظرات الانزعاج من المشهد المزعج وفي لحظة أخرى الإعجاب الشديد بصنعة بيرنيني وحرفيته العالية.  

وددت لو قضينا النهار بطوله في هذه الغرفة لكنّ مرشدتنا انتقلت لقاعة أخرى وحاولت التأخر قليلًا قبل اللحاق بها وبالمجموعة. في قاعة ثانية استقبلنا عمل آخر من أعمال بيرنيني “أبولو ودافني”، هذه المنحوتة التي تجسد لحظة تحول دافني إلى شجرة هربًا من أبولو. الحركة من جديد، الحركة والرخام الصامت كيف لهذين النقيضين أن يجتمعا؟ الحركة المتدفقة في المنحوتة تقبض على انتباهنا. فالأوراق في كفي دافني تنبثق من يدها في لحظة تحوّل أبدي. التوتر بين المطاردة والهرب، والحياة والتحول.  

عبرنا صالة ضخمة زينت جدرانها وسقوفها بالنقوش والتقطت عيني في زاوية بعيدة غرفة روائع كارفاجيو. رقصة الظل والضوء التي تميّز لوحاته وتمكننا من التعرف عليها بين مئات الأعمال الأخرى. لوحة “داوود يحمل رأس جالوت” واحدة من الأعمال التي تذهلني حدّ الرعب. واقعية رسم الملامح والموقف. تعكس اللوحة صراع الفنان الداخلي بين الضوء والظلام الذي يعيشهما، وهذا ما أشارت إليه بعض الكتابات فوجه جالوت هنا رُسم انعكاسًا لوجه كارفاجيو.  

مضت الساعات الثلاث التي قضيناها في القصر وزواياه الفنيّة بسرعة عبور الغيم في الخارج. لم أتمكن من زيارة الحدائق بالكامل لكن اقتنيت كتابًا من المكتبة لتعليم رسم النباتات والأزهار مستوحى من الحديقة وجمالها. عدنا للفندق أطراف هذا اليوم الجميل وقد غمرت المدينة إضاءة ذهبية دافئة. نسيم هادئ وجموع الناس تتجه لوسط المدينة حيث يبدأ صخب الليل. أقفلت أمنية أخرى وملأت خزانة الذاكرة بالصور.  

في وداع مدينة واستقبال أخرى 

نهاري الأخير في روما كان مليئًا بالعشوائيات. أردت السير بلا خطة حول المنطقة، وتناول العشاء في مطعمنا المفضل القريب. ثم تذكرت زيارة قائمتي القديمة المنسية ووجدت فيها مكانًا جيدًا لرؤية المدينة من منطقة مرتفعة. السلالم الاسبانية لم تف بالغرض والمطاعم حولها أقفلت حجوزاتها باكرًا. اخترت زيارة فيلا ميديتشي. وفيلا مديتشي يا أصدقاء هي مركز ثقافي فرنسي في قلب روما. مرتفعة على تلة بينتشو هذه القلعة كانت وما زالت مركزًا للفنّ والثقافة منذ القرن السادس عشر. تجمع الفيلا بين العمارة الإيطالية الكلاسيكية والفنّ المعاصر في بعض معروضاتها. مبنى تاريخي منعزل وهادئ وجسر بين حضارتين. أودع روما اليوم لأذهب لباريس غدًا وأين أذهب؟ الاكاديمية الفرنسية.  

بنيت الفيلا في ١٥٤٠م من قبل الكاردينال جيوفاني ريتشي وانتقلت لاحقًا إلى ملكية أسرة مديتشي. وبفضل ثروة الأسرة وثقافتها تحولت الفيلا إلى واحة فنيّة جمع فيها الكاردينال فرناندو دي مديتشي مجموعته الضخم من التحف والآثار الرومانية. أما الحدائق المذهلة -حتى ذلك اليوم- فقد ضمت نوافير وتماثيل أثريه وما زالت من أجمل الحدائق في روما بإطلالتها التي لا تُنافس.  

وفي ١٨٠٣م حوّل نابليون بونابرت الفيلا إلى مقر للاكاديمية الفرنسية في روما، وهي مؤسسة أطلقها لدعم الفنانين والمبدعين الفرنسيين. وكان شروط الانضمام إليها كما أخبرتنا مرشدتنا في الجولة أن تكون رجلا فرنسيا عازبًا وأن تقضي إقامتك الفنية في روما وتتلمذ على يدي أشهر الفنانين والحرفيين. كانت مجالات الدراسة محصورة في الفنون الجميلة: كالرسم والنحت. واليوم تغيرت الشروط وأصبحت الأكاديمية تستقبل الطلبة من كل أنحاء العالم بلا استثناء، وتحتضن الفنانين وأسرهم ليقيموا في الفيلا وحدائقها الملهمة. واليوم يمتد عمل الاكاديمية ليشمل مجالات مختلفة من الفنون: كالرسم والنحت والموسيقى والأدب والسينما وغيرها من الفنون المعاصرة.  

 

لم تكن المعروضات الفنيّة وفيرة كما توقعت، وصعدت الكثير من السلالم وشعرت برغبة شديدة في التوقف والنزول ولكن كل هذا النشاط البدني أثمر. فما إن خرجت باتجاه الحدائق وتمهلت في التنزه بين أشجار السرو الإيطالية، وسمعت الصوت المحبب لأوراق الخريف تحت قدمي واتجهت إلى جانب المبنى المفتوح على المدى، حتى استقبلني منظر من الأحلام. ولم أدر حينها هل التقط صورًا بهاتفي أم بكاميرا الفيلم؟ وقررت أن ألتقط كل الصور الممكنة فهذا المنظر يستحق التذكر والمشاركة.  

قائمة مفضلات قصيرة 

جولات التسوق السريعة هي سمة مغادرة المدن دائمًا. لم يكن لديّ قائمة أو أماكن مفضلة أبحث عنها. بعض الأماكن ظهرت في طريقي مصادفة وأخرى بعد بحث واستكشاف. زرت مكتبة في مكان غريب تهبط السلم إليها مثل محطة مترو وكانت الكتب فيها على الأغلب إيطالية مع مجموعة محدودة من كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية. لعبت مع نفسي لعبة ممتعة هناك. كنت أمر بين الرفوف والطاولات وأقرأ عناوين الكتب وأحاول أن أحزر عنوانها العربي خاصة مع ظهور اسم المؤلف أو الغلاف الشهير لرواية أو سيرة أو مجموعة قصص.  

وفي يومٍ آخر اكتشفت محلّ عطور إيطالي عطوره كلها بأساس زيتي ولا يمكن استخدامها على الملابس أو الاقمشة. استخدامها يعني رشها مباشرة على الجلد. واخترت عبوات صغيرة من العطور التي وقع عليها الاختيار لتجربتها وربما العودة إلى المحل من جديد.  

أما الجلود والحقائب فاخترت مكانين فقط وحرصت أن يكون المتجر إيطالي وأن يصعب علي إيجاده في مكان آخر. هذا هو محكّ التجربة الكاملة في زيارة مدينة جديدة.  

أما مكاني المفضل رقم واحد فكان Antica Libreria Cascianelli لستُ أدري إن كان متجرًا للعاديات أو مكتبة أو صالة فنيّة أو منزل زوجين ظريفين لديهما الكثير للحديث عنه! قضيت وقتًا لا بأس فيه بعد رحلة غداء. اكتشفت ووالدتي صناديق امتلأت بصور لغرباء من كل مكان. صور من عشرينيات القرن الماضي بل أقدم من ذلك، والاربعينيات والخمسينيات. صور لأطفال صور لاحتفال زوجين، وأخرى لأمهات وأطفالهنّ. التقطت عشرات منها وفكرت سأكتب قصة لكل صورة وسيكون تمرين كتابي رائع.  

ومكاني المفضل رقم ٢، متجر القرطاسية والجلود فابريانو، تعرفت عليه أول مرّة في مارليبون في لندن قبل عدة سنوات. وأصبح على قائمتي الايطالية المنتظرة. قرب السلالم الاسبانية متجرهم الرئيسي الضخم وإذا فاتكم زيارته في المدينة ستجدون معروضاته في متجر جيّد في مطار روما لهدايا اللحظة الأخيرة قبل الانطلاق.  

وأنا أكتب الجملة السابقة أدركت أن سلسلة روما انتهت هنا، لديّ الكثير من القصص والتأملات التي قد تستيقظ فجأة في مساءات لاحقة. هناك الكثير من الصور على حسابي في انستقرام وقائمة محفوظة يمكنكم الاطلاع عليها والتعرف على القصص المصورة وراء الكلمات هنا.  

شكرًا لكم!  

 

روما: الغرق في الفنّ والجمال

بدأت كتابة التدوينة والمنزل يجفّف نفسه من الماء.

أودّ تقديم التفاصيل حول الموضوع: استيقظنا فجر يوم الرابع من نوفمبر والدور الأرضي يغرق في بوصات من الماء. يبدو أن أنبوبًا رئيسيا فُتح في سقف المطبخ وتدفقت المياه لساعات أو أقلّ، لا يمكننا الجزم عمومًا. أنا وحبّي الشديد للرمزيات، شعرت أن تدفق الماء مصاحب لتدفق الكلمات في رأسي وأنّ الوقت حان لكتابة الجزء التالي لتدوينة روما. هذه المرّة عن الجولات الفنيّة الساحرة! عن المشاعر الغامرة التي أحاطت بي في كلّ زيارة لمعرض أو متحف. وكل ما أفكر فيه: الجودة والاتقان والحبّ الشديد لما صنعه الحرفيّ والفنان.   

الحديث عن الجولات الفنيّة في روما والتي اخترتها بعشوائية يشبه محاولة استعادة حلم. في هاتفي المئات من الصور، لوحات ومنحوتات ونقوش والتقاطات للأرضيات! كلّ شيء كان في عيني لوحة جميلة. ولكن ولأجل ترتيب هذه الذاكرة وتنظيمها في تدوينة سأحكي عن كلّ زيارة في فقرة مختلفة.

.

 

في ضيافة دوريا بامفيلي

 

في خطة ذهنية لزيارة روما تصوّرت أن يكون اليوم الأول لفيلا بورغيزي مثلا، أو متاحف الفاتيكان. لكنّ هذا القصر التاريخي الذي تحوّل لاحقًا إلى معرض فنّي كان زاويتي الهادئة التي بدأت بها جولاتي. وكان هادئًا بالفعل في الصباح الباكر فقد وصلت ووالدتي مع المجموعات الصغيرة الأولى للمكان.

يقع معرض دوريا بامفيلي في قلب روما ويروي قصص الفنّ والصمود والإرث الذي امتلكته أسرة بامفيلي إحدى الأسر الأكثر نفوذًا في روما. أما المجموعة الفنية التي يحتضنها القصر فقد بدأت الأسرة في جمعها في القرن السابع عشر الميلادي. وهذا القصر يعود إلى أواخر عصر النهضة، واحتفظ ببهائه على ما يبدو حتى اليوم.

أحببت تداخل تاريخ المجموعة الفنية مع تاريخ الأسرة وانعكاس نفوذها وثروتها على كلّ ركن من أركان القصر. لا أدري من أين أبدأ هنا؟ هل هو المعمار “الأعجوبة” أو السقوف المزينة بإتقان أو المرايا واللوحات التي جسدت البذخ الفنّي. وأثناء التجوّل حول المكان يدرك الزائر أنه يتجول في منزل عائلي ضخم لم يصمم ليكون معرضًا فنيا. وهذه هي المشاعر التي تنتابني دومًا عند زيارة المنازل أو القصور التاريخية. لم أشعر بأني في جولة فنيّة أو فرجة. هناك حميمية دافئة لتخيّل أسرة ارستقراطية تعيش مع كنوزها.

تضم المجموعة أهم الأعمال الفنيّة من عصري النهضة والباروك. هنا فيلاسكيز، وكارفاجيو -سيكون تتبع أعماله شريطًا رقيقًا يجمع أجزاء جولتي الأوروبية. ورافاييل وتينتوريتو وبيرنيني. روعة ممتدة تعكس تطوّر الفنّ الإيطالي والأوروبي بشكل عام.

 لا يمكن النظر لهذه المجموعة الفنيّة وتجاهل الدور الذي لعبته الأسرة وتفانيها في المحافظة على الثقافة الإيطالية. كل لوحة ومنحوتة لها قصة اقتناء وعناية، كل منها تركت بصمة على الحياة الاجتماعية والسياسية في روما. وعلى مرّ القرون حافظت الأسرة على القصر والمعروضات سليمة، وسمحت لنا برعايتها هذه بالاستمتاع بها للأبد. والمعلومة المثيرة للاهتمام أنّ الأسرة ما زالت تملك المعرض، ويشارك أحفادها في صيانته والعناية به مما يضمن استمرارية هذا الجسر بين ماضي روما وحاضرها للأجيال القادمة. هذا التاريخ الحيّ الذي لمسته بنفسي، كان أجمل بداية لرحلتي في روما.

تركنا القصر وتجولنا قليلًا في المنطقة لتستوقفني لوحات الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو على لافتات في الشارع. تبعت اللوحات لأصل إلى قصر بونابرت (سميّ القصر على والدة الامبراطور الفرنسي) والذي أصبح معرضًا فنيًا. يبدو أننا وجدنا الكنز! وأشارت والدتي علي لندخل، لكن التذاكر بيعت بالكامل لهذا اليوم وطابور ممتد حول المباني ينتظر الدخول. ما وجدناه في تلك اللحظة كان المعرض الأكبر لفرناندو بوتيرو في روما. اشتريت التذكرة عبر الموقع وامتلأت حماسًا لزيارته في الغدّ.

استعادة بوتيرو

تعرفت على فرناندو بوتيرو قبل حوالي ١٥ سنة. كانت إحدى لوحاته غلافًا لمجموعة القصص القصيرة الكاملة لغابرييل غارسيا ماركيز. اختارت دار المدى لوحة «بورتريه رسمي للمجلس العسكري- Official Portrait of the Military Junta» لتكون غلافًا للمجموعة. ومنها بدأت البحث والتعرّف على الفنان الكولومبي. يمكن التعرف بسهولة على أعمال بوتيرو لأنه اختار تصوير البشر بأجساد ممتلئة بالألوان والحياة. لوحاته ومنحوتاته لها هذا الطابع الخاصّ الذي أطلق عليه مسمّى «البوتيريه أو Boterismo» والذي ركز فيه على تصوير الأجساد بشكل مبالغ فيه. تصوّر بوتيرو الشكل البشري بما يتناقض مع معايير الجمال المعاصرة. وهو لم يفعل ذلك مع البشر وحسب، حتى الحيوانات في عالمه ضخمة ومستديرة.

ارتديت ذلك النهار فستانًا برتقاليًا فاقعًا احتفالا بالفنان الكولومبي وبدأت جولة ساحرة مع والدتي تعرفنا فيها عن قرب على أكثر من ١٢٠ عملٍ فنيّ. تنوعت اللوحات بين الألوان المائية ورسومات الفحم والمنحوتات التي استعرضت مسيرة الفنان ومساهمته في الفنّ المعاصر. بالإضافة لأعماله الشهيرة، ضم المعرض أعماله الأخيرة التي نفذها قبل وفاته في سبتمبر ٢٠٢٣، وأعمالًا أخرى لم تُعرض من قبل.

مررت بعبارة أتفق معها كثيرًا: كان بوتيرو رسال حبّ إلى أمريكا اللاتينية. بوتيرو شاعر بصريّ بامتياز، اقتبس عن قارّته الأمّ ألوانها ومشاهد الحياة فيها. مزيج من التناقضات والتناغم هذا ما تفكر به عندما تمر على أعماله الفنية.

استوقفتني والدتي في إحدى زوايا المعرض لتلتقط صورة للذكرى. كانت الخلفية لوحة ضخمة لمشهد صامت: برتقال وليمون، كان اختيار لون فستان اليوم مثالي!

شخصيات بوتيرو تذكرك بالاحتفال بالحياة. ممتلئة جريئة لا تشتكي من تردد أو خجل من أشكالها، وتدعونا للتفكير بطريقة غير تقليدية. تنظر إليّ، تلهمني وتعيد ثقتي في صورتي المنعكسة أمامي.

استخدام بوتيرو للألوان، وخاصة في لوحاته، أمرٌ يستحق التأمل. درجات الألوان العميقة والغنية تضفي على كل قطعة دفئًا ومرحًا. الأحمر الدافئ، الأزرق العميق، والأخضر الزاهي تخلق مشهدًا يُحس، وليس فقط يُشاهد. وعلى هذا المشهد علّقت والدتي بأن نظرتها لاختيار الألوان في أعمالها وتوليفها مع بعض ستتغير بعد بوتيرو، والتقطت الكثير من الصور لأعماله.

ذكّرني معرض بوتيرو بأن الفن ليس دائمًا بحاجة إلى الجدية والواقعية ليحمل عمقًا. ففنّه، رغم طابعه المرح والمبتهج أحيانًا، يلامس جوانب أساسية من الحياة — الفرح، الحزن، الحب، وتقبّل الذات. مع التأمل في فنه، شعرت بتقدير عميق لرسالته: أنّ الجمال لا يعني بالضرورة التكيف مع تعريفات ضيقة، بل يرتبط باحتضان الحياة بكل تنوّعها.

كيف تحتفل بميلادك في يوم مطير؟

استيقظت صباح الثامن من أكتوبر بلا خطّة أو وجهة معينة. تناولت الإفطار مع والدتي في الفندق واقترحت أن نخرج للمشي حول منطقتنا ونستكشف المحلات ونتسوق قليلًا. كانت النشرة الجوية حذرت من عاصفة ممطرة حول منتصف اليوم. لكن الجوّ في الخارج مشمس والسماء ترتدي زُرقة مميزة.

خلال عدة ساعات علقنا في المطر وركضنا بمظلة شبه مكسورة لنعود للفندق. جلست متململة. أفكر في الساعات المهدورة الآن وكيف سأذكرها في المنزل بعد أسبوعين أو ثلاثة من الآن؟ بحثت سريعًا في قائمة مفضلات روما التي جمعتها منذ سنوات ووجدت قصر باربيريني أحدها. معرض فنّي وتحفة معمارية أخرى تنتظر الاكتشاف. اشتريت تذكرة لفترة ما بعد العصر وأعلنت لوالدتي: فتاة الميلاد ستخرج في موعد مع نفسها!

يقع قصر باربيريني في قلب روما، وهو أحد القصور الباروكية البارزة في المدينة. بدأ بناء القصر بطلب من أسرة باربيريني عام 1625 واستمر العمل عليه حتى 1633. والأسرة من الأسر ذات النفوذ الكبير في روما خلال القرن السابع عشر. كان الراعي الأساسي للمشروع هو الكاردينال ماتيو باربيريني، الذي أصبح لاحقًا البابا أوربان الثامن، وهو أحد الشخصيات المحورية في تاريخ الفاتيكان.

 شارك في تصميم القصر ثلاثة من أشهر المهندسين المعماريين في تلك الحقبة. أولهم كارلو ماديرنو الذي وضع الأساس الأولي للتصميم، واعتمد على الطراز الباروكي الذي يجمع بين المساحات الواسعة والتفاصيل الزخرفية. والثاني فرانشيسكو بوروميني الذي أكمل العديد من أجزاء القصر بما فيها الدرج الحلزوني المميز الذي يعدّ تحفة فنية قائمة بذاتها. والثالث والأخير والمفضل لديّ جيان لورينزو برنيني الفنّان الشامل الذي أنهى العمل على تصميم واجهة القصر.

كان قصر باربيريني في البداية مقرًا لإقامة الأسرة. وبعد قرون، تحوّل القصر إلى معرض الفن الوطني القديم (Galleria Nazionale d’Arte Antica) في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح مقرًا لمجموعة رائعة من اللوحات والمنحوتات.

عبرت حديقة القصر لأصل إلى المدخل الرئيسي مرورًا بالمتجر الظريف. تركت مظلتي في خزانة صغيرة وانطلقت باتجاه الصالة الأولى. في القاعات الأولى للقصر تكتشف لمَ تخصص بالفن القديم. لم تكن لوحات القرن الثالث عشر والرابع عشر وجهتي وهذا يتضح من سرعة خطواتي بين القاعات. أفكر في المزيد من لوحات كارفاجيو، ولوحة بورتريه هنري الثامن لهولباين وسقف القاعة الكبرى لبيترو دا كورتونا. تناهى لسمعي صوت مجموعة من الطلاب في زيارة للمكان مع أستاذهم. حينها قررت التعجّل في الصعود لقاعة اللوحات الرئيسية لاستمتع برؤيتها قبل وصولهم. في كلّ قاعة دخلتها كان بصري يتنقل بحماس بين الأرضيات واللوحات والسقوف، لا يوجد مساحة خالية تمامًا من الفنّ. كل التفاتة لبصرك ستنقلك لبعد مختلف.

كان هناك شيء مسلٍّ في تسارع خطواتي وأنا انتقل من غرفة لأخرى، بينما أودع مكانًا يدخل الطلاب إليه بعدي وهكذا. سباق لطيف من أجل لحظة عزلة في حضرة كنوز عصر النهضة. وبعض الزوايا التي غفلت عنها أعينهم كنت أقضي فيها وقتًا مطولا للقراءة والتصوير والتذكر. لكننا التقينا أخيرًا في القاعة الرئيسية الكبرى حيث طلب منهم أستاذهم الجلوس على الأرض وتأمل السقف المذهل برموزه الفنيّة والسياسية. يصادفكم في القصر رمز النحلة، في النقوش والزخارف وعلى السقوف وفي المنتجات التذكارية المباعة في المتجر.

انقشعت الغيوم والجوّ القاتم تدريجيًا وفي نفس الوقت شارفت جولتي على الانتهاء. مررت بالمتجر وكما فعلت في كلّ الزيارات ابتعت كتابًا يلخص المعروضات وتفاصيل البناء والمعمار وحقيبة قماشية لحمل كل هذا. كان القصر ملاذًا مؤقتًا بعيدًا عن الشوارع الغارقة في المطر، وشعرت بسعادةٍ غامرة لاختياري هذا المكان وعفوية الخطة التي أضافت بعدًا جديدًا لرحلتي.

إذا كان لهذه الرحلة من سِمة أساسية ستكون أنا، أتبع كارفاجيو وضوءه وظلاله، ومنحوتات بيرنيني، وتاريخ عصر النهضة بين شوارع روما وأروقة متاحِفها.

في الحلقة القادمة من السلسلة سأشارككم رحلتي لفيلا بورغيزي ووداع روما وقائمة مفضلّات الرحلة.  

روما: مدينة محضونة بالخضرة والحبّ

بدأت كتابة هذه التدوينة في صالة مكتظة بالمسافرين. ودّعت والدتي قبل نص ساعة وانطلقت للحاق برحلتي إلى باريس. حرارة المكان وتململ الجالسين ووقوفي لوقتٍ طويل قبل إيجاد كرسيّ خالي كل هذا سبب لي الانزعاج وبعض الدوار. اعتدلت في مكاني منتصرة – حصلت على كرسي. تركت اغراضي بعد ايماءة من رأسي للجالس قربي: أرجوك راقبها من فضلك. لم أقل شيئا فقط إشارات بيدي ورأسي ورفع لي ابهامه موافقًا. اشتريت قبل أيام كتاب تذكاري يصوّر أشهر إشارات اليدّ الإيطالية وما تعنيه اللغة غير المنطوقة.

اخترت شرب فنجان كابوتشينو أخير في العاصمة “الحلم”! وجلست لالتقاط أنفاسي وتدوين كل ما أود تذكره عن الأسبوع الماضي. اعتمد طريقة تدوين مختلفة هذه المرة مبنية على الذاكرة المصوّرة في جهازي -وقلبي. امسك مذكرتي الورقية وابدأ ببناء مخطط مقسّم على الأيام والتجارب. مبدئيًا قسمت المحتوى لعدة تدوينات وهذا ممتع!

سيكون لديّ فرصة أكبر للحديث عن المتاحف والمعارض والأعمال الفنية التي وقفت أمامها وإعادة التفكير فيها بالكتابة يحقق لي التجربة الغامرة والأثر الممتد. أحببت في زيارتي لروما سقف التوقعات المنخفض الذي منحته لها. خطط مرنة قابلة للتغيير، البطء والتعرف تدريجيًا على المكان. مقارنة برحلاتي الأولى لمدنٍ أخرى، كنت املأ جدولي بالكثير من التجارب والأماكن وأشعر بالإرهاق والغضب لاضطراري أحيانًا لتأجيل تجربة أو إلغائها بعد الدفع!

 

لم أضع الكثير من الفعاليات على الأجندة، لكنني فكرت جيدًا في اختياري للفندق. أردت أن نحظى أنا ووالدتي بعطلة منعشة والبداية تكون في الفندق الذي سنقضي فيه ساعات الاستجمام الأطول. اخترت فندق لوكارنو البوتيكيّ الذي يعود تاريخه للعشرينيات ميلادية من القرن الماضي. بني المبنى الرئيسي على طراز الآرت-نوفو المعماري الذي كان الطراز الأحدث آنذاك. أما المبنى المجاور الذي ضمّ إلى الفندق لاحقًا فيعود تاريخه إلى ١٩٠٥ للميلاد، فقد كان منزلًا لعائلة عريقة من فينيسا.

حافظ المكان على تاريخه مع إضافة لمسة حداثة لكلّ شيء. تقنيات وأثاث عملي وإنارة متميزة. لكن الزوايا القديمة تظهر فيه بوضوح. وفي ركن خفيّ بعيد عن قاعة الاستقبال الدافئة خزائن زجاجية تحتضن صور وسجلات وقصاصات من السنوات التي مرّت على المكان. ساكنيه الأشهر، وتفاصيل مثل الأواني والتذكارات. 

الغرف ليست واسعة بشكل كبير، لكنها مثالية في التصميم. بمجرد وصولنا أنا ووالدتي افرغنا حقائبنا في الخزائن. وأصبحت الحركة والحياة أسهل! أعلم أن هناك أجنحة أكبر في المكان وغرف عائلية مبهرة لكنها بطبيعة الحال أغلى سعرًا.

بالإضافة للتصميم والهدوء والخصوصية العالية في الفندق، أحببت أنّ المشي منه لأبرز المعالم حوله سهل جدًا. فهو على بعد دقائق من ساحة الشعب الصاخبة خلال النهار، والمحاطة بالمتاجر، والمقاهي، والمطاعم. بالإضافة إلى قربه من منطقة السلالم الإسبانية.

وبالنسبة للخدمات فالمطعم الرئيسي للفندق يقدم وجبة إفطار رائعة -وفعلت شيئا مختلفًا هذه المرة فقد حجزت الغرفة مع الإفطار. نستيقظ أنا ووالدتي ونهبط للطابق الأرضي وكأننا في منزل ضيوف حميم. نفكر في شهيتنا هذا الصباح؟ حلو أم مالح؟ ما هي القهوة التي نودّ تجربتها؟ وكلّ اشتراطات طعامنا مجابة والموظفون مرحّبون. وننطلق في يومنا بعد ساعة أو تزيد من الاستمتاع بتناول الوجبة إما في صالون الطعام الداخلي، أو في الباحة الوسطى مع العصافير التي تلتقط من أطباقنا فتات الخبز وقطع الجبن.

 

استحضر وأنا أكتب التدوينة الآن نعمة تجربة السفر مع شخص يختلف عنك في الكثير من الأشياء. والدتي تحب الهدوء والبطء وتبحث دائمًا عن فرصة للراحة والانعزال في الإجازة. تذكرت عبارة حفظتها في ملاحظاتي كتبتها مدونة في نشرتها البريدية:

“لقد كان لديّ الكثير من الوقت غير المحدود للقيام بالأشياء التي أحبّها، وشعرت بقدر كبير من الإلهام والامتنان الذي كان مفقودًا في حياتي مؤخرًا.”

 

تفرّغت تمامًا لتذوق الخضروات والفواكه الشهيّة بعد حصاد سبتمبر، وذهلت من لذة زيت الزيتون وحاولت تتبع عناصره ذات مرة لأجد معلومة عن المزرعة التي جاء منها: زرعت أشجار الزيتون بين كروم العنب لتعطيها هذا المذاق المختلف. قطع خبز ساخنة وقليل من الزيت ورشة من الفلفل الأسود كانت بداية وجبتي الأولى في روما. وصخب الشارع يتسلل عبر الباحة الخلفية للفندق. لسيارات الإسعاف هنا نغمة مختلفة عن أي مكان آخر. مزعجة لكنها ستبقى في ذاكرتي بعد مغادرة المدينة.

الوصول لمكان جديد يشعرك بالتحدّي والتوتر. مثل قطة متحفزة أحاول تذكر الشوارع ومداخل الأحياء وكأنّي لا أملك خريطة استشيرها لاحقًا. للوهلة الأولى تخيّلت أن روما معركة ينبغي الانتصار فيها. ولكن مع مرور الوقت تهذّبت مشاعري وقررت أن اكتشفها بهدوء وعلى مهل.

في كل مرة أخرج من الفندق اقرأ الشوارع الصغيرة بعمق واتأمل المارة والعاملين. وفي اليوم الأخير خلال ساعات الركض وتسوق الهدايا. وجدت الشعور اللطيف الذي كنت ارجوه: شعور العودة إلى المنزل! حيث الفندق ومطعم البيتزا الدافئ وصاحبته التي أصبحت صديقتي ووالدتي وأهدتني في ميلادي احتفالية إيطالية وفناجين مدموغة باسم المطعم: أصبحتِ الآن عميل ذهبي مهمّ جدًا.

في روما تتبعت خطوط الزمن على واجهات المباني، والأرض، ووجوه الشيوخ والعجائز. رأيت أثر الزمن على أشجار الصنوبر التي زرعت على التلال العالية. تلوّن الرخام في الفاتيكان، ومياه النافورة العذبة التي عاشت هنا مئات السنين. عندما أخبرتني موظفة الفندق في اليوم الأول أن النوافير وأماكن التزود بالماء البارد العذب في المدينة وفيرة. كل ما عليك فعله هو حمل مطارتك أو عبوة الماء في كل مكان واملأها واستمتع.

جمعت في هاتفي عشرات الصور لكل ما يشدّ انتباهي من تفاصيل بناء تذكرني بشيء أو مشهد أو شخص. تعبت وفي إحدى المرات ضحكت من نفسي قبل أن ألقي بهاتفي في الحقيبة معلنة الاستسلام: هذه المدينة أكبر من صورك يا هيفا!

لفت انتباهي أيضًا استعدادات المدينة لاستقبال أكثر من ٣٥ مليون حاجّ كاثوليكي احتفالًا بسنة اليوبيل ٢٠٢٥. الكثير من أعمال الإصلاحات والبناء والتي رافقها بعض الاقفال لنواحٍ من المدينة أو معالمها التاريخية. وصلتني رسائل تستوضح مدى سوء الأمر، ولكن في حالتي لم أواجه أي صعوبات في الجهات التي زرتها فقد حظيت بتجربة سلسة ومتكاملة.

رحلتي إلى روما كانت لعدة أسباب: زيارة مكان جديد، الاحتفال بعام والدتي الستين، ويوم ميلادي الثاني والأربعين في منتصف كلّ هذا. الكثير من المصادفات السعيدة واللحظات المنتظرة وبعض الازمات والتعقيدات طبعًا فهذا هو وجه الحياة الذي أعرفه.

هذه هي التدوينة الأولى في سلسلة قصيرة سأحكي فيها عن روما.

شكرًا لكم على متابعتكم وحضوركم الدائم.

ما الذي يمكن حدوثه في عشر سنوات؟

 

هذه التدوينة ولدت في المسودة قبل عدة أسابيع، وكلما مرّ أسبوع جديد غيرت عنوانها بتاريخ الأسبوع التالي وهكذا. صراع طويل مع الوقت ومع التركيز ومع رغبتي بالكلام وانعدامها. الفرصة سانحة هذا الأسبوع لأنه الأخير قبل عطلة قصيرة. شحنت حماسي هذا الصباح لأنتهي من كتابتها ونشرها. في رأسي تدوينات مستقبلية ستولد في العطلة بإذن الله، ولأفسح لها المجال ينبغي أولًا الانتهاء من هذه.

أحببت وصفًا سمعته لمدونة تتحدث عن الخريف وما يعني لها، هنا لا نرى تبدل الفصول كثيرًا لكننا نشعر بها. في الرياض مثلا تصبح ساعات منتصف اليوم أكثر احتمالا في الظل. وأفكر في الصباح هل حلّ وقت سخان الماء بعد؟ أو يمكنني احتمال لسعة البرودة في الماء؟ الأطعمة تتغير في السوبرماركت وفواكه الصيف اللذيذة تودعنا تدريجيًا.

“الخريف هو بداية السنة” قالت بحماس! وفكرت في وصفها. يرتبط الخريف بعودتها للمدرسة وشراء القرطاسية والملابس والأحذية الجديدة ورؤية الأصدقاء. وبالنسبة لي هو كذلك. بالإضافة إلى اقتراب شهر ميلادي والشهر الذي قررت فيه قبل عقد من اليوم الانتقال إلى مدينة جديدة.

قبل عشر سنوات بالضبط كنت في الجبيل، بعد رحلة طويلة إلى نيويورك بصحبة موضي أختي. كانت هناك لحضور أسبوع الموضة وكنت رفيقتها في الاكتشاف والتجول. عدت وبدأت فورًا تحديث سيرتي الذاتية، وانطلقت للبحث عن وظيفة في الرياض. العروض الوظيفية لم تكن مغرية في البدء، وقضيت شهري أكتوبر ونوفمبر في التردد بين المدينتين لإجراء المقابلات والاستعداد.

في مرة ذهبت لمقابلة وظيفية وقدمي مصابة. الليلة السابقة للمقابلة وقفت على زجاج مهشم ونزفت قليلا لكن الوقت لم يسمح بزيارة الطبيب. لففتها وذهبت بخطوة مائلة. وحصلت على الوظيفة.

لم أفاجأ بسرعة القرار، هذه هي طريقتي في كثير من المواقف: الهروب إلى الأمام!

٢٠١٤ كانت سنة جميلة وممتعة ومفصلية. نُشرت في بدايتها ترجمتي الأولى. ولاحقًا كتاب ساهمت في ترجمته برفقة مجموعة من المترجمين العرب.

قرأت كثيرًا.

شعرت بالفوضى والقنوط.

وتبدّلت كما تبدّلت الفصول.

في اللحظة التي أغلقت حقائبي ومضيت عرفت يقينًا أن الحياة لن تعود إلى ما اعتدته. واليوم من هذا المكان أكتب وابتسم لكلّ الذكريات العجيبة والمحزنة والمبهجة التي غمرتني في مسكني الجديد.

كلما حاولت تذكر الأيام التي سبقت انتقالي للرياض أفشل في ذلك. الأمر المؤكد الوحيد هو الكلمات التي دوّنتها. أذكر فقط ما كتبته. كلّ شيء تبخر وتخففت تدريجيًا من كل الأشياء التي ارتبطت بتلك الحقبة. آخرها مفتاح غرفتي الذي حملته بين الصناديق وأظنّ الباب نفسه لم يعد موجودًا.

أغمض عينيّ أحيانًا واتذكر يومي من الصباح للمساء، كيف مشيت في الممرات وحيدة، كيف كانت وجبة الإفطار؟ ما الكتاب الذي قرأته؟ تساعدني كتاباتي القديمة ويومياتي، وذكريات انستقرام في النظر لتلك الأيام وتذكرها بحبّ. اتجاهل الألم والفوضى وانعدام الاستقرار الداخلي.

إننا نحقق أماننا عندما نستقر.

عندما نشعر بوجودنا بكثافتنا وبثقلنا على الأرض.

وهذا كله كان مفقود في الشهور الأخيرة قبل انتقالي للرياض. صديقات الطفولة تبدّلن في لحظة وحملت نفسي مسؤولية الانغلاق على الذات والاكتفاء بصديقتين لأكثر من عشرين عامًا!

ما إن انتقلت للرياض حتى فتحت المدينة ذراعيها. ولا أقصد مجازيًا فأهلها وكرمهم وحبّهم احتضنوني في أصعب مراحل الانتقال: الانفصال التامّ عن حياتي السابقة والانخراط في المجهول.

عندما يسألني أحد اليوم ما هي أفضل علاقاتك الاجتماعية؟ أو ما هي أجمل أيامك؟ عدا سنوات الطفولة الأولى. أجزم أنها العشرة الأخيرة منذ انتقالي للرياض.

تنتابني الكثير من المشاعر هذه الأيام وأنا أتذكر أيامي الماضية، وما حققته، وهذا الحلم الطويل الذي انتظرته ومع الركض أنسى أحيانًا أن أقف واتأمل. الحمد لله على ما مضى وما سيأتي.

تغيّرت أشياء كثيرة فيّ. حتى طريقة تفكيري وتفاعلي مع الأمور-للأفضل طبعًا. ومع تغير أماكن العمل والأشخاص الذين مررت بهم ومرّوا بي اكتسبت الكثير وخسرت الكثير بالمقابل. ولكن، لم يتغير الكثير. هواياتي الأصيلة ما زالت منتعشة وصامدة، وفضولي، وحبّي للتعلم، والتحسين.

لا شيء قاطع ونهائي أبدًا!

هذه الحقيقة تبهجني.

انتظر بحماس السنوات القادمة، ميلادي الثاني والأربعين، عطلتي القصيرة المنتظرة، واستعادة الذكريات وتسجيل أخرى.

.

 

 

is it over now?

في متجر سيزان الفرنسي في حيّ مارليبون اللندني وقفت بانتظار خلو غرف القياس. احتضنت بين ذراعي علبتيّ حذاء وجدتها بعد بحث طويل، لكن القصة ليست هنا. في طابور الانتظار القصير وقفت سيدة سبعينية مع ابنتها (عرفت من الشبه العظيم) والتفتت لأنظر لكنزتها القطنية: I love your sweatshirt.

 كانت الكنزة المميزة جزء من قطع الملابس الكثيرة التي غرقت بها المدينة والدولة (إذا تذكرت أدنبرة كذلك). حملت صور منوعة للمغنية الأمريكية تايلر سويفت. أثنيت على كنزتها وعلقت بسرور: شكرًا اقتنيتها ليلة البارحة! وقلت لها إذا كنّا في الحفل سويّة. انطلقنا بالحديث عن الحفلة الممتعة وعن مشهد دخول ترافيس كيلسي. “لقد ظننت أنه سيجثو على ركبته ويتقدم لخطبتها أمام ٨٩ ألف متفرج” ضحكنا من اشتراكنا في الفكرة الرومانسية أنا والسيدة السبعينية، واستدركنا: لا نعتقد أنها ستقبل بمشاركة هذه اللحظة الحميمة أمام المتفرجين. كيف وصلتم هنا؟ لقد انتصرنا في الحرب العظيمة – وهذا المصطلح الذي أطلقه جمهور تايلر سويفت على حرب التذاكر، إذا حصلت على تذكرة هذا يعني أنك انتصرت في الحرب. أخبرتها أن قصتي بدأت عندما أبلغتني أختي الصغرى بحصولها على تذكرتين للحفلة قبل سنة وعدة أشهر. والآن لنخطط للرحلة. لم أكن أكيدة من سهولة الترتيبات لكنني قررت تركها للحظة الأخيرة. ومع مرور الأيام بدأت الصورة تتضح أكثر: سنبني رحلة الصيف بين لندن واسكتلندا وحفلة تايلر سويفت.

لم تكن هذه هي الرحلة الأولى التي أحضرها في حياتي، لكن في كل المرات السابقة كانت الفرق الموسيقية أقلّ جماهيرية بشكل ملحوظ. أحبّ هذا الاختصاص الذي لا يزاحمني فيه الآلاف. أحضر بحماس وأغني الكلمات وأذكرها.

ما لم أتوقعه أو استعد له هو هذه الجولة التاريخية لتايلر سويفت والتي بدأت نسختها الأولى العام الماضي وجالت العالم. كانت الحفلة في نقطة عمياء من تفكيري. حتى قررت حصة أختي ضخّ الحماس بداخلي وبدأت أولًا بإعداد قائمة أغنيات تتكرر في كلّ حفلة: خذي اسمعيها واحفظي الكلمات!

بدأت الاستماع لتايلر سويفت في بداية ظهورها عندما كانت طابع الأغاني الشعبية الأمريكية Country music يغلب عليها (وما زلت أحبّ هذا النوع من الأغاني حتى في انتاجها الحديث).

وأخبرتني لاحقًا بأنّها جهزت قائمة بالأغنيات التي تعتقد أني سأحبها، وفي كلّ مرة كنت اشاركها واحدة كانت تضع علامة بجوارها. لا أعرف ما أسمي هذا الارتباط الذي بدأ بالنموّ. شعرت أن علاقتنا دخلت مرحلة مختلفة، مرحلة اهتمام مشترك وفراشات صغيرة تملؤنا بالتساوي. صندوق الرسائل بيننا في انستقرام امتلأ بمقاطع من حفلات سابقة وأغنيات وتوقعات لقائمة الأغنيات المفاجئة التي ستؤديها سويفت في كلّ حفلة.

كل ما جاء لاحقًا لم يكن متوقع.

قبل سفرنا بعدة أسابيع بدأت نشرات الأخبار البريطانية تذيع التقرير تلو الآخر عن شكل المدن التي ستعبرها الحفلات وفرص العمل والوظائف التي أوجدتها الحفلة. يمكنكم معرفة المزيد بالبحث عن هذا الموضوع تحديدًا ورؤية الأرقام والنتائج المدهشة التي حققتها في أمريكا والعالم. لكن مشاهدة التقارير التلفزيونية شيء ورؤية الحياة في المدينة بانتظار الحفل شيء آخر.

لم يكن حضور الحفلة هذه اعتيادي لأنّها جاءت بمتطلبات مثيرة للاهتمام، هناك اختيار الزي من الحقبة المفضلة لك: Taylor Swift, Fearless,Speak Now, Red, 1989, Reputation, Lover, Folklore, Evermore, Midnights, The Tortured Poets Department.

والمحصلة كانت أني اخترت Folk-more  ودمجت حقبتين سوية. فستان كحلي مورّد وزينت وجهي بكريستالات صغيرة حول عينيّ!

بالإضافة لاختيار الملابس كانت مهمة تجهيز العديد من أساور الخرز الملون لتبادلها مع الحضور أو الاحتفاظ بها كما فعلت (لم أرد تبديل أساوري مع أحد فقط صنعتها أختي لأغنياتي المحببة: (Cruel Summer, Lover, Anti-Hero

كان الحماس لحضور الحفلة في كفّة ودخول ملعب ويمبلي في كفة أخرى. هذا المكان الحلم الذي وددت زيارته منذ تسعينات القرن الماضي عندما كنت متابعة مهووسة للدوري الإنجليزي. تحتفظ أختي بتصوير فيديو مليء بالمشاعر لي عندما عبرت البوابة الصغيرة باتجاه المدرّجات. ومع أن أرضية العشب الأخضر مغطاة بالكامل بتجهيزات المسرح والحفلة إلا أنني إذا أغلقت عيني بالشكل الكافي يمكنني تخيل المباريات التي أقيمت هنا.

هذا الاستطراد مربك.

لنعد قليلًا إلى الوراء، عندما وصلنا للمدينة المكتظة وهذا وضعها الطبيعي كلّ صيف. وكل صيف هو “موسم لندن”. جموع البشر، واجهات المحلات، أغنيات المتاجر بطوابقها المتعددة. تايلر تغنّي في كل مكان. وفي بعض المتاجر ستجد مجموعات أساور ملونة، أو أحذية رعاة بقر، أو سترات جينز مطعمة بالكريستالات. هذه الاحتفالية الرائعة مهدت لأسبوع من الانتظار والترقب. دون مبالغة في كلّ مكان ندخله، مطعم أو متجر كان، أو خلال جولة بالسيارة ستسمع شخصًا ما في الواقع أو على الراديو يتحدث عن تايلر سويفت وحفلاتها المتسلسلة.

قبل الرحلة بعدة أسابيع فكرت في ليلة الحفلة وازدحام المترو وصعوبة واخترت حجز غرفة فندق قرب الملعب، والنتيجة الصادمة أن أسعار الفنادق في محيط الملعب تضاعفت لعشر و١١ مرة! فكرت أن هذا جنون غير مبرر، وبحثت أكثر حتى حصلت على عرض جيد وتضاعف سعر الليلة المعتاد لثلاث مرات فقط وهذا أفضل بكثير من عشر مرات. ضمنت على الأقل تخفيف القلق الناتج من ترتيبات المواصلات وضمنت أيضًا الذهاب باكرًا بعد الظهر لترك متعلقاتنا الشخصية في غرفة الفندق والاستعداد للحفلة بهدوء والتوجه للمكان في الوقت المناسب.

كنت أهدئ من توتري بقولي: إذا كانت هذه الحفلة مناسبة لطفلة في الرابعة من العمر ستكون مناسبة لي بالتأكيد. وهذا ما حدث! تنظيم المكان والدخول والمرافق كانت أكثر من رائعة. لم أشعر بالانزعاج أو التعب خلال ساعات الحفل. ربما بسبب اختيار المقاعد فلا يمكنني تخيل نفسي مع الجمهور الوقوف في ساحة الملعب والذين اضطروا للحضور للمكان قبل ساعات طويلة ليضمنوا زاوية جيدة. لم تغب الشمس باكرًا وهذه من محاسن موعد حضور هذه النسخة ففي الصيف يمتد النهار حتى قبيل العاشرة مساء.

في خزانة الذكريات في غرفتي احتفظ بأساور الخرز الملونة، والسوار المضيء الذي تحققت من بطاريته ليعيش طويلًا. هذا السوار المضيء جزء من تجربة الحضور، ترتديه في يدك ويومض بألوان متنوعة تتبع الفقرة التي تؤديها المغنية على المسرح. السوار جزء من الاندماج الكامل الذي شهدته لآلاف البشر في مكانٍ واحد. الكلّ يغني الكلمات حتى لم تعد تسمع نفسك! وكلما اشتد الصراخ والحماس كنت أجلس على كرسيي واتأمل المشهد. لا أتقن الكلمات، ولا أعرف سر الصراخ، لكنني مغمورة بهذا الحبّ العظيم. والفرح الذي رأيته في قفزات أختي ومتعتها. ماذا لو وضعته في علبة واستعدته كلما احتجت له؟

في بداية الحفلة تقول تايلر أننا من الآن وصاعدًا كلما سمعنا أغنياتها سنتذكر اجتماعنا هنا، سيكون للذكريات شكل آخر.

شكلنا معًا.

أنا وأختي.

أنا وأختي في طريق العودة وهي تحمل حذائها في يدها من التعب.

أنا والسيدة السبعينية في انتظار غرف القياس.

أنا ونادلة المقهى في أدنبره وهي تشتكي من آلام ظهرها بعد حفل الأسبوع السابق.

أنا والفتيات الصغيرات وهنّ يغنين ملء رئاتهن.

أنا والطفلة المتعبة عند مصعد الفندق وأمها تحملها.

أنا وكل من عبر الطريق باتجاه بوابات ويمبلي.

أنا وهيفا الصغيرة المبتهجة الآن، جدًا.